الأربعاء، 29 يوليو 2020

كنت سجينا لدى صدام


كنت سجينا لدى صدام
سمير رحيم
سمير ريحم





وقفت أنتظر في صف الجوازات في مطار صدام الدولي والقلق يعتريني حمّى في جسمي كله. رأيت أبي، صادق رحيم، منحنيا على حجرة زجاجية أخذ الضابط العراقي بداخلها يفحص جوازات سفر أسرتنا في بطء. على زجاج الغرفة صورة لصدام حسين، بنظارة شمسية، وقبعة سوداء. وكان والدانا، قبل الطيران إلى العراق، قد حذرانا أنا وأختي الكبيرة فقالا إن العراق ليس كبريطانيا: نكتة عابرة هناك أو تعليق في غير موضعه قد يثير علينا مشاكل غير هينة. كانت حمايتنا الوحيدة هي مواطنتنا البريطانية ـ وتحالف صدام مع الغرب. تصاعد من الحجرة الزجاجية دخان سجائر. ثم ختم الضابط تأشيرات الدخول وأومأ لنا بالمرور. كان تاريخ ذلك اليوم هو الثامن والعشرون من يوليو سنة 1990. بعد خمسة أيام، غزا العراق الكويت، وتحولت رحلة سياحية قصيرة إلى كابوس امتد لأشهر طوال.
يصعب عليَّ الآن، بعد ثلاثين سنة، أن أصف ما جرى لي في العراق. الحقائق المجردة هي أنني في التاسعة من عمري حُبست لشهر في فندق ببغداد مع أسرتي. كنا بيادق صغيرة في معركة دبلوماسية هائلة. فبعد أن أدانت المملكة المتحدة غزو الكويت وهدّدت بالانتقام، احتجز جميع المواطنين البريطانيين لدى صدام ليكونوا أوراقا للمساومة. ورحلت أنا وأمي وأختي عند إطلاق سراح النساء والأطفال في نهاية أغسطس، وبقي أبي مرغما حتى منتصف أكتوبر.
كانت الصحافة عادة ما تصفنا بـ"رهائن الدرع البشري"، لكن ذلك لم يزل يبدو لي ميلودراميا. فالنظرية القائلة بأن صدام كان يحتجزنا على مقربة من الأهداف العسكرية لردع قصف التحالف نظرية لا معنى لها، ففي الوقت الذي بدأت فيه حرب الخليج في يناير من عام 1991 كان قد أطلق سراحنا جميعا. رهائن؟ يعني، لم يكن مسموحا لنا بمغادرة طابقنا في الفندق وكانت المصاعد تحت حراسة بعض المسلحين البله. ولكن أحدا لم يصوب سلاحا إلى رؤوسنا ـ لم يحدث هذا مع أسرتنا على الأقل. كان صدام يصفنا بـ"الضيوف"، ولعل هذا كان تضليلا لا ينبغي تصديقه. كنا آل رحيم نصف ما جرى بـ"الوقت الذي علقنا فيه داخل العراق" وكأنما ما جرى لنا لم يعد أن السيارة تعطلت بنا. لعل الوصف الأفضل هو "الحظر القسري". فلقد كان صدام ـ مثل فيروس كورونا ـ قاتلا محتملا لا يمكن التنبؤ بضربته، ويتفشى الذعر منه لدى رؤية الآخرين، بصورة بدت عشوائية، يعانون أكثر مما كنا نعاني.
ربما بسبب الغرابة التامة في تلك التجربة، لا أميل إلى إثارة أمرها في الحديث. واكتشفت أن أفضل وقت للإفصاح عنها ـ وأمي وأختي تقولان مثل ذلك ـ هو في أثناء تمثيل الاستجواب في لعبة التقييد في المكتب. قل لنا ثلاثة أشياء عن نفسك: كذبتان وحقيقة. لم يكن أحد يخمن أن المعلومة الصادقة هي أنني "كنت أسيرا لدى صدام". بعدها كان شخص ما قد يسأل مترددا كيف أثرت عليَّ التجربة. والإجابة معقدة. كنت طفلا في ذلك الوقت، لا أكاد أفهم ما يجري. أغلب ما في هذه المقالة تجميع بأثر رجعي لأجزاء من حوارات مع أسرتي وأخبار صحفية. ولكنني كنت أستشعر بقوة قلة حيلة والديّ حينما قالا لنا إننا لا نستطيع الرجوع إلى البيت، كما سمعت الخوف الخالص في صرخات كانت تشق الليل إلى طرقتنا في الفندق. أرجع النظر فأرى أن تلك الأسابيع في العراق أذاقتني حياة الخوف ـ أن يعرف المرء أن مصيره معلق بيدي شخص معدوم الضمير، وأن جملة معينة إذا ما نطقت فلا رادَّ لها. اختصارا، ذقت ما عانى منه العراقيون جميعا في ظل حكم صدام.
جعلتني التجربة أيضا أتأمل اعتباطية طبيعة الهويات ـ وكيف تحول امتياز حمل جواز سفر بريطاني لوهلة إلى لعنة. ازداد وضع أسرتنا تعقيدا بسبب إرثنا المزدوج. عندما أصدر صدام الأمر، أفترض أنه كان يتخيل إمكانية استعمال الأسر البيضاء الصالحة للعرض في السخرية من جورج دبليو بوش ومارجريت ثاتشر. لكنني على يقين أن ما لم يتوقعه هو وجود شيء غريب غرابة بشر بريطانيين ومسلمين. وكان ذلك الشذوذ الغريب هو نحن.
***
ثمة مزيد من الطبقات. كنا في العراق بوصفنا حجاجا من الشيعة، نقصد المزارات المقدسة في كربلاء والنجف خلال شهر محرم المقدس. وكان صدام ـ السنّي العلماني ـ يكره الشيعة ظنًّا منه أنهم وقفوا في صف إيران خلال حرب الأعوام الثمانية بين البلدين. وكان في بداية حكمه قد اغتال مرجعيات شيعية كبيرة. ألقى والدى خطبا في لندن تدين هذه الأعمال الوحشية. فهل يحتمل أن جواسيس عراقيين كانوا يستمعون؟ (هذا كان مصدر قلقي وأنا واقف في صف الجوازات) ولم يكن خيال الطفل الجامح شديد البعد عن الواقع. إذ سبق أن اعتقل صديق شيعي للأسرة وهو يزور العراق في الثمانينيات. اتهموه أنه جاسوس لإيران واعتقل لشهور، استجوبوه خلالها وعذبوه وكان من بين طرقهم في التعذيب أنهم أرغموه ـ ولم أزل أتذكر تلك التفصيلة ـ على غسل يديه بماء ساخن حارق.
بعد أيام قليلة من رحلتنا، أتيح لنا حضور لقاء مع مرجع شيعي كبير هو آية الله العظمي الخوئي في بيته بالنجف. أتذكر جلستي دهرا مع أبي في غرفة استقبال مفروشة بالسجاجيد. ولد الخوئي سنة 1899 وكان مسالما يجتنب التدخلات السياسية. ومع ذلك كان قامة مهمة، وكان مكروها بشدة من صدام. وكان أبناؤه يسيطرون على الاتصال به، ويجوبون المكان من حوله في جلابيب وعمائم سوداء متطايرة مسموعة الحفيف. (واحد منهم، هو ماجد الخوئي، سوف يهرب لاحقا إلى لندن ويصبح من أصدقاء أبي المقربين). اقتادونا إلى غرفة جانبية كان آية الله مستلقيا فيها على سرير، له بشرة بيضاء بياضا مذهلا، وفيما انحنيت على يده أقبلها رأيت من تحت جلده عروقه الزرقاء.
تمت واجباتنا الدينية، ورجعنا إلى بغداد. وفي ليلة الثاني من أغسطس، صحونا على ضرب النار. خرج أبي ليتحقق وتبعته. سرنا في الشوارع المضاءة بالصوديوم والجنود يطلقون النار على السماء مبتهجين. سألت "ماذا يجري؟" فقال "لا أعرف. لعلهم أطاحوا بصدام". عندما رجعنا إلى الفندق رأينا التليفزيون يذيع صورا لجنود عراقيين يتقدمون إلى مدينة الكويت. زعم صدام أنه يسترد أرضا عراقية ذات سيادة. صحيح أن المعاهدة الأنجلو عثمانية سنة 1913 هي التي حددت المساحة التي ستصبح الكويت لاحقا، ولكن هذا حدث قبل فترة كبيرة من استقلال العراق سنة 1932. الأرجح أنه كان يتحرك بغواية من فرصة للتخفف من دين يصل إلى 14 بليون دولار للكويتيين والسيطرة على 21% من احتياطيات النفط في العالم. أو لعله أراد ـ بعد وصوله إلى طريق مسدود دموي مع إيران ـ حربا صغيرة تشبع  غروره. بدت المخاطرة في عينيه صغيرة. فلقد مرّ قتله بالغاز لخمسة آلاف كردي في حلبجة سنة 1988 بلا ردِّ فعل من الغرب. وجاء في بيان موجز من وزارة الخارجية أن "الإجراءات العقابية ... من شأنها الإضرار بالمصالح البريطانية دونما طائل".
تحكي لي أمي، ياسمين رحيم، ما جرى بعد ذلك. تقول "كنا نعرف أننا ينبغي أن نخرج من البلد بأسرع ما نستطيع". أغلقت المطارات فاستأجرنا نحن وآخرون في فوجنا السياحي حافلة تقلنا إلى الأمان في عمَّان على بعد ستمئة كم. ولما كان أغلب الجيش في الكويت، فقد كانت الحدود بين العراق والأردن فقيرة الحراسة. خلال الرحلة التي استمرت ثماني ساعات أصيبت أختي روحي البالغة من العمر ثلاثة عشر عاما بتلوث في المعدة من مرحاض مقزز على الطريق. توقفت لها الحافلة كي تتقيأ على جانب الطريق. تحكي لي روحي الآن قائلة: "كنت قلقة من مرضي أكثر من قلقي على الوصول بأمان". وإضافة إلى قلقهما الطبيعي على صحة ابنتهما، انتاب والديَّ قلق آخر من التأخير: كان الوقت ينفد.
أوقفونا عند المعبر الحدودي وطالب الحرس العراقيون برؤية أوراقنا. في ذلك الوقت كانت لأمي جنسيتان، كينية وبريطانية، لكنها قرَّرت في اللحظة الأخيرة أن تسافر بجواز سفرها البريطاني. كان آخرون في المجموعة يحملون جنسية تنزانية برغم أنهم مقيمون في بريطانيا. كان معنا زوجان شابان افترقا، إذ طولب الزوج بمغادرة الحافلة، بينما أرغمت زوجته على البقاء. وأعيدت الحافلة ـ وقد باتت ممتلئة بالمواطنين الأمريكيين والبريطانيين فقط ـ بالرجوع إلى بغداد.
رجعنا إلى الفندق، وثمة صودرت جوازات سفرنا. متلهفين على أخبار حقيقية، فتحنا مسجل أختي الفضي، وكان يعمل مذياعا في الوقت نفسه. وبعد قليل من التحريك ضبطه أبي على الخدمة العالمية [من الإذاعة البريطانية]. وتبيّن أننا واقعون في بؤرة حادثة دولية كبيرة. كان الرئيس بوش قد وصف غزو صدام للكويت بأنه "عمل عدواني قاس وفاضح" وقال إن حماية السعودية ـ التي كان يحتمل أن تكون أنظار صدام منصبة عليها ـ "تمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة". ذلك الخط الأحمر الذي رسمه بوش في الرمل سوف يؤدي لاحقا إلى انتشار ضخم للجنود الأمريكيين على الأراضي السعودية (وهذه القوات هي التي ستثير غضب ميلشيا مجهولة تحمل اسم أسامة بن لادن وتكون ذريعة لـ 11/9). لكن بوش بدا أقل يقينا إزاء ما يجب عمله مع المواطنين الغربيين المحتجزين في العراق. قال "طبعا أريد أن أراهم وقد خرجوا من هناك. ولكن ما يفعله، هذا ما لا يمكن التنبؤ به".
***
في الثامن من أغسطس، نقلونا إلى فندق المنصور ميليا على ضفة نهر دجلة. قال طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي إن "الرهائن لا تقيم في الفنادق وتشرب البيرة وتستمتع بحياتها". وظاهريا، كان عنده حق. ففي ذلك الوقت المبكر ساد جو شبه احتفالي بين الجمع البريطاني المؤلف في الدرجة الأساسية من فريق طيران تابع للخطوط الجوية البريطانية وبعض المغتربين. كان مسموحا لنا بالخروج من غرفنا ثلاث مرات في اليوم لتناول الإفطار والغداء والعشاء ـ فضلا عن وقت نقضيه في المسبح عند الضحى. ولكن الجو كان مشؤوما بصورة سريالية. فقد كان جواسيس صدام يحيطون بالمسبح، ويكلمون بعضهم بعضا بوضوح في أجهزة اللاسلكي المغطاة بالجرائد. ثم سرعان ما توقفت زيارات المسبح تلك، وعلمت في ما بعد أنهم كانوا يصوروننا لأغراض دعائية.
حصلت أسرة رحيم على غرفتين متقابلتين. وللطمأنينة، أقام أبي معي وأقامت أمي مع أختي. وعند المصاعد جلس قرابة نصف دزينة من الحرس يلعبون الورق ويدخنون. وفي غير أوقات الوجبات لم يكن مسموحا لنا بمغادرة جناحنا. وباتت حياتنا محصورة في مساحة مفروشة بالسجاجيد لا تتجاوز القليل من الأمتار المربعة. كيف كنت أشغل وقتي؟ قرأت كتبي الخمسة أو الستة مرارا وتكرارا. (محفور في ذاكرتي كل صورة من آستريكس وكليوباترا Asterix and Cleopatra ). وباستعمال أوراق الدفتر الفندقي، كنت ألعب أنا وأختي لعبة قراءة الطالع.
أصبحت الطرقة ملعبنا. لعبنا فيها عسكر وحرامية، خارجين من إحدى غرفتينا داخلين في الأخرى، قابضين على الأشرار. وكنت أرجع متعرقا من خروجي فتوبخني أمي. تقول لي الآن إنها كانت في حالة "ذعر دائم، واضطراب لا يتوقف": فإن غاب شخص عن عينيها لخمس دقائق لم تكن تعرف إن كان اختفى إلى الأبد. حدث ذات مرة أن ضجرتُ من انتظار المصعد لأخذنا إلى الغداء ـ ولم يكن أكثر من بوفيه مفتوح بائس فيه خبز عفن ولحم مغضرف، وكانت الوجبات قد بدأت طيبة ثم ساءت ـ فنزلت على الدرج وحدي. ومن أجل ذلك جعلتني أمي أذرف دمع الحنق الساخن. كان الجميع قلقين. رجع أبي إلى التدخين من جديد إلى أن عيرته روحي فتوقف: "قلت له إن ذلك يعني أن صدام ينتصر".
في صباح كل يوم كانت تدفع من أسفل بابي غرفتينا جريدة تصدر بإنجليزية رديئة تنبئنا بأي براعة يتصدر صدام المسرح العالمي. كانت هيئة الإذاعة البريطانية تروي قصة مختلفة. في إنصاتنا خفية لمذياع روحي كنا نسمع أن صدام يقوم بمناورات مذعورة للتراجع عن الخطأ السافر الفاضح. فقد عرض الانسحاب من الكويت إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي الفلسطينية. ولمّا قوبل ذلك بالرفض، رجع صدام إلى الحديث عن الصليبيين الغزاة وعن استرداد مكانة العالم العربي الإسلامي. وقالت الحكومتان البريطانية والأمريكية إنه لا مجال للتفاوض مع العراق. فبقينا في البرزخ.
من هذه الحقيقة المتزنة كنا ننتقل إلى الأكاذيب السافرة في التليفزيون العراقي. فقد كانت تُبَثُّ بين أفلام هوليود المكررة (إذ بدا أن الإمبريالية الثقافية الغربية جيدة ولا بأس بها) بعض المواد الغريبة. كانت فرق التصوير تبعث إلى مقربة من محطات الطاقة والموانئ والسدود والمصانع وإلى الأماكن التي احتجز فيها بعض المعتقلين الأقل حظا. ولعل هذا حلم، لكنني أعتقد أن اثنين من الإنجليز تزوجا بالفعل في أحد المعسكرات. وعندما سئلا إن كانا يحبان الرجوع يوما إلى العراق قالا:" أوه، نعم، سوف نحب أن نرجع". سواء أكان الجمهور المستهدف المؤلف من شخص واحد ـ يبدأ اسمه بحرفي صاد وحاء ـ يصدق ما يراه أم أنه يستمتع لا أكثر بمذلة الغربيين، فهذا ما يبقى غير واضح بالنسبة إليّ. واقع الحياة في تلك المعسكرات، بحسب وصفه التفصيلي المريع في كتاب تيم لويس "الدرع البشري"، كان مختلفا كثيرا. كان المعتقلون البريطانيون يلقون معاملة مريعة. بعضهم تعرض لإعدامات وهمية. وبعضهم تعرض للضرب. والرجال والنساء على السواء تعرضوا للاغتصاب. وبالنسبة لنا كانت بلواهم دائما بعيدة لا علاقة لها بنا.
طلب منا والدانا ألا نصف نفسينا مطلقا بالرهائن وألا نسيء في كلامنا إلى الحراس، بل وألا نتكلم إليهم أصلا. وكانت القواعد تنطبق داخل الغرف وخارجها: فلعلهم يتنصتون. فتشت أنا وأختي مثل المغامرين الخمسة المغاوير (وكانت معي رواية لإنيد بلايتن) عن أجهزة التنصت. وانتهينا إلى مسمار فضي مثبت في إطار المرآة. الآن أرجع النظر فأجده مجرد مسمار، ولكن والدينا رأيا أن يجاريانا ما دام معنى ذلك أن نخرس. كان اسم صدام محظورا فتوصلت أختي إلى اسم فريدي. فريدي لأن له شاربا كشارب فريدي ميركري، ولأنه مثل فريدي كروجر في فيلم كابوس شارع الدردار قد يقتلك وأنت نائم في سريرك.
كان العراقيون العاملون في الفندق أكرم كثيرا من الحرس المتعالين. على العشاء كانت تقدم لنا القهوة نادلة وافرة الشعر عالية كعبي الحذاءين. تعرضت للتحرش من رجل في مجموعتنا ـ قال لها شيئا في بؤس "هل تنزلين الحلو أيضا؟" فافتعلت ابتسامة ومضت بعيدا. لم تشأ المرأة المسكينة أن تكون موجودة هناك هي الأخرى. وبرغم حاجز اللغة، أقامت أمي علاقة صداقة مع السيدات متوسطات العمر اللاتي كن ينظفن غرفنا. تتذكر لفتاتهن الطيبة البسيطة. فبرغم المخاطرة الجسيمة، كن يهرِّبن لنا الأدوية الأساسية والكريمات في جيوب مرايلهن الأمامية الضخمة.
***
صدام وستيوارت
حكى المصرفي البريطاني باتريك هربرت، المحتجز على مقربة من مستودع وقود في مطار البصرة، لصحيفة جارديان في 2003 عن تجربته الغريبة في مقابلة صدام. وصف "كاريزما يمكن أن يقال عنها في ظروف طبيعية إنها قريبة من العظمة، لكنها كانت أقرب إلى كاريزما آثمة". كان الدكتاتور العراقي النزاع دائما إلى الاستعراض يستمتع بتصوير مقابلاته مع الغربيين. في واقعة شهيرة، تحسس صدام شعر ستيوارت لوكوود البالغ من العمر خمس سنوات وسط نظرات أسرته وسأل "هل يحصل ستيوارت على حاجته من الحليب؟". كان يرتدي سترة رمادية بينما ضيوفه يرتدون ثياب الإجازة المهلهلة. قال والد ستيوارت "نعم". سأل صدام "والكورنفليكس أيضا؟". مرة أخرى جاء الجواب بنعم. أضاف صدام بمرارة أن العراقيين لا يتناولون الكورنفليكس مع الحليب. كان قادرا على الانتقال من لحظة مرحة إلى أخرى آثمة. قال لمن حوله إن ما يحدث لهم سيكون بمثابة تجربة عظيمة في يومياتهم، ثم أضاف أنه إذا قامت الحرب، فإنه سوف يسحق أعداءه. وكانت الجملة الوحيدة الصادقة التي قالها هي التي قالها عفوا: "سوف نعاملكم بمثل ما نعامل به الشعب العراقي".
كنا نشاهد ذلك على التليفزيون العراقي فنشعر أن آل لوكوود أسعدهم الحظ بتقديم الالتماس شخصيا. بدأ أبي صادق يرتب لمقابلة كتلك مع الدكتاتور. بدا صدام متعاطفا مع الأطفال. لكننا كنا بحاجة إلى حيلة صغيرة. فبدأ والداي يبعثان بي إلى غرفة على بعد ثلاثة أبواب من غرفتينا، وفيها مسلمة بريطانية تجيد العربية، وذلك لأتلقى تعليما مكثفا لتلاوة القرآن. وبتلك الطريقة أكون قادرا على ممارسة إسلامنا أمام صدام.
في النهاية لم يحدث ذلك. لم يبق ثمة من سمير رحيم لابس الدشداشة معتمر الطاقية تالي القرآن أمام الشارب المبتسم، ولم يبق ثمة من التلاوة الدراماتيكية لآيات القرآن الداعية إلى الرحمة وفك الرقبة. لكنني حلمت بذلك المشهد مرَّات ومرَّات على مدار السنين.
في نهاية أغسطس، أعلنوا عن إطلاق سراح النساء والأطفال. كان صدام يقابل في "لقاءاته مع الضيوف" المزيد والمزيد من الأمهات اللاتي يسألنه لماذا لا يتاح لأبنائهن الرجوع إلى المدرسة. قالت له ثاتشر إنه ليس بوسعه الاختباء وراء "تنانير النساء والأطفال"، وهي جملة اختيرت لتستفز عِزَّته العربية الذكورية. أصررت ألا أترك أبي. فردَّ أبي قائلا إن واجبي هو أن أعتني بأمي وأختي. لا أتذكر عن فراقنا إلا أنني حملقت خاوي العينين من شباك الحافلة. أخذونا إلى فندق آخر لنستعد للطيران إلى باريس ثم إلى لندن. في ذلك المساء قررنا الرجوع إلى فندق المنصور ميليا لوداع أخير. قلنا للحرس إننا نسينا بعض الثياب. وفي الأعلى، أتذكر بوضوح أمي وأبي يتعانقان وسط دموع ونشيج وقد عجزا في النهاية عن كبت مشاعرهما. كان قد وضع على أحد أرففه، مثلما أخبرتني أمي، أحد بطاقات قراءة الطالع الخاصة بي أنا وأختي.
***
رجعنا إلى لندن فبدت الأمور أدعى قليلا إلى التفاؤل. الرجال الذين رحلنا عنهم انتقلوا إلى فندق المنصور ميليا ونالوا المزيد من حرية الحركة. ثم سمعنا لقاء ثاتشر مع ديفيد فروست في الثاني من سبتمبر: وفيه قالت رئيسة الوزراء إنه إذا ما تعرض أي رهينة للأذى فسوف يحاكم المجرمون على "سلوكهم القاسي عديم التحضر". وبدلا من أن تدعمنا كلماتها تلك روَّعتنا، إذ ظننا أنها لن تزيد الأمر إلا سوءا. وكنا محقين في تخوفنا: فقد ردت إذاعة العراق بوصف ثاتشر "بالعجوز شائبة الشعر ... المختلة عقليا ... ذات الصوت الكلابي الأجش".
في غياب تفاوض حكومي، دأبت بعثات دبلوماسية محددة الأغراض على الذهاب. بدا أن لكل مجموعة من المعتقلين نجمها الدبلوماسي. فقد طار إلى العراق ساسة سابقون منهم إدوارد هيث وجيسي جاكسن وويلي براندت يتوسلون من أجل إعادة الرجال المتبقين. وكان كل واحد منهم يرجع بمجموعة من المعتقلين ـ وذلك هو الثمن الذي دفعه صدام من أجل الصور الفوتغرافية التي كان يشتاق إلى نيل الشرعية من خلالها. وما أسهل التلاعب بغرور الطغاة.
حظي المسلمون البريطانيون ببطل خاص اجتمع فيه القدر المضبوط من رأس المال الثقافي والديني. كان ذلك الرجل هو يوسف إسلام، المعروف سابقا بـ كات ستيفنز ـ نعم، تعلق مصير أبي بالرجل الذي غنى "طلع الصبح" و"قطار السلام". بعد اعتناقه الإسلام سنة 1979، أصبح ستيفنز شخصية مرموقة في الوسط الإسلامي البريطاني في غرب لندن. بذكاء، استبق رحلته إلى العراق بوصف الزعيم العراقي "بالأخ المسلم لطيف المعشر". وطار في أكتوبر ومعه آمالنا.
وفيما كنا ننتظر، كانت أمي ياسمين تحشد بلا كلل الجهود من أجل إطلاق سراح زوجها، فاتصلت بكل من توسمت فيه القدرة على المساعدة. وبطريقة ما تمكنت من ترتيب بضع مكالمات هاتفية مباشرة معه. فكان الاستماع إلى صوته مطمئنا ومخيفا في آن واحد. ثم بلغنا في منتصف أكتوبر الخبر السعيد: نجحت جهود يوسف إسلام، وقيل إن صادق رحيم وأربعة آخرين من المسلمين البريطانيين سيطلق سراحهم عما قريب.
كان أبي من أوائل الرجال الذين عادوا إلى الوطن وصرنا موضع اهتمام الإعلام. جاءت شبكة آي تي إن إلى بيتنا لمحاورة أمي. ولما كانت مدربة على الحذر في اختيار كلماتها فقد لزمت أمي حيادا مدروسا بشأن نظام صدام، وبدلا من ذلك أعربت عن أملها في أن يرجع أبي إلى الوطن سريعا. وكان لا بد من تصويرنا نحن الصغيرين ونحن نفعل شيئا ما. فطلبت منا ياسمين أن نصنع ملصقات مكتوب عليها "مرحبا بك في الوطن يا أبي! شكرا لصدام حسين". غضبت روحي لأننا نتملق للدكتاتور، برغم أنها الآن أكثر تفهما للموقف. ومع ذلك، هي مستاءة من الطريقة المتعالية التي نقلت بها أخبار ملصقاتنا: "كأنهم يتصورون أننا لا نعرف أن صدام شخص سيء، وأن كل ما في الأمر هو أن أمنا كانت تتحلى بالحذر".
ذهبنا إلى هيثرو لاستقبال أبينا مع عدد ضخم من الصحفيين والمصورين الذين طلبوا منا ألا نجري إليه ليتسنى لهم التقاط صور مضبوطة ـ فهذه هي اللقطة الأخيرة من القصة. تجاهلتهم أمي واندفعت نحو أبي فور أن رأته. وكان أول ما لاحظته أن على جيب قميصه ملصق العلم الوطني الإنجليزي.
***
صادق رحيم
لماذا سبق إطلاق سراحه الآخرين؟ قال صادق لصحيفة أكسبريدج المحلية "ليست لدي أدنى فكرة عن سبب وقوع الاختيار عليّ. لقد علمت أن رجالا آخرين مرضى وفي حالة سيئة ... فعرضت أن يذهب أحدهم بدلا مني لكن لم يسمح بذلك". وعرض على الصحفي بطاقة قراءة الطالع التي عاد بها إلى الوطن. وأنهى كلامه بدعوته إلى المزيد من الحوار. "إن آخر ما نريده هو الحرب". ولكن الحرب كانت في الانتظار. بدأت عاصفة الصحراء في السابع عشر من يناير. جاء انتصار قوات التحالف سريعا ولكن صدام بقي في الحكم. وبعد طرده من الكويت، دعا بوش الشيعة إلى أن يتولوا الأمر بأيديهم. فسحقت ثورتهم بلا شفقة. اعتقل آية الله الخوئي وأرغم على الظهور في التليفزيون مع صدام. ولقي اثنان من أبنائه مصرعهما.
بعد اثني عشر عاما وقعت حرب أخرى، والمفارقة أنها لم تنشب على يد صدام، لكنها أدت إلى الإطاحة به. كان بعض المعتقلين السابقين متلهفين على نحو مفهوم إلى أن يروا العدل يتحقق. لكنني وأمي خرجنا في المسيرات المناهضة للحرب. أتصور أننا لم نر داعيا لأن يعاني العراقيون أكثر مما عانوا بسبب جرائر حاكمهم. وبعد شهر أو نحوه من سقوط بغداد، رجع صديقنا ماجد الخوئي، وهو أحد الناجين من أبناء آية الله، إلى وطنه. في ابريل سنة 2003 قام حشد من الناس بتحريض من جماعة شيعية بضربه حتى الموت، وهكذا الدم في البلاد الكسيرة لا يفضي إلى غير الدم.
رجوعا إلى عام 1990، استأنفنا الحياة العادية، إلا من قليل من صغائر ما بعد الصدمات. بدأت في المدرسة أفقد اتزاني وأتشاجر. تقول لي روحي ـ وهي حاليا ناظرة مدرسة ـ إنه "عند فقدان ولد لجده أو حتى لكلبه" فإن المدرسة تقدم له استشارة نفسية. أما في أيامنا فكان علينا أن نواصل حياتنا بأنفسنا. نادرا ما تكلمنا في الأسرة عن تلك التجربة، بدت لنا واقعة استثنائية، شرخا التأم بسهولة، ربما بسهولة مفرطة.
لم يبق من شيء يذكرنا إلا المتابعة الدورية من الأمم المتحدة التي كانت تسعى إلى الحصول على تعويض من الحكومة العراقية. بطبيعة الحال رفض صدام ذلك الطلب من ضيوفه الجاحدين. وأخيرا وصل شيك في البريد، قرابة ستين ألف دولار لأبي ومبالغ أصغر لنا. (أعانني صدام حسين على شراء فيات بونتو مستعملة). في الوقت الذي وصلت فيه النقود، لم يكن لأبي صادق أن يشعر بأي قدر من الرضا. مات في عام 2000 عن خمسة وخمسين عاما. لم أكلمه قط عن التجارب التي خاضها وحده في بغداد. لكن أمي تحكي لي أن أول ما فعله بعد عودته إلى لندن أنه ركب حافلة طافت به شوارع ضاحيتنا. اعتبِروها من تفاهات الحرية.

نشرت المقالة في مجلة بروسبكت التي يعمل بها الكاتب محررا للفنون والكتب، ونشرت الترجمة في جريدة عمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق