الأحد، 4 نوفمبر 2012

الضفادع لن تحل المشكلة



الضفادع لن تحل المشكلة
ألكسندر جورلاخ

أقرأ حاليا كتاب "اقتصاديات الخير والشر" لمؤلفه توماس سيلداسيك. في هذا الكتاب يرجع عالم الاقتصاد التشيكي بقرائه إلى الأيام الأولى من التبادل التجاري بين البشر. وتمر حكايته بمنحنى هائل وطويل يبدأ باختبار الدور  الذي لعبه الاقتصاد في عهدي حضارة بلاد ما بين النهرين واليونان القديم. ينظر سيداليسك إلى الماضي عبر عدسات الحاضر. فتبدو نماذجنا الاقتصادية المخنوقة ـ من قبيل "اليد الخفية" للسوق، وتعاليم كيينز ـ أشد عنفا وأكثر تفاوتا مما تقتضي التحديات الاقتصادية التي تواجهنا. وفي مواجهة فقر الخيال الاقتصادي، يثير سيداليسك سؤالا أساسيا عن الخير والشر، لا بالمعنى الأخلاقي، بل بوصفه سردية كبرى من سرديات التاريخ الاقتصادي.
لقد كانت الغابات ـ بالنسبة لأولئك الذين كتبوا (أو استمعوا إلى) ملحمة جلجامش العراقية القديمة ـ هي أماكن الخطر فيما كانت المدن مواطن الأمن. ومن ثم فقد كانت حدود المدينة هي أيضا الحدود القائمة بين الخير والشر. وفي مستهل الحكاية، يقيم البطل جلجامش سورا لتحصين المدينة وحماية أهلها. وتظهر الغابة بمظهر الشر الخالص، فترتفع الأصوات بالإعجاب حينما يبدأ جلجامش في اقتلاع الشجر. عملية الاحتطاب التي يقوم بها جلجامش لا تستهدف الربح الاقتصادي بل إلحاق الهزيمة بالأرواح الشريرة التي تستوطن الغابة. ويسري في ثنايا الملحمة كلها مفهوم إلهي أسطوري للطبيعة لم يتبدد ـ كما يقول لنا سيداليسك ـ إلا مع مجيء اليهودية. فلقد كانت الطبيعة تمثل ـ بالنسبة للآباء الابراهيميين ـ البيئة الفيزيقية الملموسة. كانت بالنسبة لهم جزءا من خلق الإله، لكنها في ذاتها لم تكن إلهية. كانت توفر الموارد التي يحتاجها الإنسان فيبقى ـ وتلك قطعة أخرى في أحجية الاقتصاد.
عند هذه النقطة من الحكاية، دخل سؤال الخير والشر إلى عالم الاقتصاد. فمع البدء في التفكير الاقتصادي، صار الإنسان فجأة هو مركز النقاش. وإذا المسئولية عن الأفعال، وعن عواقب الأفعال، لا توعز إلى سلطة إلهية كما كان الأمر من قبل، بل تلقى على كاهل كل فرد. وإذا المنافسة القائمة بين الخير والشر تتجلى بوصفها مراواحات لضمائرنا نحن الذين ننوء بحمل المسئولية. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن جنة عدن هي في التراث اليهودي طول الوقت حديقة مخدومة بعمل جيد. فالعمل لازم للحفاظ على كمال هذه الجنة، ومن ثم أصبح العمل عنصرا فطريا في وعي البشر بذواتهم.
ثم جاء فلاسفة اليونان فنظروا فيما تتكون منه الحياة الجيدة الخيرة. أكان ذلك هو تحقيق أقصى قدر من الانتفاع والاستغلال أم هو الخضوع للأعراف المستقرة والنواميس الثابتة؟ ويظهر تأويل سمح للمتعوية ليجعل من المنفعة الشخصية أسمى الغايات، بل ويساوي بينها وبين الإله ذاته.
إن تعاليم الابيقوريين تعد بمثابة إنجيل علماء الاقتصاد اليوم. ولكن الفلاسفة الرواقيين كان لهم رأي مغاير: فلقد ذهبوا إلى أن الخير قد يأتي من الخضوع لقناعات محددة رأوا أنه لا غنى للنشاط الاقتصادي عنها.
ولكن لا بد أن يكون واضحا وضوح الشمس أن قراراتنا الاقتصادية (والتي قد تكون لها بالمناسبة علاقة بأسئلة عن استخدام المرء لوقته: بمن ألتقي، وأي تأثير سيكون لهذا الاجتماع على يومي، وما تبعات هذا الاجتماع على حياتي وعلى حيوات الآخرين) تؤثر على الآخرين.
في سياق ثقافتنا، كانت لتراث الرواقيين الهيمنة طوال قرون. فكانط يقول: لا تعامل الآخرين وكأنهم وسائل لتحقيق غاياتك، بل عاملهم المعاملة التي تريد أن يعاملوك بها. ونظرية كانط هذه تبدو كما لو أنها نسخة مثقفة من القاعدة الذهبية الحاضرة بوضوح في العهد  الجديد (وإن لم ينفرد بها): "اعمل للآخرين ما تحب أن يعملوه هم لك".
أود أن اشير أيضا إلى إحدى ملاحظات سيداليسك البارعة بخصوص العهد الجديد، فهو يزعم أنه نص اقتصادي بامتياز. إذ أن تسعة عشر من بين ثلاثين قصة يقصها يسوع هي ذات خلفية اقتصادية أو اقتصادية اجتماعية. ومن ثم فقد يكون الإنجيل مادة قرائية مثيرة لاهتمام علماء الاقتصاد ورجال الأعمال!!
تبين هذه الجولة السريعة عبر التاريخ الاقتصادي شيئا واحدا: أن اقتصادنا جزء لا انفصال له عن تاريخنا. وهو جزء من حكاية أكبر موضوعها الأساسي هو أسئلة كبيرة لها ما يترتب عليها. وإنه لمن آيات قصر النظر أن نحاول الفصل بين الأسئلة الاقتصادية وبين سياقها المجتمعي، أو أن نقصر التأثير الاجتماعي للشركات الكبرى على ما تنفقه من المال عبر رعايتها للفعاليات الثقافية. فالاقتصاد يتضافر مع جوهر المجتمع، مع شفراته الأخلاقية، ومع كثير من قوانينه الاجتماعية. وكذلك مع أفقه رؤاه نفسه. ولقد قال المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميدت قولا بارعا: "إذا كانت لديك رؤى، فمن الأفضل أن تستشير طبيبا". وقد نضيف إليه: أو اذهب إلى الكنيسة. فطالما لعب الدين على مدار التاريخ دور المهدئ للإنسان في حياته القصيرة والقاسية بوعده بالفردوس.
نحن اليوم لا نطالب بالرؤى قساوستنا، بل ساستنا. نحن اليوم نقول إن "رجال السياسة لا بد أن يكونوا مبدعين، ولا بد أن يقوموا بتحريرنا من قبضة المقامرين المغامرين ومن الميزانية القائمة على الديون". ولكننا نادرا ما نقرأ عن نزعات العلاج الذاتي في الاقتصاد أو عن حكمة علماء الاقتصاد. وهناك مثل قديم يكتنز كل الشكوك التي تراودنا تجاه الفاعلين في الاقتصاد: "لا تسأل الضفادع عما إذا كان ينبغي تجفيف البرك".
بعبارة أخرى، لا تعتمدوا على الفاعلين في عالم الاقتصاد في ترتيب الفوضى التي تسببوا هم أنفسهم في وجودها. بل احرصوا على أن يكون رجال السياسة هم من يضعون الإطار.
هذه الرؤية خاطئة تاريخيا. ربما كان الناس فيما مضى يفكرون في الاقتصاد بصورة أكثر إبداعية، ولكن الأسباب التي أدت إلى الانفصال المتزايد بين الاقتصاد وبقية المجتمع هي الأسباب التي تم تحديدها بإيجاز في عام 2011. فقد أثار الصحفي المحافظ تشارلز موور جدالا كبيرا بطرحه سؤال مستفزا: هل المحافظون يغامرون حينما يربطون قيمهم الخاصة بالمشروع النيولبرالي راجين أن يحصلوا على الكثير من الأرباح ممن يدعون أنفسهم "سادة الكون" ومن يد السوق الخفية؟ وعلى مدار بضعة أسابيع، تبدل إيقاع الصيف الهادئ، إذ انخرط عدد من المفكريت في بلاد مختلفة في محاولة الإجابة عن سؤال مور.
كان من بين من استجابوا لطرح مور الكاتب الألماني بوثو شتراوب الذي قدم هذا التفسير: نحن نفتقر الآن إلى الأدوات والنظريات اللازمة للتمييز بين الأطروحات الاقتصادية الصائبة العميقة وبين الأطروحات قصيرة النظر الأنانية المضللة والخاطئة. وهو محق في هذا: فالدروس السياسية التي يتلقاها طلبة التعليم الثانوي تعلمنا الكثير عن المغالطات السياسية ومخاطر الديماجوجية، في حين لا توجد دروس مماثلة نتلقاها عن الاقتصاد. كما يذهب شتراوب إلى أننا ننسى أن كثيرا من أسلافنا من رجال الاقتصاد (ونسائه في بعض الحالات النادرة) ـ ممن يشير إليهم سيداليسك في كتابه هذا ـ لم يكونوا يعيشون حيواتهم في فراغ، بل لقد كان ثمة حوار ثري ونقاش دائم بينهم وبين معاصريهم من الموسيقيين والممثلين والفنانين والعلماء والمثقفين. ولقد كان البحر الذي امتد بين الخطاب الاقتصادي والخطاب العام سلبي النتائج على الجانبين.
كيف يكون شكله ذلك الاقتصاد الخير؟ أهو الاقتصاد الذي لا يستهدف إلا نفسه، أم تراه الاقتصاد الذي ينشد أعظم الخير لأكبر عدد ممكن من الناس؟ هذا الفصل لا يعني إلا أن الاستفادة من كتاب سيداليسك لم تتحقق. فالدرس المستفاد من هذا الكتاب هو أنه حينما تعاني المجتمعات، يعاني الاقتصاد، والعكس صحيح.

*كاتب المقال هو مؤسس مجلة "ذي يوربيان مجازين" ومحرر فيها، والمقال منشور فيها أصلا، وترجمته نشرت اليوم في جريدة عمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق