معاناة نيرودا في آسيا
جيمي جيمس
في الثانية والعشرين من عمره، كان
بابلو نيرودا نجما أدبيا عالميا، وفقيرا فقرا مدقعا. حقق ديوانه الثاني
"عشرون قصيدة حب وأغنية يأس" نجاحا مدويا، وهو الديوان الذي سيصير في
نهاية المطاف من أكثر كتب الشعر مبيعا في القرن العشرين (إذ بيع منه حتى اليوم
أكثر من عشرين مليون نسخة)، لكنه لم يعد عليه بأي مقابل مادي تقريبا. كان طالبا في
جامعة سنتياجو بتشيلي، والجوع شأن ملح من شؤون حياته، فكان يرتدي عباءة فضفاضة
يداري بها نحول بنيانه، ويعتمر قبعة عريضة الحافة راجيا منها هالة غموض.
كان الطريق الذي يتبعه فقراء الشعراء
الشبان في العادة هو أن ينزحوا إلى باريس ليستجْدوا هنالك الكتّاب الكبار المتحققين
إلى أن يتحققوا بدورهم، أو ييأسوا فيرتدوا على أعقابهم كل إلى بلده. أمّا نيرودا،
برغم ما كان فيه من حرمان، فقد عقد عزمه على اجتناب التحول إلى شاعر جائع آخر في
مونمارتر، وسعى إلى الحصول على منصب دبلوماسي في الخارج.
في أمريكا اللاتينية، كانت الشهرة
الأدبية تلقى احتراما من السلطة. واستطاع زميل دراسة أرستقراطي أن يقدّم نيرودا إلى وزير الخارجية الذي كان قد قرأ
شعره. فعرض عليه في لقاء التعرُّف ذلك منصبا، وسرد عليه قائمة بالمدن الأجنبية
التي تنتظر ممثلين لتشيلي. لم نيرودا يكن قد سمع بأي من تلك البلاد، ولم يلتقط من
بينها إلا اسما واحدا. وحينما سأله الوزير إلى أين يحب أن يذهب، ردَّ في ثقة:
"رانجون". ولم تكن لديه أدنى فكرة أين تكون.
هكذا، في عام 1927، أبحر نيرودا إلى
بورما، تلك الدولة شديدة النأي والاختلاف عن كل ما كان يعهده. ولسوف تستمر إقامته
الأسيوية تلك خمس سنين، اثنتين منها في رانجون، تلتهما مناصب قنصلية في سيلان
(المعروفة اليوم بسريلانكا) وجاوا.
المصدر الأوثق لحالة نيرودا الذهنية في
آسيا يتمثل في سلسلة رسائل كتبها إلى هكتور إيندي Héctor Eandi وهو ناقد أرجنتيني امتدح
"عشرين قصيدة حب". كانت ضربة قوية لنيرودا أن يعرف الغربة في أرض بعيدة،
وهو الذي لم يكد يبلغ الرشد. كان وقع التجربة أشد صدمة من أن يعترف به لأهله
وأصدقائه. فكانت علاقة المراسلة مع الزميل المتعاطف الأكبر سنا في بيونس أيرس
متنفسا آمنا لحيرته العاطفية. وجاءت رسالته الأولى إلى إينادي أبعد ما تكون عن
الجرأة:
بين
الفينة والفينة، ولفترات طويلة، أكون شديد الخواء، عديم القدرة على التعبير عن أي
شيء، أو التثبت من أي شيء في نفسي، وثمة نزعة شعرية عنيفة لم تكف عن الوجود بداخلي
وهي تسلمني إلى طريق تزداد وعورته، والنتيجة أن جانبا عظيما من كفاحي يتحقق في
المعاناة، بسبب الحاجة إلى احتلال مجال شديد النأي بطاقة لا تقوى على ذلك بكل تأكيد.
كان السبب الرئيسي في اغتراب نيرودا هو
المؤسسة الاستعمارية ضيقة الأفق التي أصابته بالاشمئزاز. كان الدبلوماسيون الأجانب
يتلقون تحذيرات صارمة من الاختلاط بأبناء البلد. ولما ألمح مسؤول بريطاني لنيرودا
بأنه لا ينبغي أن يظهر في مقهى فارسي لأن "أبناء البلد" ـ أي الناس
الذين كان ضيفا على بلدهم ـ يترددون عليه، أعرض نيرودا عن ذلك التعصب وآثر العزلة.
بجانب قليل من المهام الرسمية، خصص
القنصل الشاب أغلب وقته للقراءة: كميات هائلة من الشعر الأسباني والفرنسي، وبصفة
خاصة شعر كويفيدو ورامبو Quevedo and
Rimbaud، ورواية بروست بالكامل، أربع مرات. والكتابة بالطبع، فنيرودا لم
يعش قط فترة انقطاع طويلة عن الكتابة. كان غزير الإنتاج في آسيا، لكن عزلته
الفكرية ثقلت عليه، وفرضت عليه الكتابة عبئا مؤلما. وأعماله التي كتبها هناك جمعت في
مجلدين من "الإقامة على الأرض"، فجاءت مختلفة اختلافا جذريا في نبرتها عن
نبرة الكتابة الدنيوية الصوفية الغنائية في "عشرين قصيدة حب".
بكائيات الغربة تلك ـ وقد عبر عنها
باستعارات هلوسية جاءت في بعض الأحيان مفككة على نحو غريب ـ بشَّرت بالأمزجة
الحداثية التي سيطرت على شعره في هذه الحقبة، لكنها نجمت مباشرة عن عزلته. كثيرا
ما يوصف هذا العمل بالسريالية، وهو وصف يفتقر إلى الدقة: فنيرودا لم يتصل بالحركة
الوليدة في أوربا، وليست التماثلات بينه وبين السرياليين إلا تقاربا أدبيا. ولئن
كان من تأثير مباشر على تلك القصائد، فهو رامبو.
بعض القصائد تستشرف في ما يبدو غنائيات
بوب ديلان الكابوسية مثل "سيدة السهوب حزينة العينين"، فيها مقاطع تسري فيها تيارات
عاطفية حالكة، لكنها لم تكن منساقة وراء نظرية متماسكة (انسياق السريالية وراء علم
النفس الفرويدي). هكذا تبدأ "مجموعة ليلية":
غزوت
ملاك الحلم، مجاز نهاية العالم،
دائب
الجهد، تأتي خطاه الثقال
مسربلة
بالحلازين والصراصير،
بحرية
مضمخة بالثمار اللاذعة.
ربما كان نيرودا في رانجون معزولا مستوحشا،
لكنه لم يكن وحيدا. فقد كانت له حبيبة من بورما أطلقت على نفسها اسما إنجليزيا هو
جوسي بليس. كانت تعمل ناسخة على الآلة الكاتبة وترتدي للعمل ثيابا إنجليزية. لعلها
كانت تدعمه ماليا بجانب راتبه البسيط المؤسي، وكان على أي حال يتحرك معها. ولما
تبيّن ذلك للسلطات الاستعمارية، منعوه من ارتياد أنديتهم. سيقول نيرودا لاحقا إن
ذلك العزل ما كان ليسرَّه أكثر ممَّا سرَّه. فبعيدا عن انفصاله القاطع عن
سياساتهم، كان أولئك البيروقراطيون الصغار يضجرونه.
كانت جوسي بليس في آن واحد متفانية فيه
بهوس وممسوسة بغيرة طاغية. في مذكراته، التي اكتملت قبيل وفاته سنة 1973، كتب
نيوردا أنه "في بعض الأحيان، يوقظني نور، شبح يتحرك خارج ستارة البعوض
[الناموسية]. تلك كانت جوسي، في ثوبها الأبيض الخفيف، تلوِّح بسكينة حامية طويلة.
تلك كانت هي، تدور وتدور حول سريري، لساعات في المرَّة، بدون أن تحسم أمر قتلي.
قالت: حينما تموت سوف تنتهي مخاوفي".
وفيما كانت غيرة جوسي تتزايد تهديدا،
تلقى نيرودا برقية من سنتياجو تخطره بنقله الفوري إلى سيلان. هرب ليلا من امرأته
الغضوب الشرسة، وكتب لها قصيدة وداع وهو يستهل رحلته إلى سيلان. وهذه القصيدة، "تانجو
الأرملة"، هي أشهر قصيدة في كتاب "الإقامة على الأرض"، وهي تعبير
مباشر عن ألم الفقد الذي ضاعفته الحاجة. يحدس الشاعر فيها كرب حبيبته المهجورة:
لا بد أنك الآن، في مالينجا، عثرت على الرسالة،
لا بد أنك الآن باكية في غضب،
تلعنين ذكرى أمي،
تصفينها بالمومس العفنة أم الكلاب،
لا بد أنك تشربين وحيدة، لا رفيق لك إلا نفسك، شاي
السَحَر
ناظرة إلى حذائي القديم
وقد خوى الآن إلى الأبد.
لاءمت سيلان نيرودا أكثر مما لاءمته
بورما. أو أن تجربته هناك ربما جعلته أكثر مرونة هنا، فالصدمة الثقافية الثانية
عادة ما تأتي أقل عنفا. أقام بيت عزوبية تقليديا على مبادئ عقلانية. إذ استأجر
بيتا صغيرا على الشط في ويلاواتي، وهي ضاحية في الحافة الجنوبية من كولمبو، وعيَّن
خادما منزليا صموتا اسمه برامبي ليتولى أموره. ومن أجل الرفقة اقتنى كلبا ونمسا سمَّاه
كيريا وكان ينام في سريره ويأكل على مائدته.
في ويلاواتي، غمس نيرودا نفسه في حياة
البحر، وعالم الطبيعة الذي كان يسحره بقدر ما سحرته غابات القطب الجنوبي في تشيلي
التي نشأ فيها على امتطاء الخيول. كتب يقول "كنت في كل صباح أنهزم أمام معجزة
الطبيعة وقد تطهرتْ من جديد". كان ينهض قبل الفجر مع صيادي السمك فيشاهدهم
ينشرون شباكهم على الشط، لتمتلئ أسماكا ذات ألوان صاخبة، "أسماك كطير
الأدغال، حمراء، مثلثة الألوان، ذات زرقة عميقة متألقة كأنها قطيفة متفجرة
بالحياة". وكان مشيه يسوقه بعيدا وعميقا في الريف إلى أن يعثر على البقعة
التي تستحم فيها الأفيال.
كان البريطانيون مزعجين له في سيلان
بقدر ما كانوا مزعجين في بورما. في طريقه إلى حفل عشاء ذات ليلة، سمع موسيقى، وصوت
امرأة أو صبي، فتوقف يستمع. كان الصوت "يرتجف ويبكي، يحلق إلى ذرى مجهولة،
وبغتة يتوقف تماما، متضائلا إلى ظلال، متشبثا بعبق الياسمين الهندي، ضافرا نفسه في
الأرابيسك". بقي ثمة لوقت طويل، جالسا على حصيرة أمام بيت متداع، وقد سلبته
الأغنية نفسه، عاجزا عن الحركة من المكان، كأنما مسَّه السحر. ولما وصل إلى الحفل،
متأخرا بعض الشيء، اعتذر للمحتفلين، وهم بريطانيون يرتدون ثيابا رسمية من الأبيض
والأسود، قائلا إنه عطلته الموسيقى. وفي تأنق ادعوا الدهشة "أي موسيقى؟ أتقصد
أن أبناء البلد موسيقيون؟" ما كان ليخطر لهم أن يكون لشيء كذلك وجود.
في سيلان، عثر نيرودا على الرفقة
الثقافية التي كانت تنقصه في بورما. ارتبط بدائرة من الحداثيين الأوروأسيويين
بزعامة ليونيل وينت Lionel Wendt وهو
عازف بيانو ومصور فوتغرافي متخصص في الدراسات الغنائية لشخصية شريكه المراهق
الفنان جورج كايت George Keyt
الذي كان يرسم شخصيات ريفية بأسلوب شبه تكعيبي. وتبقى مجموعة كولمبو 43 ـ كما باتت
تعرف ـ شبه مجهولة خارج سريلانكا لكنها تركت أثرا كبيرا على الحياة الفنية في
البلد حتى يومنا هذا.
أصبح نيرودا رفيقا مقربا للمجموعة.
وحينما نظّم وينت الدءوب معرض لوحات، كتب نيرودا مقالا عنه لجريدة في كولمبو، وهي
واقعة شديدة الندرة ظهر فيها الشاعر ناقدا فنيا. في هذه المقالة النقدية قدر لافت
من التعقيد لا سيما وأن الكاتب لم يكن قد تعرض من قبل للفن الحديث، ناهيكم عما قد
يكون رآه في سنتياجو وهو طالب. يثني فيها على معالجة كايت للشخصيات السيلانية بما لديها من "جلال تعبيري غريب"
فهي جميعا "تشع بهالة
مشاعر عميقة محتدمة" ويشير إلى "اعتدال النضج" في عمل رسام عمره 28
عاما. رفض النقاد الأوربيون كايت (حين انتبه بعضهم إليه أصلا) معتبرين إياه غريبا
ومقلدا من الدرجة الثانية لبيكاسو، غافلين عن الحس السيلاني النافذ في عمله، والذي
انتبه إليه التشيلي على الفور.
كانت لدى وينت مكتبة عامرة تصل إليها
أحدث الكتب من إنجلترا. وفي كل أسبوع كان يبعث خادما إلى بيت نيرودا على دراجة
ومعه ملء كيس من الكتب. فكان ذلك أول عهد نيرودا بالأدب الحداثي، لا سيما كونراد،
وجويس، وإليوت، ودي إتش لورنس.
وكان حتما أن يعرف بإرث دبلوماسي أجنبي
آخر في سيلان، هو ليونارد وولف Leonard Woolf الذي خدم في الإدارة الاستعمارية لسبع سنين إلى
أن استقال سنة 1911 لكي لا يضرم النار في بيت مزارع صودرت أرضه. أسهب نيرودا في
الثناء على كتاب وولف الأول "قرية الأدغال" The Village in the Jungle، وهي رواية طبيعية مقبضة، ولكن
لورنس كان صاحب التأثير الأعمق، ولو في البداية على الأقل. إذ أثارت إيروتيكيته
الواضحة نيرودا. ومع ذلك، فحينما قرأ "عشيق ليدي تشاترلي" استاء من حسها
التربوي: "إن لورنس يلقي محاضرة في التعليم الجنسي لا علاقة لها بما نتعمله
عفويا من الحب ومن الحياة".
في كولمبو، واصل نيرودا الشكوى لهكتور
إيندي من وحدته، لكن المراثي أخذت طابعا أدبيا واعيا بذاته، ربما بتأثير من رسائل
رامبو إلى الوطن من أفريقيا، التي ربما كان يطالعها. وتكشف مذكرات نيرودا عن انشغاله
الشديد بدائرة وينت وبسلسلة من الحبيبات فكان انشغاله ذلك يستهلك وقتا كبيرا يحول
دون الشعور بالوحدة. كانت امرأة اسمها باتسي تزوره كثيرا مع صاحباتها وهن
"فتيات سمراوات وذهبيات تجري في عروقهن دماء هولندية وإنجليزية وسيلانية. كن
يذهبن معي إلى السرير في نشاط، ولا يطلبن في مقابل ذلك شيئا".
تُنتقد مذكرات نيرودا في بعض الأحيان
باعتبار أنها مراعية لصاحبها، غير أنه باستثناء فقرات قليلة متكتمة، فإن صراحته قد
تكون مدهشة. فهو يصف لقاء جنسيا في والاواتي لوث سمعته بعد وفاته. كان مفتونا
بامرأة من التاميل تنتمي إلى طبقة المنبوذين وتنزح الفضلات من المراحيض في شارعه،
هي أجمل امرأة رآها في سيلان. صار يترك لها هدايا بسيطة من الثمار أو الحرير على
الطريق المفضي إلى مرحاضه، لكنها لم تكن تلاحظها. وفي يوم جذبها من خصرها وحدّق في
عينيها:
غير
مبتسمة، تركت نفسها تساق بعيدا وسرعان ما كانت عارية في سريري. خصرها، شديد
النحول، شفتاها الممتلئتان، كأسا نهديها العامران، جعلتها جميعا تبدو واحدا من تماثيل
جنوب الهند ذات الألف عام. ... أبقت عينيها مفتوحتين على اتساعهما طول الوقت،
فارغتين تماما من أي تعبير. كان لها الحق أن تزدريني. ولم تتكرر التجربة قط.
مذكرات نيرودا هي المصدر الوحيد لذلك
الاعتداء الذي سيطر على التعليقات النقدية الحديثة عن الشاعر.
برغم كل ما في حياة نيرودا في كولمبو
من مثيرات فكرية وإثارة جنسية، كانت حياة مستقرة آمنة. إلى أن جاء صباح انقلبت فيه رأسا على عقب، بطرقة على بابه من "جوسي
بليس الجارفة". بطريقة ما شقت طريقها إلى كولمبو وعثرت على بيته المجاور
للبحر. جاءت وعلى كتفها جوال أرز وفي يدها أسطوانات بول روبيسن التي كانا يستمعان
إليها في رانجون.
كانت كارثة. حينما رفض نيرودا السماح
لها بالإقامة في بيته، هددت بإحراقه على رأسه، وأقامت خيمة في الشارع. ولما زارت
"سيدة انجليزية لطيفة" نيرودا هاجمتها بسكِّين. أخبرت الشرطة نيرودا أنه
إذا لم يدخلها بيته فسوف يرحلونها. كان موقفا يائسا، حلّه جار لنيرودا، وهو رجل
طيب يدعى فرناندو، أسكنها بيته. أقنعها أنها في وضع مستحيل، وأن عليها أن تغادر
سيلان بإرادتها.
رافق نيرودا جوسي بليس حتى ركبت
سفينتها المتجهة إلى رانجون. ولما فارقها، بكت بعنف، وهي لا تكف عن تقبيله. كما لو
كانت تؤدي شعيرة، قبلت وجهه، وذراعيه، وسترته، وقبل أن تتوقف جثت تحت قدميه وقبلت
حذاءه. ولما قامت مرة أخرى، كانت على وجهها بقع طباشيرية من طلاء حذائه. كتب يقول
"ذلك الكرب، تلك الثورة، تلك الدموع الرهيبة الجارية على وجهها الطباشيري، لن
أنساها ما حييت".
علاقة نيرودا العاصفة بجوسي بليس تعكس
موقفه العاطفي المبهم من آسيا. كتب في مذكراته يقول "لقد تعمقت في روح الناس
وحياتهم حتى فقدت قلبي في حب واحدة من بنات البلد". غير أن هذه علاقة شائعة،
بل توشك أن تكون متوقعة من أي أعزب مغترب. ولكن وصف نيرودا لجوسي بليس، باسمها
الإنجليزي وملبسها الإنجليزي، يضعها في موضع وسط بين روح الشعب والكولنيالية. لقد
كان نيرودا ـ وهو ابن عامل السكة الحديدية في مستعمرة أسبانية سابقة ـ يتعاطف
غريزيا مع الشعبين البورمي والسيلاني في مقابل سادتهم الأجانب المتغطرسين. غير أنه
وإن لم يستطع أن يشعر بالارتياح إلى المتغطرسين البيض العنصريين مدعي الأهمية في
تلك المستعمرات، فقد منعه تعليمه الأبيض في تشيلي من أي انخراط حقيقي مع الثقافات
الأسيوية. ولقد كان نيرودا ـ شأن أبيه ـ ملحدا، فكان يشعر بنفور بديهي من أديان
آسيا الصوفية، وذلك ما رسخه لاحقا اعتناقه الشيوعية برفضها العقدي للدين برمته.
في أكثر من مناسبة، زعم نيرودا أن
رحلته إلى آسيا لم تترك أثرا على شعره. ولكن الشعراء نادرا ما يكونون قضاة عدولا
على ما يطال أعمالهم من تأثيرات، وفي هذه الحالة فإن أهم أثر على تجربته لا بد أن
يكون قد خفي عليه. ومهما يكن ألم العزلة الذي لعله استشعره، فهذه العزلة حمته من
الاتجاهات الفنية المتنافسة في أوربا ذلك الوقت. في سيلان، عثر نيرودا على أصدقاء
ومنطقة فكرية آمنة وسط المجتمع الأوروأسيوي، في أقصى جبهات الحداثة: إذ أن كولمبو
تقريبا في مثل بعد باريس عن سنتياجو.
حينما حاول نشر "الإقامة على
الأرض" بالأسبانية، رفضت المخطوطة صراحة. غير أنه استطاع أن ينشر قصائد قليلة
في "ذي كرايتريون" التي كان يحررها تي إس إليوت، فكانت تلك انطلاقة
مسيرته العالمية كشاعر من أمريكا الجنوبية، متخفف من ارتباطات الحركة الأدبية
الأوربية. استمر ميل نيرودا إلى المنطقة الوسطى المريبة في منصبه الدبلوماسي
الأخير في باتافيا (المعروفة اليوم بجاكرتا). حينما أبحر إلى جاوا، أخذ معه خادمه
برامبي ونمسه كيريا. وفي جاوا التقى بامرأة جاوية من أصل هولندي أوروأسيوي بداخل
ملعب تنس الأجانب، وتزوجها. وهي التي أنجبت للشاعر ابنه الوحيد.
كاتب المقال ناقد وروائي أمريكي مقيم في إندونسيا منذ
1999.
نشر المقال في موقع ليت هب ونشرت الترجمة في مجلة الدوحة
عدد يوليو 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق