الجمعة، 16 نوفمبر 2012

من قصص الغرباء



من قصص الغرباء
أليسن باكوس تروي

كنت على متن طائرة متجهة إلى ديترويت، وكذلك هي. معطفها الثقيل يسقط على حجري، معبأ برائحة التبغ حتى ليشعرني أن رأسي تعوم. تدفع بالمعطف أسفل مقعدها، وشعرها الرمادي الكثيف يحتك بذراعي وهي تجلس.
تقول لي وهي تزيح شعرها عن عينيها "أنا ديان، وأنا فعلا كنت في انتظار هذه الرحلة".
أوافقها الرأي، معلنة ذلك بصوت علا مني فجأة. فلعل السبب هو الصداع النصفي الذي أعاني منه أو الدوار الذي ينال مني في كل رحلة طيران أقوم بها. أو لعل شيئا بداخلي يفهم حركات ديان، وطريقتها في الهمهمة لنفسها، وفي الضحك، وعدم استقرارها في مقعدها الذي يتطلب مني ردود أفعال.
في البداية، ليس مطلوبا مني إلا أن أنصت. تحكي لي ديان أنها في طريقها إلى نيويورك لزيارة ابنتها وحفيدها الذي ولد مؤخرا.
تقول إن ابنتها "تزوجت في محكمة العدل والسلام، ولم أحضر الزواج لأنها [أي ابنتها] قالت إنه ليس شيئا ذا بال. ليس شيئا ذا بال؟ إنها ابنتي بحق الرب".
القصة، مثلما استشعرتها مسبقا، تفيض عليَّ لمدة ساعتين، انحرافات حبكتها ملتوية، والكلمات التي تستخدمها هذه الغريبة غير مفهومة في بعض الأحيان فلا سبيل إلى تبينها إلا بأن أسأل كل بضع لحظات "ماذا تقولين؟"، بينما يدور رأسي وأنا أحاول أن أفهم كيف لحياة ديان كما تحكيها لي أن تكون حياة متماسكة أصلا.
الأمر على النحو التالي، أو هو شبيه بما يلي:
زوجها مؤلف لموسيقى البوب، وهو حاليا نائم في دار للرعاية في شمالي نيويورك، قدماه تحطمتا تقريبا في حادث مروري فلم يعد بوسعه أن يتحرك. هو أصغر من ديان بعشر سنوات، ولكن ذلك لم يمنعها من الزواج به، بمجرد أن سمعت موسيقاه.
تقول "كانت جميلة. كلها جميلة. وهو عبقري، ولكن هؤلاء القراصنة سرقوا كل ما قام بتأليفه".
"القراصنة" هم النجوم الكبار: مايكل جاكسن، وستيف وندر، سنتانا، كونسي جونز. حيتان الموسيقى الذين كانوا بطريقة أو بأخرى يستولون على مقطع من موسيقاه أو بيت من تأليفه وينسبونه إلى أنفسهم.
لم تكن ثمة موسيقى مكتوبة، إنما هي العبقرية في أصابع زوجها، وأشرطة الكاسيت التي تحتوي التسجيلات الأصلية والتي تحطمت في حادثة السير التي حطمت ساقي زوجها وتركتهم أشد فقرا مما كانوا من قبل.
تقول ديان إنه "لم يهتم يوما بتلك التسجيلات"، تقولها وهي تكبش بيدها حفنة من المقرمشات المقدمة لنا. "لقد باع لي حقوق مجموعة من العلك واليويو، وأنا قمت بتسجيلها جميعا في كتاب، سجلت جميع المعلومات، وبذلك يتسنى لنا أن نسترد ما سرق منا، كله، كله".
المشكلة الوحيدة ـ بحسب ما تقول ديان ـ هي أنها ارتكبت نفس الغلطة التي وقع فيها زوجها، فالنسخة الوحيدة من كتابها تقع الآن بين يدي [النجم التليفزيوني] ديفيد ليرتمان الذي ترجو أن تقابله في نيويورك، إذا رد على اتصالها".
تقول "لا أزال أحاول" وتفرز المقرمشات في راحة يدها. "ولكن لا أحد يرد على الهاتف. لعله يظن أنني مجنونة. ألا تظنين هذا؟"
البلادة الكامنة وراء سؤالها هذا تخترقني مباشرة لتصل إلى عظام طفولتي، إلى أبي وأمي، وهما جالسان قرب الباب الشبكي، والشمس تجعل وجهيهما ظلين، يجلسان يشاهدان الغيوم، ويتأملان المنطق الذي على أساسه اختارا كل شيء، جالسين جلسة تجعل مني أب الاعتراف لكليهما، يجعلان مني الأداة التي بها تصير خطاياهما بددا.
"ألا ترين هذا يا أليسن؟ ألا ترين أننا نستحق حياة أفضل؟ ألا ترين أننا لو كنا تعلمنا كيف نحب بعضنا البعض لما كنا الآن في هذا الهم الذي نحن فيه؟"
تلك هي الأسئلة التي كنت أسمعها وإن لم يطرحها علي أبواي مباشرة. أما ديان فتنظر إليّ مباشرة، ولا أملك إلا أن أستمر في الإنصات، وعلى شفتيها خرزات من اللعاب، وعيناها الزرقاوان غائمتان.
تقول "أتعرفين؟ لقد كان لصا هو نفسه مثلما كان أولئك الموسيقيون لصوصا. وكان يقول لي دائما إن الرب يعاقبني لأنني لم أكن مؤمنة به، على الرغم من أنني أومن به. ولكن كيف يمكنك أن تحبي رجلا يخدعك مرتين. ألا ترين أن هذا أمر مستحيل؟".
قبل أن يتسنى لي قول أي شيء، تبدأ ديان في السعال وقد انحشرت إحدى المقرمشات في زورها، ويهتز جسمها كله بسبب نقص الهواء. أتساءل إن كان ينبغي عليَّ أن أتحرك لمساعدتها على التخلص من اختناقها. أحملق فيها وأنا عاجزة عن القيام بأي شيء، وقد شلني احتياجها الواضح عن التصرف، أو تقييم وضعها، أو حتى التحرك.
غير أنني ألتقط من وسط سعالها كلمات صلاة يسوع "سيدنا يسوع المسيح، يا ابن الإله الحي، أنزل علي رحمتك"، أحسست بالكلمات في أذني، أحسست بالصلاة نفسها تنصب بداخلي، صلاة بداخلي لها، وبعد لحظة ترفع عينيها إلي، وهي تلهث، وتمد يدها لتناول الكوكا.
 تقول "جميل أنني استعدت تنفسي" وأطرق أنا موافقة إياها على هذه الحقيقة:
جميل فعلا يا ديان أن يعود إليك التنفس، جميل يا ديان أن تكون هناك حياة، جميلة أن تتاح للمرأة فرصة للحب برغم كل ما راح منها.
تقول لي "لن أنسى هذا. لن أنسى هذا الحوار". وتلبس معطفها، وتولي وجهها باتجاه النافذة، إلى السحب إذ تقيم تلالها ووديانها من حولنا.
تلتفت ناحيتي مبتسمة. تسألني "أليست جميلة؟". وتسألني وهي تشبك يديها "أليس جميلا أن يكون لدينا كل هذا الجمال نراه؟"


كاتبة المقال أستاذة في كويبر كوليدج في ميشيجن، ومحررة الكتابة الإبداعية في "ذي أذر جورنال"
نشرت الترجمة صباح اليوم السادس عشر من نوفمبر 2012 في ملحق مرايا الذي يصدر مع جريدة عمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق