يطل
شبح البريكست بوجهه، وتنحدر الحكومة البريطانية إلى أعماق من الفوضى أبعد غورا،
وتزداد المخاطر المحدقة بفكرة أوربا الموحدة على أساس قيم الديمقراطية وحقوق
الإنسان المطلقة. غير أنه مهما تكن هشاشة المثل الأوربية ـ كما يبين الشاعر إيليا
ترويانوف في ما يلي ـ فإنها لم تتواز دائما مع الأفعال الأوربية. "رسالة
مفتوحة إلى أوربا 2019" مبادرة لمهرجان "أيام الشعر والنبيذ" [Days of Poetry and Wine] الدولي بالتعاون مع
[منظمة] أليانز كولتوشتيفتونج في برلين. في كل عام يقع اختيار منظمي المهرجان على
شاعر مرموق ليتيحوا له فرصة مخاطبة أوربا ملقيا الضوء على المشكلات التي يراها
أكثر إلحاحا. في العام الماضي وقع الاختيار على الشاعرة السويدية أثينا فروخزاد Athena Farrokhzad. وفي العام الحالي قرئت رسالة إيليا ترويانوف ـ في ترجمتها من
الألمانية ـ في افتتاح المهرجان.
شاعر
يخير أوربا في رسالة مفتوحة:
إما النبل أو المال
إيليا
ترويانوف
أعزائي الأوربيين، أعزائي الشركاء في الجريمة،
أعزائي وإخوتي من الضحايا،
تلقيت أخيرا رسالة إلكترونية من عائشة القذافي،
وهي الابنة الوحيدة لدكتاتور ليبيا السابق. لم يكن أحدنا يعرف الآخر، وبرغم ذلك
كتبت لي السيدة عائشة القذافي بمنتهى الثقة قائلة إنها تود أن تأتمنني على 27.5 مليون دولار إن ساعدتها في استثمارها في
بلدي. وبأنها سوف تكافئني على ذلك بعمولة محترمة مقدارها ثلاثون في المئة من
المبلغ. وطلبت مني التواصل معها في هذا الأمر ذي الأهمية العاجلة.
لم أصدق طبعا أن تكتب السيدة عائشة القذافي لي
شخصيا. فلم تكن تلك في نهاية المطاف هي المرة الأولى التي يصلني فيها مثل هذه
الرسالة. ولعلكم تلقيتم مرة على في حياتكم الأقل رسالة مماثلة لهذه الرسالة ـ
فكانت رسالة بريدية في الماضي، أو بالفاكس لفترة عابرة من الزمن، أو رسالة
إلكترونية منذ بعض الوقت وحتى اليوم. فهي عملية نصب.
يطلق النيجيريون على هذه العملية اسم
"419"، أي أنهم يسمونها باسم المادة المعنية بهذه العملية في قانونهم
الجنائي. يكتب لك شخص ما زاعما أن مبالغ هائلة من الأموال (المختلسة) في حوزته، وأنه
ـ أو أنها ـ يريد مساعدتك لإخراج هذه الأموال من نيجيريا (أو روسيا أو البرازيل أو
دولة ما أخرى). يرسل المغامرون النيجيريون ملايين من هذه الرسائل الإلكترونية، فإن
وقع متلقٍ في الفخ، طلبوا منه إرسال قدر زهيد من الرسوم الإدارية لتزييت العجلات
اللازم لتحريك الشلال الضخم. وليس عليك إلا أن توافق على مقابلة شخصية مع أحد
هؤلاء النصابين حتى يقودك إلى رقصة مبهجة.
عادة ما يتكلم الأوربيون أو يكتبون عن قضايا 419
باعتبارها مثالا للفساد المروع في بلاد مثل نيجيريا، معربين عن مزيج من السخط
والاستمتاع. لكن الأقل ذكرا في هذه الحالات هو سلوك من يستهدفهم النصابون، أي
أولئك الذين يعدون بصفة عامة ضحايا برغم أنهم في الحقيقة شركاء في الجريمة. كيف
تخطر لباعثي هذه الرسائل الإلكترونية تلك الفكرة بادية الغرابة، فكرة إغواء شخص من
أوربا بحكايات عبثية عن الذهب والجواهر؟ هذه الخدعة لا تنطلي إلا لأنه واضح تماما
لكلا الطرفين أن النيجيريين أو الليبيين أو العراقيين يضعون أموالهم الوسخة في أيدي
أوربيين "أشد بياضا من البياض" ليتولوا أمر غسلها لهم. لا يبدو أحد
مندهشا من مدى وضوح أن الأوربيين موضع ثقة عمياء في قدرتهم على حراسة الملايين
وتنقيتها.
واضح أن هذه وظيفة من وظائفنا في ظل التقسيم
الكوكبي للعمل. غيرنا يسرق، ونحن نحرس، ودولار يغسل دولارا. كل رسالة إلكترونية من
رسائل 419 إشارة إلى أن فساد جنوب الكوكب ما كان له أن يوجد لولا أن الأموال
المسروقة تنتهي في مكان ما هنا، يكن لندن أو زيورخ أو ليختنشتاين.
ويصيبنا الهلع مع ذلك من حجم الفساد في الجنوب.
قرابة خمسين بليون دولار تختلس سنويا من أفقر بلاد العالم. رؤوس الأموال تهرب إلى
الشمال. ليس من اليسير ـ كما قد يحلو لتصورات الكثير منا ـ تحديد هوية المسؤول عن
المزاج الأساسي للرأسمالية العولمية. فمنظمة الشفافية الدولية على سبيل المثال
تعتقد أن الصومال أكثر البلاد فسادا على وجه الأرض في حين يرى الصحفي الإيطالي
ذائع الصيت روبرتو سافيانو ـ الذي يدرس منظمات المافيا منذ عقود ـ أن بريطانيا
العظمى هي أكثر بلاد العالم فسادا (وقد تدهورت لندن حتى باتت ملعبا للنصابين
الدوليين).
والاثنان على صواب، منظمة الشفافية وسافيانو،
لكننا بحاجة ـ كمواطنين من أوربا ـ أن ننظر إلى ما نتسم به من شيزوفرينيا. فنحن
نطالب بالحكم الرشيد ونغسل الأموال الوسخة، معا وفي وقت واحد، بقلوب محلقة في
السماء ومؤخرات بدينة مطمئنة على أراك الرضا عن النفس.
عاش في إدنبرة في أواخر القرن الثامن عشر رجل يدعى
وليم برودي، وكان رجلا نبيلا بليغا يدير محل أثاث ويحظى باحترام أخوته في الوطن.
يعمل نهارا في المدينة ملبيا طلبات زبائنه في أمانة، وبالليل يغير على منازل
زبائنه أولئك فيسطو عليها ... إلى أن جاء يوم اعتقل فيه وأعدم.
كان النسيان ليطوي وليم برودي منذ عهد بعيد لولا
أن رأى فيه روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevenson مثالا
صارخا لتعكير صفاء السمات الإنسانية ـ أي الشخصية المزدوجة. كتب ستيفنسن عن برودي
ثلاث مرات. جاءت المحاولتان الأوليان مسرحيتين فاشلتين والثالثة رواية قصيرة
بعنوان "حالة دكتور جيكل والسيد هايد الغريبة" فأصبحت من أكثر الأعمال
رواجا.
"ولدتُ سنة 18، موعودا بحظ عظيم، أوتيت فضلا
عنه خصالا ممتازة، فكنت بطبعي أميل إلى العمل، وأحرص على أن أحظى باحترام ذوي
الحكمة والفضل من الرجال، وبذلك تهيأ لي ـ أو ربما ذلك ما كان يفترض ـ كل ما يضمن
شرف المستقبل وامتيازه".
هكذا يبدأ اعتراف د. جيل في الفصل الأخير من الكتاب.
هو طبيب مرموق، رجل يداوي الناس، يعلي من قيمة التعليم والمعرفة، ويبرز بين أعضاء المجتمع.
غير أنه في الوقت نفسه تجسيد قاس وصلب للجشع الأعمى،
فهو في الوقت نفسه رجل اسمه السيد هايد.
ما من دكتور جيكل في جانب والسيد هايد في الآخر، فليس
هناك سوى مخلوق "موعود في الحياة بالازدواجية العميقة". وأيضا "رأيت
أنه لو صح القول بإنني لست إلا إحدى الطبيعتين اللتين تتباريان في ساحة ضميري، فإن
ذلك لا يصدُق إلا لأنني الاثنتان، معا، وإلى النهاية".
ليس دكتور جيكل بالبريء أو الساذج أو الأعمى. هو يعرف
العدو في نفسه، ويود صادقا أن يتغلب عليه. غير أنه في نهاية المطاف يستسلم ويكف عن
النضال.
من الممكن أن يمَدَّ خط مستقيم بين هذه القصة
والحاضر. فما يصدق على الأفراد قد يصدق على المجتمعات ككل. وأوربا هي دكتور جيكل
ومستر هايد ـ أو الاتحاد الأوربي لمزيد من الدقة.
في 2017 أعرب رئيس المفوضية الأوربية جان كلود يونكر
عن هلعه من حالة معسكر اللاجئين في ليبيا، إذ قال إنه "يصعب عليَّ أن أنام
حينما أفكر في ما يجري لأولئك الذين ذهبوا إلى ليبيا محاولين تحسين حياتهم فما
وجدوا إلا أنهم في الجحيم" يجب ألا تبقى أوربا "صامتة في مواجهة هذه
المشكلة الفاضحة، التي يرجع تاريخها إلى قرن آخر". كان "مصدوما
للغاية" بتقارير عن اللاجئين في ليبيا وكيف أنهم يباعون بيع العبيد. "لم
أعرف إلا منذ شهرين اثنين حجم المشكلة الكامل. إنها تتحول إلى وضع طارئ
ودائم". يسهل أن نفهم هلع يونكر. ففي ليبيا يحتجَز نحو ثلاثين لاجئا متكدسين
في زنازين تقل مساحة الواحدة منها عن خمسة أمتار مربعة، ويتضورون جوعا إذ لا يتم
إطعامهم غير مرة كل ثلاثة أيام. وبحسب تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود غير
الحكومية فإن أوضاعهم المعيشية تتدهور باضطراد. فقرابة ربع النزلاء في سجن سبها Sabaa
في طرابلس العاصمة يعانون من سوء التغذية وكثير
منهم أطفال.
تقدر "منظمة الهجرة الدولية" IOM أن قرابة 670000 لاجئا الآن في
ليبيا. وقد كتبت سفارة ألمانيا في النيجر إلى المستشارية الألمانية في 2017 تصف ما
جرى للاجئين الذين أعيدوا من حيث جاؤوا عبر البحر الأبيض المتوسط: "إعدام
المهاجرين ممن يعجزون عن الدفع وتعذيبهم واغتصابهم وابتزازهم وتركهم في الصحراء
أمور تحدث بصفة يومية. وقد أفاد شهود عيان بوقوع خمس حالات إطلاق رصاص في الأسبوع
في أحد السجون، وهذا إعلان مسبق، وغالبا ما يحدث إطلاق الرصاص في يوم الجمعة
لإخلاء مكان للوافدين الجدد".
وتنتهي مفوضية اللاجئات إلى أن كل امرأة تقريبا ممن
يهربن عبر ليبيا تقع ضحية لعنف جنسي. ويشير الناجون إلى تعرضهم للاغتصاب بالعصي،
وإحراق الأعضاء التناسلية، وقطع القضبان، وإرغام الرجال على اغتصاب أخواتهن. أعمال
وحشية فائقة للخيال، وكلها في غضون السنتين الماضيتين.
فما الذي فعله يونكر لينهي هذه الأوضاع المريعة؟ لا
شيء!
وما الذي كان يمكن أن يفعله؟ الكثير.
ذلك لأن ما يحدث في ليبيا لا يحدث فقط بإذعان من
الاتحاد الأوربي بل وبتمويل منه، بما أنه يراد من
حرس الحدود الليبيين أن يستعملوا كل الوسائل المتاحة لمنع اللاجئين من
الفرار. فلو أن اللاجئين يعانون ظروفا مريعة ويموتون في ليبيا فتلك عواقب مباشرة
لسياسة يستهدفها الاتحاد الأوربي.
غير أنه سيكون من الخطأ أن نتهم أنصار هذه السياسة ـ
من أمثال جان كلود يونكر ـ بالنفاق. فما من شك في أن غضبه كان صادقا. ذلك أنه وريث
تراث أوربي ينشر منذ الثورة الفرنسية مُثُلَ التضامن المطلقة في العالم، تراث ألغى
العبودية وقام بدور حاسم في وضع مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ودكتور جيكل
يضع إصبعه على هذا اللغز: "برغم أصالة الازدواج في نفسي، لم أكن بأي حال من
الأحوال منافقا، فقد كان كلا جانبي نفسي في غاية الجدية، إذ ما كنت أزداد قربا من نفسي
حينما كنت أعرض عن الحدود وأنغمس في العار، ولا كنت أزداد قربا منها حينما كنت أكدح
في وضح النهار إثراء للمعرفة أو مقاومة للأسى والمعاناة".
يعلن الاتحاد الأوربي أنه "يدعم السلطات الوطنية
في زيادة قدرتها على مكافحة المهربين". والحقيقة الفعلية هي أن التمييز بين
السلطات الليبية وعصابات مهربي البشر غائم إلى حد ما.
"تظل الحكومات والمؤسسات الغربية تقول إنها
تناصر إنهاء الاحتجاز القسري للاجئين والمهاجرين، ولكنها لم تتخذ أي فعل حاسم لضمان
حدوث هذا" مثلما قال ماتيو دي بيليس من منظمة العفو الدولية.
إنما ينطق الساسة الأوربيون بكلام دكتور جيكل ويفعلون
أفعال السيد هايد. هكذا نرى أن وزير التنمية الدولية الألماني جيرو ميولر قد وضع
مرارا الخطط لإنقاذ العالم ثم لم ينتج عنها خير يذكر خلال فترة وجوده في السلطة.
يريد الوزير من المجتمعات الغربية أن تغير أنماط
حياتها تغييرا أساسيان فيقول إن "علينا أن نكف عن استخلاص رخائنا من العبودية
وعمل الأطفال وإساءة استغلال بيئتنا" ويكتب في كتابه "الإجحاف" Unfair أنه "لا بد أن نصل إلى
حالة تسمح لكل شخص على الكوكب أن يعيش عيشا كريما. فالهدف هو إشباع الاحتياجات
الإنسانية لكل شخص من الغذاء والمياه والمأوى والعمل في نهاية المطاف، وهذا يعني في
حالة الدول الصناعية التي انتهت من امتلاك هذه السلع المادية بالفعل أننا لا بد أن
نشرك [الآخرين]. فعلى المدى البعيد لا يجب أن يوجد ولن يوجد المزيد من النمو على
حساب الآخرين".
وفي كلمة ألقاها قبل سنة تكريما لوكالة الغوث
الكاثوليكية ميسريور Misereor، أعلن أنه "بدلا من قول أحدنا ’إنني أشفق’ عليه الآن أن يقول
’إنني أتحمل مسؤولية’ ما أقوى عليه. ونحن نقوى. كمستهلكين. كأصحاب مشاريع تنتج في
شتى أنحاء العالم. كصناع سياسات ذوي قدرات اقتصادية عظيمة".
ومضى إلى أن استشهد بتحدي الكاردينال فرينجس مخاطبا
ضمائر من يصوغون الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكل ذلك عظيم الشرف، فالوزير
جيكل يصوغ مهمة أخلاقية واضحة يشعر بها كل واحد منا في اللحظات الحاسمة. لقد درست
ابنتي في المدرسة أن المواطن السويسري الموسر يستعمل من الموارد بقدر ما تستعلمه
قرية أفريقية كاملة. فلو أننا على سفينة ما كان ليمكن التسامح مطلقا مع هذا السلوك
الطفيلي المعادي للمجتمع.
لكن سياسات الحياة الواقعية مختلفة. فكل هيئة من
الهيئات الدولية تحول دون تنفيذ إصلاحات أساسية للنظام الاقتصادي والمالي العالمي.
ولقد أجريت محاولات على مستويات إدارية مختلفة من الأمم المتحدة خلال العقود
الأربعة الماضية لربط الأداء الاقتصادي بحقوق الإنسان، وإقرار قواعد ملزمة [في هذا
الشأن]. وأحد أمثلة ذلك، أن مجموعة العمل الحكومية الدولية للشركات العابرة
للجنسيات وحقوق الإنسان IGWG نشرت مسودة اتفاقية حول المشاريع وحقوق الإنسان منذ
سنة. في هذه "المسودة الصفرية"
ـ وتسمى بهذا إيضاحا لكونها مؤقتة وقابلة للتنقيح ـ كانت نتيجة سنين من المساومات بين
المشاركين. وسوف تجري الآن "مناقشتها" ـ والمناقشة تعبير ملطف يقصد به
إخلاؤها من أي محددات صارمة ملزمة قانونا للأفعال القاسية في الغالب والاستغلالية
دائما من الشركات الدولية في البلاد الفقيرة.
بالتوازي مع ذلك، فإن محاولات جنوب العالم للدخول في
لجنة السياسة الضريبية الدولية الخاضعة لسيطرة منظمة التعاون والتنمية OECD تتعرض للفيتو من دول الشمال وبينها
ألمانيا. ومن شأن ذلك أن "يزيد فرص الدول الفقيرة في تحديد الإجراءات
التنظيمية الدولية من قبيل إغلاق الملاذات الضريبية، ومحاربة التهرب الضريبي، ومكافحة التنافس على الإغراق
الضريبي".
لقد حدث قبل مجرد عقدين من الزمن أن كان تخفيف ديون
الدول الأشد فقرا موضوعا سياسيا رفيع المستوى. ولم يعترض سبيل إلغاء ديون الدول
النامية إلا جشع الدول الصناعية وأنانيتها. في الوقت الراهن، تدافع هذه الدولة
بأسنانها وأظافرها عن مزاياها. فعندما أتى إعصار إيداي أخيرا على أجزاء من
موزمبيق، ووجهت المطالبات المؤسية بتخفيف الديون بآذان صماء. وبحسب إحصاءات صندوق
النقد الدولي، فإن موزمبيق واحدة من 35 بلدا تعاني أزمات دين تهدد وجودها. فالدولة
متخلفة عن مدفوعاتها وعاجزة عن خدمة ديونها المستحقة.
عندما يتعلق الأمر بالمال، أو بتهديد يواجه
رخاء"نا"، يعلي السيد هايد رأسه القبيح ويدمر النضال من أجل الكرامة
الإنسانية والحياة اللائقة للجميع.
وبدلا من القواعد الملزمة، يؤثر الاتحاد الأوربي
والحكومة الألمانية (بلا استثناء للوزير ميولر) الأنظمة الطوعية في المعايير
البيئية والاجتماعية.
قبل عام خرجت بسيارتي في رحلة استمرت ساعتين كاملتين
عبر شمال بورنيو Borneo فلم أر إلى أقصى مدى تبلغه
العين في كلا جانبي الطريق غير نخيل الزيت حيثما كانت غابات مزدهرة قبل جيل واحد
لا أكثر. المنظر: زراعة موحدة قائمة على التغذية الكيميائية، ونمو يفضي إلى الموت
[فبعد عقدين ستكون التربة قد أنهكت تمام الإنهاك]. إن إعلانات أمستردام حاليا تشجع
التجار والشركات الزراعية والصناعات الغذاية التي أسهمت في هذا التدمير الفريد
للطبيعة طوال عقود عديدة على الالتزام طوعا بمعايير أشد صرامة ضمن برامج يتعدد
فيها أصحاب المصالح، وعلى أن تضع نماذجها التجارية وفقا لأسس أكثر استدامة. وما من
عائق أمام هذه الفكرة القديمة إلا واحد ـ هو أنها فاشلة.
فالسيد هايد متوغل في الزراعة بصفة خاصة. وبرغم أن
أحدث تقرير عالمي للزراعة يناشد من أجل تغيير راديكالي في الزراعة العالمية، يستمر
الاتحاد الأوربي وأقوى أعضائه في الدفع نحو توسيع الزراعة الصناعية المعتمدة على
الاستعمال الكثيف للأسمدة والمبيدات والبذور المحمية ببراءات الاختراع. وهو ما
يخدم في الأساس مصالح الشركات الزراعية المعنية وأرباحها، في حين لا تكاد وسائل
الزراعة الصديقة للبيئة تلقى نظرة اهتمام.
يكاد المرء يشد شعر رأسه أمام هذه الشيزوفرينيا
المتجذرة، لولا بشائر أمل. لقد كانت العبودية في أواخر القرن الثامن عشر واقعا لا
يقل حضورا عن سفن الحاويات اليوم. وحينما بدأت جماعات صغيرة في بريطانيا تشكك في
شرعيتها، انصرفت الأنظار عن معتقداتهم الأخلاقية لمجرد أن تجارة العبيد العابرة
للأطلنطي كانت تدر على الملكة المتحدة أرباحا هائلة. كما كانت توفر وظائف، وتسمح
بتكوين ثروات وتضمن تدفق السلع الاستهلاكية. وتلك كانت مبررات كافية. وهو الوضع
نفسه اليوم فيما يتعلق بالمظالم الاجتماعية الفاضحة والدمار البيئي. وهكذا نرى أن حجج
السيد هايد لا تموت بسهولة. ولكن خمسين سنة من النضال السياسي أدت أخيرا إلى إلغاء
العبودية.
ذلك أيضا جزء من التراث الأوربي. في "أزمة
الحضارة" ـ وهو عريضة الاتهام القوية التي وجهها رابندرانت طاغور ضد الحكم
البريطاني في الهند ـ يسعى الشاعر إلى التمييز بين مقاومة الإمبريالية ورفض
الحضارة الغربية. فمن ناحية، "اختنقت [الهند] تحت ثقل الإدارة البريطانية
القاتل" ومن ناحية أخرى يجب ألا تنسى الهند ما جنته عبر مسرح شكسبير وشعر
بايرُن وفوق كل ذلك عبر "الليبرالية ذات القلب الكبير التي اتسمت بها
السياسات الإنجليزية في القرن التاسع عشر". غير أن الجانب المأساوي هو أن
"خير ما في حضارتهم، أي وهم إعلاء كرامة العلاقات الإنسانية لا وجود له في
الإدارة البريطانية لهذا البلد".
ليس سرا أن حكاية دكتور جيكل والسيد هايد تنتهي نهاية
مؤسفة. فلقد أوجز الأسكتلندي الرحالة روبرت لويس ستيفنسن طبيعة أوربا المزدوجة في
نبوءة فريدة: "لقد كان هنري جيكل يقف في بعض الأحيان مشدوها أمام أفعال
إدوارد هايد، ولكن الوضع برمته كان مغايرا للنواميس المعتادة، فخفف ذلك بلؤم من
قبضة الضمير. لقد كان هايد في نهاية المطاف، وهايد دون غيره، هو المذنب. لم يكن
جيكل أسوأ منه، بل لقد كان يفيق منتبها لخصاله الحميدة، الطاهرة في ما يبدو، بل كان
يتعجل القيام بتصحيح ما اقترفه هايد كلما أمكنه ذلك. فكان يطيل ذلك من أمد نوم ضميره".
إيليا
ترويانوف (1965 ـ ألمانيا/بلغاريا) ولد في صوفيا، ونشأ في نيروبي. درس القانون
والأنثروبولوجيا في ميونخ. في عام 1989، أسّس دار مارينو لنشر الكتب عن أفريقيا.
في ما بين 1998 و2003، عاش في بومباي وفي ما بين 2003 و2006 عاش في كيب تاون.
ويعيش الآن في فيينا. ترويانوف روائي وكاتب مقال ومترجم وصحفي. له أكثر من 20
كتابا ترجمت إلى 31 لغة وحصل عنها على العديد من الجوائز.
نشر
نص الرسالة في موقع ليت هب ونشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق