الكاتب الفرنسي آلن فينكيلكراوت: هناك صدام حضارات وعلى الإسلام أن يتأورب
الكاتب الفرنسي
آلن فينكيلكراوت:
هناك
صدام حضارات وعلى الإسلام أن يتأورب
حوار:
ماثيو فون رور ـ رومان ليك
يذهب الكاتب الفرنسي " فينكيلكراوت" في كتابه الجديد المثير للجدل إلى أن
المجتمع الفرنسي في خطر، ويتحدث ـ في حواره مع دير شبيجل ـ عن فشل التعددية
الثقافية والحاجة إلى دمج أفضل للمهاجرين المسلمين.
***
آلن فينكيلكراوت من أكثر الكتاب الفرنسيين إثارة للجدل. كتابه الجديد الصادر
بعنوان L'Identité
Malheureuse
[هوية تعيسة]، أثار نقاشا ساخنا، فهو يصدر في وقت ترى فيه فرنسا أنها في غمار أزمة
هوية، وبدلا من تأطير الأمور من منظور اجتماعي أو سياسي، يبحث الكاتب فيما يراه
مواجهة عدوانية بين أبناء فرنسا الأصليين وبين المهاجرين. تم إجراء هذا الحوار في
شقته بباريس
***
شبجيل: مسيو فينكيلكراوت، هل أنت غير
سعيد بفرنسا اليوم؟
فينكيلكراوت: يؤلمني أن أرى الخطر محدقا بالحضارة الأوربية في حالتها
الفرنسية. فرنسا اليوم في طور التحول إلى مجتمع ما بعد قومي متعدد الثقافات. ويبدو
لي أن هذا التحول الهائل لن يثمر عن خير من أي نوع.
ـ ولم
هذا؟ ما بعد القومي ومتعدد الثقافات شيئان يبدوان مبشِّرين.
ـ بل هما مزيج يتم تقديمه لنا بوصفه نموذجا للمستقبل. ولكن
تعدد الثقافات لا يعني أن تمتزج الثقافات. هناك حالة من فقدان الثقة بين مجتمعات
تتشكل متوازية وتعمل باستمرار على النأي عن بعضها البعض.
ـ ألست
هنا تستسلم لتخويفات اليمينيين من الزوال؟
ـ الطبقة المتوسطة الدنيا ـ الفرنسيون الذين لم يعد المرء
يجرؤ على تسميتهم بـ الفرنسيين الأصلاء ـ يرحلون بالفعل من الضواحي الباريسية متوغلين إلى أعماق
الريف. لقد عرفوا في بعض الأحياء كيف يكونون هم الأقلية في بلدهم. هم لا يخافون من
الآخر، لكنهم يخافون أن يتحولوا هم أنفسهم إلى الآخر.
ـ لكن
فرنسا دائما ما كانت ولا تزال بلد
المهاجرين
ـ يقال لنا طوال الوقت إن المهاجرين عنصر مكوّن للهوية
الفرنسية. لكن هذا غير صحيح. هجرة العمالة بدأت في القرن التاسع عشر. ولم يحدث أن
فتحت الحدود بصورة كبيرة إلا بعد مجازر الحرب العالمية الأولى.
ـ للهجرة
تأثير تكويني على فرنسا أكثر منها على ألمانيا.
ـ كانت الهجرة تسير يدا بيد مع الاندماج داخل الثقافة
الفرنسية. تلك كانت قاعدة اللعبة. ولكن كثيرا من الوافدين الجدد لا يريدون اللعب
وفقا لهذه القاعدة. ولو أن المهاجرين هم الأغلبية في حي ما، فكيف لنا أن ندمجهم؟
لقد درجنا على أن تكون هناك زيجات مختلطة وهذا أمر أساسي في مزج الأجناس. لكن
أعداد هذه الزيجات تتناقص. كثير من المسلمين في أوربا يعيدون أسلمة أنفسهم. المرأة
التي تلبس الحجاب تعلن عمليا أن العلاقة مع غير مسلم أمر غير مطروح أصلا.
ـ ألا
يتعرض كثير من المهاجرين للإقصاء من متن المجتمع لأسباب هي في المقام الأول أسباب
اقتصادية؟
ـ أراد اليسار أن يحل مشكلة المهاجرين باعتبارها قضية
اجتماعية، وزعم أن شغب الضواحي كان ضربا من الصراع الطبقي. قيل لنا إن أولئك
الشباب كانوا يحتجون على البطالة وعدم المساواة واستحالة التقدم الاجتماعي. وما
رأيناه في الواقع كان اندلاعا للكراهية المنصبة على المجتمع الفرنسي. التفاوت
الاجتماعي لا يفسر معاداة السامية، ولا كراهية النساء [القائمة] في الضواحي، ولا
إهانة "الفرنسيين الأوساخ". اليسار لا يريد أن يقبل أن هناك صداما بين
الحضارات.
ـ ولكن
غضب أولئك الشباب أيضا أثارته البطالة المرتفعة. إنهم يديرون ظهورهم للمجتمع لأنهم
يشعرون بإقصائهم.
ـ لو أن البطالة مرتفعة للغاية، فلا بد من السيطرة على
الهجرة. واضح أنه لا يوجد من فرص العمل ما يكفي الجميع. لكن اسألوا المعلمين في
تلك الأحياء، سترون أنهم يواجهون من المصاعب الكبرى ما يجعل تدريس أي شيء أمرا
بعيد المنال. بالمقارنة
مع عازفي الموسيقى ومروجي المخدرات، فإن ما يكسبه المعلمون قليل إلى حد السخافة،
بل إلى حد النظر إليهم بازدراء. فما الذي يحمل الطلبة على الاقتداء بهم والسير على
خطاهم؟ هناك عدد ضخم من الشباب الذين لا يريدون أن يتعلموا أي شيء عن الثقافة
الفرنسية. وهذا الرفض يزيد من صعوبة عثورهم على فرصة عمل.
ـ هذه الأحياء التي تتكلم عنها، هل رأيتها بنفسك؟
ـ أنا أشاهد الأخبار، وأقرأ الكتب
والدراسات. أنا لم أعتمد يوما على حدسي.
ـ التعايش بين المجتمعات في الولايات المتحدة حاله أفضل.
فالأمريكيون ليس لديهم امتثال الأوربيين لثقافة قومية موحدة.
ـ الولايات المتحدة ترى نفسها بلد
هجرة، والأمر المثير للإعجاب بحق في هذا المجتمع متعدد الثقافات هو قوة الوطنية
فيه. ولقد تجلى هذا بصفة خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. أما في
فرنسا فيمكننا أن نرى العكس بعد الهجمات على الجنود الفرنسيين والأطفال اليهود في
تولوز ومونتوبان السنة الماضية، حيث رأى بعض تلاميذ
المدارس في "محمد مراح" ـ الذي قام بالهجوم ـ بطلا. شيء كهذا لا يخطر
على البال في الولايات المتحدة. المجتمع الأمريكي وطن للجميع. ولا أعتقد أن كثيرا
من أبناء المهاجرين يرونه [أي مجتمعنا] بهذه الطريقة.
ـ أمريكا تيسّر على الوافدين الجدد الشعور بأنهم
أمريكيون. فهل تزيد فرنسا من ارتفاع الحواجز أكثر مما ينبغي؟
ـ
فرنسا تمنع التلميذات من ارتداء غطاء الرأس في المدارس. وهذا يصب أيضا في
صالح جميع المسلمين الذين لا يريدون أن يحيط ببناتهم وزوجاتهم قفص الدين. فرنسا
حضارة، والسؤال هو ما معنى المساهمة فيها. هل يعني هذا أن يجعل أبناء البلد أنفسهم
قلة قليلة إلى أقصى حد ممكن بحيث يتسنى للآخرين بسهولة أن ينشروا أنفسهم؟ أم يتخلى
المرء عن الثقافة التي في حوزته؟
ـ ولكن هذا الأمر أفلح طويلا. فقد أصب ح إيطاليون وأسبان
وبولنديون ويهود من أوربا أبطالا وطنيين فرنسيين دونما صعوبات؟ لماذا لم يعد
النجاح يتكرر؟
ـ
لماذا يوجد هذا العداء اليوم تجاه الغرب في العالم الإسلامي؟ يقول البعض إن
فرنسا كانت قوة استعمارية وهذا هو السبب الذي يجعل من كانوا مستعمَرين غير سعداء.
ولكن ما السبب في تعرض أوربا لهذه الهجرة الهائلة من مستعمرات سابقة على مدار نصف
القرن الماضي؟ لا تزال فرنسا مرغمة أن تدفع ثمن خطايا الاستعمار وتسدد ديونا لمن
يشوهونها اليوم.
ـ أنت نفسك ابن مهاجرين، ومن نسل أسرة مضطهَدة. هل إرادة
الاندماج لديك هي التي تفسر التزامك المتطرف بقيم الجهورية؟
ـ أنا أدافع عن هذه القيم لأنني قد
أكون مدينا للتعليم أكثر من أي فرنسي بالوراثة. فأنا لم يوضع لي في المهد تاريخ فرنسا
وثقافتها. وكل من لم ينشأ على هذا التراث قادر أن يناله من خلال نظام التعليم الفرنسي.
وكان لذلك أثره في توسيع آفاقي وإتاحة الفرصة لي للانغماس في الحضارة الفرنسية.
ـ وجعل منك محاميا عنه؟
ـ بوسعي أن أتكلم وأكتب بحرية تفوق
حرية غيري لأنني لست فرنسيا بالوراثة. يسهل جدا على أبناء البلد أن يسمحوا لأنفسهم
بالتبرم من كل هذا الخطاب السائد. أنا ليست لدي هذه العقد.
ـ ما تعريفك لهذه الثقافة الفرنسية التي تتكلم عنها؟
ـ أعدت مؤخرا قراءة كتاب للكاتب
الروسي الجميل "إيزاك بابيل". تجري أحداث القصة في باريس. حيث يقيم الرواي
في فندق ويسمع بالليل أصوات ممارسة الحب بين اثنين في الغرفة المجاورة. يكتب
بابيل: ليس لهذا علاقة بما يسمعه المرء في روسيا ــ الأصوات هنا أكثر التهابا.
فيقول له صاحبه الفرنسي: نحن الفرنسيين الذين خلقنا المرأة والأدب والطبخ، وما
لأحد أن يسلبنا هذا.
ـ هذه كليشيهات تخلقها الأمم لاستهلاكها الشخصي.
ـ لكنها صحيحة، أو كذلك كان الحال في
الماضي. فرنسا لا يمكن أن تسمح لنفسها بأن تستنيم إلى مجدها. لكن لديها دليلا على
حضارتها، تماما مثل ألمانيا، لديها مشاهدها، ميادينها، مقاهيها، ثروتها من الأدب،
وفنانوها. بوسعنا أن نفخر بهؤلاء الأسلاف، وعلينا أن نثبت جدارتنا بهم. أنا آسف أن
ألمانيا ـ لأسباب غير مفهومة ـ قد قطعت الأواصر بينها وبين الاعتزاز بماضيها.
لكنني أعتقد أن الساسة الألمان الذين يتكلمون عن الـ لايتكولتور Leitkultur
ـ أو الثقافة القومية الهادية ـ
محقون. اللايتكولتور لا تشكّل حاجزا منيعا أمام الوافدين الجدد.
ـ هل لا تزال ثورة 1789 هي التي تصوغ الهوية الفرنسية
الحديثة؟
ـ في سنة 1989، في ذكرى مرور مائتي
سنة على الثورة، وقّعت على التماس ضد غطاء الرأس الإسلامي. كان ذلك الأمر بالنسبة
لي ذا علاقة بفكرة العلمانية التي تتعرض للنقد في أنحاء العالم هذه الأيام. كان
يعتقد في ذلك الوقت أن فرنسا نموذج للعالم، ويجري اليوم تذكيرها بتميزها ذلك. لم
تعد القضية قضية تصدير لنموذجنا. فلا بد أن نتحلى بالتواضع، وبالثبات أيضا.
ـ لكن أليست العلمانية الفرنسية اليوم تقدم مبررا للرفض
العدواني الإسلام؟
ـ وكيف هذا؟ نحن قمنا بحظر الحجاب،
لا بحظر الفرد. من قبل كان ثمة تشجيع للتلميذات على إخفاء الصلبان وصور مريم
العذراء المعلقة في أعناقهن تحت قمصانهن أو ستراتهن. هذا ليس بالشيء الكثير، مجرد
قليل من الامتناع من جانب كل فرد. هذا ليس فيه أي عدوان على المسلمين.
ـ ألم يصبح الإسلام، منذ أن أصبح جزءا من أورباـ جزءا من
فرنسا وألمانيا، مثلما قالها يوما الرئيس الألماني السابق كرشتيان فولف؟
ـ للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك
تصريح مماثل. الإسلام قد ينتمي يوما إلى أوربا، ولكن بعد أن يتأورب هو نفسه. وليس
مهينا للآخرين أن يظهروا آخريتهم.
ـ حسن، المسلمون هنا الآن. فهل لا ينتمون هم أيضا؟
ـ السؤال هو: كيف هم هنا؟ إن
المهاجرين لا يخسرون شيئا حينما يدركون الاختلاف عن السكان الأساسيين. اليوم يحلو
للمسلمين في فرنسا أن يصيحوا على سبيل التأكيد للذات: نحن فرنسيون مثلكم! وهذا قول
ما كان ليخطر على بال أبوي أن ينطقا بمثله. أنا نفسي لا يمكن أن أقول إنني فرنسي
بمثل فرنسية شارل دي جول.
ـ هناك تغطية للمهاجرين في فرنسا بموجب قانون "حق
الأرض jus soli " الذي ينص على أن كل من يولد على
الأراضي الفرنسية يكون له الحق في المواطنة الفرنسية. هل تريد إلغاء هذا؟
ـ لا. ولكن لننح المساواة في الحقوق
جانبا، هذا الطفل يصبح مواطنا فرنسيا بطريقة تختلف عن من هو من نسل فرنسي. الحق
الأوتوماتيكي في المواطنة الفرنسية بمجرد الميلاد في الأراضي الفرنسية يجعل الكثير
من الناس يشعرون هذه الأيام بعدم الارتياح، لأن الرغبة في أن يكون المرء فرنسيا تنتفي
في هذه العملية. ومثل كثير من الأوربيين، يشعر الفرنسي اليوم أن الهجرة أصبحت
عملية خارجة عن السيطرة، هي شيء يحدث، وليست شيئا وراءه إرادة. الدول لا تدير هذه
العملية، بل هي في أقصى تقدير، تواكبها.
ـ أليس شيئا شديد السهولة أن توعز كل المشكلات إلى هجرة
الفقراء من العالم النامي؟
ـ النقاش السياسي العام في هذا
الموضوع هو آخر ما يمكن للمرء أن يتوقعه. وبدلا من النقاش العام، أصبح هذا المجال
برمته مغلقا على اليمين المتطرف.
ـ كيف ترى الصعود السياسي لـ مارين لوبان وحزبها اليميني
المتطرف المعروف بحزب الجبهة الوطنية؟
ـ هذا يزعجني، بطبيعة الحال. ولكن
حزب الجبهة الوطنية ما كان ليبقى في صعود مستمر لو لم يصرف النظر عن قضايا اليمين
المتطرف القديمة. حزب الجبهة الوطنية يركز اليوم على العلمانية والجمهورية.
ـ هذا يبدو وكأنك يمكن أن تصوت للحزب.
ـ لا، لن أفعل ذلك لأن هذا الحزب
يخاطب غرائز الناس الأساسية وكراهيتهم. ويسهل إشعال هذه القوى بين أنصاره. وهذه
المواضيع لا يمكن تركها للجبهة الوطنية. هذه مواضيع اليسار، وحزب الشعب، وعليه أن يتعامل بجدية مع مخاوف الناس العادية
ومعاناتها.
ـ ما قولك فيمن يصفونك بالرجعية؟
ـ من المستحيل النظر إلى التاريخ
بوصفه تقدما مستمرا. أنا لديّ القدرة على المقارنة بين الأمس واليوم والتساؤل:
ماذا نستبقي؟ ماذا نترك؟
ـ وهذا في حقيقته أليس حنينا إلى عالم مفقود؟
ـ ـمثل ألبير كامو، أنا مع الرأي
القائل بأن مهمة جيلنا لا تتمثل في إعادة خلق العالم، بل في الحيلولة دون تدهوره.
فلسنا مطالبين فقط بالمحافظة على الطبيعة، بل وعلى الثقافة. وفي هذا تكمن الرجعية.
ـ حينما ترى كل هذه المشكلات في فرنسا ـ الديون،
البطالة، أزمة التعليم، أزمة الهوية ـ هل تشعر بالخوف من المستقبل؟
ـ أحزن، وينتابني إحساس بقلق عارم.
التفاؤل اليوم حمق. ليت السياسيين يصدقون، ويقولون الصدق مباشرة. حينها سوف تتسنى
لفرنسا صحوة حقيقية، وتضع سياسة أساها الحضارة.
نشر الحوار في دير شبيجل
ترجمة الحوار من الألمانية إلى
الإنجليزية: بول كوهين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق