السبت، 20 أبريل 2013

المعركة في غزة معركة من أجل الكرامة




المعركة في غزة معركة من أجل الكرامة
نعوم تشومسكي

يحكي الروائي السويدي هيننج مانكل  عن تجربة شهدها في موزمبيق أثناء أهوال الحرب الأهلية قبل خمسة وعشرين عاما، حيث رأى شابا يسير باتجاهه غير مرتد إلا رث الثياب.
يقول مانكل "لاحظت شيئا لن أنساه طالما حييت. نظرت إلى قدميه، فلم أجده ينتعل حذاء. لكنه كان قد رسم حذاء على قدميه. استعمل ألوانا من التراب وجذور النباتات ليرسم حذاءه. كان قد وجد سبيلا يحافظ به على كرامته".
من شأن مثل هذه المشاهد أن تثير ذكريات أليمة فيمن يشهدون القسوة والمذلة، وكلتاهما منتشرتان في كل مكان. ولكن ثمة حالة صادمة، وإن بقيت مجرد حالة من حالات بالغة الكثرة، هي حالة غزة التي تسنى لي أن أزورها للمرة الأولى في أكتوبر الماضي.
هنالك يواجه العنف بمقاومة ثابتة من الصامدين samidin  ـ أي الذين يحتملون، إن أنا استعرت تعبير "رجاء شحادة" الملهم الذي يستخدمه في كتابه السيري "الطريق الثالث" عن الفلسطينيين في ظل الاحتلال قبل ثلاثين عاما.
كانت في شرف استقبالي لدى عودتي إلى الوطن أخبار الهجوم الإسرائيلي على غزة في نوفمبر بدعم من الولايات المتحدة وتسامح مهذب من أوربا كالمعتاد.
وليست إسرائيل خصم غزة الوحيد. فحدود غزة الجنوبية تبقى إلى حد كبير خاضعة لسيطرة شرطة مصر السرية المروعة، أعني المخابرات  Mukhabarat التي تشير تقارير موثوق فيها إلى وجود علاقات وثيقة بينها وبين المخابرات المركزية الأمريكية والموساد.
في الشهر الماضي فقط أرسل لي صحفي من غزة مقالة تصف آخر هجوم للحكومة المصرية على شعب غزة.
هناك شبكة أنفاق تتصل بمصر وتمثل شريان الحياة للغزاويين المحبوسين في ظل حصار قاس والمعرضين لهجوم لا يتوقف. والآن تفتق ذهن الحكومة المصرية عن طريقة جديدة لسد الأنفاق: وهي إغراقها بالمجاري.
في الوقت نفسه تكشف منظمة بيتسيليم B'Tselem الحقوقية الإسرائيلية عن أداة جديدة يستعملها الجيش الإسرائيلي لمجابهة المظاهرات السلمية الأسبوعية المناهضة لجدار العزل غير الشرعي، والذي هو في حقيقته جدار الاستيلاء على مزيد من الأرض.
لقد أبدع الصامدون samidin  في التعايش مع قنابل الغاز، فاضطر الجيش إلى التصعيد، بأن يرش على المتظاهرين سائلا مؤذيا بقدر سوائل المجاري.
تلك الهجمات تثبت أن الطيور على أشكالها تقع، وأن العقول العظيمة تفكر بطريقة واحدة، تجمع ما بين القهر الإجرامي والإهانة.
ترجع مأساة غزة إلى عام 1948، حينما هرب مئات آلاف الفلسطينيين من الرعب أو تم طردهم قسرا إلى غزة على يد القوات الإسرائيلية الغازية.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي "ديفيد بن جوريون" يرى أنه "لم يبق لعرب أرض إسرائيل إلا وظيفة واحدة: أن يلوذوا بالفرار".
وجدير بالذكر أن أقوى ما تجده إسرائيل من دعم في المجال الدولي هو الذي تجده من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ـ وهو ما يعرف بالمجال الأنجلوفوني ـ والثلاثة عبارة عن مجتمعات استيطانية استعمارية قامت على إبادة السكان الأصلييين أو طردهم لصالح عرق أرقى حتى باتت مثل هذه السلوكيات من طبائع الأمور في هذه المجتمعات بل ومن مآثر الأمور أيضا.
تمثل غزة على مدار عقود معرضا مفتوحا للعنف من كل الأنواع. حيث يتضمن السجل عمليات وحشية مخطط لها باهتمام مثل "عملية الرصاص المصبوب"  في 2008-2009، أو هي عملية "إبادة الأطفال" بحسب ما أطلق عليها الطبيبان النرويجيان "مادس جيلبرت" و"إريك فوسيه" اللذان كانا يعملان هما وزملاؤهما الفلسطينيون والنرويجيون في مستشفى الشفاء أثناء الهجمة الإجرامية. والتعبير في محله، في ضوء المذبحة التي تعرض لها مئات الأطفال.
يتراوح العنف ما بين كل ما تفتق عنه الذهن البشري من ألوان القسوة وحتى ألم النفي.
والألم فادح بصفة خاصة في غزة، حيث لا يزال كبار السن قادرين أن ينظروا عبر الحدود فيروا البيوت التي أكرهوا على الخروج منها ـ أو هم قادرون على ذلك إن هم وصلوا إلى الحدود دون أن يتعرضوا للقتل.
من بين أشكال العقاب أن يتم إغلاق مساحة إضافية من الجانب الغزاوي من الحدود لتحويلها إلى منطقة فاصلة تتضمن نصف الأراضي الغزاوية القابلة للزراعة بحسب ما تقول "سارة روي" الباحثة الرائدة في شئون غزة.
وفي حين أن غزة معرض مفتوح للمقدرة البشرية على ممارسة العنف، فهي أيضا مثال ملهم للمطالبة بالكرامة.
تكتب غادة عجيل Ghada Ageelـ وهي شابة هربت من غزة إلى كندا ـ عن جدتها اللاجئة البالغة من العمر سبعة وثمانين عاما، والتي لا تزال حبيسة سجن اسمه غزة. قبل طرد جدتها من قريتها المدمرة حاليا، "كانت تمتلك بيتا وحقولا وتحيا بكرامة وشرف وأمل".
المدهش أن هذه العجوز الطاعنة في السن ـ وشأن الفلسطينيين بصفة عامة ـ لم تفقد الأمل بعد.
تكتب عجيل "عندما رأيت جدتي في نوفمبر 2012 وجدتها سعيدة على غير المعتاد. ولما أدهشتني روحها المعنوية المرتفعة سألتها عن السبب. فنظرت في عيني مباشرة وأدهشتني بأن قالت إنها لم تعد مهتمة" بقريتها وبحياة الكرامة التي فقدتها. قالت لها جدتها إن القرية "في قلبك، وأنا أعلم أنك لست وحدك في رحلتك. فلا تيأسي. كلنا قادمون إليك".
البحث عن الكرامة أمر يفهمه بالغريزة من يمسكون الهراوات ومن يدركون أن أفضل وسيلة للقضاء على الكرامة ـ بعيدا عن العنف ـ هي المهانة. وتلك من السمات الأصيلة في السجون.
والسجون الإسرائيلية تخضع الآن للتفتيش مرة أخرى، بعدما لقي عرفات جردات ـ العامل في محطة بترول والبالغ من العمر ثلاثين عاما ـ مصرعه في فبراير الماضي وهو رهن الاعتقال الإسرائيلي. وقد تكون ملابسات موته شرارة انتفاضة جديدة.
تم اعتقال جردات من منزله عند منتصف الليل (وهي الساعة المعهودة للاعتقال إرهابا الأسر) ووجهت له تهمة إلقاء الحجارة وزجاجات المولوتوف قبل اشهر قليلة اثناء الهجوم الإسرائيلي على غزة في نوفمبر.
كان آخر من شاهد جردات حيا ـ مع ملاحظة أنه لم يكن يشكو من أي مرض عند اعتقاله ـ هو محاميه الذي رآه في المحكمة ووصفه بأنه "بات منحنيا، مليئا بالندوب، مشوش الذهن، شديد النحول".
جددت المحكمة حبسه اثني عشر يوما إضافية، ثم عثر على جردات ميتا في زنزانته. وتكتب الصحفية "أميرة حسن" أن "الفلسطينيين لا يحتاجون إلى تحقيقات إسرائيلية. فجردات بالنسبة لهم أكبر بكثير من المأساة التي تمر بها أسرته. ذلك أن موت جردات ـ من واقع تجربتهم ـ ليس إلا دليلا على استمرار الإسرائيليين في اعتماد روتين التعذيب. وهدف التعذيب ـ من واقع تجربتهم ـ لا يتمثل في إدانة شخص ما وحسب، بل ردع شعب كامل وإخضاعه".
وسبيلهم إلى ذلك هو الإذلال والإهانة والإرهاب، وهم في هذا يشتركون مع كل القاهرين داخليا وخارجيا.
فالحاجة إلى إذلال كل من يرفعون رءوسهم سمة لا يمكن استئصالها من الذهنية الإمبريالية.
في الحالة الإسرائيلية الفلسطينية هناك شبه إجماع دولي تام على تسوية سياسية، ولكن الولايات المتحدة تمنع تنفيذها منذ خمسة وثلاثين عاما في ظل قبول أوربي ضمني.
وليس ازدراء الضحايا التافهين بالجزء الهين من الحاجز الذي يعوق الوصول إلى تسوية فيها على الأقل قدر ضئيل من العدالة والاحترام لكرامة الإنساتن وحقوقه. وليس ببعيد على خيالنا تصور إمكانية التغلب على هذا الحاجز من خلال جهد مخلص مثلما حدث في أماكن أخرى من العالم.
وما لم يتعلم الأقوياء كيف يحترمون كرامة الضحايا، سوف تبقى الحواجز العصية على الاجتياز قائمة، وسيبقى العالم منذورا للعنف والقسوة والمعاناة المريرة.

نشر الموضوع أصلا هنا ونشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق