الخميس، 14 فبراير 2019

بحثا عن أوديسا المفقودة .. بحثا عن طفولة خرساء



بحثا عن أوديسا المفقودة .. بحثا عن طفولة خرساء


إيليا كاميينسكي



أكثر ما أتذكره من كل شيء هو غسل أذني ليو تولستوي. كان العام عام 1989، صباحات الثورة، العام الذي بدأ يتهاوى فيه بلد مولدي. أذناه أكبر من رأسي، وأنا واقف على كتفي ولد واقف بدوره على كتفي ولد آخر. أدعك الرأس الهائل الملتحي فوق قاعدته، في وسط ميدان ليو تولستوي، على بعد نصف شارع من شقتنا الأولى. هذه هي الطفولة: يبعثوننا مرة في السنة أنا وزملائي في الفصل إلى وسط الميدان. مهمَّتنا هي غسل رأس كاتب ميت. نصعد على أجسام بعضنا بعضا وندعك منخاري تولستوي وأذنيه.

في البعيد، يضحك أبواي، وهما يشاهدان. يصعد ابنهما الأصمُّ ليدعك أذنين هائلتين. ومن ورائهما فرقة جنود في البحرية يسيرون، فأوديسا مدينة وميناء، وفيها مدرسة كبيرة للبحرية. يصيح القبطان الشاب، وإن لم أسمعه: شمال، يمين، شمال، يمين. وترتفع سيقان الجنود وتهبط، وترتفع، وترتفع وتهبط. وترى أمِّي أنَّني أنظر إليها من موقعي على تولستوي، أمِّي وهي في منتصف العمر وقد ثقل جسمها قليلا، فتبدأ في السير وراء رتل الجنود محاكية خطوتهم، رافعة ساقيها عاليا لتهفهف جيبتها، بينما يؤدي أبي التحية.

*

لم تتوافر لي أجهزة سمعية معاونة حتى جئت إلى أمريكا. فأوديسا التي أعرفها مدينة صامتة، ترتبط فيها اللغة ارتباطا خفيًّا بشفتي أبي إذ تتحرَّكان وأنا أشاهد فمه يحكي القصص مرارا وتكرارا. يلتفت، فتتوقف القصة. يلتفت إليّ ثانية، فتكون القصة قد تقدَّمت بالفعل.

بعد عقود، حينما أرجع إلى هذه المدينة، لا أشعر فعلا أنني رجعت إليها إلا حينما أغلق السماعة.

تِك ـ شفاه الناس لم تزل تتحرَّك، لكن بلا صوت.

ما من أصوات أقدام لجدَّات يجرين وراء أحفادهن. ما من إعلانات يطلقها محصِّلو التذاكر حين يتوقف الترام في المحطة، وأخيرا، أقفز.

تمرق بجانبي سيَّارة تاكسي وتتوقَّف بغتة بجوار الرصيف. لا أسمع صرير مكابحها.

هذه هي أوديسا طفولتي: شفتا أبي مفتوحتان، في شارع بروفيانسكايا. أرى قصَّة. ينحني ليلتقط عملة. تتوقَّف القصَّة. ثمَّ يبتسم لي، وهو يعتدل، وتستأنف القصة.

*

يجرجر جنديٌّ طفلا يهوديًّا من بيته. تجري أمه بالتبنِّي ـ وهي امرأة روسيَّة ـ وراء الجنود، شبه عارية، باكية. يمنعها من التقدُّم جنديٌّ آخر. وآخر يصفعها وهو يضحك. يفرغ الشارع، إلا من دمية ملقاة على الجليد. يغلق الجيران الشبابيك. تنصفق الأبواب. تنحني امرأة على الرصيف الخاوي بينما يدفع جنديَّان طفلها في شاحنة.

وحينذاك حدث أن، وتصمت شفتا أبي ــ

من جليد أوديسا يظهر رجل أوكرانيٌّ بدين؟ ما الذي تفعلونه أيُّها الأوغاد؟ لماذا تأخذون طفلي؟ أعطوني أسماءكم أيها الأوغاد! سأذهب إلى السلطات. أسماءكم! يطير بصاقه في الهواء الغاضب. أريد أن أرى أوراقكم. لا يستطيع أن يتوقَّف عن البصاق.

يتوقَّف الجنود، ذاهلين. هذا طفل يهوديٌّ ـ ألا ترون؟

أيها البلهاء! هل أبدو لكم يهوديًّا؟ ينقل الأوكرانيُّ البدين قدميه في تثاقل، يهزُّ جسمه الهائل قرب الشابَّة الجاثية على الرصيف.

تبدأ النوافذ في الانفتاح. من يكلِّم الجنود الألمان بهذه الطريقة في مدينة محتلَّة؟ يحملق الناس. يختلس الجنود نظرة إلى الشبابيك. ويسيرون مسرعين إلى الشاحنة. ويترك الطفل في الجليد.

يحمل البدين الطفل بين يديه، ويلفُّه في معطفه. سأشكوكم للسلطات! وللمرأة، قبلة طويلة مجنونة. وشاحنة الجنود تختفي في الشوارع.

وبدون أن يضيف كلمة يمضي البدين مبتعدا ومعه المرأة والطفل. حريصا أن يتقدَّماه في سيرهم. ولا يراه الجيران بعدها أبدا. ولكن قصَّته تبقى، وأبي، هو الطفل الذي أنقذه، الطفل الذي لم ير البدين بعدها أبدا، يظلُّ يكرِّر القصَّة لابنه الأصمّ.

*

لو التقى بي أبناء أخوالي وأخوالي في الطريق، ستكون فضيحة. أبعث إليهم رسائل إلكترونيَّة في الأعياد، وهدايا. الأربعينيّ العائد إلى هذه المدينة ليس أنا، ليس القريب الأمريكيّ الذي يعرفونه. ما الذي يرجعني إلى هذا البلد الذي خان أسرتي؟ لسنوات سوف يسألني كلُّ من يعرفني عما أعادني إلى هنا، لأسير في هذه الشوارع. ما الذي أحاول أن أستحضره؟

أغلق سمَّاعاتي وأسير مجاورا الجدران، متلمِّسا إياها بأصابعي. هذه أفعال أحمق يتحسَّس بشرة الزمن ويتخلَّلها بأصابعه، وصولا إلى الطفولة، يتحسَّس أرصفة الشوارع التي لمسها يوما ما وهو صبيٌّ ابن خمسة عشر عاما. وما أكثر ما تعنيه اللحظة الراهنة لمن لا يملكون غيرها.

حينما يمر الترام، تهتزُّ الجدران، مثلما تفعل نتف القصص العالقة في الذاكرة. ذلك تفكير ساذج. من السذاجة أن أفكِّر  أنَّ أوديسا، وهي بعض من وعي أبي، قد صارت لي من جديد. أغلق سمَّاعتي وإذا بي من جديد في الصمت الذي تتحرَّك فيه شفاه الناس.

*

أبي طفل لقيط. في السنة التي يولد فيها يعتقل والده إيليا ويطلق عليه الرصاص باعتباره "عدوًّا للشعب". في السنة التي يولد فيها تنفى والدته جوليانا إلى سيبريا. وهو لا يتذكَّر من ذلك شيئا. فذاكرته لا تبدأ إلا بعد أربع سنوات من ذلك.

العام هو 1941، تندلع الحرب، ويتطوَّع شورا ـ الرجل الذي تبنَّي أبي ـ للذهاب إلى الجبهة. العام 1914، ووالدته بالتبنِّي، نتاليا، تركب الترام إلى الضواحي لتحفر الخنادق حول المدينة. العام 1941، ويحدث فيه أن يسجِّل عقل طفل أولى ذكرياته: عن أوكرانيٍّ بدين ينقذه من جنود أجانب. وجيران يفتحون الشبابيك ويشاهدون نتاليا تبكي في الجليد.

عام 1941 هو أول عام يتذكَّره أبي. طائرات المحور تقصف مصنع الفودكا. يجري الجيران خارجين من البيوت وفي أيديهم أباريق الشاي والطَّاسات. يشربون الفودكا السائلة على الرصيف. أنا الولد الأصمُّ أتابع شفتي أبي.

ينحني ليربط حذاءه فتتوقَّف الحكاية.

يعتدل والناس يجرون بالأباريق تتساقط منها الفودكا، والسعادة على وجوه الجميع، ولو للحظة عابرة.

العام، في قصة أبي، دائما 1941. تشرب العجائز جرعات الفودكا من زجاجاتهنّ. يستدرن بعيدا كما لو كنَّ يحاولن إخفاء شيء. ما الذي يخفينه في 1941؟ صمت رجالهنَّ الذين لا يكتبون من أراضي الحرب؟ العام 1941 كما تقول شفتا أبي. مصنع الفودكا نسف. النساء يقرعن الكؤوس. رذاذ البصاق يتطاير مثل طيور صغيرة.

*

مات أبي منذ زمن بعيد. في شوارع أوديسا، سيارات جديدة، وضوضاء جديدة. يصيح الناس الآن بلغة جديدة، وبنايات جديدة أقيمت وسرعان ما تتدهور فإذا هي خرائب.

أخلعي سمَّاعتي المصنوعة في أمريكا. أنا الآن الصبيّ الأصمُّ يحاول المشي بسرعة أكبر في جليد شوارع أوديسا. تنفتح الشفاه فلا يصدر عنها صوت. ما من وقع أقدام لخطى أبي وهو يجرجر أكياس بقالتنا. ما من حمائم تطقطق على إفريز. ما من أبواق سيارات زاعقة.

أنا رجل راجع بعد عشرين سنة ليجد الجميع موتى. أنا رجل مسنٌّ يخلع سترته على أريكة ويرى الكلاب تكشف عن أنيابها، وصوت لسان، وهسيسا. لا يعرف لماذا هو هنا ـ لماذا هو سعيد، وحرٌّ. لا يعرف لماذا اشترى تذكرته إلى أوديسا. ولو أنَّ أبويه ميِّتان، فماذا يكون له هنا، في هذه المدينة الخاوية؟

*

ليست لدى الأب قصص. ومرَّة تلو الأخرى، تعاد ذكرى المدينة المحتلَّة. جنود ألمان ورومان يسيرون في 1941. ما من رسائل يبعثها شورا في 1941 لأنه ما من أحد يكتب رسائل من الفصائل المعرَّضة للقصف سنة 1941. تحيك نتاليا الفساتين لأنَّه حتى في المدينة المحتلة يشتري الناس الفساتين. تشتري التفاح لأنَّ الصبية في 1941 يأكلون التفاح. ولم تزل الرسائل لا ترد من شورا. لا يعرف أحد أنَّهم بعثوه على حصان ليهاجم دبَّابات الألمان.

هو العام 1941 وأوديسا مدينة أخليت من يهودها. يسير الألمان في شوارع المدينة حيث الحياة ماضية، والناس تشتري الفساتين. ليست لدى أبي قصص. هو صبيٌّ صغير شعره محلوق تماما لكي لا يلفت إليه الأنظار بسواده. وما من قصص من 1941.

كلَّ صباح رائحة الخبز الطازج. لكنَّه ليس للصبيِّ. نتاليا تخبز الخبز للجيران كلَّ أسبوع لكي لا يبلغوا عن الأسرة. صفعة. لا تأكل الخبز يا ولد. صفعة.

في ذلك العام، 1941، في المدينة المحتلَّة، يظهر شورا على سلَّم شقتهم. ما من قصص، إن هي إلا صورة. جندي هارب يطرق دائما على الجدار. هي دائما سنة 1941 في المدينة المحتلة، وشورا يظهر دائما على سلَّم الشقة. ذلك، ورائحة خبز ليس مسموحا للصبيِّ أن يضعه في فمه.

*

ما من قصص. الرجل الذي حسباه ميِّتا واقف أمامهما في غرفة المعيشة. كان ثمَّة قصف؟ كان ثمَّة خيول؟ دبابات؟ لا يكشف تفاصيل. اعتقله الجنود الألمان وشحنوه في قطار. وفي جنح الليل قفز.

أنا صبيٌّ أصمّ يطلب من أبيه قصة. لا يظهر على شفتيه إلا نصف روسيَّة منطوقة.

بعد قرابة عشرين سنة أرجع إلى هذه المدينة. أقطع الشوارع العريضة المشجرة جيئة وذهابا، محاولا تذكُّر قصص أبي. أفتح الشبابيك، أرى الكلاب تبول تحت تمثال سياسيٍّ مستند بصدره المتغطرس على التاريخ.

ما من قصص، فقط كلمة كلَّ ثانية على شفتي أبي، وليس سوانا. جنديٌّ روسيٌّ هارب يتسلَّل إلى المدينة المحتلَّة ليرى ابنه. كلُّ ما لديَّ منه صورته وهو يفتح الباب.

*

ليست لدى أبي قصص. ليس إلا شفاها تظلُّ تتحرَّك أمام صبيٍّ أصمّ بلا سمَّاعات. صوت يتصاعد في تلافيف أذنيَّ الملتوية، وتسري في العظام الرقيقة، فتهتزُّ الأنسجة وتتراقص الشعرات الرقيقة. وبعدما نصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية يموت أبي.

ما من قصص. والآن وقد رجعت إلى شوارع أوديسا، أخلع السمَّاعة من جديد. ثم أعود وأضعها. ما الذي لا أكفُّ عن محاولة استحضاره؟ الاستماع ليس ردَّ فعل انعكاسيا. والأًصمُّ حينما يُعطَى سمَّاعة لا بد من تعليمه كيف يستمع:

هذه قعقعة شاحنة.

هذا جرس تليفون.

هذا سكران في الطابق الثاني يسعل سعال دجاجة تسلخ حية.

شورا يمشي إلى أوديسا على الجليد مسيرة شهر. أرى كلَّ ذلك في شذرات. الشذرات كلٌّ لديّ.

العام 1941. ليس لديه طعام. قفز من القطار الألماني مستغلا نوم الحرس، يعرج. يجتنب الطرق الرئيسيَّة. يأكل الجليد. يسير إلى أوديسا لثلاثين يوما في الجليد. يسرق الطعام من القرى التي يمرُّ بها. وعدا ذلك يأكل الجليد.

كم قرية تؤثر عدم الإبلاغ عن هذا الرجل، الهارب من الفناء الخلفي حاملا دجاجة بلا رأس؟ وعدا ذلك يأكل الجليد.

يتوقف شورا ليلا في القرى، وقد هرب من الألمان. يجتنب الطرق الرئيسيَّة. هو رجل وسيم. تعطيه النساء الطعام. لم يبق في القرى من أزواج. في جنح الليل يسرق ثيابا من حبل غسيل، ويجري. طوال أيام، جليد.

يجتنب الطرق الرئيسيَّة، وإذ يقترب من المدينة تظهر الكمائن عند كلِّ مدخل. حرس. وكلاب.

وهنا، تتوقَّف شفتا أبي.

*

يلتقي شورا، وبطنه ممتلئ بالجليد، بامرأتين على الطريق. هو هارب. وهما من أرض محتلَّة. تريانه. بوسعهما الإبلاغ عن الرجل الهارب ـ ولم لا؟ يسمع الجنود عن طعام يسرق من الفلاحين على طول الطريق.

يركع. أمامهما، في الجليد، يركع. لماذا هو هنا؟ يقول إنَّه يريد أن يرى ابنه ذا السنوات الأربع في أوديسا. أرجوكما.

أسمع شذرات فقط من هذه القصة. رجل يركع في الجليد. إحدى المرأتين تركع بجواره. شذرة، ولا شيء سواها. أكتب في الورقة الخاوية. أتوقَّف وأسير. أمحو ما كتبت. أكتبه من جديد. لماذا تركع بجوار رجل لا تعرفه؟ لعلَّ هذا الرجل يذكِّرها برجلها المقتول في الحرب؟ بطن مليء بالجليد.

يعبر شورا والمرأة الكمين تلو الكمين. يبتسم للجنود بينما تميل عليه المرأة. قبلة طويلة. يداعب الصبي المحمول بين ذراعيها.

شفتا أبي تتوقَّفان عن الحركة. كلُّ هذا الجليد.

بعدما يعبران البوابات تودِّعه المرأة. لا يراها شورا بعد ذلك.

*

ثمة نسخ كثيرة من قصة الجنديِّ الهارب. في إحداها يقبِّل الولد أباه ويرى من ورائه الشرطة الرومانية تدخل المبنى. وبسرعة تأتي والدة الصبيِّ بأكبر فساتينها وقبعتها البيضاء الكبيرة. وبسرعة يحشو والد الصبيِّ حمَّالة صدر بالجرائد. ويشاهد الولدُ شورا ونتاليا، وهما يرتديان فستاني فتاتين، وينطلقان إلى الفناء، عابرين بالجنديّ، عابرين بالجنود، خارجين إلى الشارع.

ما من قصة يمكن تذكُّرها. إن هي إلا شذرة عن شورا ونتاليا إذ يرتديان فستاني فتاتين ويهربان إلى الشارع. ويريد شرطيٌّ رومانيٌّ أن يستوقفهما. يعترض شورا. يتغزَّل الجنديُّ في منحنيات جسم شورا في الفستان الصيفي. يحاول الرومانيُّ السكران أن يشد شورا من طرف الفستان ويضع نقودا في جيبه. تعالي معي يا حلوة.

لا بدَّ أنه كان مشهدا مذهلا. قبلة في الجليد بين الاثنين، نتاليا وزوجها. وتتساقط ندف الجليد في شعرهما، وفستانيهما الحريرين.

*

وربما لا يرتدي رجل فستانا. ولا تنهمر الفودكا من السماء. وإن هو إلا ولد خائف أن يعترف لنفسه بحقيقة ما جرى. فيؤلِّف الكثير من القصص. أنا الولد الأصمُّ يشاهد الصمت داخل أبيه، بينما يحاول الأب أن يملأ الصمت بالقصص. والولد يرى ولا يفهم.

من جميع القصص، بقي شيء واحد معي. في كلِّ نسخة، أبي هو الطفل الذي يقبِّل شورا ويرى من ورائه الشرطي الرومانيِّ يدخل المبنى.

*

هنا أمر لا يتحدث أبي عنه مطلقا: الحرب تنتهي عام 1945 ويرجع شورا. تقيم نتاليا حفلا تقاطعه الشرطة العسكريَّة السوفييتيَّة، تدخل بدون أن تطرق الباب وتأخذ زوجها وتمضي. يشكُّ السوفييت في خيانته. مئات المحاربين السابقين ينفون إلى سيبريا. عدم قتلك نفسك عند وقوعك في الأسر جريمة تعاقب عليها الدولة.

هنا أمر لا يتكلَّم عنه أبي مطلقا: ما ينقذ شورا من السجن هو أنَّه حينما يرجع من الحرب يكون شبه أصمّ. وأنه مرَّة في أثناء القصف، شدَّ رئيسه الرقيب إلى مخبأ. وتواصل القصف. ونجا الرقيب. وصار شورا أصمّ.

تطرح الشرطة العسكرية السوفييتيّة أسئلة: لا يسمع. يصيحون. لا يسمع. يصفعونه. لا يسمع. يصفعون. لا يسمع. يصفعون. لا يسمع. يصفعون. أصمّ وغبيٌّ، يقول الضباط. يطلقون سراحه.

لماذا اشتريت تذكرتي إلى أوديسا؟

عثرت على هذه الكتابة بخطِّ أبي على ظهر صورة شورا: أصمٌّ يصرخ، غير سامع صراخه. لا أنساها. تلك الصرخة. غير محسوسة حتى من أذنيه. صوت بشريٌّ مثلما هو في الحقيقة.

*

لا يمكنني أن أسمع ما وراء الجدران. إذا زعقت عليَّ وبيننا الشارع لن ألتفت إليك. في الصمم نوع من الانفتاح. تطلق سمَّاعتي صفيرا، ولكنتي تتبدَّد، بلهفة، بلهفة بالغة. أحملق في شفاه الناس. شخص أصمُّ، أجد أغلب الناس يصبحون حميميين معي بصورة شبه فورية. يرون أمامهم شخصا ضخما غريبا. قد يشعرون بشيء من الفوقية أو شيء من الإحباط بسبب لكنتي. يستغربون اضطرارهم إلى إعادة كلامهم، مرتين، وثلاثا، وأربعا في بعض الأحيان. تكمن اللقطة المسرحية في طريقة قولهم، أنا أفهم لكنتك، في كيفية إطراقهم.

بعد عقود، أرجع إلى أوديسا وأغلق سمَّاعتي. أعرف أن هذا هو الصمت الذي وجد شورا نفسه فيه حينما رجع إلى هنا سنة 1945. صممه الذي لم يحك لي أبي عنه قط.

*

نحن على الشاطئ. أبي يحكي قصص شورا وأمِّي تضحك فجأة إذ تراني وصديقي نندفع جاريين إلى الماء، نسبح نصف ميل حتى الرصيف، نصعد إليه ثم نسير عليه، كأنَّنا نسير على الماء، ملوحين لأبويّ. هما صغيران للغاية، متروكان على الرمل. نقبِّل في الهواء بنات جميلات يأخذن حمَّامات شمس في شرفة سطح الفندق.

ما من قصص كاملة لدى صبيٍّ يقرأ الشفاه. لكن شذرات. بعضها يعثر عليه في محطة الترام. والبعض رائحة تُشَمُّ عند منعطف شارع يسمح لنفسه أن يصير ذكرى. والبعض حبات رمل.

أبي، الجالس على الرمل، منهمكا في حكيه، تقاطعه أمِّي مشيرة إلى صبيَّين يسيران على الماء.

لو أن والديَّ ميتان فما الذي لي في هذه المدينة الفارغة الآن؟ حين أقول لا شيء، فإنني أسمِّي باللاشيء شيئا أراه هناك.

*

عمري ثماني سنوات في الجليد أشاهد أبي يدخل مطعما فخما. بالداخل حفل زفاف شخص ما.

انظر إليَّ. كذلك تقول شفتا أبي.

عبر نوافذ المطعم الزجاجية الكبيرة، يشاهده ولده من الشارع المكسوِّ بالجليد.

يدخل أبي المكان راقصا. يدخل المكان، شاقًّا طريقه بمرفقيه إلى العروس. يقبِّل العروس على خدَّيها، ثم يحملها ضاحكا، ويضعها على كتفيه، ويتجه متمايلا إلى منتصف المطعم.

أنا واقف في الجليد، متشبِّث في يد أمِّي. في الجهة الأخرى من الشارع أبي، وهذه الغمامة الضخمة البيضاء عروس فوق رأسه. يدور والعروس على كتفيه بينما الحضور يلتفون من حوله مصفِّقين. ثم ينزل العروس أرضا عند العريس ويقبِّل يدها.

لا أعرف بدقَّة ما الذي يحدث. هو الآن يرقص شاقًّا بمرفقيه طريقه إلى أكثر الجدَّات بدانة في المكان، يتناول زجاجة شمبانيا ويملأ كأسها. يركع قبالة تلك المرأة البدينة مقبِّلا يدها. الجميع في دائرة من حوله يصفِّقون.

بالخارج، في الجليد، أنا ولد حائر يراقب أباه يدور في مطعم فيه زفاف شخص غريب. أبي الذي يقضي سنين كثيرة وهو يكرِّر القصة نفسها يضحك ومن حوله في المطعم يضحكون. يرجع إلينا بالخارج، مبتسما، جالبا معه زجاجة شمبانيا كبيرة وسبع قطع من كعكة الزفاف.

يهمس أبي أنه في حفلات الزفاف الكبيرة لا يعرف أحد أحدا. تتصوَّر العروس أنَّ ضيفا ما هو قريب العريس. ويحاول العريس أن يثير إعجاب قريب العروس المهم.

ها هنا شيء لا يتكلَّم عنه أبي مطلقا، شيء لن أعثر عليه إلا بعد سنوات كثيرة: هذه حيلة تعلَّمها من شورا. رجع شورا من الحرب رجلا أصمَّ، عاجزا عن العثور على وظيفة يوفِّر بها الطعام لبيته، فصار يرقص في أعراس الغرباء، مفاجئا زوجته وابنه بالليل بأطباق من كعكة الزفاف.

*

أتساءل: في هذه الشوارع التي ما يزال بوسعي أن أتقاسمها وإيَّاك، يا أبي، الشوارع التي شهدت صمم أبيك سنة 1945، هال كان يحيِّرك صممه؟ ها أنا رجعت من أجلك كي أرى شوارع أوديسا التي رآها أبوك. الأصوات مُعْدِيَة حتى لو لم يلحظ المرء. صوت شخص وهو يتنفَّس بتثاقل واقفا في صفِّ البقالة يؤثر على معدَّل تنفُّس الآخرين في الصفِّ. على أيِّ حال، أنا الآن في طريقي إلى فندق كراسنايا لحضور زفاف شخص غريب.

لقد حدث يوما أن سرقت من أجلي سبع قطع من كعكة زفاف. انظر، الآن أحكي لك عن سبعة أشياء يراها الأصم في حفلات الزفاف:

واحد: حينما يبتسم الأزواج لزوجاتهم، تميل أطراف أفواههم باتجاه أعينهم. لكنهم حينما يبتسمون لكتَّاب العدل إذ يحرِّرون قسائم الزواج، أرى جوانب أفواههم تتحرَّك باتجاه آذانهم.

اثنان: حينما يتكلم رجال الأعمال، يقفون متواجهي أصابع الأقدام، ومن يزحزح قدمه بعيدا، فهو يريد أن يكون في مكان آخر.

ثلاثة: حينما يأكل زوجان كعكة ويكونان سعيدان، تهتزُّ سيقانهما أو تتواثب. ولكنَّنا لن نحبَّ النظر تحت الموائد لرؤية الأقدام السعيدة. فانظروا إلى قمصانهم وأكتافهم. وانظروا كيف تجعل الأقدام المهتزَّة الأكتاف هي الأخرى تهتزّ.

أربعة: جمع في انتظار افتتاح قسم الطعام في حفل زفاف. لاحظوا كيف يصفِّر الناس  لتهدئة أنفسهم.

خمسة: امرأة تكلم قريبا لها تشعر تجاهه بشيء من عدم الارتياح. تمسُّ وجهها، وتلعق شفتيها.

ستَّة: أحيانا يكون الشخص غير الشاعر بالارتياح رجلا. انظروا في تمسيده لحيته إلى اضطرابه.

سبعة: حينما يكون في زفاف أوركسترا، يكون صمت بين أصابع المايسترو قبل أن يرفع العصا، جاعلا الموسيقى مرئيَّة داخل أجسام الآخرين.

الصمم مسرح. والأصمُّ هنا هو الجمهور. وكلُّ من عداه ممثِّل. لا داعي للقلق على عالم الصمت الذي يتصوَّر أصحاب السمع السليم أننا منفيّون إليه. فالصمُّ لا يؤمنون بالصمت. الصمت اختراع اخترعه أصحاب السمع السليم.

*

شورا، إلى اللقاء، أنا مسافر. كنَّا واقفين في المقابر. أشاهد شفتي أبي تحرِّكان صمت وداعه وهو جاث أمام مقبرة شورا. إلى اللقاء يا عزيزي. أنا مسافر. أنا ذاهب لأوفِّر لابني مستقبلا.

ينهمر الجليد. والعام 1993. أرى شفتي أبي تهمسان لشاهدة القبر: ساعي بريدنا، ساشا، وافق أن يأتي ليعتني بمقبرتك. هل تسمعني؟

أنا في أوديسا يا أبي. والعام 2018، خمسة وعشرون عاما مضت منذ أن رحلنا عن هذه المدينة. رجعت إلى هنا كي أستطيع إغلاق سمَّاعتي وأوقف الزمن. أضع يديّ على الجدار، وأسمع صوت سيارات الأجرة تتوقَّف في الإشارات، ومروق القطارات، والنساء يتجادلن عند منعطف الشارع. أرفع يديّ عن الجدار ـ لا شيء. أضع يديَّ على الجدار ـ كلب ينبح، نفير يعلو في الطريق. أرفع يديَّ عن الجدار ـ لا شيء.

العام مرة أخرى هو 1993. الصمت ليس جزءا من مفهوم الزمن.

*

ليونيد بريجينيف، الدكتاتور السوفييتي، يلقي خطبة. فمه يتحرك، والجمع يصفِّق، ولا أسمع شيئا. أرفع صوت التليفزيون، يصدر بريجينيف إعلانا آخر، لا أسمعه، أرفع الصوت، يصفِّق الجمع وقوفا، لا أسمع تصفيقهم.

عمري خمس سنوات. تأتي المعلِّمة إلى فصلنا. صوتها يرتعش. لا أسمعه. تقول شفتاها، يا أولاد، مات بريجينيف. تقول شفتاها، أخشى أن الحرب سوف تندلع في منتصف يوم غد.

لا يعرف أبواي بعد أنني فقدت سمعي، بتأثير من التهاب الغدة النكافية شخَّصه الطبيب السوفييتي باعتباره نزلة برد. في منتصف اليوم، تستمرُّ صافرة المصنع لمدة ساعة. لا أسمعها.

يحدث في يوم وفاة بريجينيف أن تعلم أمِّي بصممي، وتبدأ أوديسا الأطباء والمستشفيات. تصيح أمِّي في المواطنين الكبار في وسائل المواصلات العامة لكي يقوموا ويخلوا مقعدا لابنها المريض، وأبي في حرج يختفي في الناحية الأخرى من الترام. لا أسمع كلمة. أمِّي تطلُّ عليَّ من عليائها، تحرسني بجسمها من أعين الترام.

بريجينيف مات. الغرباء يرتدون الأسود. بذلك تكون بداية تاريخي مع الصمم.

*

يموت أبي بسكتة قلبية بعد عام تقريبا من وصولنا إلى روتشيستر، وقبل أسابيع قليلة من بداية استعمالي السمَّاعات. لن أسمع صوته أبدا.

جئنا إلى أمريكا من أجل سعادة أبنائنا، هكذا تقول أمِّي في الجنازة. ستعيش بعد أبي أربعا وعشرين سنة، وفي كلِّ سنة سوف تذكِّرني أنَّني أزداد شبها به.

ستصاب بجلطة، وتصاب بالشلل لما يزيد عن عام، وفي النهاية لن يكون بوسعها أن تمشي ولن يتحرَّك فيها إلا ذراع. ستكون أجمل امرأة وقعت عليها عيناي، ستصيح في الغرباء، وتخلط بين جيرانها الأمريكيين والممرضات وبين روس عرفتهم قبل عقود مضت، وتسبهم وتسخر منهم بلغة لا يفهمونها ويبتسمون في تهذُّب وفزع من الغريبة شعثاء الشعر الأبيض في كرسيِّها المتحرِّك إذ تصيح فيهم صياح نبيٍّ مشلول من أنبياء العهد القديم. ولعقد كامل سوف أخرج لتمشيتها، دافعا أمامي كرسيَّها المتحرِّك، هامسا لنفسي، هذه أجمل امرأة وقعت عليها عيناي.

تقول، كان أبوك يحبُّ السفر، يحب الابتعاد، بحثا عن سعادة الرجوع إلى البيت. تلك كانت السعادة القصوى، كما قال لي أبوك. تذكَّر دائما أن السعادة القصوة هي في الرجوع إلى البيت.

تطلب منِّي أن أتصل في السادسة مساء. تقول لي ذلك في الواحدة ظهرا. لأنها تشعر بالوحدة وتحتاج شيئا من الثرثرة. تتصل بقريبة لي في الخامسة مساء، لتدعوها إلى حفلة لا وجود لها، فتوقظ باتصالها البيت كله في الخامسة. تحبُّ الأحاديث الطويلة، وتقطعها في الغالب بإشارات إلى مدى حب أبي لها. تتصل في التاسعة مساء لتسألني لماذا لم أتصل بها طيلة اليوم. تترك لي عشرين رسالة في ساعة واحدة. الآن بعدما ماتت، تبقى هذه أغلى مقتنياتي، رسائلها الهاتفيَّة.

كم تغيَّر الواحد بعد وفاتها. هذه المقالة ينبغي أن تكون عن أمِّي. لكنني لا أستطيع بعد أن أضع صوتها في نثر. ولماذا أفعل؟ وبوسعي كلَّما أردت أن أسمعها أن أراجع رسائلها. أحبك يا بنيّ. لماذا لا تتصل بي؟

كلَّ صباح على مدار عقود، تتصل لتعرف ماذا أكلت في الإفطار. تتصل لتخبرني بما أكلته في العشاء. كذلك مرَّت عليَّ وعليها سنوات ما بعد الجلطة. تقرأ كتابا. طوال شهور تقرأ الكتاب نفسه.

لا تسألوني لماذا جئت إلى أمريكا.  لقد جئت إلى أمريكا من أجل سعادة أبنائي. سوف تكرِّر الأقوال نفسها مرارا وتكرارا، وكلَّ قصة يقطعها، الماء، أعطوني الماء، غطُّوني، غطُّوني، وتنهي القصة الواحدة، دائما ما تنهيها بـ أحبك كثيرا يا بنيَّ.

وتقول، لا، لا أريد أي شيء، لا أريد أي شيء، لكن هات لي توتًا. لماذا تسألني يا بني عما أتذكّره؟ كف عن سؤالك هذا. أنا كبرت على أن تكون لديّ ذكريات.

*

أرفض أن أفسِّر صمت هذا الشارع في أوديسا لأيِّ مخلوق ـ هو أمر شديد الحميميَّة. لقد جئت إلى هنا لأنَّ أبويَّ لا يمكن أن يجيئا. جئت إلى هنا كي تستطيع أمِّي مرة أخرى أن تسير وراء طابور الجنود بينما يؤدي أبي التحية.

أمِّي كانت تقول، أذناك ليسا خاويتين، بل هما مفتوحتان.

ليس لديَّ من أشرح له ما يحدث عندما أفتح سمَّاعتي أخيرا ـ الآن تهتزُّ أذني الداخلية اهتزازا لا يتوقف. ويتعلَّم المخ: هذا حفيف قدميك. هذا صوت جارك في الفندق يتكلَّم في الغرفة الأخرى فتنتقل ذبذباته عبر الجدران. حينما أفتح السمَّاعة في هذه الشوارع، يتجدَّد موت أبويّ. هكذا أغلقها من جديد.

ها أنا أرانا: في العصر، نسير بطول شارع بوشكنسكايا بحقائبنا الثقيلة، متجهين إلى محطة القطارات. إنَّه الرابع عشر من يناير سنة 1993. الجليد ينهمر. الترام وسيارات التاكسي متوقفة عن العمل. نجرجر حقائبنا عبر المدينة إلى القطار، نلقي تحية الصباح على المدينة للمرَّة الأخيرة، فكتور كاميينسكي، وإيلا كامينسكي، وابنهما.

 

إيلا كامينسكي شاعر أمريكي روسي الأصل، فاز ديوانه "الرقص في أوديسا" بجائزة وايتنج للشعر سنة 2005, ويصدر له في مارس 2019 ديوان "جمهورية الصم". وقد نشرت هذه المقالة في 12 أغسطس 2018 بمجلة نيويورك تايمز مجازين الأمريكية.

 


نشرت هذه الترجمة في العدد الحالي من مجلة نزوى
للكاتب في قراءات: 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق