الاثنين، 21 سبتمبر 2020

حرق الكتب

 

حرق الكتب

جوناثان فريلاند



حرق الكتب في برلين




أمر ممتع ومؤثر بعض الشيء أن يؤلف رجل قضى عمره كله في العمل أمين مكتبة كتابا أبطاله هم أمناء المكتبات. ليس بينهم من يرتدي عباءة أو يخلع نظارته الضخمة أو يجعل من نفسه ماردا ضخم البنيان. بل إن رصانتهم ودأبهم ودرسهم ـ بجانب عزمهم على المخاطرة بأنفسهم حمايةً للحقيقة ـ هي التي جعلتهم أبطالا وكفلت لهم هتاف القارئ وتهليله.

هؤلاء هم نجوم كتاب "حرق الكتب"، وهو كتاب عميق الاشتباك دقيق التوقيت "يؤرخ للمعرفة إذ تتعرض للهجوم"، وهو من تأليف ريتشارد أوفندِن، السعيد منذ عام 2014 بلقب أمين مكتبة بودلي: وهو ما يعني أنه الخامس والعشرون في سلسلة من أداروا مكتبات بودليان في أكسفورد. يبدأ الكتاب من بلاد ما بين النهرين القديمة وينتهي بفيسبوك وتويتر، مفصلا حلقات محددة بدلا من السعي إلى تقديم تاريخ شامل، مبينا ملامح التهديد الذي لا تبدو له من نهاية للماضي المدوَّن، شارحا أساليب ودوافع من سعوا إلى حرق أو دفن أو حذف النصوص التي وثقت قصة الجنس البشري ـ في تجواله واكتشافاته وأشواقه. لكنه حريص على إيلاء اهتمام خاص، وإعجاب، بروح عشيرته ممن وقفوا في الطريق.

إننا نعرف بأمر موظفي المكتبة الذين شكلوا ـ بجانب أهل سراييفو من الصرب والكروات واليهود والمسلمين - سلسلة بشرية لإنقاذ الكتب عندما تعرضت مكتبة البوسنة والهرسك الوطنية الجامعية لنيران القصف المدفعي العمدي المستمر من الجيش الصربي في أغسطس من عام 1992. يلاحظ أوفندن أن القذائف الموجهة إلى المكتبة كانت حارقة، أي "مصممة لإشعال النار بسرعة عند الاصطدام". حاول أمناء المكتبات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المبنى المحترق، لكن دونما جدوى: كان الرماة الصرب يتصيدون رجال الإطفاء، بل إنهم استهدفوهم بالمدافع المضادة للطائرات. يكتب أوفندن أن "راي برادبيري ذكّرنا في عام 1953 بدرجة الحرارة التي يحترق عندها الورق ـ وهي 451 فهرنهايت - لكن دمار مكتبة بأكملها يستغرق وقتا طويلا". وقد استغرق، في حالة سراييفو، ثلاثة أيام. وقال شاعر بوسني إن رماد الأسفار المحترقة أخذ يتساقط بعد ذلك على المدينة تساقط "طيور سود".

لم يكن هدف الصرب مجهولا. فلم يكن "تطهير" البوسنة الحالية من المسلمين كافيا، بل إنهم سعوا إلى محو الدليل على وجود المسلمين السابق في البلاد. فبعيدا عن المكتبة الرئيسية في سراييفو، استهدفت القوات الصربية الأرشيفات المحلية، وبحمية خاصة دمرت سجلات الأراضي. حطموا بالبلدوزرات شواهد القبور أيضا، كأنما يريدون "محو مجرد الإشارة إلى مسلمين قد واراهم يوما تراب البوسنة". والذين قاوموا كانوا يفهمون ما تدور حوله الحرب. فينقل أوفدن عن رئيس الإطفاء في سراييفو، كينان سلينيتش جوابه حينما سئل عما يدعوه هو ورجاله إلى المخاطرة بحياتهم لإنقاذ الكتب والأوراق: "لأنني ولدت هنا وهم يحرقون جزءا مني".

ولا مفر من أن تثير فكرة حرق الكتب ذكرى محددة للغاية في الخيال الأوروبي، وهي الفكرة التي يستهل بها هذا الكتاب صفحاته. فيصف تلك الليلة من مايو عام 1933 عندما شاهد أربعون ألفا النار في شارع أوندن دِن ليندن الرئيسي في برلين، إذ مضت ألسنة اللهب تلتهم آلاف الكتب التي كتبها يهود وغيرهم ممن لم يعتبروا من الألمان، وكان أغلبهم من المثليين أو الشيوعيين أو كليهما. قال جوزيف جوبلز لحارقي الكتب "حسن تفعلون إذ تسلمون للنار روح الماضي الآثمة، هذا عمل قوي وعظيم ورمزي".

والحق أن تلك النار البرلينية تمثل رمزا بالفعل، أو لعلها بشكل أكثر دقة  تمثل نذيرا. فالطرق التي ترتادها الكتب، يتبعها إليها الناس. لقد قضى الرايخ الثالث على حياة ستة ملايين يهودي، وقضى على 100 مليون كتاب بحسب تقدير أوفندن. وشأن قصف مكتبة سراييفو، لم يكن هذا ضررا جانبيا: فقد أنشأ النازيون فريقا مهمته الوحيدة هي الاستيلاء على النصوص اليهودية، وتدميرها في أغلب الحالات.

المكتبة الوطنية في سراييفو

لكن لدى أوفندن، هنا أيضا، قصة بطولية يرويها. إذ يخصص فصلا كاملا لقصة "لواء الورق" الاستثنائية، ولواء الورق هذا هو عشرات اليهود المحتجزين في جيتو فيلنا - فيلنيوس حاليا في ليتوانيا ـ ممن أرغمهم النازيون على مساعدتهم في جمع الكتب والمخطوطات اليهودية وفرزها وشحنها. (وكانت خطة النازيين هي حفظ النصوص الرئيسية التي يمكن استخدامها في معهد مستقبلي لدراسة المسألة اليهودية - وهو أقرب ما يكون إلى متحف للشعب اليهودي البائد). استغل لواء الورق مركزه ذلك لا في مساعدة النازيين في مساعيهم بل في إحباط تلك المساعي، وإنقاذ وإخفاء كل ما في وسعهم، سواء أكانت رسائل بخط اليد من ليو تولستوي أو رسومات لمارك شاجال. هي قصة حيلة واسعة وشجاعة عميقة. وتأتي أذيال ما بعد الحرب ببطل آخر هو أمين المكتبة الليتواني الذي كان عليه إنقاذ هذه الكنوز الأدبية اليهودية من خطر تدمير جديد، جاء هذه المرة من السوفييت. إذ أخفى دكتور أنتاناس أولبيس الوثائق في الكنيسة، بل حشا بها أنابيب الأورغن، فبقيت فيها لأربعة عقود.

غير أن أوفندن يبقى واضحا في أن رغبة طغاة القرن العشرين في تدمير المعرفة كانت جزءا من تراث طويل. فيصف حرب هنري الثامن على الأديرة وما صحبها من إتلاف الكتب الثمينة. فقد أحرقت عشرات الآلاف من النصوص أو مزقت وبيعت بيع القمامة، في سياق سعي الملك إلى تخليص المملكة من وصمة روما. وتم اقتراف أعمال عنف مماثلة في حق الكلمة المكتوبة على مدار حركة الإصلاح في أوروبا.

حسب رواية أوفندن، يأتي الخطر الدائم على الكتب من الرغبة الأيديولوجية في محو وجهة نظر معاكسة أو محتقرة. لكن ذلك ليس المصدر الوحيد. ويروي في هذا المقام قصة فرانز كافكا المألوفة، والآسرة أيضا، إذ أمر بإحراق أعماله، فما كان من منفذ وصيته إلا أن أعرض عن وصيته. ويروي أيضا قصة فيليب لاركين، الذي طلب "حرق يومياته دونما قراءة" فقوبل طلبه باحترام دقيق. كما أنه ينظر بعين متشككة إلى قرار تيد هيوز بتدمير بعض أوراق سيلفيا بلاث، موحيا بأن هيوز كان يحاول حماية سمعته الخاصة بدلا من سمعتها. كما يكشف أوفندن عن دافع المصلحة الذاتية نفسه الذي جعل موظفي بريطانيا الاستعماريين يعمدون عند مغادرتهم للأراضي التي حكموها إلى إحراق السجلات التي ربما كانت لتجرِّمهم.

يتردد صوت النذير على مدار هذا الكتاب. إذ يضعنا أوفندن مباشرة أمام مكتبة الإسكندرية العظيمة التي لم تدمرها النيران، بل الإهمال. وهو يعدها "حكاية تحذر من خطر التدهور التدريجي، من خلال نقص التمويل، وتدني الأولويات والتجاهل العام للمؤسسات التي تحافظ على المعرفة وتنشرها".

لكن ثمة خطرا معاصرا يفوق خطورة الرضا عن النفس، وذلك هو ما يسميه أوفندن بـ"الطوفان الرقمي": الوفرة الهائلة من المواد الموجودة على الإنترنت. قلقه الرئيسي هو أن الكثير من البيانات يتم تخزينها في أيادي خاصة، في حوزة عمالقة التكنولوجيا في جوجول وفيسبوك. نظرا لأن هدفهم هو التجارة وليس الصالح العام، فلا يمكن الوثوق بهم أوصياء على المعرفة البشرية. وهو لا يسهب في الكتابة عن ما يمكن أن يمثل تهديدا كبيرا: أي القوالب التي بليت وبالتالي باتت غير مقروءة للأجيال القادمة أو التقنيات المشفرة التي تشجع صانعي السياسات وغيرهم على إجراء محادثاتهم عبر وسيط لا يترك أي أثر للأجيال القادمة.

قبل كل شيء، هذا الكتاب يتناول كابوسا يطارد الكثيرين منا - فكرة محو الماضي - مؤكدا أن هذه الفكرة ليست محض خيال بل هي حقيقة متكررة. وفي ثنايا ذلك، يظل أوفندن وفيا لندائه، فيذكرنا أن المكتبات وأمناء المكتبات هم حفظة ذكريات البشرية: وبغيرهم، لا يمكن لنا أن نعرف من نكون.

 

 نشر المقال أصلا في جارديان، ونشرت الترجمة في جريدة عمان، وصدر كتاب "Burning the Books" عن John Murray.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق