الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

القبو عن الأدب السعيد

القبو
عن الأدب السعيد
لوريناس كاتكوس*


كاتب المثقال بعدسة Ramune Pigagaite
الأدب في أفضل حالاته انقراض أبطأ
جون أبدايك
(أ)
الوصول إلى هذا المكان في مثل صعوبة الوصول إلى قمرة القيادة في طائرة. فعليك، كي تصل إلى هنا، أن تسير في ممر ضيق، مقوَّسَ الظهر فلا ترتطم بأنابيب المياه من فوقك. ولكن القبو نفسه فسيح. ها هنا لا يعثر المرء فقط على ما يؤلَف العثور عليه في الأقبية: عربات الأطفال، والإطارات الاحتياطية، وبقايا مواد البناء، والأجولة الموسومة بـ "الخرائط القديمة" أو "أولاد الـ 128" أو "ملابس لايما" وما إلى ذلك، بل وعلى طاولة ومقعد كذلك. وتحت الطاولة أهم ما في القبو على الإطلاق: المدفأة الكهربائية. فحينما ينهمر الثلج بالخارج وتكون درجة الحرارة بالسالب فتتجمد الأرض، لا ينجيك شيء، لا حذاؤك الدافئ ولا جوربك الصوفي، وسرعان ما يتوقف الدم عن السريان في عروقك، حتى إذا ما قرَّبت قدميك من المدفأة الكهربائية، أمكنك الاحتمال. يصبح الجو حول الطاولة أدفأ ويبدأ الحبر المتجمد داخل قلمك في الانسياب. لا، لسنا في سيبريا، ولكن خير لك أن لا تتخفف من معطفك. لا أتذكر آخر مرة انتصبت فيها هذه الطاولة في غرفة "طبيعية". ففي آخر شقة سكنّاها كانت الطاولة تقع في الركن المخصص للخادمة بين المطبخ والسلم الخلفي. هنالك أيضا كنت أجلس إلى الطاولة في ساعات الصباح الأولى، بينما الأولاد لا يزالون نياما. وفي القبو ظلام، لولا المصباح الصيني وطنينه؛ فقد أطفأت المصابيح القريبة من المدخل وفي الممر. ومهتديا بالإضاءة المنبعثة من شاشة هاتفي مضيت أشق طريقي إلى غرفة التخزين الخاصة بي في القبو. لا بديل عن الحركة هنا وكأننا أدبر لمؤامرة. ففي الشهر الماضي، اشتكى الجيران من مصابيح القبو التي تستهلك الكثير. وما أمكنني أن أحافظ على السرية وأجتنب الاكتشاف إلا لأنني (أ) أكون أول من يصل إلى المكان، و(ب) لأن غرفة التخزين الخاصة بي تقع في أقصى القبو، في ركنه الأبعد. الساعة الآن جاوزت السابعة. الجيران في الطابق الأعلى يستيقظون. وسرعان ما سوف تطرقع على السلالم من فوق رأسي أصوات المسرعين إلى العمل. أنظر إلى أصابع آدم ويهوه، تمتد إلى بعضها البعض دون أن تتماس. فوق الأيدي تماما هناك شرخ معتم عميق. استخدمت هذه النسخة الشهيرة من الجدارية لأغطي شعارا على الجدار كان قد كتبه الساكن السابق "الراب رائع!". لا اعتراض لي على الراب. لكن الحروف كانت فاقعة الألوان للغاية.
جميع طقوس الإحماء اكتملت: لعب الورق مع هوفمان وبايرن(2)، إلقاء نظرة على دفتر ملاحظاتي، والحمد لله أنه ما من وجود لتغطية للإنترنت هنا. وحان الوقت للشروع في ما نزلت إلى هنا لأفعله. أن أبدأ في الكتابة. كيف؟ ماذا؟ نعم. أكتب.

(ب)
تومض شاشة الكمبيوتر أمام عيني. نصوصي تعيش داخل الكمبيوتر. كلها، باستثناء النصوص القليلة الأولى. بعضها نشر في صحف ومواقع إنترنت، وبعضها في كتب. وبعضها لم يزل غير منشور. وللأمانة، لا فارق. فمهما يكن الحال، يبقى المكان الذي وجدت فيه للمرة الأولى، والمكان الذي تكون فيه أهم ما تكون، هو هنا، في هذا القرص الصلب، في هذه الغرفة الصغيرة عديمة النوافذ  الواقعة تحت الأرض.
المكان خانق. في المقابل، لم أشعر يوما بارتياح في الأماكن الواسعة. في طفولتي، كان مكاني المفضل هو أسفل سرير والديّ. كانوا يبدو فسيحا، هائلا، أشبه بسور قلعة. وما كان لأحد أن يحشر نفسه في ذلك الحيز الضيق. لكنني كنت أستطيع. بل وكان بوسعي أن أسحب المسجل معي وأستمع إلى القصص التي سجَّلها أبي بعنوان "رجل الجيب الحكيم".
وهكذا هو الحال هنا في القبو. كل شيء ممكن، ملموس. الأرفف مكدسة بأشياء ثبت نفعها على مدار السنين ولم يزل لها نفعها.
وأنا لا أزال أنا. وحيد. أو بالأحرى، أنا ها هنا لا أكون وحيدا، أنا هنا بصحبة نفسي.
لم تتح لي الفرصة من قبل لأهتم كثيرا بالتأمل. تمر بذهني صور قليلة ـ جمجمة ـ أثيرة لدى القديسين والعاهرات التائبات، والفلاسفة. (وأهم فيلسوف أعرفه كان يحتفظ بصورة جمجمة في غرفة مكتبه). صورة أخرى لصوفية يتحركون في دائرة وأرديتهم الفضفاضة تهفهف من حولهم. ولكنني لست فيلسوفا، ولن أرتدي يوما ثياب الدراويش البيضاء. لذلك فإن أفضل موضوع للتأمل عندي بسيط ومستطيل: شاشة الكمبيوتر.
أن أقضي بعض الوقت مع نفسي. أفكر في ما جرى بالأمس أو قبل عقد كامل. أتذكر عصر يوم في يوليو قضيته في بستان وفي يدي كتاب شعر ... هكذا، بلا غرض. أو، يروق لي أن أتذكر أول لمحة من شوارع مدينة غريبة: الناس، اللوافت، شجر الحدائق، كل ذلك في لوحة حرة قصيرة النظر... وأحاول، فقد يتسنى لي تحديد الزمن، والمكان، وربما رفاق الرحلة. الاستسلام للتداعي، والثقة فيه، والعثور على روابط سرية بين أشياء غير بادية الترابط ـ من يمنح نفسه هذه الفرصة؟ من يسلم نفسه للحلم؟
في النهاية لا شيء يبقى، لا الذكريات ولا الروابط. ليس سوى شاشة غائمة، ونعاس خفيف دائم. أنصت إلى تنفسي وكأنه غريب عني. ثم قد يحدث شيء. في خلفية وعيي الخاوي ثمة ما يتقلّب، وقد تخطر لي من العدم عبارة. أتناول السبورة السوداء وأكتب العبارة، ثم عبارة ثانية، ثم ثالثة ربما. لعل معنى هذا أنك لم تفرغ بعد. أنك لم تعش حياتك بعد. أن بوسعك أن تتقدم إلى الأمام، ولو سنتيمترات، ولو بطول جملة.

(ت)
أهو إحساس غير مريح ذلك الذي يستولي عليك حينما تزحف إلى سطح الأرض، مضيِّقا عينيك دون ضوء الشمس، ولم تزل مرتبطا بمتع تجربتك تحت الأرض؟ هل الخجل هو الثمن الذي لا بد أن أدفعه لقاء متع الكتابة؟ "أنا شاعر". يا إلهي، أي مهنة هي هذه؟
يقولون إنه في زمان ما كان الكتَّاب يؤلفون أعمالهم وهم جلوس إلى موائد مترفة مصنوعة من السنديان بينما الجمهور ينتظر بأنفاس لاهثة أن تتوقف ريشاتهم عن الحركة فيتتسنَّى لذلك الجمهور الحصول على لمسة من الخلود. ربما كان ذلك هو الحال في زمان ما، ولكن هذا الزمان ولَّى. الاهتمام بالأدب اليوم، لا سيما الشعر، شبيه بحظيرتي القائمة أسفل العمارة في أنتكالنيس. شقق الناس بالأعلى، الحياة بالأعلى. ولا أحد يهبط إلى القبو ما لم يكن يبحث عن شيء غير معتاد: مزلاج، رفش، حذاء شتائي.
وذلك لأسباب عديدة. ولنبدأ من بديهية أن القدرة على التسجيل والبث التي توصلت إليها الإنسانية في القرن العشرين فوصلت بصناعة الترفيه إلى ذرى لم تدركها الأسماع من قبل. لطالما كان موضع الترفيه هو حلبة السيرك وساحة السوق. أما الآن فقد بات من الممكن تسجيل الترفيه واستعماله بعد ذلك إلى الأبد. بات ربع ساعة الشهرة الطاغية مشاعا للجميع. وبات بالإمكان تحقيق ذلك دونما جهد خاص ودونما حاجة إلى تعليم. وفي الوقت نفسه، ضاعت صورة الشاعر بوصفه المصطفى من الرب، بوصفه قائد الإنسانية إلى المستقبل، أو زعيم الثورة على الإمبراطور. هذه الصورة التي بلغت ذروة قوتها في فترة الطليعية وسيطرت على أوربا الشرقية أثناء الحقبة التوتاليتارية. (حتى أن تشيسلاف ميلوش لم يشك لوهلة في أن الشاعر ـ حينما يدعو الداعي ـ سيكون هو من "يوقد شرارة الثورة"). تضاءلت المساحة وانتقل الشاعر في أيامنا هذه إلى نفس الفئة التي يوجد فيها مقتني السيارات النادرة أو متعهد الحفلات في بلدة صغيرة. ومن المؤكد أننا معشر الشعراء نجد في هذين صحبة رائعة. برغم أنها غير مريحة بالمرة.
هذه العملية وقعت ببطء في أوربا الغربية، أو على مدار عقود على أقل تقدير، في حين حدثت التغيرات في أوربا الشرقية بين عشية وضحاها. في نهاية الثمانينيات، كان كتّابنا ـ شأن الكتّاب في بقية أروبا الشرقية ـ قيادات لحركة الاستقلال. ففي المظاهرات كانت حشود من مئات الآلاف من البشر تنصت إلى كل كلمة يقولها الكتّاب. وكانت الكتب تصدر في طبعات غير مسبوقة. ثم لم تحل سنة 1992 إلا والحال كما نعرفه اليوم.
هل أدرك الناس، وقد وجدوا أنفسهم في واقع الرأسمالية الوحشي الجديد، أن أرض الحليب والعسل التي كان يصورها لهم الكتّاب (أم ربما لم يكن الكتاب؟) لم تكن أكثر من كلام يفتقر إلى المسئولية؟ أم أن هذا طبع اللتوانيين: ألا يثقوا في الكلام متى كان مفرط المنطقية والترتيب؟ وفي نهاية المطاف، وحتى في أوساط المثقفين، تبقى الصورة أو الإيماءة أشد واقعية من بيت الشعر أو الجملة النثرية (وهذا ما يجعل المسرح، أي نوع من المسرح، يزدهر بين اللتوانيين).
ونمط الحياة نفسه الذي ساد في أوربا الوسطى والشرقية، هل جعل الوضع أسهل بالنسبة للأدب؟ انتشار الاستهلاك واحتدام الرغبات. رجوع مجتمعات كاملة إلى الطفولة (أو لمزيد من الدقة، انكشاف طفولية المجتمعات التي أوجدتها فيها الدكتاتورية وسترتها في آن واحد) حيث كل فرد يريد كل شيء فورا، حيث تمتد اليد إلى أفقع الألعاب ألوانا ثم يلعب بها إلى أن تلفت انتباهه لعبة أفقع منها.
لم يسبق من قبل في منطقتنا أن عُبدت السلع بمثل ضيق الأفق هذا. ولست أريد أن أكون نذير الشر، ولكن يبدو لي في بعض الأحيان أن الخطر ليس محدقا فقط بالأدب والقراءة، بل بمجرد القدرة على التركيز والفهم. ويمكننا بالفعل أن ننظر فلا تخطئ أعيننا أوجه هذا الضمور، لا سيما لمن يتعامل مع الشباب الذين كبروا أثناء الإعصار الرأسمالي.

(ث)

نعمٌ. ولكن في النهاية، ليس بوسعك أن تخرج وتحرِّض على تكسير الآلات في حين تقف أمامك أنت بالذات معجزة تكنولوجية تتمثل في آلة تسجيل لا يمكنك أن تعيش بدونها. وقد يدفعك كل ذلك الترفيه، وكل هذه البراعة التكنولوجية، إلى الاحتقار أو حتى الغضب، ولكن عليك في النهاية أن تعترف بأن الناس أكثر إقبالا على ذلك كله منها على الأدب.
وبأمانة، هل بوسع أحد أن يقارن هذه الشخصيات الشبيهة بالنمل بالأفلام؟ أو يقارنها بتلك الرؤى الملونة الباذخة، ثلاثية الأبعاد في بعض الأحيان، التي تخترق الوعي فتبقى صورها أمام عيني المرء لأيام مثلما تبقى رائحة التجشؤ حاضرة في أنفه وفمه لثوان. في هذه الأيام يمكن للمرء بالطبع أن يشاهد الأفلام على شاشة التليفزيون أو الكمبيوتر الصغيرة التي تعوق المؤثرات الخاصة بعض الشيء، وقد تضيِّع أجزاء من الرءوس وما إلى ذلك، وأنا بالطبع أشاهد الأفلام بهذه الطريقة، ولا معنى لذلك إلا أن الفيلم يستحق العناء. ولكن عشاق السينما يؤكدون أن الأغلبية تريد أن تشاهد الأفلام دائما على الشاشة الكبيرة. آه من تلك الأغلبية.
هل يمكن أن يساوي الأدب موسيقى الروك، بإيقاعها المزلزل الذي ينفذ عبر الأجساد، والجدران، والحدود؟ إنها محطمة الأوثان العظمى في أيامنا هذه، ماحية الكلمات والصور، الطاغية حتى على الأعمى. ومعلوم أنك حينما تطلق إيقاعا (بشرط أن يكون الإيقاع المناسب) يفقد كل شيء سواه كل أهمية له. بوسعك أن تغنِّي عن انتحار حبيبتك، عن نعل بوذا المطاطي، عن الشيزوفرنيا. وسيبقى الحشد الحاضر يتحرك على الإيقاع ويقضي وقتا رائعا. بوم بوم بوم ـ أليس رائعا؟ كل ما تحتاج إليه هو أن تنظر إلى مخرجي الأفلام، إلى الأطباء، إلى نجوم الروك، إلى كل أولئك الذين يشتركون في لقب "العبقرية". هؤلاء جميعا هم الذين ينامون في هدوء، لا يعذبهم الشك في أنفسهم، ولا الإحساس بالذنب لأنهم قضوا اليوم ينفخون فقاعات الصابون. هؤلاء هم الذين ورثوا عصا القيادة ممن اصطفاهم الرب في غابر الأزمان.

(ج)

تظنون أن الغيرة هي التي تتكلم الآن؟ لا، فلو كنت أشعر بالغيرة حقا وصدقا، فلن أعترف بذلك أبدا. لا لنفسي ولا لغيري.  وكنت لأفكر في وسيلة لتعويض نفسي. فعلا، وليس صعبا أن تتخيل أنك ممثل للنخبة الثقافية وأنك تحتقر هذه الجماهير الضئيلة الرخيصة الواقعة تحت سيطرة ذهنية القطيع. أو أن النهاية والخواء غير بعيدين، وأن القِلَّة التي اجتازت هذا الاختبار هي التي سوف تدخل التاريخ. ولن تلاحظ كيف أن حلقة من أشباه المفكرين سوف تتكوَّن من حولك، فيكون بوسعك بينهم أن تقول جملة مهمة أو تصمت للحظة حبلى بما يعقبها.
لا، لا، هذا لا يناسبني. مهما بدا الناس فاسدين، فهم ليسوا عرائس تتحرك بخيوط في أيدي الشياطين. فكل واحد فيهم، حتى قاطع الطريق، أو بائعة البيرة في الكشك، كل واحد من هؤلاء المحتشدين حول خشبة الفرقة عازفة موسيقى الروك، يلوِّحون بأذرعهم ويزعقون ويصيحون، كل واحد منهم لديه مثل احتياجات الجالسين يقرأون بروست أو بورخيس. كلهم بحاجة إلى مشاعر قوية استثنائية، بحاجة إلى الحقيقة والجمال،  بحاجة إلى شيء يمكن وصفه بأنه نبض الحياة، ولكنه في الحقيقة أوضح وأسهل على الأفهام. الشكل يختلف، والتعقيد يختلف، والتعبير يختلف، والجوهر نفسه.
في المقابل، لست مقتنعا بأن الثقافة الشعبية نمط ذو قياس ومعيار وعلينا جميعا اتباعه. ففي ظني أن الاستشهادات الكثيرة المقتطفة من أغنيات الروك ومن الأفلام، والخوف الجمعي لدى كثير من الكتّاب من الظهور بمظهر المثقف الرفيع، ومحاولاتهم المثيرة للشفقة لتسلية القارئ هي علامة مؤكدة على التسليم بأن لغة الثقافة الجماهيرية تنشئ الأمل في إمكانية مواكبة تعقيدات الحياة الحديثة، ويمكنني أن أفهم هذا التسليم. كما أفهم هذا الأمل في أنه بإغلاق الباب دون رطانة الثقافة الرفيعة والفلسفة، يمكن الرجوع إلى دفء أحضان الجماهير العادية. ولكن هذه اللغة لا تبدو عفوية وبسيطة إلا للوهلة الأولى. ولكنك حينما تنظر إليها نظرة ثانية، ترى من ورائها رجال أعمال، ومنتجين، إلى آخر هؤلاء ممن حسبوا كل شيء مسبقا وعرفوا أدوارهم وحفظوها عن ظهر قلب. ولذلك، خير لك ألا تلقي نظرة ثانية. والأدب بصفة عامة لا يسير في إثر الموسيقى الجماهيرية أو الأفلام، بل يسير في الاتجاه الآخر. ولقد شاع أخيرا في الأفلام اللجوء إلى السرد المصاحب، وهي تقنية شائعة في الأدب منذ الأزل. وهذا مجرد مثال لا أكثر. وبرغم أن الأدب لا يكاد يرى في هذه الأيام، إلا أنه يبقى القبو الذي تقوم عليه عمارة الفن كلها.
أصابع آدم ويهوه تمتد إلى بعضها البعض دون أن تتماس
 (ح)
لكن ربما يمكننا تقوية تأثير الأدب وجاذبيته؟
ولأن تغيير حجم الخط المستخدم قد لا يكون الوسيلة الفعالة للفت الأنظار، فالرسالة التي تصل إلى الكتّاب هي أنهم سيلفتون الأنظار أكثر ما يلفتونها بالخروج على المعتقدات المقبولة والأعراف الاجتماعية المستقرة، بإثارة الرأي العام، بكتابتهم شيئا يكون ـ باختصار ـ ثوريا وفضائحيا.
لن أضيِّع الوقت في الغوص في أعماق صدمة البرجوازية(1) ، فاهتمامي ينصب على الأشكال التي اتخذتها تلك الفكرة على مدار العقود القليلة الماضية، والتي أمكنني أن أشاهدها بنفسي. فبعد أن فقد التمرد السياسي شيوعه ومصداقيته لأسباب لا تخفى على أحد، تحوّل المزاج إلى دراسة فرويد وأتباعه. وباتت العقد النفسية والجنسية تحتلّ في الوقت الراهن ما كان يحتلّه من قبل الصراعُ الطبقيُّ والثورة. ونحن لا نشهد حدوث ذلك في الأدب وحده، بل وعلى نطاق أكبر في الفن البصري (ولا داعي لمزيد من الكلام في ما يتعلق بالنقد الفني). وبتنا نسمع القاموس نفسه في أوربا الغربية، ولكنه أشد تواترا في أوربا الشرقية. وينجذب الكاتب، والمفكر، إلى هذه الأفكار، وليس ذلك فقط لأنها تمثل صورة متماسكة للعالم تناقض الصورة المقبولة المليئة في أغلب الحالات بالتناقضات والتنازلات.
وثمة أيضا ما لا يقل أهمية عن ذلك، وهو البعد النبوئي في الأمر برمته: سوف يهيمن السلام والخير الأبديَّان على الأرض حينما يقهر آخر رجل/امرأة وهم الإحساس بالخصوصية والحياء فتتحرر حياته الجنسية تمام التحرر.
وعليه، فإن أعمال الأدب التي تقبض على هذه النزعة تساهم في تقريب ساعة التحرر. وحقيقة حدوث ذلك تتجلى من خلال ردود أفعال الأفراد والجماعات المناهضة لهذه الأفكار، والتي لا يمكنها أن تأتي على نحو آخر لأنها لا تزال واقعة في أسر مصر، لم ينقذها موسى ويقطع بها البحر إلى مستوى أعلى من اللاوعي. وإن الكاتب ليقبل وجهة النظر الفرويدية في أسباب السلوك البشري، فالمرء في نهاية المطاف أقدر على تصديق إيعاز السلوك البشري إلى غرائز عضوية لا إلى أقوال مثيرة للشفقة. ثم إن الصورة الأخلاقية المعروضة أشد جاذبية: خيرٌ لك من أن تكون مخادعا، أن تكون محطما للأوهام، فردا جسورا لا يبالي بإلقاء الحقيقة المرة في وجوه الجميع. ثم ألا تفتح الكتابة الحسية الجسدية إمكانية استكشاف المرء لأسلوبه ورؤيته الإبداعية؟
فضلا عن أنه بوسعك أن تختار نسخة أقل ميلانكولية وثورية من هذه التعاليم، فهي تقول لنا إن في كل واحد منا كائنا مفردا تفور بداخله الرغبات السوداوية، وحينما يبدأ هذا الكائن المفرد في العمل، فهو لا يعمل إلا انطلاقا من رغبته في إشباع هذه الرغبات غير القابلة للإشباع بذاتها وفي ذاتها. أما جميع أشكال المشاعر ـ كالتضامن والصداقة بل والحب للأسف التي قيل وكتب فيها الكثير من الهراء ـ فما هي إلا ضلالات، أو انعكاسات لنرجسيتنا. ونحن في حياتنا لا نفعل أكثر من الإنصات إلى دوافع ملغزة نحاول فك شفراتها. دونما نجاح بطبيعة الحال. ويتأثر إنتاج الأدب، بطريقة أو بأخرى، بهذه السلبية. ويمكن أن يتأكد ذلك من خلال أحد أسلافنا، المركيز دو ساد، وهو بحسب أوكتافيو باث كاتب ممل ثرثار. ولا بد للمرء هنا أن يضيف الكاتب الشهير جورج باتاي. وإن المرء ليحتاج إلى كثير من العناد ليقبض على صور أدبه الإبداعي المسطحة، ففردوس باتاي الذي يقوم على الرغبة البصرية لا ينطوي على كثير من الغواية. إنما هو يذكِّرك بآلة قوامها أعضاء بشرية لا يمكنها أن تتوقف ولو لثانية واحدة. ويبدو بطريقة ما أنها آلة لا تنطوي على كثير من البهجة. ولا يقتصر ذلك على أجزاء الآلة التي تشعر بالمعاناة والألم، فبطل باتاي نفسه يعبر عن رغبته أثناء المزاد في "شق حلقه".
ويمضي باتاي إلى ما هو أعلى مذ ذلك، إلى فضاءات السماء العريضة. فلا يبدو أن الرغبة تسيطر فقط على البشر، بل وعلى الكون كله. فالعالم كله يهتز بإيقاع الجماع، و"البحر لا يكف عن ممارسة العادة السرية"، وهذه ولا شك رؤية مثيرة للإعجاب، غير أن المرء يود لو يتساءل: كيف لهذه الصوفية السيكولوجية أن تختلف أي اختلاف عن الإيمان بالكائنات الفضائية أو بالثقب المعبود لدى بعض الطوائف في روسيا؟ إذ يقال إن بعض الطوائف الروسية تتخذ في بيوتها ثقوبا ثم تعبدها وتصلي لها "أيها الثقب نجِّني ، نجِّني أيها الثقب". إن القبول بمختلف هذه الحقائق ليحتاج إلى القدر نفسه من الإيمان. ولعل الفارق الوحيد هو أن الفرويديين سوف يسارعون إلى تقديم تفسير لرمزية الثقب.
وهذه بالقطع أمثلة متطرفة. غير أن جهود أتباع هذا الاتجاه مخيبة للآمال أيضا. ونحن نعيش في عالم هزيل تلعب فيه هذه اللعبة مرارا وتكرارا، من، أين، مع من، وكيف، وكم مرة. وعاجلا أم آجلا ينشأ فيك استخفاف بنفسك وبغيرك (إن لم تنشأ كراهية للذات). ولا يمكن للخيال المنهَك أن ينتج إلا تنويعات على هذا الفعل عبر عدد قليل من الطرائق: من خلال الشخصيات، الشبيهة بالبشر الحقيقيين، وذلك فقط لأن المزيد من الإثارة يستوجب الظن بأن كل المكتوب ـ من انحرافات ودوافع قذرة ـ إنما هو قائم فعلا في حياة الكاتب، فهذ إذن فضائح، والفضائحي مطلوب...
وليس ذلك، مصداقا لما يرغب المرء في الظن به، لعبة كبار بريئة، فهي في الأدب نكوص أساسي. والرباط الذي يربط بين بشريين، والذي كان في يوم من الأيام يحتل نطاقا عريضا من المشاعر والمبادئ والظروف الاجتماعية والاختلافات السيكولوجية والألاعيب الجمالية يصبح إما استعارة جنسية شفافة جامدة أو حيلة يحتال بها نظام أيديولوجي قديم لا يهدف إلا تحويلنا عن الهدف الذي من أجله نجتمع كلنا هنا. في الوقت نفسه، كل المواضيع التي لا تتفق وهذا العفن، لا يكون مثيرا لاهتمام الفرويديين.
ومن أسباب الكآبة الأكيدة أن يقرأ المرء مساعيهم إلى التهوين من أمر أعمال الفنانين والفلاسفة بمحاولة إظهارهم في الحياة الحقيقية أشخاصا حقراء، أو حتى فاسدين أخلاقيا (فيقال إن جويس على سبيل المثال كان يغتصب ابنته)، دون أن يقيموا على ذلك غير أوهى الأدلة، فالمهم هو أن تعترف أنت بإيمانك بالليبيدو (وأن تكون فضائحيا كذلك).
ومع ذلك، يبقى من المستحيل عليك أن لا تلاحظ أن هذه النزعة الاختزالية لم تحقق غايتها. فالجنسية التي ضخموها مائة مرة، وجعلوا منها الأساس لكل شيء، فجأة تختفي. ففي نهاية المطاف، ثمة في الأدب المعاصر نزعة أخرى، وهي قوية أيضا، وتجتنب الكتابة الجنسية الإيروتيكية بل تعتبرها من جملة التابوهات. وذلك لا يحدث انطلاقا من أخلاق عفا عليها الزمن، بل لأن المواطن العادي يرى غرائزه الجنسية شيئا تافها، لا هي جامحة ولا متعددة الأشكال بحسب ما يصورونها (هذا الضجر من الرغبة الجنسية، هذا النفور من الجنسية، حاضر في الكثير من الروايات المعاصرة). وعليه فالطريق إلى تحرير الذات مغلق بعِلْم الحرية هذا الذي تقدَّم ذكره.
ولقد قرأت قبل وقت غير بعيد في مجلة ألمانية مقالة للناقد فلوريان إيليز يشكو فيها من ضعف التمرد في الأدب المعاصر، ويوعز ذلك الضعف إلى أنه لم تعد ثمة رغبة في الثورة، وإلى أن الرغبة لم تترك شيئا يثار عليه، فلم يعد ثمة تخلف، لأن الجميع أصبحوا أكثر انفتاحا ومرونة. ويمضي إيليز فيقول إن جودة العمل هي التي تعاني. وهذه رؤية تبدو لي غريبة. فالناقد لم يدرك أن الثورة على المجتمع أصبحت منذ عهد بعيد حلية وزينة يسهل على الجمهور الضجر استيعابها. وقيمة الصدمة والعدوان على الأعراف أصبحا خدمة يقدمها الفن للجمهور البورجوازي فيستمتع بالنظر إليها. والذين يشجعون على التمرد لا يفهمون الموقف المتناقض الذي تنطوي عليه دعوتهم، فهي تستوجب اتباع خطى الآباء والأجداد. وهنا أقول قولا مختلفا: حينما تصبح الثورة كليشيه، يصبح الفعل الثوري هو اللافعل الثوري.

(خ)
أسمع الباب الخارجي، ثم الباب الداخلي، ينفتح وينغلق. الصوت الأول منخفض وقصير. الثاني أطول وفيه رنين المعدن على المعدن. أسمع ضوضاء ثم مفتاحا يلف في قفله مرتين. هذا صوت قفل باب القبو. لا مجال للخلط. سرعان ما يغزو غريب قبوي الأدبي، إما أنه جار أو عامل جاء يصلج شيئا، سباك أم كهربائي؟ بصورة آلية أطفئ النور. أسمع خطى تنزل إلى القبو. يستدير الشخص باتجاهي. أغلب الظن أنه الجار الذي يستخدم غرفة المخزن المجاورة لغرفتي. كثيرا ما ينزل إلى القبو. لا ينبغي أن يتسرب ولو أدنى ضوء من عقب بابي. من يدري، قد يحتاج شيئا يجعله يمضي إلى آخر القبو، فيمر بغرفتي. أطوى اللاب توب وتغمرني العتمة المطبقة. تجاهد عيناي كي تتكيفا مع العتمة وتتبيّنا الأشياء، وسرعان ما تستسلمان. لا أعرف أنني قادر على الإبصار إلا لأنني أرى جزيئات غبارية بيضاء أمام عيني (كالتي أراها حينما أغمض)، المكان بالفعل معتم لا تخترق عتمته أية إضاءة. أجلس في مائة بالمائة من العامة وأنا لا شيء. لا أنا كاتكوس. ولا أنا لوريناس. أنا كائن منقرض. أنا خواء، أنا لا شيء. إشاراتي لم تعد تبلغ غاياتها. كتابتي اختفت في علبة ما وراحت. ولو حاولت قول شيء لما اعتصرت من نفسي أي صوت.
ولكن لو أنني لا شيء، فمحتمل أن أكون أيضا كل شيء. كل كلمات العالم ثمة في مخزوني. في لاكلامي الصامت، يمكنني أن أقول أي شيء أريد. يمكنني أن أبدع الإلياذة من الصفر. يمكنني أن أكتب الأرض الخراب أو ما هو أفضل، يمكن أن أقول لكل الناس من أكون. يمكنني أن أحكي لهم قصة حياتي فلا تكون فيها كلمة واحدة كذبا. أو كلمة واحدة فضلا لا لزوم له. أو كلمة واحدة ناشزة في غير موضعها. يمكنني أن أحكي عن الأقربين إليّ، وعن تاريخ بلدي وزماني منذ البداية وإلى النهاية. يمكنني أن أتخيل كل شيء وأتكلم، أتكلم لا إلى نكرة ولا إلى شخص مجهول، بل أكلم شخصا ما بعينه. يمكنني أن أحكي فيسمعني شخص على مقربة تكفيه أن يسمع كل كلمة، لكنه يبقى على مسافة دقيقة. شخص ما دائم التأهب للإنصات، دائم القدرة على الفهم، يتجمد إذ أقصُّ قصة جادة، يرتعد إذ ألقي نكتة، شخص أذنه عريضة، لينة، لا قرار لها، تجوب أعماق القبو ...
يتعثر الدخيل في شيء ما فيطلق سلسلة لا نهائية من الشتائم. يحسب أنه وحده. وهو تقريبا على حق.
(د)

أوه، وكان بوسعك أن تكون شخصا ما. شخصا جاد يعيش حياة ممتلئة.
كان بوسعك أن تكون الذي يعيش كل الأحلام المحتملة التي حلمت بها ثلاثة أجيال من اللتوانيين عاشت في ظل الحكم السوفييتي لخمسين سنة. عمل، تجارة، نسبة مئوية من العائدات، ولا أثر لوابل جنون العظمة أو الوعي المعطوب. كان يمكن أن أكون صاحب متجر صغير. وأصل كل صباح إلى المدينة القديمة على سكوتر أنيق فأفتح الباب الخشبي المشغول. أو لعلي كنت لأصبح شيئا أكثر جدية من ذلك، كأن أكون مقدم برامج في التليفزيون، أثرثر سويعات على الهواء ولا أحتاج إلى أن أقبع ها هنا في هذا البرد القاصم للعظم. بل أسترخي في مقعد وثير بجوار مدفأة في بيت أكون قد صممته بنفسي. وإن كنت أشد براعة كنت لأصبح مالكا للعديد من الشقق (وكانت التسعينيات فترة الفرص غير المحدودة). تحسبا لأي احتمالات. كنت لأذهب فأقضي الإجازات في شواطئ دافئة إما مع شريكة ثابتة أو شريكات متعددات. وما كنت لأنجب أي أطفال لأنهم طبعا يقفون في وجه طموحي، وراحتي، وتحقيقي لذاتي، وما إلى ذلك.
ما كان ليصعب عليّ السير في ذلك الاتجاه. فقد كنت في موقف كذلك الذي في الحواديت حيما يقترب شقيقان من تقاطع ويكون عليهما الاختيار بين طريقين، فإن اخترت اليمين اخترت السعادة، وإن اخترت اليسار اخترت المشقة. ولست بالشخص الكسول. والتجارة تستوجب السرعة بل وتزيدها وترهفها خاصة في الرأسمالية على الطريقة اللتوانية. علاوة على أنه كان من الممكن قبل عشر سنوات أو نحو ذلك، وفي أي مجال تقريبا، أن تدخل تحسينات على شيء ما، أو تعرض شيئا ما، أو تكسب شيئا ما. غالبا أرى الهراء في متجر أو مقهى فأشعر أنني كنت لأفعل ما هو أفضل.
وثمة شيء آخر. في التجارة إجابات شديدة الصلابة لأسئلة المعنى والنجاح والمكان من الكون وما إلى ذلك. هذا ما أدفعه وهذا ما أحصل عليه. هذا هو مكان العمل الذي أقمته ... وهذه أشياء لا يمكن لأي تفلسف أن ينكرها. أماكن العمل هي أماكن العمل. وإن حدث ونشأ أي سخط غامض، فمن الممكن علاجه من خلال مخدر يتمثل في الاشتراك في أي ناد للسيجار أو عبر حوار ينشر في مجلة ذات ورق مصقول.
ومع ذلك، اخترت هذا الجانب، الذي لا يناسب غير الرجل الأعسر. وبمنتهى الجدية أقول إنني ربما ما كنت لأقدر على إقناع نفسي بأن الجري الأبدي في دوائر مثلما يجري السنجاب في الساقية الدوارة يمكن أن يكون طريقي الوحيد، فأظل طول العام أدور حول نفسي كالسنجاب ولا أجد في نهايته إلا بهجة ملء استمارات الضرائب وحضور الحفل الذي تقيمه الشركة بمناسبة الكريسماس.
ربما كنت أحتمل ذلك لفترة، ولكنني في نهاية المطاف كنت لأنفجر. غير أن العقبة الكبرى كانت لتتمثل في الأخلاقيات التي كان ليلزمني القبول بها إن أردت لتجارتي النجاح، وفي ذهني من تلك الأخلاقيات النظر إلى الناس بوصفها كيانات لا بد من استغلالها تعظيما للقدرة والمنفعة. ثم إنني لن أفهم حتى آخر يوم في حياتي معنى "شريك العمل". (إذا لا أتصور أن يستطيع أحد التظاهر بالمودة مع شخص في حين أنه عاقد العزم على خداعه، ما لم تقنع نفسك أن لديه مثل خططك بالضبط). وفي ذهني من تلك الأخلاقيات مسألة "تفادي" المشكلات والصراعات والخسائر، أو إبقاء الأمور هادئة، وتفادي المشكلات هذا يعني في الوقت نفسه تنمية أرباحك وإسهامك في نمو إجمال الناتج الوطني وقصص النجاح، وقد اتخذت تلك النزعة منحى بشعا في هذا البلد في السنين الأخيرة. ولا تكتفي التجارة بالانتصار باسم النجاح الشخصي واستعراض الثروة، فاتجارة ترغب في السمو بنفسها إلى النشاط البروميثي الذي يحقق الرفاهية للأمة بوصفه مخلصها الوحيد. ولكن تخليص الأمة ليس كافيا، فلا بد من تخليص البشرية كلها، ومن يستمع إلى رجال الأعمال وهم يتكلمون عن نجاحاتهم، يبدأ في تذكر مؤسسة لم تختف منذ زمن بعيد: إنها الحزب الشيوعي.
لكنني حتى لم أتمكن من الانضمام إلى الشبيبة الشيوعية. فقد حال دون ذلك إعجابي بالمشاكسين وطبيعتي النافرة من التنظيم. ألم يكن في تلك الحقبة أن اكتسبت عادة اللجوء إلى القبو؟
(ذ)
يسألني أصدقائي الألمان والأمريكيون: ما معنى أن تكون كاتبا بلغة صغيرة صغر اللتوانية؟ كم عدد القراء في بلدك؟ ما الذي يتوقعونه من الكتَّاب؟
فأجيبهم "أوه، قراؤنا مثيرون للاهتمام. بل هم أشد إثارة للاهتمام من الكتّاب. وليس ذلك في لتوانيا وحدها". ولنتكلم في هذا الصدد عن القراء في سلفانيا، في منطقة ما بين البلطيق والبحر الأسود. في سلفانيا، كما ترون، مجموعتان كبيرتان من القراء. فلنسمّ إحداهما "الأصيلة" والأخرى "الحديثة"، وكلتاهما متناغمتان تناغن القط والكلب. ولنبدأ نقاشنا بالمجموعة "الأصيلة"، لأنها الأكثر في سلفانيا. هؤلاء قراء جادون، وهذا بسبب أنهم يقرؤون كثيرا ولا يشعرون مطلقا بالسعادة. فما يكتب بالسلفانية، كما لا يخفى عليكم، يبث فيهم القلق. فالكتّاب الشبَّان، وغير الشبَّان كثيرا، ينحرفون عن التقاليد الجليلة في أدبهم العرقي ويسلمون أنفسهم لغوايات تأثير الجنوب [أي الغرب بالنسبة لنا ـ المترجم]. وهذا يعني أنهم ما عادوا يستثمرون الحزن والألم اللازمين لأي عمل إبداعي سلافي حقيقي، ولا هم عادوا يطرحون الأسئلة الوجودية. ويعني أنهم ما عادوا يخضعون لأعراف الحكي والنّظْم المقبولة، يل يجرِّبون بدلا من ذلك أشكالهم الخاصة أو هم يتبعون بافتضاح سافر كتّاب الجنوب. وما كان هذا ليكون بالأمر بالغ السوء، لو أن الكتاب الشبان صرخوا بمدى عبثية وفراغ الحياة اليوم، وكيف أن رؤوسهم تتأذى بعدما يفرطون في الشراب، وكيف يشعر المنتحر إذ يقف على الجسر وما إلى ذلك. لكن لا، كل ما يفعلونه أنهم ينغمسون في الكلام بسرعة، وتغيير تعابير وجوههم، والسخرية ممن عداهم. وإذا لم يكن ذلك كافيا، فهم يرفضون الكتابة عن مهد الثقافة السلافية، عن الجبال ونمط الحياة البسيط الطبيعي لدى سكان الجبال. وهم بدلا من ذلك، يصرّون بعناد على تصوير نمط الحياة الأجنبي، نمط حياة البائع المتجول.
ولا يمكن القول بأنه لم يبق ثمة كتاب سلافيون حقيقيون. فهم موجودون. وأغلبهم بطبيعة الحال أكبر سنا. ولكنهم ما عادوا ملائمين، شأن كتابتهم نفسها. وبرغم أنهم يستمدون إلهامهم من المصادر الصحيحة، فهم غير قادرين على إثبات أن التقاليد لم تزل حية. وهذا الخطر على أدبنا الوطني لم يكن موجودا حتى أثناء قهر الشماليين لنا.
قد يقارَن القارئ "الأصيل" بصخرة تكسوها الطحالب. في حين يمكن تشبيه القارئ المعاصر بالفراشة. "آه، كفى" هكذا يقول واحد من المحدثين المرفرفين بالأجنحة الوضاءة "في هذا الثقب المهجور، وبعيدا عن فصيلة الجهلة المكسوين بالطحالب، من أين يأتي النور". وبوسعكم أن تروا بأي غريزة خامدة يرفرف باتجاه مصباح الجنوب، يرفرف ويدور، ولا يبلغ المصباح مهما يفعل. فيرفرف عائدا، وقد خيّم عليه شيء من الحزن، ولكنه يعود وقد استوعب صرعات هذه الأرض الأخرى! وبارتعاشة يصف لقاءاته بالأسماء الكبيرة، وما قالوه وما فعلوه! يقول لك "تخيل، في آخر زيارة لي إلى باريس دخلت مرحاض اتحاد الكتّاب. وفجأة انفتح الباب ودخل، هو بنفسه، لاكان! (أو غيره، فتورّطوا معي) واقترب من المبولة، وتخيل ماذا فعل، لقد تبوَّل. وتبوَّل بعبقرية، وفي الوقت نفسه بمنتهى التواضع". (ويتبع كلامه بتنهيدة). وأفهم أن لا يستطيع القارئ "المعاصر" أن يقول مثل هذا عن الأدب المحلي. حسن، عندما يبلغون معشار تلك الروعة، وذلك الانفتاح، وذلك النقاء الذي يبلغه الجنوبيون، وعندما تكون المواضيع التي يكتبون عنها منتمية إلى الجانب الآخر، لا إلى مجاهلنا المحلية، حينما تصبح أسماء الأبطال لوليتا وباردامو، حينما يشربون الخمر (ويدخنون المخدرات)، لا لأنهم حزانى أو مأزومون، ولكن لأن ذلك ما يفعله الأبطال في كتب الجنوب الأكثر مبيعا، فإننا نعنى بالنظر إليهم، ولكن، وفي الوقت نفسه، ومعذرة ....
(ر)
للحظات قلائل، أبقى في بئر العتمة، بينما يأتي من غرفة المخزن المقابلة لغرفتي نور مصباح أصفر يتسلل من عقب بابي. أتخيل جاري ـ الشائب النحيل من الطابق الثالث الذي كان يشغل في الحقبة السوفييتية منصبا غريبا، فقد كان مسئول الترفيه في اتحاد العمال. ولا تزال الخبرات التي جناها من تلك الحقبة نافعة له اليوم وقد أصبحت حياته كلها وقت فراغ صالحا للترفيه. يدندن لنفسه بأغنية من الأيام الخوالي، يتناول أشياء من على أرففه، يفتح أدراجا، ثم يتوقف ويسأل نفسه "هممم، هل أحتاج هذا؟"
بالإنصات إلى الأصوات التي تصدر عنه، أحاول تخمين ما يبحث عنه. ثم أبدأ في الإنصات إلى المزيد. بطريقة ما يكون السمع في الظلام أرهف. أسمع ماء يسري في الأنابيب. يأتي الصوت من جهتي، فلا بد أن أحدهم يستحم. أسمع خطوات فوق رأسي. هي جارتي، أم عزباء. لا يزال في شقتها بابها القديم، الباب ذو القفل الحقيقي. ثم أسمع عصا تنقر الأرض. لا بد أن هذا ابنها. تمر سيارة بجوار العمارة. أتساءل إن كان يمكن تخمين طرازها من الصوت؟ يداعبني السعال. أحاول ما استطعت أن أكتمه. أبلع ريقي وأتنفس بعمق. في الوقت نفسه أفكر في ما سوف أفعله إذا غلبني السعال. يمكن أن أرمي شيئا على الأرض في نفس لحظة السعال. فهذا في النهاية شيء قابل للحدوث. أن يقع شيء ما على الأرض من تلقاء نفسه. أنا نفسي سبق أن سمعت ذلك في مرات كثيرة كنت فيها مختبئا هنا. كما يمكنني أن أضع حدا للعبة الاستغماية هذه وأسعل بوضوح.
غريب أنهم لم يكتشفوا أمري بعد. كل ما يلزمه هو أن يتحقق من مقبض بابي فيتبين له أن القفل مفتوح. تتبدد الرغبة في السعال. يمكن أن يبقى كل شيء الآن على حاله، خاصة وأنني عدت أسمع جلبة من غرفة الجار، كأنها أصوات فتح برطمانات و .. هييييه، إنه يسير باتجاه الخروج، نفس الأصوات تتكرر ولكن في الاتجاه العكسي. يُطفَأ مفتاح النور، ثم القفل، أسمع خطوات الجار تصعد السلم، ثم أسمع صوت قفل الباب الخارجي، ثم صمت.
(ز)
يدار قفل الباب الخارجي مرتين ثم يتبدد صوت الخطى في البعيد. أخيرا. قرأ رجال البلدية عدادات المياه ومضوا، غير تاركين من ورائهم إلا رائحة التبغ وشيء آخر (أيكون بولا؟).
مضوا ولن يعودوا حتى اليوم الأخير من الشهر القادم. أخيرا، يمكنني أن أفرد ساقي المتجمدتين دونما خوف من أن أصدر جلبة تلفت نظر أحد. يرن جرس الموبايل، فيجعلني أثب واقفا. لقد نسيت إغلاق الصوت، أتناول الصندوق الصغير اللامع. الاتصال من امرأة قريبة لي، تقول إنها عاجزة عن إكمال بعض المسئوليات التي وعدت أشخاصا بها وتطلب مساعدتي. أوافق على مضض. لو أردت ألا أقع في شرك ساعة الذروة المسائية فعليّ أن أغادر في غضون عشر دقائق تقريبا. أفتح النور وأفتح اللابتوب. أنظر إلى المكتوب على الشاشة فلا أفهم للوهلة الأولى ما المكتوب حقا. آه، هذا ما كان يفترض بك أن تكتبه اليوم، لولا أن اليوم كله مضى وأنت غير قادر أن تلملم أفكارك. ذلك ما كنت تعمل فيه أمس وأول أمس والأسبوع الماضي، بنجاحات متفاوتة، ولكن الحروف سواء فيه جميعا وصولا إلى اسمك. لقد كنت تريد أن تبيّن ما الكتابة بالنسبة لك. ولماذا تمارسها. ذلك ما كنت تريد. وما الأدب بالنسبة لك، ولماذا لا يمكن أن ينافس الثقافة الجماهيرية، وكيف أنه يأبى الانغماس في الفضائحي، ويصر أن يُكتَب بلغة شرق أوربية هامشية.
الحقيقة أنك لم تقل شيئا. لا شيء مهم. لا شيء استثنائي. لا شيء مدهش. لا هذا ولا ذلك ولا ذاك. أين نبوءات الأذكياء بتهميش الأدب وموت المؤلف وزوال الرواية؟ أين الإحساس الذي يسيطر عليك بين الحين والآخر بأنك إما ديناصور أو نصاب، في الشتاءات المقبضة التي لا ينفع معها حتى الكحول؟
وما الذي يتبقى؟ في الواقع، ليس غير الهواء. الهواء الخفيف، والأصوات المدوية. الهواء والتكرار. البصق والتقاط البصاق، كما يقول المثل اللتواني. ما يبقى هو اللغة، الكائن الذي ما لأحد أن يروضه، الذي يربط بيننا رباطا أعمق من رباط الرغبة. اللغة اللتوانية: الراسخة الجليلة. اللغة التي تغص بأقدم الأشياء ـ شأن محل التحف، أو استمرارا لاستعارتي، شأن غرفة مخزن في قبو. لغة لا يسأم المرء التنقيب فيها. لغة تطورت على مدار العقود القليلة الماضية بمثل ما لم تتطور به لغة أخرى في أوربا.
وتبقى حفنة من الأصدقاء. ليسوا أحياء فقط، بل وموتى أيضا. ليسوا ممن أعرف فقط، بل وممن لم أقابل قط. ذلك ما يسمى بالتراث الأدبي. أن تتعلم منهم. وتغار منهم. وتنافسهم. ذلك أمر عمره قرون، وبعون من الترجمة اخترق حواجز اللغة، لا يبدو أنه قابل للتوقف. ويبقى القراء. لا يهم كم عددهم، خمسة أم ألف وخمسة، فهم في الحالتين من يحتاجون الأدب حاجتهم إلى الهواء.
وإيمان لا بالقديسة المفارقة، بل ربما بالمفارقة المباركة. منطق المفارقة الذي يحيل القليل إلى الكثير، والخسارة إلى نصر، ويخرج من وسط النبوءات والنزعات خروج ثعبان من جلده القديم. (وسؤال أخير: ألا يحدث للشاعر المعاصر أن يشعر أحيانا أنه ديناصور منقرض؟ ألا يكون الذين لا يشعرون بذلك مطلقا هم النصابون؟)
ويبقى الرضا، حين تشعر بروعة القالب في جملة دوّنتها أو فقرة وضعتها. هذا مثل ما سمَّاه أوسيب ماندلشتاوم بـ "دقة الشعر العجيبة". الإيمان بقدرة الأدب حتى في يومنا هذا على تقديم أتمّ رؤية ممكنة للفرد، لا بوصفه وحدة في بناء أو ترسا في آلة، بل بوصفه فردا فريدا وفي الوقت نفسه مماثلا لغيره. كذلك الرجل الحكيم في الجيب، في القصة التي حكاها لي قديما صوت أبي.
والآن أخبروني، هل يكفي الأدب الفرد لأن يكون سعيدا؟
بصدق، لا أعرف. ولكنني لن أجهد ذهني أكثر من هذا، ليس اليوم على أية حال. أقول هذا، وأضغط المربع الأحمر المضيء المكتوب عليه: أطفئ الكمبيوتر".

(1) Épater la bourgeoisie   بالفرنسية في الأصل، والعبارة كانت بمثابة الشعار لجيل من الشعراء الفرنسيين، من بينهم بودلير ورامبو، ممن أخذوا على عاقتهم أن يصدموا الطبقة الوسطى ـ ويكيبديا



* شاعر وكاتب ومترجم من لتوانيا، صدرت له رواية ؟ظلال متحركة" (2012)، وكتاب مقالات "القبو" (2011) ومجموعات شعرية: "أصوات وملاحظات" (1998) و"دروس الغوص" (2003) و"خلف الشارع السابع" (2009)، يترجم من الإنجليزية والألمانية، وأعماله مترجمة إليهما أيضا.



نشر المقال في شرفات على حلقتين اليوم والثلاثاء الماضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق