الاثنين، 1 أبريل 2013

الشعر واليوتوبيا



الشعر واليوتوبيا
تشارلز سيميك
في عام 1972 وجدت نفسي عضوا في لجنة مهمتها شعر المستقبل. كان ذلك ضمن فعاليات مهرجان ستروجا الشعري في مقدونيا. لم يكن من المخطط أن أشارك، لكن الشاعر الأمريكي الذي كان مفترضا به المشاركة، وهو "دبليو إس مرون"، رجاني أن أحل بدلا منه، نظرا لأنه كان يريد زيارة دير مع صديقة له. ولأنه أكبر مني سنا، وأكثر شهرة، ولأنني معجب به إعجابا هائلا، لم يكن من الممكن أن أرفض  طلبه فذهبت إلى اجتماع اللجنة دون أن تكون لدي أدنى فكرة عما سوف أقوله. وكان من دواعي فزعي أن جميع المشاركين الآخرين في أعمال اللجنة جاءوا مجهزين أحسن تجهيز، فمنهم من قرأ معتمدا على الكثير من البطاقات، ومنهم ذلك الشاعر القادم من الاتحاد السوفييتي الذي قرأ نصا مكتوبا على الآلة الكاتبة تنبأ فيه بثقة بعهد ذهبي للشعر في العالم وقد تحول إلى الشيوعية وبات يعيش في تناغم وانسجام للمرة الأولى في التاريخ.
وجاء دوري تاليا له، وعلى الرغم من أنني كنت في شبه غيبوبة بسبب عدم الانقطاع عن الشرب والتدخين والكلام منذ وصولي إلى المهرجان، بل وطوال  رحلة شارفت على العشرين ساعة من سان فرانسسكو قضيتها كلها دون أن أنام تقريبا. ومع ذلك، ارتددت إلى الحياة مرة أخرى بقوة اللغو الذي هرف به المتحدث السابق عليّ، وقلت إن التنبؤ بمستقبل الشعر هو مضيعة تامة للوقت، إذ الشعر لم يتغير تغير جذريا على مدار القرون الخمسة والعشرين السابقة وإنني أستبعد أن يطرأ عليه مثل ذلك التغير خلال المائة عام التالية. ولما كانت تلك هي غاية طاقتي، فقد صمت ولم أفتح فمي بكلمة طوال ما بقي من وقت الجلسة. أما بقية المشاركين في أعمال اللجنة فلا أتذكر أن أحدا منهم عقب على كلامي، بل أنهم استمروا يجادلون بعضهم البعض في رؤاهم حول مستقبل الشعر.
ما قلته في ذلك اليوم فاجأني بقدر ما لا بد أن يكون قد فاجأ غيري ممن كانوا في تلك القاعة، فقد كنت في ذلك الوقت معروفا بوصفي شاعرا سرياليا، أي شخصا يدّعي روتينيا الإيمان بالطليعية. كنت أنا وأصحابي أشبه بماركسيي الزمان القديم الذين كانوا واثقين أنهم فهموا قوانين التاريخ. كنا على قناعة بأن الرسم التجريدي متقدم على ما سواه من أشكال الفن، وأن الشعر الحر أسمى من شعر التفعيلة والقافية. كانت الجِدَّة بالنسبة لي شرطا لازما للفنون، ولا تزال كذلك. كنت أوافق "والاس ستيفنس" الذي كتب عن الإنسان أنه
يعيش في سيولة لا على صخرة صلبة.
الصلب عصر،
مرحلة ذات أثاث مناسب، إنجليزي غالبا،
تحرسها شرطة الأمل المسيحي.
كان التاريخ بالنسبة له عملية لا تملك فكرة نهائية عن الواقع، والشعر بالنسبة له كان جزءا من هذا التحول التقدمي للواقع. والشاعر الجدير بالقراءة هو الذي يعيش الحاضر، أي أنه في حالة تغير مستمر إلى شيء آخر. إذ أن الذي نجح في الشعر بالأمس لن ينجح اليوم، فلا مناص للشاعر من أن يجد السبل لمواجهة الزمن الذي يعيش فيه. أما الذي لم يتغير فهو أننا لا نزال ما كنا إياه قبل قرون، عقول تقرأ أنفسها بحثا عن معنى الوجود، وتندهش كل حين من أنها تحيا، وتعي تمام الوعي بفنائها المحتوم.
فهمت ما قلته في ستروجا بعد سنوات كثيرة، وأنا واقف، ذات أصيل رائق من مايو، عند ملتقى الطريق الخامس والشارع الثاني والأربعين في مدينة نيويورك، في انتظار صديق تأخر. كانت الساعة الخامسة، وهي الساعة التي تفرغ فيها المكاتب لتغص الشوارع بآلاف الموظفين الساعين كل إلى التقاط قطار أو حافلة. كنت قد قضيت الساعة السابقة في متجر للكتب عرف بعرضه أحدث المجلات الأدبية وكتب الشعر، قضيت الساعة أقلب الكتب قارئا قصيدة من هنا وأخرى من هناك. وبينما كنت منتظرا عند ذلك التقاطع المزدحم، خطر لي أنه لو رأت الشاعرة الإغريقية القديمة سافو ما أراه الآن، فلن يقتصر حالها على ألا تفهم أي شيء، بل إن الرعب سوف يستولي عليها. ولكنها، في المقابل، لو قرأت القصائد التي كنت أقرؤها أنا للتو، فسوف تطرق براسها متفهمة لتلك القصائد التي تنطق مباشرة، بما نطقت به قصائدها هي، بأوجاع وأفراح أن يكون الإنسان إنسانا. فالصوت ـ الذي يمكن لسافو أن تتعرف عليه ـ هو الصوت الذي يخاطبنا بهدوء من خلال القصائد منذ بداية الشعر الغنائي.
يرجع مقتي للفكر الطوباوي إلى نشأتي في ظل الشيوعية في يوغسلافيا. صور ماركس وستالين والمارشال تيتو المعلقة أعلى السبورة في فصلي في المدرسة، وثلاثتهم ناظرون في ثقة إلى المستقبل. كان المعلمون يقولون لنا إننا محظوظون أننا نعيش في مجتمع سيكون قدوة لبقية الإنسانية على مدار آلاف السنين القادمة. ولكنني كنت محصنا سلفا ضد هذه النوعية من الأفكار على يد جدة هي التي أنشأتني بعدما عاشت حربين عالميتين، واحتلالين نمساوي وألماني، وحربا أهلية، وكان بوسعها أن تسرد كل شقاء تعرضت له عائلتنا على مدار قرن سابق. لم تكن جدتي تلك ـ شأن أمي ـ تنتظر من المستقبل خيرا، بل المزيد من البؤس، والمزيد من القنابل الساقطة، والمزيد من المعاناة. لم تكن أي منهما تؤمن بالحياة بعد الموت، برغم أنهما كانتا من نسل سلسال طويل من القساوسة. كانتا تُشهدان الرب عندما تسمعان أخبارا سيئة، وترشمان الصليب حينما يصادفنا حظ عاثر، وتوقدان للموتى شموعا في الكنيسة، ولكنهما تشفقان عليك إن أنت سألتهما عما إذا كانتا مؤمنتين بالجنة والجحيم.
كتب "وليم هازليت" وهو الناقد البريطاني العظيم في المرحلة الرومانتيكية يقول إن "الشعر يقيم طول الوقت في يوتوبيا تخصه". وعلى الرغم من كل ما قلته، أعتقد أن هازليت على حق. فالقصيدة في علاقتها بالمستقبل أشبه برسالة في زجاجة ملقاة في البحر. كتابة قصيدة ليست إلا رجاء عظيما قريبا كل القرب من اللاعقلانية المحضة، رجاء في أن تبقى صورة أو استعارة أو بضع سطور من الشعر أو الصوت الكامن في كل ذلك، تبقى لها حياة بعد الموت. ولقد قال بول تسيلان إن "القصيدة تريد أن تبلغ الآخر، تريد منه آخريته". وهو ما يحدث أحيانا.
إن شابا في بلدة صغيرة في بتاجونيا أو كنساس يقرأ شاعرا صينيا قديما في كتاب استعاره من المكتبة ويقع في غرام قصيدة، فإذا به يقرؤها لنفسه المرة تلو المرة تلو المرة بينما يحل عليه ليل الصيف. ومع كل قراءة منه يرد صوت الشاعر القديم إلى الحياة. وللحظة لا سبيل إلى نسيانها، يخرج من حياته الضيقة ويلج حيوات رجال ونساء، يرى العالم بأعينهم، يشعر بما شعروا به ذات يوم ويفكر مثلما حدث أن فكروا. فلو لم يكن الشعر أكثر ما ابتكره البشر طوباية، فلا أعرف أي شيء يمكن أن يستحق هذا الوصف.
نشر الموضوع ـ الرائع ـ أصلا في نيويورك رفيو أوف بوكس في 7 يونيو 2012 وفي جريدة عمان في 15/6/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق