تحرير قصص أليس مونرو
ديبورا تريسمان
في بعض الأحيان يكون تحرير قصص
"اليس مونرو" درسا في الإحساس بالاقتحام. ففي الوقت الذي أكون فيه مستعدة
لإخبارها بأن الفقرة الأخيرة ليست في مكانها، أراها قد أرسلت لي فاكس بنهاية
جديدة، وفيما أضع علامة على الصفحة الخامسة، لأبين أن ثمة ما ليس في موضعه الصحيح،
إذا بها تتصل لتقول إنها وضعت في البريد الإلكتروني صفحة خامسة جديدة. وأحيانا
وأنا أقرأ الصفحة العاشرة أجد فقرة تبدو خروجا لا لزوم له فأكشطها، ثم لا أصل إلى
الصفحة الثانية والثلاثين إلا وأفهم لماذا هذه الفقرة مهمة أهمية مطلقة في القصة
فأنكص على عقبيّ. وفيما نحن نستعرض البروفات على الهاتف، ترمي أليس كل صفحة ننتهي
من مناقشتها على الأرض. ومن ثم يكون الرجوع إلى مشهد سابق أمرا يتطلب ما يشبه
الكنس. تقول "سأضع الهاتف قليلا". ولكن العملية برمتها تكون مثيرة،
وتمثل استثمارا عميقا للقصة التي تكون بين أيدينا. وفي كل مرة ترفض فيها تدخلا
مني، فإنني أرى دائما، ودائما بالفعل، وبعد مرور بعض الوقت، أن ذلك بحق ما كان
ينبغي القيام به. (وإنني أكتب في الزمن المضارع، على الرغم من اعتزال ووكر
الكتابة، لأن الأمل لا ينبغي أن ينقطع. فقد حاولت مرة من قبل أن تتوقف عن الكتابة
ثم وجدت نفسها بطريقة ما قد كتبت مجموعة أخرى).
نادرا ما تبين أليس غرضا أدبيا أو
فلسفيا محددا لأي قصة، وهي في أغلب الحالات تتكلم عن دوافع الشخصيات أكثر مما
تتكلم عن أي بنيان سردي. تقدم قصصها بالطبع آفاقا معينة ـ هي بصفة عامة الأماكن التي
عاشت فيها في أونتاريو وكولمبيا البريطانية ـ وفترات زمنية معينة ، هي التي عاشتها
في حياتها. وتلتقط القصص تفاصيل من حياتها، برغم أن العناصر السيرية تكون في
العادة عاطفية أكثر منها تاريخية، باستثناء بعض القصص القليلة التي تقدم بورتريهات
مباشرة من الذاكرة لأبويها. وثمة موتيفات متواترة: التزمت الثقافي والاجتماعي في
ريف كندا في زمان شبابها، الأمومة المبكرة، الحب، الزنا، الخيانة، الموت المبكر،
فقدان الابن، التقدم في السن. ولكن قصصها ليست واضحة الثيمات. وإحساس يقول لي إنها
تستشعر طريقها في ثنايا السرد نفسه، بدلا من أن تكون قد انتهت مسبقا من التفكير،
بحيث أن أي خطة تكون لديها هي خطة حدسية أو غريزية، تستجيب لشخصياتها إذ تستجيب
هذه الشخصيات لما ترمي بها أتونه. في الوقت نفسه، هناك حسابات في أعمالها:
فالمعلومات والمشاعر تكون مقنعة بحذر أو هي مكبوحة، وهناك مفاجآت في الحبكة يستحيل
توقعها ولكنها تأتي فتبدو محتومة بصورة مطلقة.
أليس واحدة من قلة قليلة من الكتاب
العظماء الذين وفووا طول عمرهم لقالب القصة القصيرة. ولكن ما يمكن أن نتذكره من
أعمالها بأكبر قدر من الوضوح لا يكون قصصا مكتملة بقدر ما يكون لحظات، لحظات عابرة
مارقة هي المفاصل التي يقوم عليها السرد كله. تلك الفقرة في قصة
"البعد"، لا التي يقتل فيها الأب أطفاله، بل التي يكتب فيها لأمهم بعد ذلك،
من السجن:
إذن، أقول فقط: إنني رأيت الأطفال.
رأيتهم وتكلمت معهم. عندك! فيم تفكرين في هذه اللحظة؟ تقولين لنفسك، خلاص، لقد جن
جنونه. أو، هو حلم، ولكنه غير قادر على تمييز أنه حلم، لا يعرف الفرق بين الحلم
والصحو. لكن أريد أن أقول لك إنني أعرف تماما الفرق وما أعرفه هو أنهم موجودون.
أقول إنهم موجودون. لا أقول أحياء، لأن الحياة لا وجود لها إلا في البعد المعين
الذي نعيش فيه. وأنا لا أقول إنهم ها هنا موجودون. بل إنني أعرف، كحقيقة، أنهم
ليسوا كذلك. ولكنهم موجودون فعلا ولا بد أن يكون هناك بعد آخر أو ربما ما لا عدد
له من الأبعاد، ولكنني أعرف أنني على اتصال بالبعد الذي هم فيه أيا ما يكون. محتمل
أنني اكتسبت هذا من فرط بقائي وحدي واضطراري إلى التفكير والتفكير. وبعد كل هذه
المعاناة والعزلة رأى رحمن ما هذه الوسيلة لمواساتي والتخفيف عني فجازاني بها. أنا
أجدر الناس بها، واقلهم جدارة بها وفقا لتفكير العالم.
أو تلك اللحظة في "الحصى"،
عندما تقوم شقيقة البنت الصغيرة بإلقاء كلبتهما في البحيرة ثم تهرع لـ "إنقاذها"
فتغرق:
في دماغي أراها تمسك بليتزي وتلقي
بها بينما تحاول بليتزي التشبث في معطفها. وتتراجع، تتراجع كارو ثم تجري باتجاه
الماء. تجري، تثب، تقذف نفسها فجأة في الماء. ولكنني لا أستطيع أن أستحضر صوت
الماء إذ تقفزان الواحدة تلو الأخرى وترتطمان به. لا خافتا ولا مدويا. لعلي لحظتها
كنت التفت إلى المقطورة.
عندما أحلم بهذا، أكون في الحلم
دائما أجري. وفي احلامي لا يكون الجري باتجاه المقطورة بل رجوعا إلى ساحة الحصى.
يكون بوسعي أن أرى بليتزي تتخبط وكارو تسبح باتجاهها، تسبح بقوة، في الطريق إلى
إنقاذها. أرى معطفها البني الفاتح، ووشاحها الكاروهات، ووجهها الناجح العزيز
وشعرها المحمر الداكن عند أطرافه بسبب الماء. لا يكون عليّ إلا أن أشاهد وأفرح ـ
غير مطالبة بأي شيء على الإطلاق.
مثل هذه اللحظات لا تأتي في نهايات
القصص عادة، ولا في الذروة في المنتصف. تأتي عند ثلثي القصة، أو عند ثلاثة
أرباعها. نكون أخذنا من القصة ما يكفي لنستقر عليه، تكون الأحداث وقعت، والعلاقات
تكونت أو تفككت، ومن مات مات، أو شاخ، وتبقى خطوة، الخطوة المونروفية، التي تنتقل
بالقصة فجأة إلى مكان جديد. وعندئذ، وبدلا من أن تتركنا هناك، مذهولين من النقلة،
وهو ما قد يفعله كاتب أقل، تحملنا أليس برقة إلى الأمام، من خلال الكشف، من خلال
المفاجأة أو الزلزلة، إلى نوع من الفهم، نوع من القبول، الباعث على البهجة أو
الحزن. لا يوجد ما هو محكم الإغلاق، إنما هو طريق يتاح لنا في البرية. فنحن لا
نقرأ قصص أليس بقدر ما نعيشها: قد تكون مرهقة وموهنة، قد تتركنا ضعافا، وقد أرهفت
حواسنا، قد تتركنا شبعانين، أو مستثارين. لكن أدعى أسباب الحزن أنها تتركنا.
والمجد للجنة نوبل أن قامت بدورها في إرجاع هذه القصص إلينا.
نيويوركر
نشرت صباح اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق