الأحد، 10 يونيو 2012

الصداع الدائم ما عرفه آدم سميث عن التفاوت في الدخول


الصداع الدائم
ما عرفه آدم سميث عن التفاوت في الدخول
جون بول روليه

قرب نهاية سيرته الذاتية المهمة التي تناولت تجربته في العمل كبائع للسندات في شركة الأخوين سولومن في أواخر ثمانينيات القرن الماضي (صدرت هذه السيرة بعنوان" Liar’s Poker")، يصف "مايكل لويس" أرجوحة البهجة التي وجد نفسه يركبها بحصوله على مكافأته السنوية الأولى التي بلغت بالإضافة إلى راتبه تسعين ألف دولار، فكان ذلك أكثر من دخل أي شاب في السادسة والعشرين من العمر، بل وأكثر من دخل أبيه حينما كان في مثل عمره، ومثل دخل أي مصرفي في السنة الأولى من التحاقه بالعمل. منتشيا يقول لويس لنفسه "ها، لقد أصبحت ثريا" ـ إلى أن تتعطل الأرجوحة. ويبدأ يفكر في كم الأموال التي حققها لشركة سولومون، وفي أن الآخرين من حوله يعودون إلى بيوتهم بأكثر مما يعود به هو. ولا ينقضي من الوقت الكثير قبل أن تتحول مكافأته إلى شوكة في الجنب بعد أن كانت تربيتة على الكتف. يقول إن "تسعين ألف دولار بمعايير نشاطنا الاقتصادي النقدي الاحتكاري كانت تشبه تماما أن يعيش شخص ما على الضمان الاجتماعي. شعرت أني مخدوع، وناقم، وأي شعور آخر كان يمكن أن يستولي عليَّ؟"
تعلم لويس أحد الدروس الأساسية في عالم الثروات وتكوين الثروات: تحقيق المرء للثراء وإحساس المرء بالثراء أمران متعارضان في الغالب. ففي غرفة مليئة بالأثرياء، هناك واحد فقط لا يشعر أنه فقير بالمقارنة بمن حوله.
هذا درس غالبا ما ينسى أثناء النقاش الدائر حول تفاوت الدخول. فكما أن الذين يحتلون قمة منحنى الدخول يرون أن الفقير هو من يبدو عليه الفقر المدقع، فالذين في قاع منحنى الدخل يرون أن الثري هو بالضرورة ريتشي ريتش  [شخصية كرتونية بدأت كـ "أغنى طفل في العالم"]. وهذا الخلط من كلا الجانبين هو الذي يخلق الضغينة، ويحجب ما يترتب على التفاوت من مشاعر، تتجاوز في مجتمع ثري مجرد الاحتياج المادي، إلى المرارة الناجمة عن وضع المرء النسبي.
آدم سميث فهم هذا. فقد رأى صاحب "ثروة الأمم" أن البشر كائنات يعنيها التقدير والطموح. كان سميث يؤمن أننا سواء كنا نتبادل النمائم أم نتبادل البضائع، نبحث طوال الوقت عن فرصة لاقتناص العالم من حولنا بغية أن نضمن  لأنفسنا الأمان وأن نحسن المكان الذي نحتله. ومقاييسنا لذلك ليست مقاييس نتخذها وفق مجموعة من المعايير المطلقة. بل إننا "نحن" مقاييس بعضنا البعض، ونحن الذين نكره ألا نكون في صدارة المقاييس.
أقصد من هذا إلى القول بأننا نريد أن ننال من التفاوت خير ما فيه، مهما يكن وضعنا الراهن. هذا بالنسبة لسميث يفسر الظاهرة ـ المحيرة للبعض، والمثيرة لغضب البعض، والواضحة للجميع ـ أعني ظاهرة أن من الناس من لديهم الكثير بالفعل، لكنهم شغوفون إلى أقصى حد بالحصول على المزيد. يقول سميث عن مالك الأرض الثري "إن المثل الشعبي السائر، القائل بأن العين أشد جوعا من البطن، لا يصدق على أحد مثلما يصدق عليه". ويضيف واصفا إياه بأن "سعة بطنه لا تتناسب بأية حال مع عظيم رغباته". العين ـ في هذا المقام ـ مرادف الخيال، والعين ـ خلافا للبطن ـ لا تحدها حدود. وها هنا تكمن أحلامنا، ولقد علم سميث أن حتى الأشد ثراء بين الملاك الأثرياء يبقى ذا نزوع دائم  إلى المزيد النمو، لا سيما حينما يصل هذا النمو إلى حافة التشبع.
من الناحية الاقتصادية، يمكن القول بأن العواقب الواسعة لعدم الاستقرار الذي نعيشه هي بصفة عامة عواقب مفيدة. فالرغبة في التقدم على الآخرين ترغم الناس على المزيد من العمل أكثر مما يرغمهم على ذلك الرغبة في مجرد تيسير أمور حياتهم. لكن في حين أن رغبة الاجتهاد هذه تفيد المجتمع، فإن الإفراط في بذل الجهد قد يبدو إهدارا. يقول سميث عن الرجل الثري حينما تشارف حياته على الانتهاء إنه "في قرارة نفسه يلعن الطموح، ويندم حينما لا ينفع الندم على راحة الشباب والكسل، والملذات التي ضاعت، والتي ضحى بها جميعا في حماقة بالغة حينما كانت ملك يمينه، وأن كل ذلك كان من شأنه أن يحقق له الرضا الحقيقي".
إن ما ضحى الثري من أجله هو التميز ـ هو أن لا يضطر إلا ملاحقة الناس، بل أن يرغمهم هم على ملاحقته. فالناس متنافسون تنافسا شديدا، وفي حين أن التهكم لم يصل بسميث إلى أن يتنبأ بما سيشتهر لاحقا عن "جور فيدال" حيث قال "كلما يحرز صديق نجاحا، فإن شيئا صغيرا بداخلي يموت"، إلا أنه لم يتخلف عنه كثيرا. ففضيلة المجتمع المزدهر ـ بالنسبة لسميث ـ تكمن في نقيصة بل رذيلة شائعة: هي الحسد. حيث نرى الآخرين يملكون، فنودُّ لو نملك نحن. ويكون حسدنا هذا حسدا قويما حين لا يدفع جهودنا ـ التي نبذلها من أجل الظفر لأنفسنا بما يملكه الآخرون بالفعل ـ في طريق السرقة أو السطو، بل يسير به في مجرى التبادل المشروع الذي يؤدي بمرور الزمن إلى تنامي ثروة الأمة.
هذه هي اليد الخفية الفاعلة، التي تحقق الوعد الاجتماعي الذي يعد به سميث. لكنه وعد لا تضمنه رغبة هي موضع شك أخلاقي طول الوقت. فالحسد ـ هذا الصداع الذي يتسبب فيه التفاوت ـ يحفز التاجر بمثل ما يحفز النشال سواء بسواء. كل منهما يسعى في طلب دوائه، والتحدي الذي يواجه سميث هو أن يقنعنا لماذا يوصف دواء واحد للجميع.
وليست هذه مهمة سهلة. فأنت إذ تطالب شخصا فقيرا قليل الحيلة بأن يسلم نفسه تسليما لنظام اقتصادي يعد بمكافأته بمرور الزمن من خلال عمل اليد الخفية، حسن، هذا يتطلب قدرا غير قليل من الإيمان. وقل ما شئت في السرقة، والنتيجة واضحة أمام أعيننا.
للتغلب على هذا، يطلب سميث من قرائه أن يتناسوا التفاوت الذي يألفونه ـ أي الذي يرونه بأعينهم كل يوم حين يرون بين أيدي الآخرين ما لا يملكون إلا الحلم بامتلاكه ـ وأن ينظروا بدلا من ذلك إلى التفاوت بين الأمم. يريد سميث أن يعرف السبب في أن من الأمم ما هو أثرى وأشد رخاء من غيرها، فهو يعتقد أن في هذه الفوارق مكمن مفاتيح النمو الاقتصادي.
هذه الاستراتيجية موجزة في نهاية الفصل الأول من "ثروة الأمم"، حيث يقطع سميث أشواطا بعيدة في وصف النظام التجاري المعقد الذي يوفر احتياجات "أشد الناس فقرا" في مجتمع متطور.
فبالمقارنة الفعلية مع رفاهية العظماء، سوف تبدو أسباب حياة هذا الرجل الأشد فقرا شديدة البساطة لا محالة، ومع ذلك فقد يكون حقيقيا أن اسباب حياة أمير أوربي قد لا تعلو بالضرورة في كثير من الأحيان عن أسباب حياة مزارع أو عامل، في حين أن اسباب حياة هذا العامل أو هذا المزارع قد تعلو كثيرا على أسباب حياة ملك في أفريقيا هو في الوقت نفسه حاكم مطلق على حيات وحريات الآلاف من الهمج العراة.
اغفروا لسميث هذا التنميط الفظ. فالمغزى الذي يريد الوصول إليه هو أن لا يجعل التفاوت الذي يتأمله المزارع هو التفاوت القائم بين شخصه والأمير الأوربي، بل بين شخصه والملك الأفريقي. فالأخير قد يستولي لنفسه دونما خوف على أي شيء يرغب فيه، ولكن الأمة التي يسودها هي من الأصل لا تقدم الكثير من الاختيارات. أما المزارع ـ في المقابل ـ يعيش في مجتمع حياة متواضعة الأسباب، يعيش فيه محدود السلطات والنفوذ، ولكنه بسبب الرخاء الأشمل والخيارات الاستهلاكية الأكثر يستمتع بحياة لا يحلم بها ملك أفريقي.
وبلغة أيامنا، يمكن القول إنه خير للمرء أن يكون فقيرا في المسيسيبي عن أن يكون ثريا في مقدشيو. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن بالمنطق نفسه، قد يكون خيرا لك أيضا أن تكون عاطلا في هولندا عن أن تكون من الطبقة العاملة في هارلم [بالولايات المتحدة]. ما يحاول سميث إثباته هو أن السواق الحرة توفر مستوى معيشة أفضل من الذي توفره الأنظمة الاقتصادية عالية المركزية. وهو لا يعرض للخيارات السياسية المتاحلة للبلد في تنظيم وتقعيد نظامها الرأسمالي لتوفر للفقراء والمعوزين أفضل وضع ممكن. الأدهى من ذلك أنه لا يناقش ما إذا كانت الثروة الإجمالية لأمة أو حتى دخلها المتوسط هو الكلمة النهائية في الوضع المعنوي للاتفاقات الاقتصادية. صحيح أن الرأسمالية أضمن وسيلة لتوفير الغذاء والكساء والمأوى للجميع، ولكنها في الوقت نفسه تعرضنا لمآسي الوفرة، تلك التي يصفها مايكل لويس، والتي تنال من كبريائنا أكثر مما تنال من أشخاصنا.
قد يذهب البعض إلى أن هذه المآسي بسيطة وغير جديرة بأن نأخذها مأخذ الجد، ولكن في الإعراض عنها بلادة لا فهما، ولامبالاة متعمدة بأهمية إحساس الفرد بالاعتزاز بذاته، وما لذلك من دور في دفع الاقتصاد وتشكيل الهوية الجمعية للأمة.
علينا أن نتحلى بالأمانة في مواجهة المفارقة  الجوهرية الكامنة في التنمية الاقتصادية، أعني مفارقة أنه كلما ازاد المجتمع ثراء، ازددنا نحن فقرا، أو إحساسا بالفقر. أو كما قال لمايكل لويس زميل له حينما اشتكر إليه شعوره بالإحباط "في هذه المهنة يا مايكل، أن لا تحقق الثراء. أنت تحقق مستويات جديدة من الفقر النسبي".

عن بوسطن رفيو
نشر في جريدة عمان بتاريخ 10 يونيو 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق