الأحد، 13 أبريل 2014

النظرية الجرثومية في الديمقراطية والدكتاتورية وكل جوانب الإنسانية

النظرية الجرثومية
 في الديمقراطية والدكتاتورية وكل جوانب الإنسانية

إيثان ووتريس
  

ذات صباح في الخريف الماضي، كان عالم الأحياء التطورية "راندي ثورنهيل" يقف معي في مواجهة قفص الغوريلا في حديقة حيوانات ألبيكيرك، شارحا لي نظرية جديدة في أصول الثقافة البشرية، حينما قرر القرد ماشودو ـ وهو من غوريلات السهول الغربية عمره عشر سنين ـ أن يساعده على إيضاح نقطة معينة، فمضى على نحو شديد الاحتراس يمشي على المجرى الأسمنتي العميق الممتد في صدارة القفص، وجلس بمقعدته على حافة المجرى، وعمل زي الناس.
ظننت أن ماشودو أظهر بذلك ما يطلق عليه المنظِّرون التطوريون "الاستجابة المناعية السلوكية" behavioral immune response وهو مفهوم مركزي في نظرية ثورنهيل الكبيرة. فسألته عما لو كنت محقا فيما ظننته. قال بعد تفكير إن "في التغوط بعيدا الكثير من الذكاء، فهو يأخذ فضلاته إلى أبعد مكان ممكن. أعتقد أن بالإمكان تفسير هذا بوصفه من سلوكيات تحاشي الأمراض".
فد يبدو التركيز على كيفية تلبية الغوريلا لنداء الطبيعة أمرا غريبا. لكن وفقا لفرضية ثورنهيل، فإن كثيرا مما يروق لنا معشر البشر أن نحسبه من جمله السياسة والأخلاق والثقافة إنما دافعنا إليه هو نفس الغريزة الباطنية subconscious التي ربما تكون مسئولة عن اقتياد ماشودو إلى المجرى العميق.
ويعرف كل من لديه إلمام بأساسيات علم الأحياء أن لجميع الحيوانات أنظمة مناعية تصارع بها الجرثوميات ـ سواء كانت فيروسات أم بكتريا أم طفيليات أم فطريات ـ على المستوى الخلوي. ومفهوم أيضا أن الحيوانات في بعض الأحيان تأتي بسلوكيات تساعد على درء المرض. فعلى مقربة من ماشودو الموسوس، شاهدت أنا وثورنهيل قردة اسمها سارة، ترعى ابنها "بيكسل" ذا الستة أشهر، وتفلِّي شعره من الطفيليات. قال لي ثورنهيل إن من الرئيسيات ما ينبذ المرضى من الجماعة تحاشيا لانتشار المرض. وقال إن البقر وغيره من ذوات الحوافر معروف بأنه يناوب في تنقلاته بين المراعي تحاشيا ليرقات الديدان المعوية التي تكون عالقة بما تركوه من روث. وفي مجتمعات النمل، يتم تكليف مجموعة قليلة العدد بالتخلص من النمل الميت، بينما ينأى النمل المريض بنفسه عن العش ليموت بعيدا عن الجماعة.
في الحياة اليومية العادية، يسهل على ثورنهيل أن يقنع الناس أن البشر يأتون نفس هذه السلوكيات الغريزية تحاشيا للعدوى والمرض، وبأن لنا في ذلك عادات شبيهة للغاية بعادات الكائنات الأخرى. اعترفت لثورنهيل أنني قبل فترة بسيطة أظهرت شيئا من سلوك الرعاية هذا عندما عاد أصغر الرئيسيات التي في حوزتي من الحضانة ورأسه عامر بالقمل. ونحن البشر، مثل ماشودو، في تخلصنا من فضلاتنا بعيدا عن الأماكن التي نعيش فيها، وفي نبذنا للمرضى، ولو في حدود أننا نتوقع من المصابين بالإنفلونزا أن يلزموا البيت ولا يحضروا إلى العمل أو المدرسة. ومثل النمل، نخصص عددا صغيرا منا للواجب المقدس المتعلق بالتخلص من موتانا. وعندما نتمعن في حياتنا، نجدها حافلة بالحركات الدفاعية البسيطة ضد التلوث، فبعضها يأتي بدافع من الشعور ـ كالتقزز ـ الذي ينشأ دونما تأمل واع. وانظر إلى نفسك حينما تفتح باب مرحاض في محطة بترول ثم تقرر أنك ستحتمل بضعة أميال أخرى، أو حينما تقف على أكبر مسافة ممكنة من شخص يسعل ويعطس في غرفة انتظار، فهذه استجابة مناعية سلوكية.
وما هذه التصرفات الفردية إلا قمة جبل الجليد، بحسب ما يرى ثورنهيل ومعسكرٌ متزايد العدد من المنظِّرين التطوريين. فهؤلاء يرون أن ردود أفعالنا السيكولوجية اللحظية تجاه خطر المرض تترك تأثيرا تراكميا هائلا على الثقافة. فضلا عن أن هذه التفاعلات العميقة (وها هنا تبدأ نظرية ثورنهيل فعلا في إيقاد جذوة الخيال) بين الأمراض المحلية والتطور الاجتماعي البشري قد تفسر الاختلافات الأساسية التي نلاحظها بين المجتمعات. كيف تتصرف ثقافتكم تجاه الغرباء؟ في ظل أي الحكومات تعيشون؟ مع من تمارسون الجنس؟ أي القيم تشتركون فيها؟ كل هذه الأسئلة قد لا تكون أكثر من قناع لسؤال واحد: أي الجراثيم تدرؤون عن أنفسكم؟
خطر المرض ليس موحدا في أرجاء العالم. فبصفة عامة، تقلُّ الأمراض المعدية في المناطق الأعلى والأبرد والأجف، منها في المناطق ذات المناخات الرطبة الحارة. في المناطق الحارة الرطبة يتحتم على الناس من أجل البقاء أن يقاوموا درجة أشد من "الضغط المَرضي"، ويرى ثورنهيل وزملاؤه أن الضغط المرضي المستوطن في مكان معين يميل بمرور الوقت إلى توجيه الثقافة وجهات معينة. ولقد أثبت البحث منذ وقت طويل أن أبناء المناخات الاستوائية المعرَّضون لأعباء مرضية ثقيلة هم أكثر ميلا إلى استطابة الأطعمة الحارة التي تتسم كميات معينة منها بخصائص مضادة للميكروبات. وهم أيضا أكثر ميلا من غيرهم في المناخات الباردة إلى تقدير الجاذبية الجسدية ـ وهي علامة على الصحة والمناعة بحسب ما يرى المنظِّرون التطوريون. ولكن المعاني الضمنية لا تتوقف عند هذا الحد. فبحسب ما ترى "نظرية الضغط المرضي"، وبحسب الحالة التطورية التي عرضها ثورنهيل وزملاؤه، فإن أنظمتنا السلوكية المناعية ـ أو استجاباتنا الجماعية تجاه الأمراض المحلية ـ تقوم بدور حاسم في صياغة أنظمتنا السياسية والدينية المختلفة، والرؤى الأخلاقية الشائعة بيننا.
لو أن ثورنهيل وزملاءه محقون في ذلك فلعلهم في الطريق إلى كشف غموض أصعب ألغاز السلوك البشري. إذ أن هذه النظرية قد تفسر لماذا تنزع الحكومات التسلطية إلى الاستمرار في التواجد بين دوائر عرض محددة، بينما تنشأ الديمقراطيات في دوائر عرض أخرى، ولماذا ترهب بعض الثقافات الأجانب بينما تنفتح ثقافات أخرى على الأغراب، ولماذا تقدّر شعوبٌ معينةٌ المساواةَ بينما تثمّن شعوب أخرى البنى الهيراركيةَ والانصياعَ المتزمتَ للتقاليد. وفوق ذلك، يمكن لعملهم أن يعطينا رؤية واضحة لكيفية تغير المجتمعات. ووفقا للنتائج التي توصل إليها ثورنهيل، فإن ضرب أخطار الأمراض المعدية في جذورها هو أكثر أشكال الهندسة الاجتماعية فعالية مما يمكن أن يلجأ إليه أي راغب في إصلاح المجتمع.
لو أنك تبحث عن نظرية في السلوك الإنساني تقلب الموازين، فإليك هذه. يقول ثورنهيل "ما كدنا نبدأ البحث عن دليل على أن الأمراض تصوغ الثقافة حتى بدأنا نجده حيثما نبحث".
***
اتجه ثورنهيل نحو موضوع رد الفعل السيكولوجي البشري على المرض في مطلع العقد الأول من القرن الحالي بسبب نصيحة من خريج شاب اسمه "كوري فينتشر" الذي كان قد وصل إلى جامعة نيو مكسيكو معتزما دراسة سلوكيات التزاوج عند الأفاعي ذات الأجراس. غير أنه بدأ يهتم بعد بعض الوقت بالآثار التطورية للمرض على السلوك الثقافي البشري، وتحديدا حول السبب الذي يجعل الثقافات تتوزع على نطاق واسع فيما يتعلق بالنزعات الفردية أو الجماعية.
وطالما كان علماء النفس وعلماء الاجتماع يشعرون بالحيرة إزاء الاختلافات السافرة بين المجاميع البشرية. ففي المجتمعات شديدة الجماعية، يكون الانتماء إلى الجماعة أساسا لهوية الفرد. ويكون متوقعا من الجميع التضحية من أجل المنفعة العامة والحفاظ على الروابط المتناغمة مع الأسرة والأقارب. في المقابل، نرى في المجتمعات شديدة الفردية كالتي في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا وهولندا إعلاء للحقوق الفردية على الواجبات تجاه الآخرين. ولا يستمد الفرد هويته من الجماعة، بل تنبني الهوية من خلال الأفعال والمنجزات الشخصية. وبرغم أن هذه الاختلافات تأكدت عبر كثير من الدراسات العابرة للثقافات ومن خلال العديد من الطرق المختلفة، لم يأت أحد بنظرية تطورية مقنعة تبين لماذا يصلح لجماعة ما من البشر أن تكون أكثر جماعية في حين يصلح لأخرى أن تكون أكثر فردية.
ذهب فينتشر إلى الظن بأن كثيرا من السلوكيات في الثقافات الجمعية قد تكون أقنعة لاستجابات مناعية سلوكية. وللتدليل بمثال رئيسي على ذلك، نرى في أوساط الثقافات الجمعية انتشارا لرهاب الأجانب والتعصب العرقي أوسع من انتشارها في أوساط الثقافات الفردية. فكر فينتشر أنه قد يكون في إبعاد الغرباء دفاع ضد أمراض أجنبية، وأن قصر التزاوج في حدود الجماعة قد يساعد في الحفاظ على المناعة الموروثة ضد الأمراض المحلية. واختبارا لفرضيته، شرع فينتشر ينظر في ما إذا كانت الأماكن الأكثر أمراضا تميل أيضا إلى أن تكون أحفل بهذه النزعات الجمعية.
بالتعاون مع "دميان موراي" و"مارك شولر"، وهما عالما نفس من جامعة كولمبيا البريطانية، ومع ثورنهيل، قارن فينتشر قواعد البيانات القائمة التي ترتب الجماعات الثقافية على مقياس فردي/جمعي بالبيانات المجموعة من "الشبكة العالمية للأوبئة والأمراض المعدية" ومن مصادر أخرى. وأولى الفريق اهتماما خاصا بتسعة أمراض (من بينها الملاريا، والجذام، وحمى الضنك dengue، والتيفود، والسل) تنال من القدرة التناسلية البشرية. ووجد الفريق ترابطا قويا بين القيم الجمعية والأماكن ذات الضغوط المرضية المرتفعة. وفي عام 2008، نشر فينتشر وثورنهيل وشولر وموراي بحثا كبيرا يوضح هذه العلاقة في مجلة Proceedings of the Royal Society B.
عثر ثورنهيل وفينتشر على مزيد من الأدلة على نظرية الضغط المرضي من خلال النظر إلى المناطق الجغرافية التي لم تكن تحتوي فقط على ضغط مرضي شديد بل وعلى خليط شديد التنوع من ناقلات المرض المستوطنة، أي الكائنات التي تمرضنا ـ ولا تقتصر على الفيروسات والبكتريا وإنما تشمل البق والذباب والبعوض التي تنشر الفيروسات والبكتريا ـ الكائنات الصغيرة التي لا تملك قدرة المخلوقات الأكبر على تنظيم حرارتها، والتي غالبا ما تنتعش في مناطق مناخية بالغة الضيق تتكيف فيها مع درجات حرارة معينة ومستويات محددة من الرطوبة. ونتيجة لذلك تكون أخطار المرض شديدة المحلية. ولقد انتهت إحدى الدراسات إلى أن في بيرو وبوليفيا ما لا يقل عن 124 نوعا مختلفا جينيا من الطفيل لايشمانيا برازيلينيس.
لو كان لك أن تعيش في مكان حافل بهذه الأمراض المتنوعة لنشأت لديك ولدى عائلتك مقاومة أو مناعة ضد هذه الأمراض المحلية. ثم إن هذا الدفاع كان ربما ليفقد أي قيمة له إذا أنت انتقلت مع جماعتك ولو لمسافة تافهة، أو إن جاء غريب حاملا ثقلا مرضيا غريبا مثله واندس به وسط أهلك. في أماكن كهذه يكون من المفيد للجماعات المتجاورة أن تعرف الفوارق بين "نحن" و"هم". وانطلاقا من هذه الفكرة توقع ثورنهيل وزملاؤه أن الأماكن ذات الآفاق المبلقنة طفيليا ستكون أماكن مبلقنة العادات وستبرز فيها الاختلافات الثقافية بين الجماعات، فتختلف اللهجات، وتتنوع الأديان، وتتمايز الفنون، وما شابه ذلك. وفي حين لا يزال من الضروري إجراء قدر كبير من الأبحاث، تبيّن النتائج المبكرة ـ لا سيما في ما يتعلق بتطور اللغات والديانات المحلية ـ أن الضغط المرضي يُنشئ فيما يبدو تنوعا ثقافيا.
كان فريق آخر من الباحثين الأكثر حرصا ليتريث قليلا بعد الكشف عن النظرية ويركز على تأسيس بنيان من الأدلة للدفاع عن مزاعمها. فالوصول إلى تفسير جديد لسر نزوع بعض الثقافات إلى الجمعية ونزوع بعضها إلى الفردية قد يضمن لصاحبه مكانا ومكانة في علم الاجتماع. لكن ثورنهيل وفينتشر لم يتوقفا ولو لالتقاط الأنفاس. فما كادا ينشران بحثهما الأساسي في Behavioral and Brain Sciences  في 2012، حتى شرعا يجمعان الأدلة على أن الضغط المرضي الشديد يفضي إلى مستويات مرتفعة من الحروب الأهلية والعرقية ويزيد من معدلات القتل وانتهاك الأطفال، والبنى العائلية الهيراركية، والقيود الاجتماعية المفروضة على سلوك المرأة الجنسية. بل إن هذه النزعات الجمعية المتحاشية للمرض ـ كما كتبا ـ تندمج بمرور الزمان في أنظمة حكم أوتوقراطية جمعية. فإن شئتم أن تفهموا صعود الفاشية والدكتاتورية والحملات العرقية ضد الغرباء، فانظروا إلى الأخطار المرضية السائدة. لقد ذهب، على مدار السنين، باحثون من أمثال "وليم إتش مكنيل" و"جاريد دياموند" إلى أن للجراثيم والجغرافيا تأثيرا لم ينل حقه على قيام المجتمعات وانهيارها. أما بالنسبة لثورنهيل وفينتشر، فإن التكيفات البشرية السيكولوجية مع خطر المرض تمثل ما لا يقل عن الرابط المفقود في فهمنا للثقافة ـ تمثل المفتاح الأساسي لقيمنا الجمعية التي غفلت عنها طوال التاريخ الإنساني أعين الباحثين والفلاسفة.
طوال السنوات القليلة الماضية، تعززت النظرية من خلال عدد متزايد من الأبحاث التي قام بها علماء اجتماع آخرون. وفي حين عمل كثير من هذه الأبحاث على البيانات والجداول الزمنية التي درسها ثورنهيل وفينتشر، فقد توصل آخرون إلى وسائل لاستخلاص الاستجابة المناعية السلوكية في الزمن الحالي، ولو على نطاق أصغر بكثير. فقد وضع شولر وزملاؤه ـ على سبيل المثال ـ اختبارا للتحقق مما إذا كان بوسع خطر المرض أن يؤثر على آراء البشر في الغرباء، وذلك تطبيقا على عينة معملية من الناس. جاء شولر وفريقه بجماعة من العينات وجعلوهم يشاهدون عرضا عن الجراثيم والأمراض، وجماعة أخرى من العينات وجعلوها تشاهد عرضا حول الحوادث والأخطار اليومية العادية. ثم قال الباحثون لأفراد العينتين إن الحكومة الكندية تعتزم إنفاق أموال على اجتذاب مهاجرين جدد إلى البلد. ومصداقا لما تنبأ به شولر: كانت عينات الاختبار التي تعرضت لمشاهد الجراثيم والأمراض أقل ميلا للموافقة على إنفاق المال اجتذابا لأبناء بلاد غير مألوفة.
ويبقى كثير من الباحثين غير مقتنعين بأن الضغط المرضي مهم إلى الدرجة التي يراها ثورنهيل وفينتشر. فلقد ذهب عالم الأنثروبولوجيا "سكوت أتران" ـ فيما يتسق مع هذا الاتجاه الانتقادي ـ إلى القول بأن ثورنهيل وفينتشر يقومان في تحليلهما للبيانات "بقفزة كبيرة من مجرد علاقة بين ظاهرتين، إلى القطع بأن واحدة منهما سبب للأخرى". ويشير نقاد آخرون إلى أمثلة محتملة تعاكس نظرية الضغط المرضي: لو أن التشدد في التدين ـ مثلما يشير ثورنهيل وفينتشر ـ رد فعل تكيفي على ضغط مرضي، فلماذا يأتي بعض المتدينين بسلوكيات تتنافى وهذا، ومن بينها طقوس تتعلق بالدم، وبالختان، وبالوشم وثقب الآذان والأنوف، والنزوح إلى أراض غريبة لاعتناق الدين؟ وشارك بعض الباحثين في النقاش بإشارة إلى أن من الممكن أن نحظى بفهم أفضل لمستوى التفضيلات داخل جماعة معينة حينما نرى هذه التفضيلات في ضوء علاقتها بنوعية مؤسسات الحكم المحلية ومدى المشاركة فيها: فكلما ازدادت إمكانية الاعتماد على المؤسسات، قلَّ احتياج الأسر والجماعات إلى الاستثمار في أنفسهم تلبيةً لاحتياجاتهم.
***
خلال حوارنا في حديقة الحيوانات، لم يبد ثورنهيل متباهيا بنظريته ولا متحفزا للدفاع في مواجهة الانتقادات. في التاسعة والستين من العمر، يبدو أقرب إلى خال أو عم، يبدو في شكل بروفيسور نمطي سعيد بانتشار أفكاره. قال إنه في هذه المرحلة من حياته المهنية لم يعد ينفق وقتا كبيرا في الانشغال بأن علماء اجتماع آخرين لا يوافقونه الرأي أو يرون أنه يبالغ فيه. وهو مولع بأن ينقل عن ألبرت أينشتين قوله إن "غاية العلم السامية هي كشف أكبر عدد ممكن من المعلومات التجريبية عبر الاستنباط المنطقي من أصغر عدد ممكن من الفرضيات أو البديهيات". وطبعا ليس أسهل من الوصول إلى الفرضيات العظيمة، إذ لا يحتاج المرء إلا أن يسترق السمع من وراء أبواب عنابر سكن الطلبة. أما النظريات التي تفسر حقا أنماط الطبيعة الكبرى، فنادرة للغاية فيما يعترف ثورنهيل. ومع ذلك فهو يؤمن بأنه قابض على واحد من هذه الوحوش النادرة من ذيله. ويقول لي إن علماء الاجتماع الآخرين سوف يلحقونه به في نهاية المطاف. (وهو حاليا يعمل مع فينتشر على الكتاب الأهم في حياتهما المهنية، الكتاب الذي يتناول هذه النظرية، ويرجوان له الصدور في خلال عام).
ليس ثورنهيل بوافد جديد على النظريات المثيرة للجدل. ففي الوقت الذي أسس فيه سمعته المهنية سنة 1983 بكتاب فارق عنوانه "تطور أنظمة التزاوج عند الحشرات"، أصبح من قبيل الشخصيات العامة في عام 2000 بنشره كتابا ألفه هو وعالم الأنثروبولوجيا "كريج تي بالمر" بعنوان "التاريخ الطبيعي للاغتصاب: القواعد البيولوجية للقهر الجنسي"، وقد ذهبا في هذا الكتاب إلى أنه ينبغي فهم الاغتصاب بوصفه استراتيجية جنسية تطورية لدى الذكور، وواجه هذا الرأي الرؤية المنتشرة المتفق عليها في ذلك الوقت: وهي أنه لا يمكن النظر إلى الاغتصاب إلا بوصفه فعلا مرضيا عنيفا تسلطيا. وقعت برامج التوكشو في غرام النظرية المثيرة للجدل، وتصدى ثورنهيل لذلك إلى حد الظهور لشرح نظريته في برنامج " The Today Show  ".
واستعرت ردود الفعل العامة على الكتاب. وغالبا ما يناضل منظرو السلوك التطوري ضد سوء الفهم الذي يعتبر وصف أي سلوك بـ"التطوري" تبريرا لهذا السلوك. ولم يكن ثورنهيل استثناء من ذلك. فبقدر ما سعى إلى إيضاح أنه لا يقدم مبررا للاعتداءات الجنسية، بقدر ما تلقى من تهديدات بالقتل على جهاز مجيبه الآلي، بل لقد سعى أحد رافضي كتابه إلى اقتحام بيته. حتى أن الجامعة خصصت ضابطا من شرطة الحرم الجامعي ليرافقه في طريقه من المبنى وإليه. واهتز ثورنهيل، برغم أن معجبيه يطلقون عليه لقب "الكاوبوي الأكاديمي"، لكنه لم يجبن.
وبرغم أن نظرية الضغط المرضي لم تصل بعد إلى مستوى الوعي الثقافي الجماهيري أو إلى برامج التوكشو، أو إلى أي مستوى قريب من ذلك، لكنها بلا شك أثارت الغبار في أوساط العلوم الاجتماعية. فنطاق النظرية شديد الاتساع، ومقولاتها شديدة الدراماتيكية، لدرجة أنها تقتحم على الجميع حلباتهم الفكرية الأكاديمية. ويعترف ثورنهيل أنها "بالفعل تعبر بين المناهج، تعبر إلى الاقتصاد والعلوم السياسية وعلم النفس والأنثروبولوجيا. ولكل من هذه العلوم افتراضاته حول طرائق عمل الثقافات وكيفية وصولها إلى ما هي عليه. ولهذا السبب يصعب للغاية في بعض الأحيان الدخول في جدالات عابرة للمناهج. ولا يبقى للمرء إلا أن يرجو للدليل العلمي أن ينتصر في النهاية".
***
يرى بعض الأكاديميين أنه في حين يمكن لنظرية الضغط المرضي أن تساعد على شرح بعض الأصول العميقة للتاريخ الإنساني، إلا أن علاقتها بالعصر الحديث واهية. أو في أغلب مناطق العالم المتقدم في حقيقة الأمر، حيث أصبح أغلب الأوبئة الكبرى والأمراض المعدية الشرسة في ذمة الماضي إلى حد كبير. وحيث الحالات المزمنة كالسكري والسرطان والسمنة وأمراض القلب هي الهموم الصحية الشائعة إلى حد كبير. ادخل مستشفى واشك من إصابتك بالملاريا أو الحصبة وسترى على الأرجح كيف يعاملونك معاملة النوادر، ومن الممكن جدا ألا تجد في فريق العمل بالمستشفى كله من لديه تجربة شخصية في علاج هذه الحالة.
لكن ليس خطر العدوى فقط ـ بحسب ما يرى ثورنهيل وفينتشر ـ هو الذي يصوغ الثقافة. فهما يريان أن غياب الخطر المرضي أيضا يخلق حزمة من الحالات الثقافية  التي تمثل ـ مجتمعةً ـ مؤشرا لازما نحو الحداثة. القيم الجمعية، برغم فعاليتها الكامنة في صد الأمراض، تكبد الثقافات التي تتبناها تكلفة كبيرة. وحسبما أوضح لي ثورنهيل، فإن من شأن إبعاد الأغراب أن يحد من التبادل التجاري ويعوق الثقافات عن تحصيل التقنيات الجديدة والخامات والمعارف النافعة.
وهكذا، بحسب ما يبين لي ثورنهيل، يكون من المرجح أن البشر نبذوا ـ مع انتقالهم إلى مناطق مناخية أجف وأبرد وأَخْوَى من الأمراض ـ خوفهم المكلف من الأجانب الذي نشأ فيهم صدًّا للأمراض، وأصبحوا أقل تقيدا بالتقاليد وأكثر إقبالا على التبادل التجاري مع الآخرين، وأكثر قبولا للابتكارات التكنولوجية. وبدلا من فرض الرقابة على المفكر الفرد النافر عن الجماعة، انتهت المجتمعات إلى مكافأة أولئك الذين يتحدون الأعراف. ومع هذه التغيرات جاءت الثروة وانتشر التعليم إلى فئة أكبر وأكبر من السكان. وكلما ازداد مستوى السكان التعليمي، ازدادوا مطالبة بالمشاركة في الحكم. وكانت الديمقراطيات نتاجا طبيعيا لذلك، لقيامها أساسا على حقوق الأفراد وحرياتهم.
ويذهب ثورنهيل وفينتشر إلى أن أثر إرساء الديمقراطية في تقليل الأخطار المرضية يمكن أن يحدث بسرعة، سرعة قد لا تتجاوز الجيل. فقد قدرت منظمة فريدم هاوس ـ المعنية بمراقبة مسارات الحكومات والحريات المدنية ومشاركات الناخبين والمساواة في شتى أرجاء العالم ـ عددَ الدول "الحرة" اليوم بستة وأربعين في المائة من كل دول العالم في مقابل تسعة وعشرين في المائة سنة 1972. ويبيّن ثورنهيل أن هذا الصعود تزامن مع حقبة شهدت فيها أماكن كثيرة من العالم شيوع أساليب التدخل الطبي كبرامج التطعيم وتنقية مياه الشرب وجهود تقليل أمراض سوء التغذية. ولا يتحرج ثورنهيل من المعاني الضمنية.  فيقول إنه لو كان تعزيز الديمقراطية وغيرها من القيم اللبرالية جزءا من أجندتنا، فلابد أن يكون همنا الأساسي هو الرعاية الصحية والقضاء على الأمراض.
***
لا تكاد تعرف بنظرية الضغط المرض حتى تتحول إلى طنين دائم في أذنك. حتى الأمثلة المعاكسة التي تبزغ في ذهنك إذا بها عند فحصها بعناية تدعم النظرية، أ بطريقتها الخاصة. واضح مثلا أن ألمانيا النازية ـ ولعلها نموذج نظام الحكم التسلطي العنصري العدواني الأشهر في العصر الحديث ـ ظهرت في مناخ شمالي، لا في منطقة استوائية مثلا. لكن تأملوا حقيقية وصول الحزب النازي إلى السلطة في أعقاب تفشي وباء الإنفلونزا الأسبانية التي قتلت مليوني نسمة في أرجاء أوربا، وأكثر من نصف مليون في ألمانيا وحدها. وتذكروا أن كثيرا من دعاية هتلر المسمومة كانت تركز على أن اليهود حملة أمراض. وكم ركزت لغته على تصوير ألمانيا كائنا يحارب المرض الذي تسببت فيه "البكتريا اليهودية"ـ من بين مسببات أخرى. فهل تمكن هتلر أن يستغل آلية سيكولوجية مجهولة أوقدت في الألمان شرارة الخوف من الخطر المرضي؟
***
ثمة العديد من الجوانب المزعجة في نظرية فينتشر وثورنهيل. ويحرص فينتشر على القول بأن فرضيتهما لا ترمي إلى توصيل أحكام قيمة، ولا هي تنشد الإرشاد والتوجيه، ولكن من الصعب التعامي عن تمييز نظرية الضغط المرضي بين المجتمعات الجمعية والفردية بوصفه ذا حمولة سياسية وأخلاقية. فلديكم، من ناحيةٍ، الثقافاتُ الجمعيةُ حافلة برهاب الأجانب والعنصرية والحكم التسلطي والتزمت الديني. وفي المقابل هناك ثقافات لبرالية تعزز المساواة والانفتاح والديمقراطية وقبول الأغراب. مجموعة قيم ثقافية تمثل دفاعا سيكولوجيا ضد المرض، وأخرى تمثل امتدادا منطقيا للحياة في مجتمع الصحي. في ضوء هذا، يمكن أن تبدو نظرية الضغط المرضي مبررا للقيم الثقافية التي يعتنقها ثورنهيل وفينتشر شخصيا، وهو ما قد يرى فيه البعض إشارة إلى أن العلم ـ لا التاريخ وحده ـ يكتبه المنتصرون. ولكن ثورنهيل من جانبه واثق في الدليل العلمي الذي تقوم عليه نظريته، وغير منزعج نسبيا من أية معاني ضمنية في النظرية. ولقد قال لي في حوار حديقة الحيوانات إننا "لو زدنا الرعاية الصحية فسوف يزداد الناس لبرالية وسعادة، ولا أحسب أن هذه فكرة سيئة".
يصعب أيضا بلع نظرية الضغط المرضي شأن كثير من الحجج السيكولوجية التطورية لا سيما بالنسبة لمن يتوهمون أننا مسيطرون على أفكارنا ومشاعرنا وسلوكياتنا. وجرِّب حينما يكلمك أحد عن معتقداته الدينية أن تقول له إن هذه المعتقدات الراسخة في ضميره ما هي إلا نتاج آلية مناعية لا واعية ضد المرض. أو جرِّب، في المقابل، أن تخبر صديقا لبراليا أن معتقداته المتعلقة بالانفتاح والاحتواء ما هي إلا نتاج حظه الحسن الذي أوجده في منطقة خالية نسبيا من الأمراض.
يعترف لي ثورنهيل ونحن نتناول السندوتشات في مقهى الحديقة أن "نظرية الضغط المرضي لا تتسق مع العمق الذي نتكلم به عن قيمنا. عندما نفكر في معتقداتنا الدينية أو السياسية نشعر أننا أصحاب قرار فيها. لا تبدو لنا دفاعا ضد مرض. تبدو شيئا أعمق. تبدو لنا الحقيقة".
يتخذ تحليل ثورنهيل وفينتشر هذه الرؤية للإنسانية ـ مستمدا رؤاه من مجموعات هائلة من البيانات ـ لدرجة أن تبدو الرؤية غريبة وباردة وغير بشرية. لقد بدأ ثورنهيل حياته المهنية كعالم بيئة سلوكي يدرس الحشرات، وقد تبدو رؤاه للبشر في بعض الأحيان بعيدة بُعدَ الرؤى المتعلقة بجماعات البراغيث التي كان في يوم من الأيام يدرسها. غير أن هناك اعتبارا واحدا على الأقل يجعل من بحث ثورنهيل بحثا بشريا شخصيا عميقا.
نشأ ثورنهيل في ألاباما في الأربعينيات والخمسينيات. ويقول إنه رأى بعيني رأسه التحيزات الجنسيةَ والعنصرية ورهاب الأجانب وكل ما شاع في الجنوب في ذلك الوقت من نعرات. وهو على دراية متينة بالروابط الأسرية القوية والمعتقدات الدينية الحازمة في المنطقة. ولكنه على دراية أيضا بمجموعة من المعلومات الأقل شهرة عن أرضه تلك. ففي زمن طفولته تقريبا، كانت الولايات الجنوبية تسيطر أخيرا  على مرضين طالما انتشرا فيها انتشار الأوبئة: هما الملاريا ودودة الإنكلستوما hookworm. يقول "بيتر هوتيتز" ـ عميد ومؤسس مدرسة الطبيعية للطب الاستوائي بجامعة بايلور ـ إن هذين المرضين حوّلا أجيالا من الجنوبيين إلى "أطفال وكبار ضعاف مصابين بفقر الدم، غير منتجين". ولا عجب أن يعتقد ثورنهيل أن جماعية الجنوب القديم ـ والخضوع للتقاليد، والتعصب للعرق، والارتياب من الأغراب التي وسمت طفولته ـ إنما هي نابعة من ثقل مرضي تاريخي.
وهو، بالمثل، يوعز ما رآه من تقدم الجنوب نحو مزيد من المساواة إلى التحسن الذي طرأ  على أسوأ المشكلات الصحية في المنطقة. يقول "لا يزال الواحد يسمع من يقول إن الجنوب سوف ينهض من جديد، ولكنني أشك أن تكون لديه فرصة للنهوض ما لم يتم القضاء على جميع النباتات المروية بمياه الصرف الصحي المعالجة والامتناع عن وصف المضادات الحيوية للأطفال، حينئذ تكون ثمة فرصة سانحة".
بالمصادفة، قد تكون الولايات المتحدة بدأت في تجربة طبيعية لاختبار نظرية الضغط المرضي لثورنهيل وفينتشر. فالمحافظون (بقيمهم الجمعية التي تركز على الدين والتقاليد والإقليمية) واللبراليون (بقيمهم الفردية المتعلقة بالانفتاح ومناهضة التسلط والتجريب) يحشدون جيوشهم منذ نحو عشر سنوات لمعركة تتعلق بإتاحة الرعاية الصحية للجميع، ولا يزال الطرفان يحشدان. ولو أن ثورنهيل وفينتشر محقان، فربما يكون للمحافظين سبب إضافي لمعارضة قانون توفير الرعاية الصحية أكثر من الأسباب التي لديهم الآن. فهل يحتمل أن يؤدي التدخل الصحي الفعال (على طريقة مشروع أوباماكير) إلى  نقل البلد ـ على المستوى السيكولوجي العميق ـ بعيدا عن القيم المحافظة إلى قيم أكثر لبرالية؟ هل يحتمل أن تكون في هذه المعركة مغانم غير معترف بها نهائيا؟
تأمل ثورنهيل في هذه الأسئلة منفردا. وفي حين أنه غير متأكد من كون برنامج أوباماكير دواء قويا بالدرجة الكافية ليغير المسار تغييرا بارزا فيما يتعلق بمستويات الأمراض، فهو على يقين من أن أنجع الطرق لتغيير القيم السياسية من المحافظة إلى اللبرالية هي الرعاية الصحية والتدخل الطبي وتحسين مياه الشرب والمرافق الصحية. "وهذه هي النتيجة التي تدعمها أغلب الأدلة العلمية. إذا تم تقليل أخطار المرض في بلد فإنه يصبح لبراليا، وهذا ينطبق على الولايات داخل هذا البلد. مغزى هذا أنه لو تم استهداف المرض المعدي استهدافا فعالا، فقد تمت لبرلة الناس [أي تحريرهم]".
في الوقت نفسه، وخارج حدود الولايات المتحدة، قد تمثل السنوات القادمة اختبارا مختلفا كل الاختلاف لنظرية الضغط المرضي. فمن المتوقع في ظل تغير المناخ وارتفاع الحرارة ومنسوب سطح البحر أن تنتشر أمراضا استوائية في دوائر عرض أعلى خلال العقود القادمة. والأمراض التي كانت قد هلكت في المناطق ذات المناخات الباردة والأراضي الجافة قد تجد مناطق لطيفة جديدة ذات حرارة ورطوبة ومستضيفين جدد من البشر. من المتوقع أن تنتشر حالات حمى الضنك ـ في الولايات المتحدة على سبيل المثال ـ خارج هاواي والمنطقة الحدودية مع المكسيك مع تغير المناخ الذي يوفر مواطن جديدة للبعوض حامل الفيروس. وما لم ينجح التدخل الصحي الفعال في رد الأخطار المرضية الجديدة، فقد يلوذ أهل دوائر العرض العليا بدفعاتهم الثقافية والسيكولوجية الكامنة. وترجع سلوكيات الجماعات من جديد إلى صدارة المسرح.

نشرت هذه المادة في عدد مارس/ابريل 2014 من "باسيفيك ستاندرد ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق