أخلاقيات الاختيار
ديبورا ستنون
عندما كنت في الصف
السابع، مرغمة أن أقطع كل يوم على قدميّ ما كان يبدو لي ميلا طويلا إلى المدرسة،
كنت أختار في بعض الأحيان حصاة من الطريق وأظل أركلها لمسافات تلو مسافات، لا لشيء
سوى التسلية. ثم إنني كنت في نقطة من الطريق أتعب من اللعبة، فأترك الحصاة. ولكن
ذلك لم يكن يحدث إلا وقد استوعبتها في قلبي. فأمشي بعد ذلك وأنا أسأل نفسي عما لو
كنت أقصيت الحصاة عن وطنها وتركتها وحيدة وسط الأغراب، أم أدخلت المغامرة على
وجودها الحجري الممل؟ ومع أنني كنت لا أني أذكّر نفسي أنها حصاة لا أكثر أو أقل،
كانت كل حصاة تصبغ ذاتي المراهقة بأمل أن أكون قادرة على إحداث فارق في حياة أحد،
كما تصبغها في الوقت نفسه بقوة قدرتي على الاعتباط. وإنني متأكدة أن تلك كانت
بداية احترافي جمع الحصى.
لا أكاد أجد نفسي في
موضع به حصى إلا وأنطلق في الجمع لا أقاوم. في نزهات الصيف أجمع من قيعان الأنهار
كلما توقفت لأستحم في أحدها، ومن المدقات الجبلية وإن كان معنى الجمع هو ارتقاء
الجبل ونزوله بالحصى. أجمع الحصى تذكارا من الأماكن الأجنبية، ومن الماضي نفسه.
وعلى الرغم من كل
جمعي للحصى لا أرى أنني في عداد المقتنين. ذلك أنني لا تستبد بي الرغبة إلى امتلاك
العينات النادرة، أو تكوين مجموعة كاملة، أو إضافة حصاة بعينها إلى قائمة عمري.
كما أنني لا أصنف ولا أثبت ملصقات ولا أسجل لقياتي. بل ولست أحتفظ بها إلى الأبد.
كل ما هنالك أنني أجمع للذة الجمع. وفي كتابها "عالِم الطبيعة ذو النظر القصير"
تقول "آن زوينجر" إنها حنيما تلتقط من الشاطئ بضع حصوات تكون ساعية إلى
"كمال" الحصاة. أما أنا فلا أسعى إلى الحصاة الكاملة تلك. بل عن الحصوات
الجيدة وفقط. ولكنه بدوره مسعى بعيد المنال، فلكي أبلغ الجودة علي أن أستمر في
السعي.
غالبا ما تبدأ عملية
انتخابي بطريقة واحدة. أجد نفسي أمام وفرة، وقبل أن أنتهي إلى الاستسلام للتنوع،
ألاحظ شيئا ما مميزا في صخور هذا المكان. وغالبا ما يكون هذا التميز لونيا.
فعلى قمة جبل سالي بـ
جاكمان بولاية مين، يبرز الجرانيت الوردي في النهار المشمس. وعلى حافة نهر فورك في
آسبن بولاية كولورادو، يشدني الأحمر، أعني ذلك البني الداكن، ذلك اللون الرملي
الصخري الصحراوي الذي يكسو سفوح الجبال ويجعل النبت الباهت يبدو أشد خضرة مما كان
ليبدو عليه في عينين من نيوإنجلند كعيني.
قبل أن أسجل أي
الألوان هي التي سوف أعمد إلى تجاهلها، أحدد في ذهني شكلا أو قياسا، علاوة على اللون
الذي يقع عليه اختياري. في جبل سالي، تريعني قطع الجرانيت المقببة وهي تبدو وكأنها
تتشظى إلى شرائح، فأختار المستطيل الكامل، وكأنني لا أريد أن أعود إلى البيت بقطعة
من الجبل وحسب، بل بلحظة من الجيولوجيا. وفي آسبن، أقرر أن آخذ ملء يدي من حصوات
حمراء بيضاوية صغيرة ملساء، راجية أن أحمل فيها جوهر الصخور النهرية المدورة.
وبينما أنا جاثية أتمعن في الحصوات الحمراء، تنجذب عيناي إلى صخرة رمادية خشنة
فيها لمسات غنية من الفيروز. ليست لها علاقة بمجموعتي الحمراء المتنامية، ولكنها
تعجبني، وأريدها، أريدها لاختلافها ولتوهجها.
تعجبني الصخرة التي تجرؤ على التميز بقدر ما أحب المواطنين الصلاب الذين
يرسمون شخصية المكان.
ذات صيف، بعدما ذهبت
أنا وزوجي جيم إلى عطلة عند بحيرة شامبلان، أقمت فناء صغيرا من صخور الساحل
الرمادية، بالغة التميز بما فيها من خطوط بيضاء. لم يكن لدي من هذه الصخور غير قدر
بسيط لا يكفي لتغطية المكان، ففي المرة التالية لنا عند بحيرة شامبلان، جعلت جيم
مساعدا لي، فسألني "كيف تختارين؟ ما الذي يجعل صخرة ما مناسبة؟"
أردت أن أجيب بتعريف
"بوتر ستيوارت" للفحش ـ أعرفه حينما أراه ـ ولكنها إجابة ما كانت لتشرك
جيم وتبث فيه روح العمل، فضلا عن أنه أصاب سؤالا كان يؤرقني منذ وقت طويل. فعلا:
كيف أقرر أن صخرة معينة جديرة بأن تصاحبني إلى البيت؟ في وقت سابق من ذلك اليوم
كنت أقرأ كتاب "هذه البحيرة حية" لـ "آيمي ديمارسيت"، وهو
كتاب تعليمي يعرّف الأطفال بماهية حوض شامبلان. في أحد التمرينات تطلب ديمارست من
الطلبة أن يختاروا "عشر معلومات ممتازة" عن بحيرة تشامبلان. لا تطلب عشر
معلومات دقيقة، بل توضح أنها "معلومات جيدة حقا". وعندما طرح جيم سؤاله لم أكن أعرف ما الذي يجعل
صخرة أو معلومة جيدة، وإن كان يخالجني شك بأنها قوة واحدة، مهما تكن، هي التي وراء
جودة الصخرة أو المعلومة.
على ساحل شامبلان،
كنت مشدودة إلى الخطوط، ولكن كيف لي أن أشرح لأحد غيري أي الخطوط هو الجيد؟ تعجبني
بساطة الخط المفرد حينما يلتف حول الصخرة التفاف شريط على هدية. أحيانا يعجبني
التفاف خط أبيض على صخرة سوداء كما لو كان
نقشا على وسادة منتفخة. تعجبني الخطوط المتعددة، المتوازية في بعض الأحيان،
المتشعبة في بعضها، المتقاطعة في أخرى. وتعجبني بصفة خاصة العروق الثعبانية
البيضاء. تعجبني لما فيها من انطلاق ولما تبدو عليه من امتناع. وقد قرأت أن عروق
الكوارتس والكالسيوم تتكون من انصباب الماء في الشقوق والصدوع حاملا معه الترسيبات
المعدنية، وهكذا تكون الشقوق قوالب حاوية للأشرطة، ولكن ما لا يزال يحيرني هو
النعومة والانسيابية التي تكون عليها صخرة ثلمة مشققة في النهاية.
في ذلك اليوم الذي
طولبت فيه بإعلان واضح لمعاييري، كشفت لجيم عن بعض الأفكار، ثم سارعت أؤكد أن له
امتياز اختيار ما يبدو له مثيرا للاهتمام، أو ما يروق له وحسب. وقلت إنه بما أن
الهدف هو إقامة فناء، فالصخور المسطحة تكون جيدة، ولكن القرار له في حدود هذا
المعيار. قلت "اعثر لي فقط على خطوط جيدة حقا".
ثم انحنيت وشرعت على
الفور أصدر الحكم بالجودة، متبعة نهجي المعتاد: الاستسلام للنزوة، والاعتباطية،
وعدم التفكير. ووقعت على صخرة بارعة الخطوط، متماوجتها، فقررت أن أبحث عن مثيلات.
وجدت واحدة ذات خطوط منحنية معقدة في جانبها العلوي، وفي السفلي سطح خشن حاد تمنيت
لو كان أملس مدورا. فكرت لوهلة أن أغض الطرف عن العيب ـ وهو عيب من صنعي أنا تماما
لو سمحتم لي ـ ولكنني في ذلك الوقت كنت قد نسيت تماما تواطؤي الشخصي على مسألة
الجودة والرداءة. ولست وحدي التي تميل إلى لوم الصخور لعجزها عن الالتزام
بمعاييري. فـ "اغلب الصخور تظهر جانبها الأفضل، تجعل وعدها بالكمال هو الأعلى
والأظهر، مخفية عيوبها في الرمل"، هكذا تكتب زوينجر متذمرة من الحصى، وكأن
الحصى يتعمد الخداع.
أحيانا تكون حالتي
المزاجية ميالة إلى الغفران فأسمح للعيب بالمرور، أو أرحب بالحجر المعيب وسط
مجموعتي لتميزه على صعيد الخطوط تميزا يجعل تلك العنق التي تنال منه على صعيد
الشكل شيئا عديم القيمة. وقد أعمد إلى توسيع معاييري فأجد ميزة فيما أسميه الآن بـ
"الشخصية". وبنقرة على زر ذهني، أجعل الشذوذ معيارا للجودة.
في أوقات أخرى يكون
لي قلب لا يعرف الرحمة فأقرر استبعاد عينة. آسفة يا أختي، أنت لا تصلحين لي. وإذ
ذاك، حينما أستغني عن حجر انتقيته، وقلبته بين أصابعي، وقدرت مزاياه، يؤنبني
ضميري. أتساءل عما لو كان يشعر أنه مرفوض. لا أقول إنني أعتقد بأن الحجر يشعر، لكن
هل أكون بثثت في الكون مويجة رفض صغيرة؟ في تلك اللحظات أشعر أن جمع الحصى عمل أخلاقي.
في "الروابط
الأسرية: التبني وسياسات الأبوة" تكتب إليزابث بارتلَت عن تبنيها لابنها
كرستوفر. بعد سنين من الألم والبحث، تجد نفسها أخيرا في شقة في ليما ومحامي التبني
يسلمها الولد الذي انتقاه لها النظام بطريقة أو بأخرى.
في عالم التبني،
يتجنب النظام السماح للآباء بانتقاء الأطفال بأنفسهم، برغم أن توزيع الأطفال عبر
عملية التبني ذات الإجراءات الطويلة المنهكة يتبع نفس تفضيلات الآباء، إذ تختار العملية
بناء على العرق والجنسية والنوع والعمر والحالة الصحية. وبارتلَت، استاذ القانون
في هارفرد، ليست بالتي توقع عقدا وهي مغمضة، وقد جعلت محاميها يفهم أنها تريد أن
ترى أكثر من طفل. وتوضح لقرائها "أنا لا أحب مسألة اختيار الطفل، ولكن إذا
كان الاختيار متاحا، فإنني أريد أن يكون متاحا لي أنا". خلال المكالمة
الهاتفية الأولى بشأن تسليم هذا الصبي، عندما عرض المحامي عليها أن
"تمسك" طفلا يبلغ من العمر عدة شهور ـ هو الطفل الذي تم تسليمه لها في
الشقة ـ أفضت بارتلَت إليه برغبتها في طفل حديث الولادة. فعرض عليها المحامي فورا
اختيار طفل ذكر يولد في غداة ذلك اليوم. غير أن بارتلَت ـ وهي إذ ذاك في ليما ـ
تقول بوضوح إنها تريد رؤية الطفل حديث الولادة أولا.
عند قرابة منتصف
الليل، تدعى بارتلت وبين يديها طفل إلى تناول فنجان قهوة في شقة أخرى وكأنها في
زيارة اجتماعية عادية.
"يأخذ شخص الطفل
من يدي ويذهب به إلى غرفة، ثم يظهر من جديد ومعه الطفل حديث الولادة في بطانية
ويضعه في حجري. أجلس ناظرة إلى وجه الطفل الصغير النائم الذي ولد بعيد اتصالي من
كمبردج. لا عناء في الاختيار. طفلي هو الطفل الأول، برغم أنني لم أدرك ذلك حتى هذه
اللحظة".
تفكر بارتلت في تبني
الطفلين ثم لا تستصوب الفكرة. ولكنها مع ذلك غير قادرة على رد الطفل الثاني. "كيف
يفكر أحد في رد إنسان دون أن يبدو وكأنه سلعة تعاد؟ كيف يرد أحد طفلا دون أن يشعر
أنه رفضه، وكيف لأحد أن يرفض مخلوقا عديم الحيلة يرقد بين ذراعيه واثقا؟"
تقف، وتمد يدها لكي يؤخذ الطفل منها. "وتسيل دموع على خدي وهم يأخذونه".
في لحظة الاختيار تلك، عرفت بهجة الارتباط بطفل وألم التخلي عنه. وتعلمت أن
الاختيار ـ وهو البديل الأمريكي الحديث لفكرة الحرية ـ يمكن أن يكون قاتلا بقدر ما
يمكن أن يكون محررا.
أعتقد أن هذا هو
السبب الذي يجعلني إلى الآن أجمع الحصى وأرجع به إلى البيت. فهو تمرين فيه نفع
للروح، فيه إحماء وتأهيل للمسئوليات الجسام التي يواجهها المرء كلما تحتم عليه أن
يختار بين الناس لا بين الحصى.
لكن ذلك ليس السبب
الوحيد، فأنا أجمع الحصى أيضا لأدرب ملكة التصنيف. فأنا نادرا ما آخذ حصاة واحدة
فقط، لأنني أكون بحاجة إلى العديد من الحصوات لملء فئة ذهنية كاملة أصممها دونما
وعي أثناء قيامي بعملية الجمع. فبدون التعدد لا يمكن أن يوجد التماثل، ولا استعراض
الميزة الأصلية التي انتخبت على أساسها (الخطوط). ولا يمكن أيضا أن يوجد الاختلاف.
وبدون التعدد لا يمكن أن توجد الفئات المتعارضة، ففئة مخططة البطن وفئة مخططة
الحافة مثلا، أو فئة متماوجة الخطوط وفئة مستقيمة الخطوط. ذلك أن فكرتي عن الكمال
تقوم على مجموعة صخور، لا على عينة وحيدة معزولة لا أمل لها في التميز، بل هي
كاملة إلى حد أنها لا تشترك في أي شيء مع غيرها.
ولعبة الاختيار مع
ذلك ليست مريحة. فأنا أبعد ما أكون عن التجرد. ولا أكف عن إصدار الأحكام،
والمحاباة، والإقصاء. وطيش قراراتي يجعل عقلي يجفل. فأنا في لحظة أستطيب التنوع،
ثم في التالية لها أضيّق رؤيتي على نوع واحد، ثم على نوع من داخل النوع.
***
كانت "جين
إليوت" تقوم بالتدريس في مدرسة ابتدائية في رايسفيل بولاية أيوا عند اغتيال
مارتن لوثر كنج الابن. ولم يكن تلاميذها البيض
قد رأوا في حياتهم شخصا أسود لكنهم كلموا معلمتهم عن قناعتهم بأن السود
ينتمون إلى فئة من البشر غير التي ينتمي إليها البيض. فللسود رائحة منفرة، وهم
قذرون، وكذابون، وخطرون.
اخترعت إليوت تجربة
اشتهرت الآن لتبين لطلبتها عمليا كيف يكون الإحساس بالتمييز والتفرقة. قالت لهم إن
ذوي العيون الزرقاء أدنى من ذوي العيون البنية، وإنهم أغبياء، وكسالى، وغير جديرين
بالثقة. وغيرت في قواعد الفصل بحث تمنح ذوي العيون البنية مزايا وحقوقا خاصة، ثم
إنها لم توجه أي تعليمات لمجموعتي الطلبة بشأن التعامل مع بعضهم البعض. وفي غضون
ساعتين، أفرز الطلبة العنصرية بكل ما فيها من قبح. وإذا بزرق العيون الذين كانوا
من قبل منطلقين واثقين في أنفسهم يبدون مرتاعين، انطوائيين، عاجزين عن القيام
بالمهام المدرسية التي كانوا قبل يوم واحد يبرعون في القيام بها. في حين تفوق
الأطفال ذوو العيون البنية لا في القراءة والحساب فقط، بل وفي التسيد على أترابهم
زرق العيون. مضوا يعربدون مستمتعين بوضعيتهم الجديدة، ويهزأون بالفئة التي
اكتشفوها حديثا من البشر الأدنى، ويستخفون بهم ويحتقرونهم. وازداد زرق العيون حزنا
وفقدانا للثقة في أنفسهم بينما امتلأ بنيو العيون زهوا وثقة.
بتلك التجربة تبدلت
حياة إليوت. طردت تقريبا من البلدة باعتبارها "محبة للزنوج"، وتعرض
أولادها للتهديد، والبصقات، وقوطع متجر زوجها. غير أنها بقيت تكرر التجربة مع كل
فصل جديد وتشن حربا صليبية ضد العنصرية بنقلها التجربة إلى الشارع وعرضها على شاشة
التليفزيون الوطني. عانت أمرّ المعاناة والانتهاك بسبب عملها هذا، ولكنها كانت
مدفوعة إليه اندفاع حجر يتدحرج على سفح.
رأت إليوت الدافع إلى
التمييز والسيطرة ماثلا تحت السطح ينتظر أن تسنح له أدنى فرصة فيعبر عن نفسه. كانت
تشاهد في فزع أن كلامها المهين لزرق العيون يشق صدعا رهيفا يودع من خلاله الأطفال
جزيئات خوفهم وكراهيتهم. كانت تشاهد تلك المقادير الصغيرة إذ تصلب وتقسو، فتجعل من
الشق الرهيف صدعا وهوة. ويحسب لإليوت أنها لم تفسر العملية باعتبار أن ذلك سمة
كامنة وأصيلة في الطبيعة البشرية. فقد اعتبرتها مكتسبة وكرست نفسها لمحو هذه
العنصرية المكتسبة.
لكن هل يحتمل أن تكون
إليوت مخطئة؟ بحسب العلم المعرفي الجديد، فإن التطور قام بتصميم أمخاخنا بحيث يكون
لها رد فعل على كل استقبال حسي جديد من خلال تمييز واحد: هل الموقف ينطوي على خطر
أم لا؟ ومثلما يوضح "دانيال جولمان" في "الذكاء العاطفي" فإن
الدائرة الأساسية في قدرتنا على التفكير تكون في الجزء الأشد بدائية من أجزاء مخنا
عبارة عن محول ثنائي. يجعلنا هذا المحول نفرق: سام أم قابل للأكل؟ مفترس أم فريسة؟
جيد أم رديء؟ ولقد استطعنا، خلافا للحيوانات الأدنى، أن نكوّن في أنفسنا قوى
معرفية أعلى وقدرة على التقمص، ولكننا لا نزال نصل إلى هذه الأنماط التفكيرية
والشعورية الأكثر دقة مبتدئين من الأحكام الأخلاقية الأشد بدائية: خطير ورديء أم
آمن وجيد. ومن ثم فقد يكون التمييز في واقع الأمر عنصرا من عناصر الطبيعة البشرية؟
فهل لهذا السبب أتحرك وأنا أجمع الحصى ـ يا إلهي! ـ من المتماثل/المختلف إلى
الجيد/الرديء لكي أجمع/أطرح؟ ألهذا يصعب فعلا السمح لصخرة أن تكون نفسها بأي طريقة
صخرية يتصادف أن تتأتى لها؟
إن الاضطرار إلى
التمييز والتقسيم يقع في القلب من الدراسة الطبيعية. فالمهارة الجوهرية لدى علماء الطبيعية
تسمى النمذجة keying: عينة
في يد، دليل التصنيف في يد أخرى، والعلماء يسمون عيناتهم من خلال ملاحظة بعض
السمات وتجاهل البعض، ومقارنتها مع النموذج Key، تقدما
وتأخرا، تماثلا واختلافا. ومن هنالك لا يعدو الأمر مسألة توزيع: توزيع اسم على
علينة، وعينة على مجموعة. وليس علماء الطبيعة وحدهم هم المشدودون إلى النموذج.
فأدلة التصنيف الميداني شائعة بين جميع كتب الطبيعة. فما السبب في هذا الدافع إلى
النمذجة؟ تكتب زويجر ـ وهي المتحمسة إلى جمع الحشرات أكثر من جمع الحصى ـ أنها
حينما تنجح أخيرا في نمذجة حشرة تشعر كما لو أنها استطاعت أن تضع "قطعة أخرة
من المكعبات في اللغز الكبير المكون للزمان وللمكان".
ننزعج كلما ندخل أفقا
جديدا من الناس أو الأماكن بسبب اتساعه وانعدام الألفة معه. لا نعرف كيف ننسجم
فيه. لا نستطيع أن نرتبط بكتلته الكبيرة المتجانسة. لعلنا نقارن ونختار أن نهيئ
أنفسنا مع اللغز المحيط ونعتبر أنفسنا في بيتنا. نبعث شحنة عقلية ونشكل وحدة صغيرة
مع جزء من هذا الشسوع، مثلما يحدث حينما ندخل حفلة فنستعرض القاعة بحثا عن شخص
نعرفه ويمكن أن نتكلم معه. وفي ضربة من ضربات التصنيف نعرّف أنفسنا والآخرين
بوصفنا أعضاء مجتمع آمن.
ومع ذلك فإن ما يزال
مستغلقا على فهمي هو السلطة التي تسيطر بها قدرتنا التصنيفية علينا. فنحن الذين
نضع القواعد من العدم تقريبا، ويكون ثاني ما نعرفه عن هذه القواعد هو أنها صحيحة.
وننفذها بإخلاص، وكأنما تقوم عليها حياتنا.
وذلك في نهاية المطاف
هو السبب في أنني لا أزال آمل في الجنس البشري برغم كل النتائج التي يتوصل إليها
العلم التطوري القائل بأننا لا نزال أسرى أمخاخنا البدائية. لعل أمخاخنا منتجات
للانتخاب الطبيعي. لعلنا نفكر بالطريقة التي نفكر بها لأن هذه الأنماط التفكيرة هي
التي تبقينا وتقوينا. لعل البيئة هي الني انتخبتنا ولعلنا، أوه لا، لعلنا لسنا
سادة الكون.
لكن خلافا للبيئة
التي لا تعرف مثقال ذرة عمن أو عما تنتخبه، خلافا للصدع الذي يجهل إن كان ما يمتلئ
به كوارتس أم كالسيوم، بوسعنا نحن البشر أن نعرف أننا مؤلَّفون من الفئات التي نصب
فيها بعضنا البعض صب المعدن المذاب في القوالب. ولأن بوسعنا أن نشعر بقوانا
الإبداعية ونحن نقسم ونصنف، فبوسعنا، أيضا، أن نتعالى على التصنيفات. بوسع محامية من كمبردج أن تبكي طفلا من البيرو.
وبوسع معلمة أن تصلح فسادا في عملية تصنيفية. وبوسعي أنا أن أتألم من أجل صخرة.
نشرت المقالة اصلا في
عدد مايو يونيو 2013 من بوسطن ريفيو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق