أوريانا فالاتشي ..
كيف أصبحت أكثر محاورة سياسية مرهوبة في العالم؟
كرستينا دي ستيفانو
الحوار
الذي يصدق على شهرة أوريانا فالاتشي العالمية كمحاورة سياسية هو حوارها مع هنري
كيسنجر مهندس السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسن. في عام 1972، تطلب
أوريانا إجراء حوار معه وتندهش حينما تحصل على موافقة بصورة شبه فورية. كان كيسنجر
قد قرأ حوارها مع الجنرال جياب [وهو الجنرال الفييتنامي فو نجوين جياب أحد أهم
المخططين الحربيين في القرن العشرين] فثار
فضوله لمقابلتها. يستقبلها في مكتبه بالبيت الأبيض في الرابع من نوفمبر
لأقل من ساعة، تقاطعهما خلالها باستمرار مكالمات هاتفية وطلبات عاجلة لتوقيع
أوراق. وينتهي الحوار قبل موعده المحدد بسبب استدعاء كيسنجر لمقابلة الرئيس. وبعد
انتظار لوقت طويل تتلقى رساله مفادها أن كيسنجر سافر بصحبة نيكسن، وأن عليها إن
شاءت إكمال الحوار أن تنتظر لمدة شهر. وترفض أوريانا "لأن الأمر لم يكن
يستحق. فما جدوى التأكد من صورة باتت بين يدي بالفعل؟ صورة تألفت من خطوط متناقضة،
وألوان، وإجابات مراوغة، واقوال متحفظة، وسكتات مزعجة؟"
المشكلة
الأساسية أن الرجل لم يرق لها. "يا له من رجل ثلجي! خلال الحوار كله، لم
يبدّل تعبير وجهه الخاوي، ونظرته القاسية الساخرة. لم يبدل نبرة صوته الرتيبة
الكئيبة والثابتة أشد ما يكون الثبات. في العادة خلال أي حوار يتغير مؤشر جهاز
التسجيل صعودا وهبوطا تبعا لنبرة صوت المتحدث. أما في حالته فالمؤشر لم يكن يتغير،
وفي أكثر من مرة كنت أعمد إلى السعال لمجرد أن أتأكد أن المؤشر يعمل". واضح
أنهما كانا يتناقشان حول فييتام. تحاول أوريانا دفعه إلى الاعتراف بأن انسحاب القوات
الأمريكية كان هزيمة وأن الحرب كلها لم تكن ذات جدوى.
ثم تنتقل
إلى أسئلة أكثر شخصية، منها على سبيل المثال ما يتعلق بسمعته كزير نساء. لكن
المقتطف الذي سوف يشتهر به الحوار هو إجابته على سؤال يبدو أكثر براءة. تسأله عن
تفسيره لشعبيته. في البداية يرفض الإجابة. ثم يستسلم لمسار أسئلتها ويقول إن
"النقطة الأساسية تكمن في حقيقة أنني دائما أتصرف منفردا. والأمريكيون يحبون
ذلك حبا جما. الأمريكيون يحبون راعي البقر الذي يقود عربة القطار بأن يتقدم بمفرده
على حصانه، راعي البقر الذي يخترق الفيافي إلى البلدة أو القرية وليس معه إلا
حصانه".
بعد نشر
الحوار في [مجلة إيطالية مرموقة تدعى] L’Europeo ،
يعاد نشره في العديد من الجرائد الأمريكية ويقرأ في شتى أرجاء الولايات
المتحدة، ويتحول إلى فضيحة. يستاء نيكسن تماما من استعارة راعي البقر. ويحاول
كيسنجر أن ينكر قوله تلك الكلمات، لكن أوريانا لديها التسجيل فتنفي نفيه. وبعد
سنين سوف يعترف كيسنجر في مذكراته أن ذلك الحوار كان أكثر القرارات كارثية في
مسيرته المهنية. أوريانا تستاء هي الأخرى من حجم تداول الفضيحة. وسوف تقول في حوار
في كلية أمريكية سنة 1981 "لا تجعلوني أتكلم عن كيسنجر! لقد أجريت ذلك الحوار
سنة 1972 ومنذ ذلك الحين يسألون كلينا عنه بلا توقف، لو كنا هربنا معا وتزوجنا لما
ظل الناس يسألوننا عن ذلك حتى اليوم".
بعد هذا
الحوار تعد أكثر المحاورين السياسيين المرهوبين في العالم، ويصبح بوسعها اختيار ما
يعن لها من شخصيات، فتختزل عدد الشخصيات إلى أقل من عشرين في العام لأن كل مقابلة
تستنزفها تمام الاستنزاف. إذ تستعد لها بقراءة كل معلومة متاحة عمن تستعد
لمحاورته. والعناصر ثابتة دائما: بحث متمعن، وأسئلة جريئة، ومشهد مسرحي. وشأن
الصبي في الحكاية الشعبية الشهيرة إذ يصيح أن الإمبراطور عار، لا تخاف أوريانا
فالاتشي من أحد.
حينما
تصدر في عام 1974 كتابها "حوار مع تاريخ" متضمنا أشهر حواراتها الصحفية تهدي الكتاب إلى أمها:
"عمليا، هذا كتاب عن السلطة. كتاب تحرر من السلطة. أمي بكل ما لديها من براءة
لا تفهم لماذا يكون لرجل أو امرأة أن يقرر ما يجب أو لا يجب القيام به. أتفهمون؟
هذا هو الموقف الأناركي الذي يتبناه الولد في القصة. وهو موقفي". ويحقق
الكتاب نجاحا استثنائيا، فيكون الأول في سلسلة كتبها الرائجة في العالم كله.
في
حواراتها، تبسط أوريانا رؤيتها النبيلة لدور الصحفي. فهي تعد نفسها شاهدة، ممثلة
للجمهور، وهذا وحده يكفي لتشعر أن أي شيء مسموح به. تطرح أسئلة شديدة المباشرة،
فإذا لقيت إجابات مراوغة تعيد طرحها، وكثيرا ما تطلب من ضيفها أن يكرر إجابة معينة
لتتأكد من صحة فهمها لها. ولو أن شيئا ما يفتقر إلى الوضوح، تطلب التوضيح. تتحدث
ببساطة ولا تسمح لنفسها بالغرق في غموض لغة السياسة والسياسيين. "أمي كانت
تقول لي ’يجب يا أوريانا أن يكون ما تكتبينه واضحا لأي شخص، لا تحاولي تعقيد
الأشياء’ والتزمت بنصيحتها دائما. فلم أسمح لنفسي في مقابلة مع أي رئيس دولة أو
رئيس وزراء أن ألعب لعبة السياسة أو الاجتماع".
وهي لا
تفتر. تجري كل لقاء بنفس الشغف والموقف الراديكالي: "في حواراتي لا أتكلم فقط
بناء على آرائي بل وبناء على عواطفي. كل حوار لديَّ دراما. أنغمس في الحوار حتى
على المستوى الجسدي". وهي لا تؤمن بالموضوعية: "حينما أركب قطار الأنفاق
في نيويورك وأرى إعلانات الجرائد التي تؤكد أن ’المعلومة مقدمة على الرأي’ أضحك
بملء فمي حتى ليهتز من ضحكي القطار كله. ما معنى هذا؟ أنا الشخص الذي يفسر
المعلومات. وأكتب دائما بضمير المتكلم. ومن أنا؟ أنا إنسان". تدعي لنفسها حق
الحضور الكامل في حواراتها، حضور شخص له آراؤه وانطباعاته. ويؤكد زميل أمريكي ما
يلي "لو أنني رسام وأريد أن أرسم صورة لك، ألا يحق لي أن أرسمك كما
أشاء؟" لكن هناك قواعد "فأنا أكتب كل ما يقولون، لكنني لا أنشر ما تزلُّ
به ألسنهم خلال الحديث. وإن قال أحدهم ’لا تنشر هذا’ لا أنشره. وذلك عهد، وذلك
عقد. وإن لم أفعل، فماذا نكون؟ لصوص كلمات. أحترم هذا العقد. لكنني لا أسمح لضيوفي
بمراجعة ما أكتبه قبل النشر".
يمكن أن
تمتد حواراتها لما بين أربع ساعات وست. "في هذه الساعات أحرق الكثير من
الطاقة لدرجة أنني أفقد من وزني أكثر مما يفقد ملاكم في حلبة". وكلما أمكن،
تحب أن تقابل ضيوفها لمرة ثانية لتتأكد من انطباعاتها الأولى. كما أنها تعمل بلا
كلل على منطق الحوار. فتقوم بتفريغ كل حرف، وتتحقق من ترجمتها مستعينة بالقاموس،
ثم تكتب النص كمن يكتب مسرحية، فتقص وتلصق، وتحقق الإيقاع والتدفق.
وهي لا
تحب أن يثني زملاؤها ـ لا سيما في الولايات المتحدة ـ على قدراتها الحوارية. فهي
تعد نفسها كاتبة. وترى أن حواراتها قصص، ذات شخصيات، ومفاجآت، وصراعات، وإثارة في
الأخير: "حواراتي حوارات كاتبة، وراءها خيال كاتبة، وفيها حساسية
كاتبة". وهي تقتضي مساحة في الصحيفة، فصفحات تلو صفحات، وهذا ما يتسبب في يأس
محررها غير المسموح له بالحذف وفق أوامر صارمة. كل حوار يمثل وجهة نظر، مع أو ضد.
وفي بعض الأحيان قد تخطئ أو تنحرف عن المسار. وسوف تعترف لاحقا أن ذلك حدث وهي
تحاور الزعيم الفلسطيني جورج حبش ـ مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. حبش من
أنصار الإرهاب الدولي، لكن أوريانا معجبة به، إعجابا يتعارض مع حكمها العقلي عليه.
يظل يتنقل بها بين حكاياته عن العمل مع اللاجئين وإنشائه مستشفى (فهو طبيب أيضا)،
حين تدرك خطأ حكمها، بعد مرور وقت كبير، فتعترف بذلك علنا. وهذه مخاطرة تصبح قائمة
حينما يمارس صحفي الصحافة العاطفية، وهي تمارسها بالطبع. وهي تعرف ذلك ولا تخاف
الاعتراف به: "سذاجتي قيمة أقدرها كل التقدير لأنها ابنة إيمان بالإنسانية
والمحبة لأخي في الإنسانية. هذا الإيمان وهذه المحبة يتضاعفان حينما أرى
المعاناة".
الحوار
بالنسبة لها لا يمكن أن يكون محايدا. هو لقاء، صدام، وأحيانا قصة حب. وثمة حوار
مضيء مع زميل في ما يتعلق بمنهجها:
"ـ
هل تذهبين لمحاورة أقوياء الأرض أولئك بنية توبيخهم؟
ـ بالطبع
لا. أذهب بنية محاولة فهمهم.
ـ بلا
تصورات مسبقة؟
ـ لا،
تكون لديَّ تصورات مسبقة. لكن لإنني إنسان يتحلى بالمسؤولية فبوسعي أن أغير
رأيي".
لا تحب
وصفها بالصحفية المرهوبة. "لو أنهم يرهبونني فهذا أمر سيء للغاية. إنني أبحث
عن شريك. الحوار أشبه بالدويتو في الأوبرا".
لا تتخذ
الإهانة سلاحا. وحينما تهم بتسديد لكمة، فإنها تحذر ضيفها: "حينما يتحتم
عليَّ أن أطرح سؤالا قاسيا فإنني أقول دائما ’الآن سأطرح عليك سؤالا قاسيا’ غير
أنني لا أثبت هذا في الحوار كل مرة لأن من شأنه أن يصيب القارئ بالملل".
"أسئلتي
قاسية لأن البحث عن الحقيقة أشبه بالجراحة. والجراحة تؤلم". كثيرا ما تتعرض
للاتهام بالميل إلى العراك، وهو ما تعده مجرد شجاعة بحسب تفسيرها لزميل أمريكي:
"يفتقر أغلب زملائي إلى الشجاعة اللازمة لطرح الأسئلة الصحيحة، لكنني سألت
ثيو دكتاتور سايجون: ’إلى أي مدى أنت فاسد؟’".
أوريانا
فالاتشي، صحفية إيطالية، ولدت سنة 1929، وتوفيت في عام 2006. أجرت حوارات مع
إنديرا غاندي، وجولدا ماشير، وياسر عرفات، وذوالفقار علي بوتو، وشاه إيران محمد
رضا بهلوي، ومعمر القذافي وآخرين. من المجلات التي أعادت نشر حوارها مع هنري
كيسنجر مجلة بلاي بوي.
نشر الأصل في موقع
ليت هاب ونشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق