الإمبراطور المغولي المضطهد
أودري تراشكي
لم يحظ ملك في تاريخ الهند بما حظي به أورنجزيب عَلَمْجير من كراهية، وهو سادس
حكام الإمبراطورية المغولية. حكم قرابة خمسين سنة، منذ 1658 وحتى 1707، وكان آخر
الأباطرة الذين حكموا قبل الاستعمار البريطاني. وهو الذي يرى الكثيرون أنه دمِّر
الهند سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
قائمة الجرائم المنسوبة إلى أورنجزيب عَلَمْجير طويلة وقاتمة. فهو متهم
بخوض حروب طويلة عبثية في وسط الهند وجنوبها بما أنزل بالدولة المغولية ضعفا
قاتلا. ويعد طاغية قاسيا عمد إلى اغتيال أعدائه، فلم يستثن من ذلك أخوته أنفسهم.
ويعد كذلك شخصا جاهلا لا دراية له بفنون جنوب آسيا الاستثنائية، بل هو معادٍ لها.
وفوق ذلك كله، يرى كثير من الهنود أن أورنجزيب عَلَمْجير قاهر قاسٍ
للهندوس، فقد كان مسلما متدينا، ومن المعتقد على نطاق واسع أنه قضى أغلب عهده ـ
الذي شارف على نصف القرن ـ في هجوم على الهندوس والهندوسية. وتمضي القصة إلى أن
أورنجزيب كان يعمل على تحويل الهندوس إلى الإسلام، فلما أخفق في هذا المشروع أنزل
عليهم ـ في ما يفترض ـ مجزرة قضى فيها على الملايين منهم. ويزعم الناس أن أورنجزيب
كان يدمر بصفة منتظمة مؤسسات الهندوس، علاوة على تحطيمه آلافا من معابدهم. بل إن
البعض يذهب إلى أن سبب افتقار شمال الهند إلى المعابد الأنيقة الشاهقة التي
يصادفها المرء في الجنوب إنما يكمن في أن أورنجزيب حطَّم كل ما في الشمال وسوّاه بالأرض.
في 2015، نجح التماس في إطلاق اسم جديد على طريق أورنجزيب بدلهي، فأوجز ذلك
الالتماس الحاكم الكريه بوصفه "أحد أسوأ الطغاة والمعذِّبين ومقترفي الجرائم
البربرية المتعصبة غير الإنسانية في الهند". غير أن هذه الرؤى لأورنجزيب تدين
للأسطورة بأكثر مما تدين به للواقع. والأدهى أن الهجمات الحديثة على أورنجزيب تضرب
هي نفسها بجذورها في دوافع مقيتة.
على مدار القرون، وجدت جماعات كثيرة في أورنجزيب شيطانا مناسبا، لأسباب
تتعلق بأجندات هذه الجماعات أكثر مما تتعلق بحكم أورنجزيب. فالبريطانيون على سبيل
المثال نشروا كثيرا من الافتراءات في حقه، وفي حق كثير من حكام الهند المسلمين ما
قبل المحدثين، ليبدو الحكم البريطاني الاستعماري متحضرا بالمقارنة مع أورنجزيب
البربري. وقد رسَّخ البريطانيون الصورة التي رسموها له كمتعصب كارتوني من خلال
أعمال بحثية مضللة، من بينها ترجمات انتقائية ومعيبة بصورة سافرة في بعض الأحيان
للتاريخ المغولي، هدفها إبراز مقت أورنجزيب المزعوم للهندوس.
وإذا كان استعمار بريطانيا للهند قد انتهي منذ سبعين عاما، فإن تشويههم
للمغول وغيرهم من الحكام الهنود المسلمين لا يزال يعيش حياة أخرى طويلة ومسممة.
فلا يزال الكثيرون في الهند يعتمدون على ترجمات بريطانية مغرضة من الحقبة
الاستعمارية للنصوص المغولية باعتبارها دليلا على خطايا منسوبة إلى المسلمين.
ويمكن على أقل تقدير أن يوصف بعض هذا الاعتماد على الدراسات والترجمات المشكوك
فيها بالاعتماد غير البريء نسبيا، لكن الوصف لا ينطبق إلا على البعض. فالعديد من
الجماعات البارزة في الهند المستقلة وجدت في النيل من أورنجزيب نفعا لأغراض أخرى
أشد سوءا، لا سيما محاولات تشويه مسلمي الهند المحدثين.
الإمبرا\ور في شبابه |
اليوم، تقود الجماعات القومية الهندوسية مهمة تكوين الصورة الشعبية لـ
"أورنجزيب المتعصب". فالمسلمون ـ بالنسبة للقوميين الهندوس ـ خطر على
هوية الهند المزعومة كدولة هندوسية أساسا. في حين أن القومية الهندوسية لم تكن الرؤية
السائدة على مدار أغلب القرن العشرين، لا سيما بعد أن اغتال قومي هندوسي زعيم
الهند المحبوب وقائد استقلالها المهاتما غاندي سنة 1948، إذ انقلب كثير من الهنود
على فكرة أن الهند دولة هندوسية أو كذلك ينبغي أن تكون. واعتنقوا بدلا من ذلك رؤية
للهند بوصفها دولة علمانية، وتعددية، فيها متسع بالتساوي لأتباع جميع الأديان.
ولكن شعبية القومية حقَّقت قفزة كبيرة خلال العقد الماضي فكان من نتيجتها أن اكتسح
حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي اليميني الطريق إلى الحكم. وفي وقت قريب سيطر حزب
بهاراتيا جاناتا في مارس 2017 على الانتخابات التشريعية في ولاية أوتار باراديش
الأكثر ازدحاما بالسكان.
برغم الشعبية التي حظيت بها القومية الهندوسية في الفترة الأخيرة، فهي
أيديولوجية بلا أساس يذكر في التاريخ الهندي إن كان لها فيه أي أساس. فالهند في
أغلب فترات ماضيها لم تكن هندوسية ولم تكن دولة بالمعنى الذي غالبا ما يستعمله
القوميون الهندوس للهندوسية وللدولة. والحكم المغولي في الفترة التي استولت فيها
أقلية مسلمة على حكم أغلبية هندوسية في جنوب آسيا هي فترة تتسبب في كثير من الحرج
للقوميين الهندوس. ولو أن الهند طالما كانت دولة هندوسية ـ مثلما يقطع القوميون
الهندوس، فلماذا حكمها المسلمون تلك الفترة الطويلة؟ والأكثر إزعاجا لمزاعم
القومية الهندوسية هو لماذا استمرت الهند المغولية تقيم علاقات مثمرة للغاية بين
الهندوس والمسلمين في مجالات كثيرة منها إدارة الدولة والأدب والرسم والموسيقى بل
وفي المجال الديني والروحاني؟ وبدلا من الاعتراف بتعقيد الماضي، يصر القوميون
الهندوس على أن القمع الديني كان سمة الحكم المغولي بلا شك. وأصبح عهد أورنجزيب على
وجه التحديد نقطة مركزية في هذا التشويه.
***
تمتد كراهية أورنجزيب إلى أبعد من اليمين الهندوسي في الهند الحديثة، ففي بعض الحالات
يكون لدى جماعات أخرى أسبابها لكراهية هذا الملك ما قبل الحديث. فكثير من السيخ
على سبيل المثال يتذكرون تاريخا من العداوة بين المغول وزعماء دينين سيخ مبكرين.
وبصفة أكثر عمومية تسرَّبت صورة أورنجزيب
المتعصب التي رسمها العصر الاستعماري ـ من خلال الكتب المدرسية ووسائل الإعلام ـ
إلى أعماق المجتمع الهندي. وكثير من الهنود يقبلون ويكررون الأفكار الضالة عن هذا
الملك بدون أن يدركوا ما وراء هذه الرؤى من سياسات ومصالح.
الإمبراطور في شيخوخته |
منذ الفوز
الانتخابي الذي حققه حزب بهاراتيا جاناتا،
ازدادت حمى الهجوم على السمعة التاريخية للمغول، كما ازداد عبثها. في أواخر
صيف 2015، بعدما حظيت الفكرة بقبول العديد من نواب البرلمان عن حزب بهاراتيا جاناتا، وافق المسؤولون في نيو
دلهي على إعادة تسمية طريق أورنجزيب في
ديلهي. فمحوا اسمه حرفيا من لافتات الطريق في المدينة. وفي عام 2016 انفجر هاشتاج (#RemoveMughalsFromBooks) (أي أزيلوا
المغول من الكتب) في تويتر ضمن حملة دعت الكتب المدرسية الهندية إلى تخفيف أو حتى
محو التاريخ المغولي ـ وهي الفترة التي تمتد لثلاثمئة عام. وفي فبراير الماضي،
ظهرت تقارير صحفية بأن جامعة راجستان تنظر في إعادة كتابة الكتب المدرسية بهدف
التغيير الصفيق لنتاج معركة 1576 التي سحق فيها الإمبراطور المغولي أكبر ـ والد جد
أورنجزيب ـ حاكم باجبوت الهندوسي.
والمؤرخون الذين يعترضون على هذه النوعية من الأفعال ـ سواء أهم في الهند أم في
الخارج ـ يخاطرون بالتحول إلى أهداف تنصب عليها حملات التحرش الحادة.
من بين ما
لدى القوميين الهندوس من كباش فداء، ربما يظل أورنجزيب
هو المسلم الهندي المفضل للانتقاد. وبرغم أنه تسهل السخرية من بعض هذه الجهود ذات
النزعة الغربية،إلا أن الأمر جلل والثمن باهظ. فما من طريقة بسيطة لفهم الحالة
التي كانت عليها شبه القارة عشية الاستعمار البريطاني دون رؤية عقلانية مؤسسة
تاريخيا لأورنجزيب الذي يكاد يكون أهم شخصية سياسية في الهند أثناء القرن السابع
عشر بصورة شبه يقينية.
لقد كانت
امبراطوريته شاسعة، عدديا وجغرافيا. وفي ذروة قوته، حكم أورنجزيب 150 مليون نسمة،
أي أكثر من إجمالي سكان أوربا آنذاك. وإذا أخذنا في الحسبان فتوحات الإمبراطور
الكبيرة لقلنا إن المملكة المغولية امتدت عبر مساحة 3.2 مليون كيلو متر مربع، منها
أجزاء مما يعرف الآن بالهند وباكستان وأفغانستان وبنجلاديش. وكانت الخزانة
الإمبراطورية تتباهى بكنوز هائلة من
الأحجار الكريمة والماس والذهب لعلها جعلت من أورنجزيب أغنى رجل في عصره. وفي نظر
أغلب أهل القرن السابع عشر في آسيا وأوربا، عاش أورنجزيب حياة تليق باسمه: أي عاشق
العرش (أورانج ـ زيب) والمستولي على العالم (عالم جير).
كان أورنجزيب
هو الثالث أو الرابع من أبناء شاه جهان، وهو خامس أباطرة المغول، ولكن حقه في
العرش كان يتساوي مع حقوق أخوته. فلم يكن
المغول يعترفون بحق الابن الأكبر في ولاية العرش. بل كان الأبناء يتقاتلون بدلا من
ذلك على تاج أبيهم بحسب المقولة الفارسية القاسية: يا تخت يا تابوت (إما القصر
[العرش حرفيا] أو القبر). والحق أنه لا نزاع في أن أورنجزيب لم يستول على التاج
إلا بعدما مات أخوته الثلاثة أو نفوا من الهند.
وبرغم أن
التاريخ المغولي شهد نزاعات كثيرة على العرش، فربما كان الصراع بين أبناء شاه جهان
الأربعة هو الأكثر دموية، إذ أصاب المرض الأب فجأة، فصار على شفا الموت، ليسارع
أبناؤه إلى حشد الأنصار. وفي غضون عامين امتدا
من 1657 و1569 خاض الأخوة ضد بعضهم بعضا معارك شهدت العديد من الصدامات العنيفة
التي أدت إلى مقتل عشرات الآلاف، حتى كافح مؤرخو زمنهم في تسجيل المجازر، وغالبا
ما كانوا يعمدون إلى أوصاف شعرية كأن توصف ميادين المعارك بأنها غارقة في الدم
المراق الساطع سطوع الورد الأحمر. وفي النهاية انتصر أورنجزيب وأعدم اثنين من
أخوته، وهرب الثالث إلى بورما حيث قتله حاكم محلي بعد سنوات قليلة.
في أزمنة
أقرب إلينا، تعرض أورنجزيب للوم بسبب المعاملة التي تعامل بها مع أخوته، أما في
الهند المغولية فلم يثر قتال الأخوة دهشة الكثيرين. صحيح أن بعض المراقبين
الأوربيين ارتاعوا وأدانوا صراع الأخوة معتبرينه "غير إنساني" أو
"حربا شاذة" شهدت "تضحيات بربرية"، لكن الهنود كانوا أقل
اضطرابا، وقد أهَّلتهم لذلك صراعات مغولية أسبق على العروش. وتبرز الدراسات
الحديثة كيف أن اقتتال الأمراء على العرش كان مصدر تقوية للدولة المغولية، إذ أنه
لم يسمح إلا للأقوى من الأخوة بتولي العرش وكان حافزا للأمراء على تجنيد الجماعات
الجديدة في الخدمة المغولية في معرض تنافسهم على الحكم.
وهكذا ارتقى
أورنجزيب إلى مصاف الأباطرة الأقوياء، مسلحا بالزعامة والحنكة والمهارات الإدارية
والميدانية التي كان من شأنها أن تجعل منه حاكما ذا كفاءة.
***
يمكن أن نفهم
نصف القرن الذي شهد حكم أورنجزيب أفضل الفهم إن نحن نظرنا إليه من خلال مجموعة
القيم الثقافية الجوهرية التي أرساها: وهي السلطة والعدل والتقوى والملكية
المغولية. والعدل بطبيعة الحال هو أكثر ما يبهت الناظر الآن إلى حاكم ملوث الاسم يعد
من جملة الطغاة. والحق أن عدالة أورنجزيب كانت قاسية قسوة العالم الذي عاش بين
جنباته. فقد كانت عدالة تتضمن الحكم بإعدام أعداء الدولة، وأحيانا ما كان التعذيب
يسبق القتل. غير أنه بدلا من محاكمة هذه التصرفات وفقا لمعاييرنا المعاصرة، ربما
يكون الأفضل لفهمه وفهم الهند في القرن السابع عشر أن نتصور كيف كان مفهومه عن
الملك المغولي المسلم العادل.
لقد كان
أورنجزيب يريد أكثر ما يريد أن يوسع الأراضي المغولية، فكانت أهدافه التوسعية تبز
أهدافه الأخرى، لا سيما هدف السعي إلى تحقيق العدالة. وبوسعنا في أغلب الحالات أن ندرك
التوترات المحورية في عهده من خلال تحديد نقاط الصراع بين مطامحه الإمبريالية
الجامحة والتزامه المعلن بالتقوى والحكم العادل للمملكة المغولية.
فعلى سبيل
المثال، بمجرد وصوله إلى العرش المغولي، وجد أورنجزيب نفسه يخرق القانون الإسلامي
ويتعرض لإدانة غيره من الحكام المسلمين في شتى أرجاء آسيا. فمن المزعج بعض الشيء
أن نعرف أن أباه لم يمت من جراء مرضه سنة 1567 كما قد نتوقع، بل لقد شفي شاه جهان
من مرضه في غضون شهور قليلة، لكن في غضون الشهور القليلة تلك كان الصراع على العرش
بين أبنائه قد بلغ نقطة يستحيل إيقافها فيه: فقد كان أورنجزيب قد استولى على
الخزانة الإمبراطورية وبدأ في مطاردة أخوته. وبوسع الأخ في الهند المغولية أن يقتل
أخاه، لكن ليس بوسعه قتل أبيه، فذلك كان يعد إثما كبيرا. هكذا حبس أورنجزيب
أباه في الحصن الأحمر بـ أجرا، وفي هذا
الصدد تشير بعض المصادر بألم إلى تاج محل الذي كان قد سبق لشاه جهان أن أقامه قبرا
لأحب زوجاته إلى قلبه. وبقي شاه جهان رهن الحبس المنزلي إلى أن حان أجله بعد سبع
سنوات ونصف السنة في 1666. تعد إطاحة أورنجزيبب بأبيه في نظر كثير من ملوك العالم
الإسلامي طريقة غير مشروعة لتولي العرش. فملك فارس الصفوي سخر قائلا إن
أورنجزيب زعم أنه المستولي على العالم (عالم
جير) وسمى نفسه بذلك في حين أنه لم يستول إلا على أبيه فهو (بيدار جيري).
وطوال حياة شاه جهان رفض شريف مكة أن يعترف بأورنجزيب مسلما شرعيا. إذ كان اغتصاب
أورنجزيب سلطة أبيه بحسب الأفكار الإسلامية في ذلك الزمن غبنا له.
وشأن كثير من
الناس ازداد أورنجزيب تقوى بتقدمه في السن. ويحتمل أن تكون خبرة الحكم عليه من
غيره من المسلمين بأنه ملك مسلم غير شرعي أثناء حياة أبيه قد أرغمته على تغييرات
معينة في حياته الدينية. فلم يجد أورنجزيب على سبيل المثال الوقت قبل وصوله إلى
الملك وهو في التاسعة والثلاثين ليحفظ القرآن. فكان ينسخه بخط يده في أوقات فراغه،
وفي السنين التالية كان يحيك قلنسوات الصلاة.
لكن أورنجزيب
لم يكن متشددا في الدين. فعلى مدار حكمه ظل يحافظ على علاقات مع الصوفية المشهورين
بممارستهم الروحية المفرطة، بل إنه دفن في ضريح صوفي. ولأنه كان ينفر من
الاحتفالات الشعبية ويرى فيها خطرا، فقد قصر الاحتفالات الدينية الإسلامية على
عيدي الفطر والأضحى. وحظر بعض الكتابات اللاهوتية المثيرة للجدل كبعض أعمال أحمد
السرهندي وهو العالم المسلم الشهير. كان القرن السابع عشر في الهند المغولية عصرا
غير العصر، فلا مجال لقياس إسلام أورنجزيب على ما يشيع اليوم من مقابلة بين
اللبرالية والمحافظة.
وفي مراحل
متأخرة من حياته فاقت مطامحه الإمبراطورية تقواه. ففي ما بين عامي 1685 و1686 على
سبيل المثال حاصر مدينة بيجابور المسلمة في وسط الهند. وتسبَّب الحصار في مجاعة
حتى توسل بعض شيوخ بيجابور طالبين منه الرحمة. وقالوا إن محاربة المسلمين للمسلمين
ممنوعة شرعا، فلم تلق توسلاتهم وحججهم إلا آذانه الصماء. فبقي أورنجزيب ـ في ظل
شرهه إلى المزيد من الأرض ـ على حصاره للمدينة حتى سقطت.
***
كانت رؤية
أورنجزيب للعدالة تقتضي منه أن يشمل بالأمن والأمان كل من في إمبراطوريته. وغالبا
ما كان ذلك يفضي إلى قهر في شؤون الحكم الروتينية، لا سيما ما تعلق منها بالجريمة.
فكان أورنجزيب على سبيل المثال يكتب مرارا في رسائله عن تأمين الطرق. وحدث مرة أن
عاقب ابنه عزام شاه، بتقليل رتبته، لعدم اعتنائه الكافي بجريمة سطو وقعت على طريق.
وكان
أورنجزيب يضرب بقوة على أيدي أعدائه ممن يهددون وحدة الدولة المغولية وسلامها، بغض
النظر عن مكانتهم أو دينهم. ولما ثار عليه ابنه الأمير أكبر طرده من الهند فلم
يرجع إليها إلا عقب وفاته بعد عقود. ولم يتوان أورنجزيب عن مطاردة شيفاجي، رئيس
الماراثا الذي تطلق عليه المصادر المغولية أحيانا "جرذ الجبال" لمعارضته
حكم المغول في تلال وسط الهند. لم ينجح أورنجزيب قط في القبض على شيفاجي لكنه
اعتقل ابنه سامبهاجي، فمزقه حرفيا عقابا لأبيه على استمراره في محاربة المغول.
وأكثر أعمال
القتل التي قام بها أورنجزيب إثارة للجدل هو قتله تيج بهادور تاسع زعماء السيخ سنة
1675. ففي منتصف القرن السابع عشر تسبب تيج بهادور في قلاقل في البنجاب التابعة
للمغول، فكان بذلك خطرا على أمن الدولة وسلطان أورنجزيب. ولا نجد أن المصادر
المغولية المعاصرة تشير إلى هذا الإعدام، فلعل السبب هو أنه من وجهة نظر الدولة
كان أمرا غير نادر لا يستحق أن يشار إليه. ويرى الكثير من المحدثين في هذه الواقعة
مثالا على ملك مسلم يحاول استئصال السيخية في أوائل أيامها. وتروي القصة الشائعة
المتكررة أن أرونجزيب طلب من تيح بهادور أن يعتنق الإسلام ثم أعدمه لما ثبت زعيم
السيخ على عقيدته. ولكنني في ضوء قسوة أرونجزيب على أعداء الدولة أجد أن اعتناق
تيج بهادور الإسلام ما كان لينجيه من الإعدام.
كان اهتمام أورنجزيب
الفائق بأمن الدولة هو الذي أدى به إلى سياساته المتعلقة بالمعابد الهندوسية، وهي
المسألة المهيمنة إلى حد كبير على الخيال العام في الهند اليوم. وخلافا للرؤية
المعاصرة لأورنجزيب بوصفه مدمر معابد، فإن آلافا من معابد الهندوس كانت تزين أراضي
الهند في عهده، وقد كانت أغلبيتها الكاسحة قائمة في أماكنها عند نهاية حكمه. وتشهد
أدلة وافرة على أن أورنجزيب أصدر مراسيم بحماية المعابد الهندوسية واليانية Jain، وأنعم على
أتباع المعابد بأراضي ومزايا أخرى. بل إن أورنجزيب كان يعاقب المسلمين ممن يتحرشون
بالبراهمة الأتقياء.
غير أن ما
كانت الدولة المغولية توفر له الحماية، هو ما كان بوسعها أيضا أن تستولي عليه. ففي
بعض الأوقات كان أورنجزيب يدمر معابد بعينها، لا سيما حين كان أتباعها يساعدون
المتمردين فيهددون بذلك مصالح الدولة المغولية. وإجمالا، على مدار حكمه الذي دام
خمسين عاما، ربما يكون أورنجزيب قد حطم عشرات قليلة من المعابد الهندوسية، وفي ذلك
الوقت لم يكن الناس يفصلون بحسم بين الديني والسياسي، فكان طبيعيا أن تعامل
المعابد بوصفها طرقا مشروعة تعاقب الدولة من خلالها المخطئين. والحق أن الملوك
الهندوس هم الذين بدأوا تقليد انتهاك معابد الآخرين في القرن السابع، قبل عهد بعيد
من فجر الحكم الإسلامي الهندي. غير أن فكرة هدم المعابد تثير اليوم حفيظة
الكثيرين. وعليه فإن هذا الوجه من أوجه حكم أورنجزيب هو الأكثر إثارة للجدل بين
سمات عهده، على الرغم من أنه لم يكن يشذ عن معايير عصره.
***
احتمل
أورنجزيب عبء إقامة مثال الملك المغولي. فكتب رسائل عن أسلافه المغول يعرض فيها
مملكته بوصفها هبة ثمينة منهم. ومن نواح كثيرة، كان البروتوكول الحاكم لبلاط
أورنجزيب يتبع أولئك الأسلاف. فحينما وصل إلى ديلهي اعتلى أورنجزيب عرش الطاووس ـ
وهو رمز للملك المغولي يبهت الناظر إليه بجواهره الكثيرة. وكانت طقوس البلاط
المغولي شديدة الرسمية، لذلك كان أورنجزيب يرتدي الكثير من الحرير والجواهر، بينما
يصطف النبلاء واقفين إجلالا ورهبة، منتظمين بحسب التراتبية المغولية.
كان الملك
المغولي عظيما، وقد سمح أورنجزيب لنفسه بصياغة ثقافة البلاط المغولي وفقا لذائقته
الجمالية والدينية. ومن ذلك أن أورنجزيب خصَّص ـ مثل أسلاف له ـ موارد كثيرة
للرعاية، لكن في حين كان أجداده يرعون ترجمة النصوص السنسكريتية الهندوسية إلى
الفارسية، وفي حين كان لجده المباشر مرسم خاص، وفي حين أقام أبوه نفسه تاج محل،
رعى أورنجزيب "فتاوي علم جيري"، وهي مجموعة من القواعد القانونية
الحنفية.
ومضى
أورنجزيب على تقليد مغولي يفسح المجال للهندوس في مراتب النبالة. فقد كان الهندوس
على مدار قرن يشكلون عشرين في المئة من النبلاء المغول. وفي النصف الثاني من حكمه
وسّع أورنجزيب النسبة إلى خمسين في المئة من الهندوس في نبالته، فلا يصح أن يشي
هذا بحاكم كان يدمر الهندوسية أو معابدها. ولم يحل هذا الارتفاع في نسبة النبلاء
الهندوس دون سن السياسات المناهضة للهندوسية، ومنها الجزية التي فرضها أورنجزيب
على أغلب غير المسلمين ابتداء من سنة 1679، واسترجاع الأراضي الممنوحة للهندوس في
عام 1672. وإذا كانت تعوزنا سجلات عوائد الجزية، فإن بعض الأدلة تشير إلى أن أغلب
هذه العائدات كان ينصب في جيوب جامعي الجزية لا في الخزانة المغولية. ولدينا سجلات
أفضل تتعلق باسترجاع الأراضي الممنوحة، ويتبين منها أن المرسوم لم يطبق فعليا في
مقاطعات كثيرة من الإمبراطورية. بل لقد حدث أن قام المغول في البنغال بزيادة منح
الأراضي للهندوس بعد 1672.
تنامى شره
أورنجزيب إلى الغزو مع تقدمه في العمر. فقد قضى الإمراطور الستينيات والسبعينيات
والثمانينيات من عمره يعيش في خيام أثناء خوضه الحملات المغولية في وسط الهند
وجنوبها. وكانت انتصاراته في أول الأمر خاطفة. ففي تسعينيات القرن السابع عشر
استولى على بيجابور وجولكوندا بما فيها من مناجم الماس الشهيرة. ولكن انتصارات
المغول بدأت في التراخي بعد ذلك. فشهد العقد
الأخير من القرن السابع عشر والسنوات السبع الأولى من القرن التالي حصارات
مطولة وفتورا في همة الجنود المغول. وبقي أورنجزيب ـ حتى في شيخوخته التي قضت أن
يحمل في دوكان وجنوب الهند على المحفة ـ يشرف بنفسه على الأعمال العسكرية.
بدا أن
أورنجزيب يفقد نفسه، وربما الإمبراطورية المغولية أيضا، في جنوب الهند. وعند وفاته
سنة 1707 كانت الإمبراطورية المغولية هي أكبر مملكة في التاريخ الهندي. غير أن
الأمور ساءت بعد ذلك. فبين 1707 و1709، تقاتل أبناء أورنجزيب على العرش كما كان
متوقعا، لكن المنتصر بهادور شاه لم يستطع أن يثبت سيطرته على ما كان في السابق
إمبراطورية لا نظير لها. وازداد أعداء المغول قوة، فبدأت الدولة تتفكك.
الياقوتة |
يختلف
الباحثون على دور أورنجزيب الكامن في إضعاف الدولة المغولية، وتبقى هذه المسألة بينهم
موضع جدل عظيم. ويرجع سبب اضطرام هذا الجدال جزئيا إلى التناقضات المذهلة التي
اتسم بها حكمه. فقد وصل أرونجزيب بالإمبراطورية المغولية إلى أقصى اتساع لها مضيفا
أربع مقاطعات تمثل مجتمعة أكثر من ربع المملكة المغولية، غير أنه ربما يكون قد
أفرط في توسيع الموارد الإمبراطوية بما هدَّد بانهيارها عقب وفاته. ولقد كان أثرى
ملوك زمانه، ويباهي أمثاله بأشياء من قبيل ياقوتة تِيمور وماسة كوهينور. لكن
أرونجزيب كان يؤثر الحياة البسيطة، ويتلو القرآن وينسج قلنسوات الصلاة بيده. وكان
مرهوب الجانب على نطاق واسع، ولكن رسائله في آخر حياته تنم عن شخص استولت عليه
نقائصه وخوفه على مستقبل مملكته.
الماسة |
أرونجزيب
شخصية لا غنى عن فهمها من أجل فهم ماضي الهند. غير أن كثيرين في الهند الحديثة لا
يبالون بإعادة اكتشاف تاريخ أرونجزيب، مؤثرين على ذلك ذكراه المشوهة المختزلة.
وهذا نهج شديد الخطورة في دراسة التاريخ بوصفه لوحا خاويا يمكن أن ينعكس في
أفكارنا الحديثة ليصل حتى إلى حد إعادة كتابة الماضي. خاصة وأن الغرض من إدانة
أرونجزيب المنافية للتاريخ هو في الغالب تحفيز للمشاعر المناهضة للمسلمين.
لا بد أن
نعتنق مشروعا لفهم أرونجزيب بشروط زمنه لنحظى بنظرة أدق لهذا الإمبراطور المهم
وللعالم الذي ساهم في خلقه. كما أن دراسة أورنجزيب تساعدنا على مقاومة الجهل الحديث
والكراهية بتقديمنا صورة مركبة لرجل لا نستطيع أن نفهمه في ضوء تصنيفاتنا
وانحيازاتنا المعاصرة. إن معرفة المزيد عن أورنجزيب أمر شديد الأهمية، بالنسبة
لماضي الهند، أو لحاضر الهند.
كاتبة المقال
أستاذ مساعد تاريخ جنوب الهند بجامعة روتجرز في نيوارك. صدر كتابها الأول بعنوان Culture of Encounters: Sanskrit at
the Mughal Court عن مطبعة جامعة كولمبيا سنة 2016. وأحدث
كتبها Aurangzeb: The Life and Legacy of
India's Most Controversial King صدرعن مطبعة جامعة ستانفورد سنة 2017
نشر المقال في مجلة آيون ونشرت الترجمة في ملحق شرفات
مقال ممتاز نشكركم
ردحذف