الثلاثاء، 19 أبريل 2016

أدونيس لنيويورك رفيو أوف بوكس: أتساءل كيف لا تمتلئ السجون العربية بالكتاب

أدونيس لنيويورك رفيو أوف بوكس:
أتساءل كيف لا تمتلئ السجون العربية بالكتاب
حوار: جوناثان جاير
يقولون في العالم العربي إن جميع الناس شعراء. والجميع يعرفون أدونيس الشاعر السوري المقيم في باريس الذي اخترع قصيدة النثر العربية والمرشح المتواتر  لجائزة نوبل في الأدب.
ومنذ عام 2011، وهو أيضا شخصية خلافية في سياق الجدل الدائر حول الحرب في سوريا. ففي الوقت الذي بدأت فيه الانتفاضة السورية في مطلع 2011، كان المثقفون العرب في انتظار رأي أدونيس، ليس فقط لكونه شاعرا، بل لكونه علويا منتميا إلى المذهب الذي ينتمي إليه الرئيس السوري بشار الأسد. في يونيو من ذلك العام، كتب أدونيس رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأسد يدعوه فيها إلى الانتقال الديمقراطي. لكن نظام الأسد كان قد قتل بالفعل ألفا وأربعمائة مدني، فانتقد الكثيرون موقف أدونيس باعتباره جاء أقل مما ينبغي وبعد فوات الأوان.
هو الآن في السادسة والثمانين، وقد عرض آراءه حول فشل الربيع العربي في عموده الشعري في جريدة الحياة العربية، وفي كتاب صدر له حديثا بعنوان "العنف والإسلام" Violence et Islam. صدر الكتاب في فرنسا في نوفمبر، وفي الشهر نفسه قامت داعش بعمليتها في باريس التي أدت إلى مقتل مائة وثلاثين شخصا.
التقيت بأدونيس في مقهى بالشانزليزيه.
***
ـ وجهت في بداية الحرب السورية رسالة مفتوحة إلى الرئيس بشار الأسد. ما الذي يمكن أن تقوله له الآن؟
ـ لم يتغير شيء. بل إن المشكلات، على العكس، صارت أكبر. كيف يمكن أن تتحالف أربعون دولة ضد داعش على مدار سنتين ولا تقدر على فعل شيء؟ ولن يتغير شيء ما لم يتم الفصل بين الدين والدولة. لو لم نميّز بين ما هو ديني وما هو سياسي وثقافي واجتماعي، لن يتغير شيء وسيسوء انحدار العرب. الدين لم يعد حل المشكلات. الدين سبب المشكلات. ومن هنا ضرورة فصله. كل إنسان حر في أن يؤمن بما يشاء، وعلينا أن نحترم ذلك. أما أن يكون الدين أساس المجتمع، فلا.
ـ متى كانت آخر زيارة لك إلى سوريا؟
ـ في 2010.
ـ قبل الحرب. هل يمكن أن تتكلم عن المناخ في ذلك الوقت؟
ـ لا أعرف ـ تصلني الأخبار مثلما تصلك. أعرف أن سوريا تحطمت، لكن من أجل ماذا؟ ما المشروع؟ انظر، على الثوري أن يحمي بلده. هو يحارب النظام، لكنه يدافع عن المؤسسات. سمعت أن أسواق حلب خربت بالكامل. هذه ثروة لم يكن لها مثيل، فكيف يحطمونها؟ الثوري لا ينهب المتاحف. الثوري لا يقتل إنسانا لأنه مسيحي أو علوي أو درزي. الثوري لا يشرد شعبا بالكامل، شأن اليزيديين. هل هذه ثورة؟ لماذا يدعمها الغرب؟
ـ آراؤك في الصراع السوري أثارت انتقادات في العالم العربي.
ـ هناك كثير من العرب الذين وظَّفتهم الثورات فهم دائمو الانتقاد لي. يقولون إنني لست مع الثورة ـ الثورة التي خربت المتاحف.
ـ ما الثورة ومن معها؟
ـ شيء لا يمكن أن يقال ... لا يمكن للكاتب أن يكون مع القتل. هذا غير ممكن. ولكن من الناس من يحبون القتل والعنف. كيف لشاعر أو رسام أن يكون في صف واحد مع حامل حزام ناسف يقصد مدرسة ليفجر نفسه؟ كيف؟ هؤلاء أطفال. كيف تقتلهم؟ هذه وحشية تفوق حدود التصور. يا أخي لو أن النظام مستبد قاتله. لا تقاتل الأطفال والمدارس. لا تخرب البلد. لا تقتل الأبرياء. قاتل النظام. أمر مهين. الانتماء إلى هذا العالم أمر مهين. أنا لم أر مثل هذا على مدار التاريخ، تخرِّب بلد بالكامل ـ مثل اليمن ـ لمجرد أن تأتي بأبله فتجعل منه رئيسا ...
وترى من يدعمون ذلك. مثقفين. كيف يمكن أن تقاتلهم؟ هم ينتقدونك لأنك لست في الجانب الآخر.عليك أن تكون وحشا مثلهم.
ـ مثل الجهاديين ...
ـ ليس الجهاديين وحدهم، فهؤلاء بعض من الناس. وعلى من لا يريدون هذا أن يعلنوا عن رفضهم على الملأ. فهل قرأت بيانا رسميا واحدا ضد هذا؟ هناك أفراد يقولون الآن مثل ما نقوله. لكن هل قرأت من بلد [عربي] بيانا رسميا، من حزب سياسي مرموق، أو جماعة كبيرة، ضد ما تقوم به الجماعات الجهادية؟ هناك نوع من القبول. الصبر نوع من القبول. لم يصدر عن بلد عربي احتجاج واحد على ما يجري. ما معنى هذا؟ إنهم يقتلون الرجال ويبيعون النساء في الأسواق. يخرِّبون المتاحف، والمنجزات البشرية العظمى، ولا يصدر احتجاج واحد، ولا بيان ضد هذا.
ـ في كتابك "العنف والإسلام"، كتبت أن داعش هي نهاية الإسلام. فهل ستكون بداية جديدة؟
ـ علينا أن نبقى مؤمنين. كيف ذلك؟ لو أن الناس، لو أن الإنسانية، بلغت النهاية، فالعالم قد بلغ النهاية. طالما هناك أفراد، ما أقوله الآن هو أنني لست وحيدا. هناك كثير من الأفراد، في مصر وفي غيرها، يقولون ما أقوله. لذلك علينا أن نبقى واثقين في أن الإرادة البشرية سوف تبلغ مرحلة نجد فيها حلولا أفضل. والزمن هو الذي يحدد الموعد والطريقة. لكن بوسعي أن أقول إن العرب لن يتقدموا طالما هم يفكرون ويعملون في هذا السياق القديم الجهادي الديني. هذا غير ممكن. هذا ما باد وانتهى. داعش صيحته الأخيرة. شأن شمعة توشك على الانطفاء، فتنتهي بقوة.
النهضة بحاجة إلى وقت. ومجتمعاتنا في القرون الخمسة عشر المنصرمة منذ تأسيس الدولة الإسلامية لم تستطع أن تؤسس مجتمعا من المواطنين. بما للمواطن من حقوق وواجبات. المجتمعات العربية حتى الآن قوامها أفراد ينفذون نفس الواجبات مقابل حقوق مختلفة، فليس للمسيحيين على سبيل المثال مثل حقوق المسلمين. خمسة عشر قرنا، كيف نحل مشكلات خمسة عشر قرنا في أسبوع أو اثنين، شهر أو اثنين؟ لكنني أثق أن الزمن سيأتي، ولكن في غير هذا السياق.
ـ هل يستوجب التغيير اشتباكا جديدا مع الغرب؟ قرأت قصيدتك "تمخر الرغبة خرائط المادة" (1987)، عن برج بابل إذ يطفو في البحر المتوسط، وفيها حوار تجريه بين أبي نواس وفكتور هوجو. الجسر بين العرب والغرب ـ
ـ الشرق والغرب مفهومان اقتصاديان وعسكريان، اخترعتهما الكولنيالية. يمكن القول من الناحية الجغرافية إن هناك شرقا وغربا. الاقتصاد والكولنيالية يستفيدان من ذلك.
أما في الفن فلا شرق ولا غرب. ترى في لوحات بول كلي كيف أنه استلهم تونس والمشرق العربي. تراه في لوحات ديلاكروا واستلهامه المغرب. حينما تقرأ رامبو، ترى أن أجمل ما فيه أنه لم يكن غربيا، وإن ولد في الغرب، لكنه كان ضد الغرب تماما. عندما تقرأ أبا نواس وأبا العلاء المعري لا تعرف أهما شرقيان أم غربيان. المبدعون أبناء عالم واحد، بغض النظر عن البلد الذي يأتون منه أو يذهبون إليه. يعيشون معا في ما وراء الجغرافيا، واللغات، والقوميات، وينتمون إلى عالم الإنسانية الإبداعي. بهذا المعنى ما من شرق أو غرب. والت ويتمن عندي مثل أبي تمام بالضبط. هو جزء مني وأنا جزء منه.
ـ ولكن الغرب أنشأ مؤسسات اجتماعية تقول أنت إنها مفتقدة في العالم العربي.
ـ لقد تغلبت أوربا على المشكلات التي مرت بها من خلال إقامة مجتمعات جديدة، منفصلة تمام الانفصال عن الدين والكنيسة. في العصور الوسطى، كانت المحاكم الكنسية مثل الجهاديين اليوم بالضبط. كانوا يقتلون الناس ويحرقونهم. ولكن الغرب نجح في الفصل بين الكنيسة والدولة، وأقام المجتمعات الحديثة. نحن لا نزال في هذه المرحلة. ولو أن الغرب نجح في هذا الفصل فما من سبب يمنع العرب من الفصل بين الاثنين أيضا. نحن نناضل من أجل الفصل. وسنفعله برغم كل شيء وبرغم الساسة الغربيين أيضا، لأن الساسة الغربيين للأسف يحتقرون العرب، ويحتقرون أنظمة الحكم العربية. يحتقرونها. الغرب يستعمل هذه الأنظمة أدوات لتنفيذ خططه.
ـ فكيف يمكن تحقيق فصل فعال بين الدين والحكومة؟
ـ بالبداية مرة أخرى من الصفر. الأمر يستوجب نضالا. النضال ضرورة. لا يمكنك أن تفعل شيئا وأنت جالس. عليك أن تناضل، وتقف، وتقاتل. اكتب وتعرض للاعتقال. أتساءل كيف لا تمتلئ السجون العربية بالكتاب. أتساءل لماذا، لأن ذلك يعني أن الكتاب العرب لا يقومون بدورهم. لا يمارسون النقد. لا يتكلمون في القضايا العميقة، في قضايا الحياة الحقيقية.لا يتكلمون في الأزمات الحقيقية. ومن هنا، أوجه انتقاداتي للكتاب لا للدولة. على الكاتب أن يكون دائما في السجن، بما يعني أن يقول الحقيقة. ووجوده خارج السجن معناه أنه لا يقول الحقيقة. وطالما تتعرض كتبهم للممنع ... يمكننا القول إن للثقافة دورا.
ـ لكن هل بوسع الشعر أن يتعامل مع العنف البربري الرهيب المحيط حاليا بسوريا؟ يخطر لي قول أدورنو عن الشعر بعد أوشفيتز.
ـ هذا كلام. أوشفيتز كانت كارثة مأساوية، ولكن البشرية مرَّت بكثير من الكوارث المأساوية. على العكس، أرى أن الكتابة تبدأ بطرح أسئلة وكشف مصادر الشر، من أين يأتي. لأنه وفقا لكلمات أدورنو، هو يمنعنا من طرح الأسئلة ويرغمنا على القبول. وهذا خطأ. أنا لا أوافقه. الكتابة تبدأ، بعد أوشفيتز.
ـ ماذا عن كتابة الشعر أثناء حرب سوريا الأهلية؟
ـ لا يمكنك أن تقارن بين القصيدة والقنبلة. ولا ينبغي أن تعقد هذه المقارنة. بوسع رصاصة جاهلة أن تغيّر نظاما، بوسع رصاصة حقيرة أن تنهي حياة إنسان عظيم، ككينيدي على سبيل المثال. لا يمكنك أن تجري هذه المقارنة لأنها خاطئة من الأساس. صناعة الشعر أشبه بصناعة الهواء، أشبه بصناعة العطر، أشبه بالتنفس. لا يمكن أن تقاس بالمعايير المادية. لذلك يحتقر الشعر الحرب ولا يقيم علاقة معها مطلقا. لكن بعد أن تضع الحرب أوزارها، يمكن تأمل الجثث والركام والخراب والأطلال. ويمكن حينئذ أن يكتب المرء شيئا، ولكنه يبقى أحد عناصر الحرب.
ـ يقال لنا إن لداعش شعرا، وإن لأسامة بن لادن شعرا
ـ هذا ليس شعرا، ولا ينبغي أن يعد شعرا، على الإطلاق. لأن الشعر ظاهرة اجتماعية. حينما تصبح الثقافة جزءا من الحياة اليومية، فكل الناس شعراء، وكلهم روائيون. لديكم الآن آلاف الروائيين. لكنكم إذا عثرتم على خمسة منهم جديرين بالقراءة فأنتم تعيشون في مكان عظيم. في أمريكا... هناك آلاف الروايات، وستجد خمسا أو ستا جيدة، والبقاية زبالة. ومثل ذلك ينطبق على العرب. العرب كلهم شعراء، لكن 95% منهم زبالة.
ـ، كتبت أخيرا عن الهجرة بوصفها جزءا مهما من الثقافة العربية. نحن الآن نواجه أزمة هجرة في الشرق الأوسط وأوربا. هل يمكن أن تتكلم عن ذلك؟
ـ أرى للهجرة سببين: إما أنه لا عمل أو أنه لا حرية ـ لا عمل ولا حرية. فيبحث المواطن، الإنسان، عن مكان يعمل فيه ويكون فيه حرا. الدول العربية فقيرة. نحن على مدار قرنين من الزمان عاجزون عن إقامة جامعة واحدة جيدة أو مؤسسة بحثية، ولدينا موارد هائلة. نهدرها على أسلحة لا طائل من ورائها. نشتري أسلحة، ونشتري طائرات، بل ونشتري طيارين لتشغيل الطائرات والمحاربة بالنيابة عنا، مثلما تفعل السعودية في اليمن.
العالم موحل. نحن بدائيون. لا نزال في العصور الوسطى، وأنت تطرح أسئلة العصر الحديث. لا تنخدع بالسيارات الأجنبية أو الجامعة الأمريكية في القاهرة. نحن لا نستطيع أن ننتج سيارة. نحن لا نستطيع أن ننتج فنجان قهوة. فكيف نكون حديثين إذن؟ الساسة الغربيون يستغفلوننا. ونحن مثقفون، وينبغي أن نعرف الحقائق.
ـ كتابتك الأخيرة تثير أسئلة عن الهوية العربية. فمثلا "من أنا، من نحن؟" (الحياة، 10 ديسمبر 2015)
ـ ذلك ليس صعبا فقط على العرب. هو صعب على الإنسان بصفة عامة. الدين يطرح إجبابات: فالمسيحي مسيحي، واليهودي يهودي، والمسلم مسلم. كل "آخر" خاضع للرقابة، والفحص. لو أنه يؤمن بما أومن به، ففي هذه الحالة أعترف به، وإذا لم يؤمن بما أومن به فلا أعترف به. لذلك فإن مفهوم الآخر في الأديان غير التوحيدية ليس محددا. ولهذا يصبح مفهوم الهوية معقدا لدى غير المتدين.
هناك اقتراحات تتعلق بهذا الأمر من الصوفية العرب. تعرف أن رامبو قال Je est un autre أنا الآخر. صوفي عربي قال قبل ألف عام "الآخر أنا". في الإسلام كما تعرف يرث المسلم هويته، مثلما يرث بيته، وحقله، ومثلما يرث مال أبيه.  تكون الهوية مفروضة عليه سلفا. قال الصوفي، لا، بل الهوية إبداع مستمر. والإنسان يصوغ الهوية إذ يصوغ عمله وأيديولوجيته. ولو أن الهوية إبداع، فلا وجود فرديا لـ "أنا"، بل وجود مع الآخر، وجود الآخر جزء منه. بالنسبة لي كي أكون نفسي، عليّ أن أمر بالآخر. وبالمثل، الهوية في الصوفية مفتوحة مطلقا.
طالما المرء حي، فإن هويتة قابلة دوما للتجدد. ولو كان شاعرا فهويته لن تتوقف حتى بموته، لأن نصوصه تتجدد وتتغير باستمرار، وتجد قراءات مختلفة، فتبقى هويته مفتوحة. بهذا المعنى أيضا، يكون الشعر ضد الدين. لا يمكن أن يكون مع الدين. أقصد أنك لن تجد شاعرا واحدا في التاريخ العربي كان متدينا. مستحيل أن تقول إن "هذا شاعر عظيم كبير" وإنه متدين. ولو كان متدينا، لكان كالصوفي الذي يعتبر نفسه مؤمنا وهو مؤمن بإله مختلف تمام الاختلاف عن الإله الإسلامي الرسمي، إله العقيدة والقانون والمؤسسة. إن قوة الإنسان الحقيقية ليست في تقديم الإجابة بل القوة الحقيقية في طرح الأسئلة.
ـ قبل سبعين عاما اخترت اسم أدونيس.
ـ لا بل خلقت اسما لأخرج من عالم الدين.
ـ لكن الاسم أصبح الآن ـ
ـ جريمة
ـ لماذا؟
ـ ينتقدونه لأنه ليس اسما عربيا أو إسلاميا. للأسف، الثقافة الدينية تحتقر جميع الثقافات. صارت ضحلة.
ـ فما مستقبل الثقافة العربية في ـ

ـ قلت لك، طالما للموت والحب وجود، سيبقى الفن. لا تقلق. القراء قلة، لكن لا بأس بهم. نيتشه، مهيج الفكر الحديث، لم ينشر في زمنه. لم يكن معروفا لأحد. هذا قدر الفن دائما. الكثيرون ينشرون ويبيعون الملايين، لكن كتبهم تنتمي إلى سلة القمامة.

نشرت ترجمة الحوار اليوم في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق