علينا أن
نحرق هذه الرسائل
(2)
إيتالو كالفينو
كالفينو في هذه الرسائل، في العشرينيات من عمره، يكتب
إلى أصدقائه عن حيرته إزاء القالب والشكل، يطلب منهم النقد الصارم، ويكتب مقيّما
أعمال من يحبهم من المؤلفين، ويرثي صديقه الأعز المنتحر تشيزاري بافيز.
***
إلى سلفيو ميتشيلي ـ فيارجيو
تورين في 8/11/46
عزيزي ميتشيلي
وبّخت حشودا من الناس، لا سيما الأحمق نيكوسيا، لأن أحدا
لم يخبرني بوجودك عندما كنتَ هنا. كنت أريد أن أقابلك شخصيا، وأتناقش معك، وأتجادل
وإياك، ويا إلهي، ربما نتشاجر حتى على أشياء كثيرة (!)، لأنني موقن أن الحال سوف
ينتهي بكلينا إلى عراك بالأيدي. إذا جئت مرة أخرى إلى تورين، فعليك أن تطالبهم
بإعلامي أنك موجود.
أعرف أن أطنانا من الكتابة تشغلك كل يوم، وأنك تكتب
روايات ذات حبكات، حبكات ذات علاقة بزنا المحارم، وبالجريمة، روايات ساخنة، روايات
فاترة، روايات فيها مياه جارية ساخنة وباردة. وهذا يملؤني حسدا لأنني لم أزل هنا،
لا أفعل شيئا إلا أنني أضيع الوقت. كنت أرجو أن أنتهي من كتاب صغير قوامه قصص
قصيرة كلها لطيفة وأنيقة ومحكمة، لكن بافيز قال لا، لأن القصص القصيرة لا تبيع،
وإن عليَّ أن أكتب رواية. وأنا في الوقت الراهن لا أشعر باحتياج ملح إلى كتابة
رواية، وبوسعي أن أكتب القصص القصيرة طول حياتي. قصص ظريفة متقشفة تستطيع أن
تنهيها بمجرد أن تبدأها، تكتبها وتقرأها دونما جهد، تامة وكاملة مثل كثير من
البيض، قصص إذا أضفت إليها كلمة أو حذفتها تتشظى بين يديك. الرواية، في المقابل،
فيها دائما بعض اللحظات الميتة، مناطق تقوم فيها بالربط بين قسم وآخر، شخصيات لا
تشعر أنها تامة حقا. الرواية تستوجب نهجا مختلفا، نهجا أكثر تراخيا، لا يجعلك تحبس
أنفاسك وتشد على أسنانك مثلما أكتب أنا. أنا أكتب وأنا أقضم أظافري. هل تكتب وأنت
تقضم أظافرك؟ ينقسم الكتاب إلى من يكتبون وهم يقضمون أظافرهم ومن يكتبون وهم لا
يقضمونها. مع وجود من يكتبون وهم يلعقون أصابعهم.
ولا تتصور الآن أنني أفتقر إلى أفكار لروايات في رأسي.
ففي رأسي عشر أفكار لروايات. ولكنني مع كل فكرة في رأسي، أستشرف الرواية الغلطة
التي سأكتبها، لأن في رأسي أيضا أفكارا نقدية، أنا متخم بنظرية الرواية المثالية
وهذا ما يقف في طريقي. بينما الأبله المعتوه نيكوسيا يكتب رواية جيدة. عن
الانفصاليين الصقليين، وسوف تنجح، علاوة على أن لديه أسلوبا جديدا وحاسما. نتاليا
أيضا تكتب رواية. وبافيز يكتب رواية كذلك. وأنا بدأت في رواية: كتبت أربع صفحات في
أسبوع. والأسابيع تمضي ولا أستطيع أن أضيف فاصلة حتى، وأيام تمضي وأنا أتساءل عما
لو كانت تلك الجملة أفضل باستخدام "المتصاعدة" أم
"المتزايدة".
زائد أنني مضطر إلى كتابة مقالات هي فعلا تقتلني. في كل
مكان يريدون مقالات وأنا أكتبها لأن كتابة المقالة تستغرق نصف ساعة. كتابة المقالة
أمر وإنجاز المقالة أمر آخر. لإنجاز مقالة عليك أن تقرأ كتبا، وتعثر على أفكار،
وتشمر عن ساعديك. علاوة على أنني رجل ينتقل من منتهى التصنع إلى منتهى الافتعال في
غمضة عين. فمثلا، أرغب في أن أضع اسما معينا في جملة معينة في مقالة معينة. لنقل:
تشسترتن. لأن له وقعا جميلا في هذه النقطة. تشسترتن وصِفَة. "أولمبي مثل
تشسترتن" أو "معذب مثل تشسترتن". ولكنني لم أقرأ حرفا لـ تشسترتن،
لا أعرف أأولمبي هو أم معذب، وهل له علاقة من أي نوع بالذي أكتبه. فماذا أفعل؟
أشمر عن ساعدي وأبدأ البحث إلى أن أعثر على أعمال تشسترتن. واقرأ. جميع أعمال
تشسترتن. أقرأ. وكل ما كتب عن تشسترتن. أقرأ هذا أيضا. فيتسنى لي أن أكتب في تلك
الجملة المعينة "أولمبي أو معذب أو متخشب أو فصامي ... مثل تشسترتن".
هذا هو الأمر. ويكون أسبوعان قد مضيا من أجل كلمات ثلاث".
إضافة إلى أنني أكتب تحقيقات لأسبوعيات مثل أومنيبس.
تحقيقات مصورة. شيء معقد جدا بالنسبة لي: التواصل مع مصور، التعامل مع ناس، إجراء
حوارات، التنقل من مكان إلى آخر، تقديم طلبات. وظيفة رهيبة لواحد مثلي هو في
المقام الأول كسول وخجول. لكنها ضرورية لأنها ترغمني على رؤية الناس، ودراسة البشر
ومشكلاتهم، والتعرف على شريحة من الحياة الحقيقية. والآن عليّ أن أعدّ تحقيقا عن
جيش الخلاص، وآخر عن الهجرة السرية. كل مرة أضطر فيها إلى عمل صحفي أجدني أسب
وألعن، لكنني أكتشف لاحقا أن ذلك العمل نفعني بصورة هائلة في كتابة القصص. إنه
الشيء الوحيد الذي قد ينقذني من التحول إلى كاتب أكاديمي.
وذلك يا سيدي هو كل ما هنالك! [...]
تشاو ـ واكتب لي
كالفينو
***
إلى إلزا مورانتي ـ روما
تورين ـ 2 مارس 1950
عزيزتي إلزا
أنا سعيد فعلا برسالتك. عادةٌ أود فعلا لو أنميها في
نفسي، فهي مفقودة عندي بالمطلق ـ ولعلها كذلك عند
جيلنا كله، خلافا للأقدمين ـ عادة أن تأتي لحظة معينة، وبفعل السحر ربما،
تخطر لك فكرة فتودين على الفور أن تكتبي عنها إلى صديق، ثم تكتبينها بعد ذلك.
رسائلك أسعدتني حقا، لا سيما وأنها تأتي من واحدة من قلة قليلة من الناس يمكنني معهم
أن أقول شيئا [...]
لم أرسل لك "السفينة الشراعية البيضاء" Il Bianco Veliero بعد
لأنني لم أزل ممتلئا بالشكوك تجاهها وربما لا أقرر نشرها بالمرة، وأنا لست ماهرا
في التصحيح وإعادة الكتابة. إنها تمثل في كتابتي حركة قسرية باتجاه الحدوتة
والكاريكاتير، ولكنها كتبت في ظل معرفة تامة بهذا التوجيه القسري، ومن هنا فهي
بالغة الميكانيكية والبرود. وهذا كله واضح في شخصية البطلة: فهي مختزلة في صفر من
الدهشة والبراءة، عاجزة عن امتلاك لحم ودم، أي عاجزة ـ بعبارة أخرى ـ عن أن يكون
لها استقلالها فتتحرك بحريتها بدون أن تكون بحاجة طول الوقت إلى أن يحدث لها
شيء. واللغة دقيقة ولكنها تبدو فالصو falsetto بعض الشيء. إجمالا، أظن أنه كتاب مسل، كأنه نسخة معاصرة من جيرين
ميشينو Guerrin
Meschino مليء ربما
بأشياء جيدة، ولكنها لا تكون جيدة إلا لو أخذت واحدةً واحدة، كأنها مجموعة قصص
قصيرة، ومثل كل مجموعات القصص القصيرة، فيها قدر معقول من الأشياء التي يمكن
استبعادها. الحقيقة أنني أشعر بالفعل أنني حبيس أسلوب من نوع معين من الضروري أن
أهرب منه مهما كلفني الهروب: أنا الآن أحاول أن أكتب كتابا مختلفا كل الاختلاف،
لكنه أمر فاجر الصعوبة؛ أحاول أن أكسر الإيقاعات، والأصداء التي أستشعر أن الجمل
التي أكتبها تنزلق إليها في نهاية المطاف، كأنها نماذج سابقة التجهيز، أحاول أن
أرى الحقائق والأشياء والناس مجسمة بدلا من أن أراها ملونة بألوان لا ظلال لها.
ولهذا السبب فإن الكتاب الذي أفكر في كتابته يثيرني أكثر بما لا يمكن تصوره من
الكتاب الآخر.
لعلك لا تحبين أن تنصتي لكاتب يناقش كتابا له بمثل هذا
الانفصال العدائي، أنت التي ترتبطين في الضراء قبل السراء بكل ما تفعلينه، موشكة أن تتماهي معه. ولكن كما
ترين، أنت موهوبة بالمقدرة على التوحيد بين أشد العناصر افتراقا، ودائما ينجح كل
شيء معك، وعندك مقدرة كبيرة على توليف الأشياء، وهي قدرة نادرة بين النساء (نادرة؟
يعني، حسن، ربما التوليف هبة نسائية بامتياز). على أية حال، أنت تولفين بطريقة لا
تجيدها نتاليا مثلا، فالمشكلة بالنسبة لها غير قائمة أصلا، إذ أنها تعيش وترى
وتعبر عن نفسها بطريقة قوية مباشرة وواحدة، برغم أنها تعيش في نفس العالم الممزق
الذي نعيش فيه. تشعرين أن العالم ممزق إربا، أن الأشياء التي ينبغي لك الإمساك بها
كثيرة وغير متناغمة فعلا فيما بينها، ولكنك بعنادك الرقيق الوضاء دائما ما تجعلين
الأشياء تثمر. أما أنا في المقابل فالكتابة بالنسبة لي طالما كانت تعني الانطلاق
في اتجاه واحد، والمراهنة بكل شيء على ورقة واحدة، ولكن مع الوعي بأن هناك أوراقا
أخرى، الوعي بالمخاطرة وبعدم القدرة على إنهاك ما أريد أن أقوله. ولذلك السبب
كتابتي دائما إشكالية.
سأرسل إليك "السفينة الشراعية البيضاء" كما هي
. وأريد منك حكما صارما تفصيليا بلا قلب وسوف أعلق على ذلك أملا كبيرا. [...]
اكتبي لي كثيرا، وكلميني كثيرا عن نفسك، ولك أحر تحياتي
كالفينو
***
إلى إيسا بيزيرا ـ ميلانو
سان ريمو في 16 يوليو 1950
عزيزتي إيسا
أكتب إليك من بيت أبويّ، مستندا إلى المكتب الذي كم عملت
عليه الواجب وأنا ولد صغير. مكان لم يزل على حاله، جالسا ها هنا (كدت أقول على
غرار ليوباردي "جالسا هنا، شاخصا")، أسمع من جديد الأصوات القديمة التي
لم تزل عالقة في الزمن مثل الديكور القديم في الغرفة: صياح الديكة والديكة الرومية
في قفص الجارة (قد تكون جارة مختلفة لكن الديكة والديكة الرومية هي نفسها، وربما
الطاووس نفسه الذي كم قضيت من وقت ناظرا إليه؟)، طيور الحديقة، قطرات الصنبور،
كبار السن الراجعين مشيا من سان بييرو إلى البلدة، والبنات الصغيرات يلعبن
"فتحي يا وردة" في حديقة الراهبات. رخيصة هي لعبة "البحث عن الزمن
المفقود"، لا تحتاجين من أجلها غير بيت ومدينة ولدتِ فيهما، تعيشين بعيدا
عنهما ثم ترجعين كل حين. وربما لا يكون الأمر كذلك، لعلها رياضة للموسرين، فلو
أنني ولدت في حارة أو منطقة عمالية، لاختلفت المؤثرات الشعرية كل الاختلاف، لو لم
يكن بروست نشأ في قصور، فإنه يقينا ما كان ليخترع البروستية. عندما كنا صغارا جدا،
كنا نطلق على هذه الغرفة اسم "الغرفة الزائدة"، على ما أتذكر، لم يكن
فيها تقريبا أي شيء، ربما خزانة وسرير مخيمات. كنا ندخل لنلعب فيها فيبدو ذلك
رائعا لنا، لكن ربما كنا نمل بسرعة. ثم أصبحت "مكتب الأولاد". وها هي
مرة أخرى "الغرفة الزائدة" لا أكثر ولا أقل، بقطع أثاثها التافه، ومختلف
الأشياء التي انتهت إليها اعتباطا كما تنتهي الأشياء إلى مخزن. ومن هنا يمكن
للواحد أن يتأمل كيف يتغير العالم في مرورنا به: تترك الغرف، ومن نلتقي بهم من
الناس، آثارا فينا، وفي الغرف والناس نترك آثارنا. وكفانا من هذا. إنه الصباح. ولم
أذهب بعد إلى البحر. وصلت إلى هنا ليلة أمس بالقطار بعدما وصلت إلى فاريجوتي
بالسيارة، وهناك أخذت حماما دافئا في الظلام قرابة التاسعة مساء في بحر كان من أرق
ما يمكن. سقت السيارة حتى موندوفي. وكنت قد حصلت على الرخصة يوم السبت الذي سافرت
أنت فيه. أنا سعيد أنك تحبين تشيخوف. إنه كانت شديد العظمة، هائل. يستطيع استخلاص
الغطرسة البشرية ببراعة لكنه واثق ثقة لا تتزعزع في مستقبل الإنسانية. وهو يروي
قصصه بنبرة لا تضاهى، هي من القصة، لكنها أيضا منفصلة ومتحفظة وحساسة ولامبالية في
وقت واحد. أنت دائما على بالي. أحيانا أصعد التل لآكل ولا تكونين هناك. أنا الآن
خارج إلى البحر. والليلة أرجع إلى تورين. تشاو
***
إلى إلزا مورانتي ـ كابري
سان ريمو في 9 أغسطس 1950
عزيزتي إلزا
أستفيد من إيقاع الإجازات الوديع لأرد على رسالتك.
رسائلك، كم هي قلية ومتباعدة، لكنها موضع ترحاب دائما، حتى إذا حدث، وقد حدث في
الرسالة الأخيرة، أن احتوت على نقد عنيف. نقد كما تعرفين كنت أتوقعه، وأتفق معه.
البناء "البارد" الذي تجدينه في "السفينة الشراعية البيضاء" منشؤه أن حرارة الإلهام ـ وهي بالغة الوهن على أية حال ـ
التي بدأت الكتابة بها قد فترت مع الوقت، ولكنني قررت أن أنهي الكتاب انطلاقا من
العناد والرغبة في عدم تركه ناقصا وليس انطلاقا من شغف حقيقي به. وبعيدا عن الفصل
النافر، أو المشهد الذي فيه أبعاد قصة قصيرة، أعتقد أن الشيء الوحيد القابل
للإنقاذ من هذه الرواية هو الأفق، أعني، بعبارة أخرى، بعض الحواشي المتزنة. ولكنها
على حالها هذا، فيها "رحلة سان ريمو ـ تورين"، ولم تزل تعجبني.
كتابي الجديد، الذي تظنين أنه صدر أو على وشك الصدور،
إنما هو في مرحلة التوسع المسهب. ولو وصلت إلى ما أريد، فسوف يكون أول كتاب لي.
لكنها ولت، تلك الأيام التي كنت أكتب فيها بلا توقف، "مثلما تثمر شجرة التفاح
تفاحها" على رأي موباسان (الذي أقرأ أعماله لأكتب مقالة في مئوية ميلاده).
تراجعت قدراتي، أو أن مزيدا من المشكلات في رأسي تبقى مشكلات بدون أن تتحول إلى
صور أو إيقاع سردي، وعليّ أن أنقّب فيها قليلا قليلا. ستفهمين من ثم كم أنا متفق
معك وأشاركك في مخاوفك. إنني أدرك أن ضغط التاريخ هو الذي دفعني قدما ثم ألقى بي
وتركني. والآن صرنا نستشعر ضرورة أن يفعلها الكتاب بدورهم ويمارسوا ضغطهم على
التاريخ!
جئت إلى سان ريمو لقضاء الإجازة، فهي المكان الوحيد الذي
لي فيه بيت، وبوسعي فيه أن أقيم عزلة حول نفسي. وكم أنا بحاجة إليها بعد ما شهدته
تلك الشهور الأخيرة في دار النشر من اضطرابات وإزعاجات، ورحلات، وسياحة، وحمامات
شمسية، ورفقة هانئة: شهور سعيدة لكنها فارغة بصورة خطرة. وها أنا هنا أحاول إعادة
استكشاف آفاق طفولتي وذكرياتها، وما أعزها عليّ،
وأجتنب ما استطعت ذكريات مراهقتي التي لم ابرأ بعد من بقايا ضغينة تجاهها.
أرجو لك صيفا حافلا بالصفحات الممتلئة والنهارات
المشمسة. سلّمي لي على ألبرتو. أعتقد أنه سوف تسنح لي فرصة في الخريف لزيارة روما
فنلتقي. أحرّ تحياتي.
تشاو
كالفينو.
***
إلى إيزا بيزيرا ـ ميلانو
تورين في 3 سبتمبر 1950
عزيزتي إيزا
أعتقد أن رسالتي هذه سوف تصلك في إنجلترا وأنت سعيدة
وعاقدة العزم على الوصول ـ كدأبك ـ إلى اكتشافات رائعة. الأيام القليلة الماضية
مرت عليّ وأنا في حزن بالغ، فلم أستطع إلا الآن أن أكتب إليك. كنت أود لو كنت كتبت
لك من سان ريمو، حيث قضيت ثلاثة أسابيع في إجازة لطيفة: إجازة صامتة بحرية بيتية
مثلما أردتها بالضبط، تمكنت فيها من تجنب أعداد البشر الهائلة على الشط أو في
الرقصات. ولكن عنوانك لم يكن عندي. عندما رجعت إلى تورين منذ أسبوع بالضبط، ليل
27-28 أغسطس، وجدت بانتظاري على الخزانة بطاقة بريدية منك مرسلة من لاهاي، ورسالة
منك مرسلة من هارلم [في هولندا أيضا]. بدأت أقرأ وأنا في غاية السعادة، ويمكنني أن
أقول لك إنها كانت آخر لحظات عرفتها من السعادة. بينما كنت أقرأ جاء من قال لي إن
شيئا رهيبا وقع وإنني لا بد أن أذهب إلى بيت صديق. وهناك عرفت بانتحار تشيزاري
بافيز.
لا أعرف إن كانت الجرائد الإيطالية تصل إليك، لكن لعل
الخبر لم يصلك، ولعل بافيز بالنسبة لك لا يزال أكثر من مجرد اسم. ولكن بافيز كان
يعني لي أنا الكثير: هو لم يكن فقط واحدا من كتابي المفضلين، وواحدا من أقرب
الأصدقاء، وزميلا في العمل لسنوات كثيرة، وشخصا كنت أتكلم معه كل يوم، ولكنه كان
واحدا من أهم الناس في حياتي. كان شخصا أدين له بكل ما أنا إياه تقريبا، كان دوره
حاسما في تحولي إلى كاتب، كان دائم التوجيه والتشجيع والمتابعة لعملي، ترك أثرا
على طريقتي في التفكير والتذوق وحتى في عاداتي الحياتية العادية ومواقفي. لقد
احتجت بحق إلى بعض الوقت لأتعافى من الصدمة وأنظر النظرة المناسبة إلى الأحياء
والموتى. كل الأماكن وقصاصات الورق والعمل التي أعيش بينها، كلها مشبعة بحضوره،
وأنا الآن، مثل كل الأصدقاء والزملاء الذين كانوا مقربين إليه، أحاول أن أملأ هذا
الخواء الرهيب. كان أسبوعا حزينا، كما قلت لك، ولكن بوسعنا الآن أن نقول إننا
تجاوزنا الأسوأ، وإننا وضعنا أقدامنا على طريق التعافي. كانت الأيام القليلة
الأولى أليمة إلى أقصى حد، كلنا استغرقنا في الاستعداد للجنازة بينما عقولنا
منهمكة في جميع ما استطعنا حصره من تفاصيل أيامه الأخيرة، وفي استقبال الأصدقاء
الذين توافدوا من شتى أرجاء إيطاليا، فكان كل لقاء مع كل واحد فيهما مدعاة لتجديد
الحزن. ثم كان الرجوع الجسيم بعد الجنازة إلى دار النشر بغير صحبته، والمرور على
جميع المخطوطات غير المنشورة التي تركها، ثم محاولة التغلب على الفزع الذي كان
يمكن لاختفائه أن يرمي بنا إليه، ثم البدء من جديد في العمل ووضع الخطط.
ستسألين، وغيرُكِ: "ولكن لماذا قتل نفسه؟ الذين
يعرفونه مفزوعون لكنهم غير مندهشين: بافيز كان يحمل الانتحار في نفسه منذ أن كان
طفلا، بوحدته وصرخات يأسه، بسخطه على الحياة، كل ذلك كان كامنا وراء قناع الامتعاض
الذي كان يرتديه. لكنني كنت أعتقد، برغم ذلك كله، أنه كان صلبا غير قابل للانكسار،
محميا بخنادقه، كان الشخص الذي تفكرين فيه في محاولتك لزرع اليأس في نفسك، أو لبث
الشجاعة فيها، تقولين "ولكن بافيز متماسك" ... ولذلك كان موته ضربة
قوية. في الوقت الذي وصل فيه إلى ذروة شهرته الأدبية (ولم أكن واثقا بالمرة في
حالة البهجة الجذلة التي عاشها في الشهور القليلة الماضية)، أصابته نوبات اكتئاب
ولم يستطع جهازه العصبي ـ على ما به من قوة ـ أن يدعمه فانهار. هذا أقصى ما نفهمه:
كل ما يمكن أن تقرئيه أو تسمعيه عدا هذا نميمة وتخمين. كان قراره نهائيا، مسجلا في
قصيدة من ابريل الماضي، وفي كثير مما قاله لنا في الشهور القليلة الماضية، ولم
ندركه إلا الآن. ولكن حياته كلها ونتاجه الأدبي كله، اللذين يكتسبان الآن دلالة
جديدة، جديدة لنا على الأقل، يقولان إنه ربما كان يعرف منذ البداية.
عزيزتي إيزا، آسف أني كتبت لك رسالة مقبضة كهذه، ولكني
لم أعرف بعد كيف أكتب بطريقة أخرى، وكان ضروريا أن أكتب لك. ومع ذلك، أشعر أن
مرحلة من تجدد الاهتمام بالحياة قد بدأت بالنسبة لي. ولا يزال صديقي الشقي هو الذي
يدفعني في هذا الاتجاه، ويعلمني يأس أولئك الذين لا يملكون الفرار من وحدتهم
ليرتبطوا بالعالم المحيط بهم، وبالحياة. رسالتك الحبيبة المبعوثة من هارلم، والتي
قرأتها مرتين أو ثلاثا خلال الأيام الأخيرة، ساعدتني كثيرا. أنت نقيض بافيز، عندك
هذه المقدرة على الشعور بالارتياح في أي مكان بالعالم، وأن تقيمي علاقة عفوية مع
أي أحد، وأن تتعلمي بالغريزة أقسى دروس الحياة. أنا ربما أشبهه قليلا، وأشبهك
قليلا. ولزام علينا جميعا أن نرضى بالقليل من كل شيء، معا.
تشاو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق