تشومسكي ومنتقدوه
حوار: إيمانويل ستوكس
بات من قبيل الكليشيهات القول بأن نعوم تشومسكي أحد أعظم
مفكري العالم الراديكاليين اليوم. وليس
أقل من ذلك تداولا وصدقا قولنا إنه شخصية مثيرة للجدل بالقدر نفسه؛ فهم متهم لدى
العديد من الأطراف بتشكيلة متنوعة من الإخفاقات التي تتراوح ما بين "إنكار
الإبادة الجماعية" و"الصمت غير الأخلاقي" في مواجهة الأعمال
الوحشية الجماعية. وحديثا، تزعم طائفة من النقاد مختلفي المشارب السياسية أن في تعليقاته على سوريا نطاقا من الحماقات. في الحوار التالي، يطرح الصحفي المستقل إيمانويل ستوكس
بعض هذه الانتقادات على تشومسكي.
في الوقت الذي يعيد فيه النظر في معارضته للتدخل العسكري
الكامل، يقول تشومسكي إنه لا يعارض من حيث المبدأ فكرة إقامة منطقة حظر للطيران
بالتوازي مع الممر الإنساني (وإن تكن
تدخلات بوتين الأخيرة قد أجهزت على إمكانية إقامة هذه المنطقة). كما يوضح تشومسكي
مواقفه المتعلقة بمذبحة سربرنيتسا سنة 1995 وتدخل الناتو سنة 1999 في كوسوفو.
فضلا عن الرد على منتقديه، يطرح تشومسكي أفكاره حول نطاق
واسع من المواضيع: عما ينبغي القيام به لمقاتلة داعش، وأهمية النضالات الشعبية في
أمريكا الجنوبية، ومستقبل الاشتراكية. وكدأبه يسطع في ثنايا كلامه كله إيمان عميق
بالقدرة على بناء مجتمع أفضل.
***
ـ ما رد فعلك على هجمات باريس الأخيرة، وما رأيك في
استراتيجية قصف داعش التي اتبعها الغرب أخيرا؟
ـ واضح تماما أن الاستراتيجية الراهنة فاشلة. وبيانات داعش
شديدة الوضوح سواء فيما يتعلق بهذا أو بالطائرة الروسية: اقصفونا كما يحلو لكم
ولكنكم سوف تعانون. هم وحوش، وجرائمهم رهيبة، ولكن لن ينفعنا أن ندفن رؤوسنا في
الرمال.
النتيجة المثلى هي التي قد تتحقق في حال قضاء قوات محلية
على داعش، وهو ما قد يحدث، لكنه يستوجب موافقة تركيا. وستكون النتيجة وخيمة لو
انتصرت العناصر الجهادية المدعومة من تركيا وقطر والعربية السعودية.
وأفضل النتائج هو ما قد يتحقق من خلال التفاوض على تسوية
من النوع الذي يتم التقدم نحوه ببطء شديد في فيينا حاليا، إضافة إلى ما سبق.
شئنا أم أبينا، يبدو أن داعش رسخت أقدامها في المناطق
السنية من العراق وسوريا ترسيخا كبيرا. ويبدو أنها منخرطة في عملية إقامة دولة
شديدة القسوة، ناجحة بعض الشيء، وتجتذب دعم المجتمعات السنية التي قد تكن الازدراء
لداعش لكنها تراها الدفاع الوحيد في مواجهة بدائل أسوأ. القوة الإقليمية الوحيدة
المعارضة هي إيران، ولكن الميلشيات الشيعية الموالية لإيران معروفة بمثل قسوة داعش
ولعلها جزء من أسباب الحشد التي تحظى بها داعش.
وليست الصراعات الطائفية التي تمزق المنطقة حاليا إلا
تبعات لغزو العراق في جوهرها. وهذا ما يعنيه خبير شؤون الشرق الأوسط جراهام فولر ـ
والمحلل السابق في المخابرات الأمريكية ـ بقوله "أعتقد أن الولايات المتحدة
أحد الصناع الرئيسيين لهذه المنظمة".
وقد يكون دمار داعش بأي وسيلة يمكن تخيلها هو الأساس لما
هو أسوأ، مثلما يحدث بصورة شبه منتظمة مع التدخل العسكري. فالنظام الدولتي ـ الذي
فرضته القوة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية على المنطقة عقب الحرب العالمية
الأولى دونما انشغال بالسكان الواقعين تحت سيطرتهم ـ يتحلل في الوقت الراهن.
يبدو المستقبل مقبضا، وإن تكن فيه بقع من الضوء، كالتي
في المناطق الكردية. ومن الممكن اتخاذ خطوات من شأنها تقليل كثير من التوترات في
المنطقة وتحجيم وتقليل مستوى التسلح المرتفع بصورة غير عادية، وإن لم يكن من
الواضح ما الذي يمكن أن تضيفه القوى الخارجية بعيدا عن تأجيج الصراع ، وهو ما تقوم
به منذ سنين.
ـ رأينا في مطلع هذا العام الحكومة اليونانية تكافح مع
دائنيها للوصول إلى اتفاق. ثمة ما يغري بالنظر إلى هذا المشهد، وإلى الأزمة ككل،
لا كحالة يحاول فيها الاتحاد الأوربي إدارة أزمة دين بما يحقق المصالح المشتركة
للاتحاد بل كمعركة بين المجتمع اليوناني ومن يستفيدون من التقشف. هل توافق على
هذا؟ كيف ترى الموقف؟
ـ لم نر جهودا جادة لإدارة أزمة الدين. السياسات التي
فرضتها الترويكا على اليونان زادت من حدة الأزمة بتقويضها الاقتصاد وإغلاقها
الطريق دون فرص النمو المرجوة. نسبة الدين إلى إجمالي الناتج الوطني حاليا أعلى بكثير
مما كانت قبل استحداث هذه السياسات، وثمة عبء كبير وثقيل على كاهل الشعب اليوناني
برغم أن بنوك ألمانيا وفرنسا التي تتحمل نصيبا كبيرا من المسؤولية تبلي بلاء حسنا.
أما ما يعرف بـ "أموال خطط الإنقاذ" فقد انصب
في جيوب الدائنين، أو قرابة تسعين في المائة منها وفقا لبعض التقديرات. ولقد أبدى
رئيس البنك المركزي الألماني السابق كارل أوتو بول ملاحظة مقنعة للغاية حينما قال
إن المسألة كلها "كانت تتعلق بحماية البنوك الألمانية، والبنوك الفرنسية بصفة
خاصة، من "إسقاط الديون".
وفي تعليق بمجلة فورين أفيرز الأمريكية المؤسسية
الرائدة، يكتب مارك بلايث ـ وهو أحد أشد منتقدي برامج التقشف في ظل الركود إقناعا
ـ قائلا "إننا لم نفهم اليونان قط لأننا لا نريد أن نرى الأزمة في حقيقتها،
وهي أنها استمرار لسلسلة من خطط الإنقاذ للقطاع التمويلي، بدأت منذ 2008، وتتفجر
حاليا".
جميع الأطراف تدرك أنه ما من سبيل إلى تسديد الدين. وكان
لا بد من إعادة هيكلته منذ وقت بعيد، حينما كانت تسهل إدارة الأزمة، أو حتى
الإعلان ببساطة عن إلغائه.
يظهر وجه أوربا المعاصرة القبيح في وزير المالية
الألماني شوبل، ولعله أكثر السياسييين شعبية في ألمانيا. وقد أوضح ـ بحسب ما أوردت
وكالة أنباء رويترز ـ أن "إسقاط بعض قروض أوربا لليونان قد يكون ضروريا
للوصول بديون البلد إلى مستوى يمكن التعامل معه" ولو أنه "استبعد هذه
الخطوة فوريا". باختصار، لقد حلبناكم حتى جففنا ضروعكم، والآن اذهبوا إلى
الجحيم. وكثير من اليونانيين الآن في الجحيم بالفعل، بعدما تحطمت كل آمالهم في
البقاء.
والحق أن ضروع اليونانيين لم تجف بعد تمام الجفاف.
فالتسوية المخزية التي فرضتها البنوك تتضمن إجراءات تضمن استيلاء أيد جشعة معينة
على الأصول اليونانية.
تلعب ألمانيا بصفة خاصة دورا مخزيا، ليس فقط لأن ألمانيا
النازية دمَّرت اليونان، ولكن لأن ألمانيا ـ حسبما أوضح توماس بيكيتي في صحيفة دي
تسايت الألمانية ـ "هي النموذج الأمثل لبلد لم يسدد على مدار تاريخه دينه
الخارجي. لا بعد الحرب العالمية الأولى ولا بعد الثانية".
فقد ألغت اتفاقية لندن سنة 1953 نصف الدين الألماني،
واضعة الأساس لتعافيها الاقتصادي، وألمانيا الآن كما يوضح بيكيتي أبعد ما تكون عن
"السخاء"؛ فهي "تستفيد من اليونان إذ تزيد من فوائد الدين".
المسألة كلها في غاية القذارة.
لقد كانت سياسات التقشف التي فرضت على اليونان (وأوربا
بصفة عامة) عبثية دائما من وجهة النظر الاقتصادية، وكانت وبالا تاما على اليونان.
غير أنها كسلاح في حرب طبقية كانت فعالة بعض الشيء في تقويض أنظمة الرفاه، فأثرت
البنوك الشمالية وطبقة المستثمرين وساقت الديمقراطية إلى الهوامش.
وسلوك الترويكا اليوم عار حقيقي. فلا يكاد المرء يشك في
أن هدفها هو تأسيس مبدأ حتمية الانصياع الدائم للسادة، وبأن الخروج على البنوك
الشمالية وبيروقراطية بلجيكا لن يلقى الغفران، وأنه لا بد من التخلي عن أفكار
الديمقراطية والإرادة الشعبية في أوربا.
ـ هل تعتقد أن الصراع الجاري على مستقبل اليونان يمثل
كثيرا مما يجري في العالم في اللحظة الراهنة، أعني الصراع بين احتياجات المجتمع
ومطالب الرأسمالية؟ ولو أن الأمر كذلك، هل يراودك أمل كبير في نتاجات إنسانية
لائقة في الوقت الذي يبدو فيه أن جميع الأوراق الرابحة واقعة في أيدي عدد صغير من
البشر المتصلين بالقوة الخاصة؟
ـ في اليونان، وفي أوربا بصفة عامة وبدرجات متفاوتة،
ينقلب بعض أكثر منجزات سنوات ما بعد الحرب إثارة للإعجاب على أعقابه في ظل نسخة
تدميرية من الهجمة النيولبرالية على سكان العالم من أبناء الجيل الماضي.
لكن من الممكن قلب الوضع. فلقد كانت دول أمركيا
اللاتينية من أطوع تلاميذ الأورثوذكسية النيولبرالية، وليس مدهشا أنها كانت أيضا
ممن عانوا أشد الأضرار. ولكن هذه الدول قادت في السنين الأخيرة الطريق الرافض
للأرثوذكسية، وبصفة أكثر عمومية، وللمرة الأولى منذ خمسمائة عام تتخذ خطوات مهمة
في طريق التوحد، محررةً أنفسها من الهيمنة الاستعمارية (والأمريكية خلال القرن
الماضي)، ومواجهةً المشكلات الداخلية الصاعقة، أعني مشكلات المجتمعات الثرية التي
توالت على حكمها أقليات ونخب ذات أصول أجنبية (بيضاء في الغالب) وسط بحار من
البؤس.
ولعل سيريزا في اليونان قد استهل تطورا مماثلا، ولذلك كان لا بديل عن
تحطيمه بمنتهى العنف. وثمة ردود أفعال أخرى في أوربا وغيرها يمكن أن تغيِّر المسار
وتفضي إلى مستقبل أفضل كثيرا.
ـ شهد العام الحالي الذكرى العشرين لمذبحة سربرنيتسا.
تبيّن أن الولايات المتحدة شاهدت القتل وهو يجري عبر الأقمار الصناعية وأن كثيرا
من قوى العالم الكبرى تهاونت أو عمدت إلى ما هو أسوأ من التهاون عندما تعلق الأمر
ببذل الجهود منعا للمجزرة المتوقعة هناك. ما الذي تعتقد أنه كان يجب أن يحدث في
ذلك الوقت؟ هل تعتقد مثلا أنه كان لا بد من إعطاء مسلمي البوسنة فرصة أكبر للدفاع
عن أنفسهم في وقت مبكر؟
ـ سربرنيتسا لم تكن منطقة آمنة محمية، ويجب ألا ننسى أن هذا ما جعلها قاعدة
ميلشيات ناصر أوريتش البوسنية القاتلة لمهاجمة القرى الصربية المحيطة، وتحقيق
خسائر فادحة والتباهي بتحقيقها. وما كان ينبغي أن يندهش أحد من حدوث رد فعل صربي
آجلا أم عاجلا، فكان لا بد من اتخاذ إجراءات لـ "منع المجازر المتوقعة"
على حد تعبيرك.
المنهج الأمثل، الذي ربما كان ليجدي أيضا، كان يتمثل في
تقليل بل ربما في إنهاء عداوات المنطقة بدلا من السماح لها بالتفاقم.
ـ تعرضت لانتقادات كثيرة بسبب موقفك من التدخل في
كوسوفو. ما أفهمه (وقد أكون مخطئا) أنك تعتقد أنه كان ثمة بدائل للقصف، وأنه كان
يمكن إيقاف العنف لو توفرت إرادة سياسية أكبر للعثور على حل دبلوماسي. هل هذا
صحيح؟ هل لك أن توضح معالم ما كان يمكن القيام به بديلا لما تم؟
ـ لم أر انتقادات لموقفي من التدخل، وليس محتملا أن تكون
هناك انتقادات، لسبب بسيط، هو أنني تقريبا لم أتخذ موقفا. فمثلما أوضحت فيما كتبته
حول الموضوع (الإنسانوية العسكرية الجديدة The New Military Humanism) لم أتعرض حتى للياقة تدخل الناتو. وهذا
مثبت في الصفحات الأولى.
ولا يثار الموضوع إلا قبل النهاية بثلاث صفحات، مع
ملاحظة أن ما يسبقها ـ أي الكتاب كله ـ لا يجيب على ما كان ينبغي القيام به في
كوسوفو وإن كان يبدو "حكما منطقيا" بأن الولايات المتحدة اختارت من بين
الخيارات العديدة المتاحة أحد أكثرها إيذاء.
موضوع الكتاب مختلف تماما، مثلما شرحت بوضوح ودونما
إبهام منذ البداية، بل وابتداء من العنوان، فموضوعه هو إتيان أحداث كوسوفو بحقبة
جديدة هي حقبة "المبادئ والقيم" بقيادة من "الدول المستنيرة"
التي دخلت سياساتها الخارجية "مرحلة النبل" ذات "الوهج
المقدس" (بحسب بعض التعبيرات البلاغية في المقالات الاحتفائية التي تناولت
الكتاب).
ينبغي التمييز بحدة بين الموضوعات شديدة الأهمية والسؤال
المتعلق بما كان ينبغي القيام به والذي لم أتعرض له تقريبا. فالموضوع المهم، وغير
الشائع، تم تجاهله. ولا أتذكر حتى أني رأيت ذكرا لموضوع الكتاب كله في أي تعليق
نقدي عليه.
لقد استعرضت البدائل الدبلوماسية المتاحة، موضحا أن
التسوية بعد ثمانية وسبعين يوما من القصف كانت تسوية بين الناتو والأوضاع الصربية
في ما قبل القصف.
وبعد عام من انتهاء الحرب، وفي كتابي "جيل جديد
يرسم الخط" [A New Generation Draws the Line]، استعرضت السجل الغربي التوثيقي للخلفية
المباشرة للقصف. ويكشف الاستعراض أنه كان هناك مستوى ثابت من العنف المقسم بين
عصابات KLA التي
كانت تهاجم من ألبانيا، ورد صربي قاس، وأن الأعمال الوحشية تصاعدت بحدة بعد القصف،
مصداقا لتنبؤات علنية، وسرية مقدمة للسلطات الأمريكية، من الجنرال مارك كلارك.
ولو أن هناك نقدا لما كتبته حقا، فأنا لم أره، وإن تكن
مصيبا بالطبع في أنه كان ثمة قدر كبير من الإدانة لما لم أكتبه.
أما عن البدائل المحتملة، فقد كان هناك ما بدا أنه
خيارات دبلوماسية واعدة. ولكننا لا نعرف هل كان يمكن أن تنجح، لو لم يتم تجاهلها
لصالح القصف.
التفسير المعتاد، الذي استعرضته في مكان آخر، هو أن
الدافع إلى القصف كان يتمثل في ازدياد حاد للأعمال الوحشية. وقلب الحقائق هذا
نموذجي، ومفيد في تأسيس شرعية عنف الناتو. ولكن الحقيقة أن ازدياد حدة الأعمال
الوحشية كان من نتائج القصف لا من أسبابه، وكان متوقعا علنيا وسريا كما أوضحت.
ـ في رأيك ما الذي كان يهدف إليه الناتو حقا من تدخله في
البلقان؟
ـ لو أن بوسعنا أن نصدق القيادة الأمريكية البريطانية،
فقد كان الهدف الحقيقي هو تحقيق "مصداقية الناتو" (كان ثمة ذرائع أخرى،
ولكن هذه هي الأسرع انهيارا). ومثلما أوجز توني بلير السبب الرسمي، فقد كان من شأن
العجز عن تنفيذ القصف "أن يسدد ضربة قاصمة لمصداقية الناتو" وكان من شأن
العالم "أن يكون أقل أمانا بسبب ذلك" برغم أن العالم مثلما أوضحت
بالتفصيل "كان يعترض على ذلك، وكان اعتراضه في الغالب شديد الحدة".
"تحقيق المصداقية" ـ وهو في جوهره من مبادئ
المافيا ـ سمة دالة في سياسات القوى العظمى. ولكن النظرة الأعمق تشير إلى دوافع
غير التي تم التعبير عنها رسميا.
ـ هل
تعارض التدخل العسكري مهما تكن الظروف في الأزمات الإنسانية الشديدة؟ ما الشروط
التي قد تجعله مقبولا من وجهة نظرك؟
ـ دعاة السلام المخلصون يرفضون التدخل العسكري دائما.
ولست منهم، لكنني أعتقد أن التدخل العسكري شأن أي لجوء للعنف يحمل عبئا ثقيلا فيما
يتعلق بالأدلة البراهين. ومستحيل الوصول إلى إجابة عامة على ما يبرر العنف،
باستثناء بعض الصيغ التي لا قيمة لها.
وليس سهلا العثور على حالات أصيلة كان التدخل فيها
مبررا. ولقد راجعت السجل التاريخي والبحثي. وهو هزيل للغاية. هناك مثالان محتملان
يبرزان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية: الغزو الفييتانمي لكمبوديا الذي
أنهى جرائم الخمير الحمر في ذروتها، والغزو الهندي لباكستان الذي أنهى الأعمال
الوحشية الرهيبة في باكستان الشرقية.
غير أن هذين المثالين لا يلائمان السجل المعياري بسبب
مغالطة "الوكالة الخاطئة" وبسبب أنهما واجها معارضة مريرة من واشنطن
التي كان لها رد فعل قبيح.
ـ ننتقل إلى سوريا، نرى موقفا إنسانيا مرعبا لا نهاية له
في الأفق المنظور في ضوء التحارب الرهيب الجاري. أعرف بعض الناشطين السوريين
الغاضبين أشد الغضب مما يعتبرونه تسامحا منك مع الشقاء الهائل الذي يعانيه من
يعيشون مع القنابل البرميلية وما إلى ذلك، وغضبهم هذا ناجم عن اعتقادهم أنك تعارض
على أساس أيديولوجي أي نوع من التدخل ضد الأسد، مهما يكن محدودا.
هل هذا صحيح أو منصف؟ هل تدعم فكرة منطقة حظر الطيران
بمصاحبة ممر إنساني؟ هل يمكن أن توضح موقفك فيما يتعلق بسوريا؟
ـ لو أن في التدخل ضد الأسد تلطيفا أو إنهاء للموقف
الراهن المرعب فهو مبرَّر. لكن هل هو كذلك؟ مراقبو المشهد العارفون بالشأن السوري
والموقف الراهن لا يؤيدون التدخل ومن هؤلاء باتريك كوكبيرن وتشارلز جلاس وقليل
آخرون ممن ينتقدون الأسد أشد الانتقاد. وهم يحذورن ـ بقدر غير قليل في ظني من
الإقناع ـ من أن التدخل سوف يفاقم الأزمة.
إن سجل التدخل العسكري في المنطقة شنيع فيما عدا
استثناءات شديدة الندرة، وهذه حقيقة يصعب تجاهلها. مناطق حظر الطيران، والممرات
الإنسانية، ودعم الأكراد، وإجراءات أخرى، من شأنها جميعا أن تكون نافعة. وليس شهلا
ـ شأن الدعوة إلى التدخل العسكري ـ أن نقدم خططا عقلانية محكمة تراعى العواقب
المحتملة. أنا شخصيا لم أر شيئا من ذلك.
بوسع المرء أن يتصور عالما يتم فيه التدخل من خلال قوة
رحيمة لا تنشد إلا مصالح من يعانون. لكن لو أننا نبالي بالضحايا، لا ينبغي أن نقدم
مقترحات بناء على عوالم خيالية. بل بناء على هذا العالم، الذي يتم فيه التدخل من
خلال قوى لا تبالي إلا بمصالحها، ولا يخضع فيه مصير الضحايا لغير الصدفة.
والسجل التاريخي واضح وضوحا مؤلما، ويخلو من أي تحول
إعجازي. هذا لا يعني أن التدخل لا يمكن أن يكون مبررا، ولكن لا يمكن تجاهل هذه
الاعتبارات، على أقل تقدير لو أننا نبالي بالضحايا.
ـ عند إرجاع النظر في حياتك الطويلة من النشاط السياسي
والعلمي، ما القضية أو الموضوع الذي يسعدك أكثر السعادة أنك دعمته؟ وبالعكس، ما
أكثر ما تأسف عليه؟ هل تتمنى لو أنك كنت كونت المزيد من الجبهات؟
ـ ليس بوسعي حقا أن أجيب. هناك كثير من القضايا التي
يسعدني أنني ساندتها، بدرجة أكبر أو أقل. القضية التي لاحقتها بشدة، منذ أوائل
ستينيات القرن الماضي هي حروب الولايات المتحدة في الهند الصينية، وهي أفدح
الجرائم الدولية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتضمن ذلك الكلام والكتابة
والتنظيم والتظاهر والعصيان المدني والمقاومة المباشرة، وتوقع حكم طويل بالسجن لم
يخب إلا بالمصادفة.
وهناك قضايا أخرى مماثلة، لكنها لم تكن على نفس المستوى
من الحدة. ولكل قضية دواع للأسف، وهي دائما واحدة: التراخي، التلكؤ، غياب
الفعالية، حتى حينما يكون هناك شيء من الإنجاز في نضال من شرفت واستطعت أن أساهم
في منجزاتهم.
ـ ما الذي يبث فيك أكبر الأمل في المستقبل؟ هل تشعر أن
شباب الولايات المتحدة الذين تتفاعل معهم
يختلفون عمن تعاملت معهم قبل عقود؟ هل تغيرت المواقف الاجتماعية إلى الأفضل؟
ـ آمال المستقبل دائما تدور حول الشيء نفسه: أن يأبى
الشجعان، مهما يكن التهديد عنيفا، أن ينحنوا للسلطات غير الشرعية والقمع، وأن يكرس
آخرون أنفسهم لمحاربة الظلم والعنف، من الشباب الطامحين بإخلاص إلى تغيير العالم.
وقد ينقلب سجل النجاحات، الذي دائما ما يكون محدودا، ولكن منحنى التاريخ بمرور
الزمن يتجه صوب العدل، على حد تعبير مارتن لوثر كينج الذي قال هذه الكلمات وعاشها.
ـ كيف ترى مستقبل الاشتراكية؟ هل تستقوي بالتطورات التي
تشهدها أمريكا الجنوبية؟ هل ثمة دروس يمكن أن يتعلمها اليسار من أمريكا الجنوبية؟
ـ الاشتراكية ـ شأن مصطلحات كثيرة في الخطاب السياسي ـ
قد تعني أشياء كثيرة مختلفة. أعتقد أن بوسع المرء تتبع المنحنى الفكري والعملي منذ
عصر التنوير إلى اللبرالية الكلاسيكية، ووصولا (بعد التحطم في مياه الرأسمالية
الضحلة بتعبير رودلف روكر الملهم) إلى النسخة اللبرتارية من الاشتراكية التي
تتلاقى مع النزعات الأناركية الرائدة.
إحساسي أن الأفكار الأساسية في هذا التراث لا تغوص أبدا
تحت السطح كثيرا، فهي شأن خُلد ماركس العجوز، توشك دائما على التقدم ما أن تتوافر
الظروف المواتية، وتشتعل الجذوات المواتية بأيدي الناشطين.
وما يجري منذ سنوات في أمريكا الجنوبية ذو دلالة تاريخية
في تصوري. فللمرة الأولى منذ الغزاة الأوائل، تخطو هذه المجتمعات باتجاه المسار
الذي بيّنته مسبقا. خطوات عرجاء لكها بالغة الدلالة.
الدرس الأساسي هو أنه لو أمكن تحقيق ذلك في ظل ظروف
قاسية وصعبة، فلا بد أننا قادرون على ما هو أفضل كثيرا ونحن نحظى بميراث من الحرية
والرخاء النسبيين، بفضل كفاح من سبقونا.
ـ هل تتفق مع تشخيص ماركس بأن الرأسمالية سوف تدمر نفسها
في نهاية المطاف؟ هل تعتقد أن بالإمكان أن تسيطر طريقة أخرى في الحياة ونظام بديل
في الاقتصاد قبل أن يحدث هذا الانفجار بما له من عواقب فوضوية كامنة؟ ما الذي
ينبغي أن يفعله العاديون المهتمون ببقائهم وبقاء ذويهم؟
ـ لقد درس ماركس نظاما مجردا فيه بعض السمات المركزية في
الرأسمالية القائمة فعليا، دون سواه من الأنظمة ومن بينها دور الدولة الحاسم في
التنمية وإدامة المؤسسات الافتراسية، من قبيل القطاع التمويلي، الذي يعتمد في
الولايات المتحدة في أغلب أرباحه على برنامج التأمين الحكومي الضمني، بحسب دراسة
حديثة أجراها صندوق النقد الدولي ـ ما يربو على 800 بليون دولار في السنة بحسب
الصحافة الاقتصادية.
تدخل الدولة واسع النطاق سمة أساسية في المجتمعات
المتقدمة في انجلترا والولايات المتحدة وأوربا واليابان وما كان لها جميعا من
مستعمرات وحتى هذه اللحظة. التكنولوجيا التي نستعملها حاليا على سبيل المثال،
وكثير من الآليات تطورت وهي قادرة جميعا أن تحافظ على الأشكال القائمة من رأسمالية
الدولة.
والنظام القائم قد يدمر نفسه لأسباب مختلفة ناقشها ماركس
أيضا. نحن الآن نتجه، مفتوحي الأعين، إلى كارثة بيئية قد تنهي التجربة البشرية وهي
تمحو سلالات كاملة بمعدل غير مسبوق منذ 65 مليون سنة حينما اصطدم الكويكب الضخم
بالأرض، لكن الآن نحن الكويكب.
ثمة الكثير للغاية مما يمكن أن يقوم به
"العاديون" (وكلنا عاديون) منعا لكوارث لم تعد بعيدة وإقامة لمجتمع أكثر
عدالة وحرية.
نشر الحوار في مجلة جاكوبين ونشرت الترجمة اليوم في ملحق شرفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق