قصائد نثرية
لجيمس تيت
خيانة
بدا الرجل الذي
كان يتبعني أشبه بعميل حكومي، فالتفتّ إليه وسرت نحوه قائلا "لماذا
تتبعني؟" قال "أنا لا أتبعك، أنا موظف تأمين في طريقي إلى العمل"
قلت "طيب، اعذرني". قال "هل اقترفت خطأ ما، مخالفة للوطنية، أما
أنك مجرد مصاب بالبارانويا؟" قلت "لم أقترف خطأ، ولا مخالفة للوطنية
قطعا، ولست مصابا بالبارانويا". قال "طيب، لكن أحدا لم يتصور من قبل
أنني عميل حكومي". قلت "أنا آسف". قال ”هناك ما يثقل على ضميرك،
أليس كذلك؟" قلت "لا، إطلاقا، أنا فقط شخص حذر". قال "شأن
مجرم جيد". قلت "لو سمحت لا تكلمني بهذه الطريقة. أنا لا أريد أن تكون
لي أي علاقة بك". قال "لقد ارتكبت خيانة ما وسوف ينالون منك" قلت
"أنت فاقد عقلك". قال "بينيدكت أرنولد[1]، هذا هو أنت". قلت
"أنا ذاهب إلى مسيرة من أجل السلام لو أن هذا يروق لك" قال "آه، أنت
من دعاة السلام، هذا والخيانة سواء". قلت "لا ليسا سواء". قال
"بل سواء". "لا". "نعم". "لا".
"نعم". وصلنا إلى باب مكتبه. قال "يسوؤني أن أودعك. ما رأيك أن
نتناول الغداء معا غدا؟" قلت "من دواعي سروري". قال "مقهى
سادي ظهرا". قلت "ظهرا في مقهى سادي".
قوام إنسان
مددت يدي في أحد الاتجاهات وشعرت بما يشبه الحرير، بل ما يشبه
وشاحا من الحرير يليق بأميرة. مددت يدي الأخرى فعضّها شيء ما، لعله قرد. قلت، لا
بد إذن أنني في الهند. دخل شخص الغرفة وقال "انهض!". حاولت أن أقف
فتضاعف انحنائي. حاولت أن أستقيم فلم أستطع. قال الصوت "قف مستقيما".
"سيدي، لا أستطيع. هكذا هو قوامي". قال "ليكن، سر إلى هنا".
لم تكن لدي إلا فكرة غائمة عن مكانه، لكنني سرت إلى هناك، إن أمكنكم أن تصفوا ذلك
بالسير. قال "توقّف" وتوقفت. قال "سوف تقابل القبطان وهو شخص على
قدر كبير من الأهمية. لا بد أن تنصت إليه وتتبع أوامره. هل تفهم؟". قلت
"أوه، نعم يا سيدي، سأفعل بالضبط ما يأمر به. فتح بابا ثم بابا آخر ثم بابا
آخر. ثم أخيرا القبطان منحنيا على مكتبه، يشعُّ عليه ضوء أخضر. كنت لا أزال منحنيا
حتى خصري، ولكنني انتظرت أن ينتبه إلى وجودي. لم يقل شيئا. بدأت أدندن بأغنية
بسيطة من تحت ضروسي. فنظر إليّ أخيرا وقال "ماذا أنت، أرنب كسيح مثلا؟"
قلت "هذا في غاية الظرف يا سيدي. قد أكون أرنبا كسيحا، ولكنني هنا لاتّباع
أوامرك". قال "حسنا تفعل. هل يمكن الآن أن تتواثب من أجلي". ركّزت
جهودي وبدأت أتواثب حول الغرفة. قال "ممتاز. والآن هل يمكن أن تزداد انحناء
وتتسلَّل حول الغرفة بهدوء قدر ما تستطيع". كان القبطان بالنسبة لي مجرد أزرق
في أخضر. لم أكن أستطيع أن أراه. ومع ذلك فعلت ما قيل لي، وأوشكت أن أصطدم بكرسي
لم أتبيّنه. قال "الآن أريدك أن تهجم عليّ بأقصى ما لديك من قوة وترى إن كان
بوسعك أن تطرحني أرضا". قلت "أنا يا سيدي لا أزن أكثر من جرامات قليلة
وصحتي معتلة. لا أظن أن هذه مسابقة عادلة". قال "ومن تكلم عن العدل؟
إنني أنوي أن أسحقك فأحيلك كرة فراء صغيرة". كان يظن بالفعل أنني أرنب. وهذا
ضايقني. بعد كل هذه السنين في دار العجزة كيف يتصورني أي شخص أرنبا؟ انسللت من
غرفته ورأسي يوشك أن يصطدم بركبتي، غير راغب في شيء إلا أن أجد سريري، غير واثق
أنني قد أجده أبدا.
قصر الذاكرة
لم يكن في المكان نور في ذلك الوقت من الليل. سرت وحاولت مع
الباب. بالطبع كان مغلقا. كان ثمة كرمة
كثيفة نابتة في ذلك الجانب من المبنى، فحاولت التسلق. وكنت أوشك أن أصل حينما بدأت
تتداعى وتفصل نفسها عن المبنى. سقطت حطاما فجُرحت جبهتي وذراعاي. وجدت مخرج طوارئ
في الواجهة فتسلقت. اقتحمت نافذة في الطابق الثاني وأذهلني أن أرى أكواما وأكواما
من ألبومات الصور والملفات تفيض على الأرض. فتحت النور، برغم أنني كنت على دراية
بمخاطر ذلك. لم يبد أن هناك نظاما لأي شيء. جلبت مقعدا وتناولت ألبوما ـ أطفال في
ثياب رعاة البقر على خيول صغيرة، أطفال يمسكون سمكة اصطادوها، كعك عيد ميلاد،
أراجيح، رقصات، لا نهاية لفتنة الأطفال، لكنهم بطريقة ما بدوا جميعا جزءا من نفس
الطفولة. ثم ألبوم ما قبل الموت، بأنابيب التنفس، وأكياس التغذية، والنظرات
الثلجية إلى البعيد في أعين الموشكين على الرحيل. في قصر الذاكرة لا يضيع شيء، فقط
تتغير مواضع الأشياء. قضيت أغلب الليل هناك إلى أن نال مني الإنهاك فلم أعد أقوى
على فتح عيني. وفيما أستعرض ألبومات كثيرة مخصصة للعشاق الشباب، تجمدت فجأة. كانت
هناك صورة لأمي وأبي، شاحبة للغاية، وهما تقريبا في العشرين، ولعلهما لم يتزوجا
بعد، وأحدهما يمسك يدي الآخر مبتسمين للكاميرا بينما العالم يمسك غضبه لثانية
عابرة تاركا لهما لحظة الشروق شديدة الهشاشة والرقة. نزعت الصورة من جرابها
ووضعتها في جيبي. ذهبت إلى النافذة ونظرت منها إلى أسفل. كان رجل في زي رسمي واقفا
هناك. قال "انزل يا بنيّ سوف نعتقلك". قلت "لكنني أيها الضابط شيخ
كبير". قال "قصر الذاكرة يا بني لا ذاكرة له. أتفهم، ولا يكترث".
عيد الأب
سنوات مضت وابنتي تعيش في
ما وراء البحار. تزوجت في مملكة، ولا يسمحون لها بالتواصل مع أي من أهلها أو
أصحابها. تعيش هناك على حبوب الطيور وبضع رشفات من الماء. لا تكف عن الحلم بي.
وزوجها، الأمير، يجلدها كلما ضبطها تحلم. وكلاب الحراسة الشرسة لا تسمح لها بالغياب
عن أبصارها. استأجرتُ مخبرا سريا، لكنه قُتل وهو يحاول إنقاذها. كتبت مئات الرسائل
إلى وزارة الخارجية. فكانوا يردون قائلين إنهم على علم بالوضع. لم أرها ترقص قط؟
كنت دائما في اجتماعات. لم أرها تغني قط. كنت دائما أعمل حتى وقت متأخر. كنت
أناديها قائلا يا أميرتي، فقط لأعوضها عن كثرة غيابي، ولكنها لم تسامحني قط.
عن حرب الجيران
ظننت أني رأيت ضحايا الحرب
الأخيرة يمشون في ضماداتهم يترنحون عبر الغابة المجاورة لبيتي. ظننت أني أعرف
البعض منهم، لكنني لم أكن واثقا. كنت كأنما في حلم ضبابي أحاول أن أوقظ نفسي منه،
ولكنهم بقوا موجودين، غارقين في الدم، بعضهم يتكئ على عصي، وبعضهم بغير أطراف.
واستمر ذلك الموكب التعيس ساعات، لم أستطع خلالها أن أغادر الشباك، وفي النهاية
فتحت الباب، وصحت "إلى أين أنتم ذاهبون؟" ردَّ أحدهم صائحا "إننا
فقط نحاول الهروب. قلت "لكن الحرب انتهت". قال "لا لم تنته
الحرب". كانت جميع التقارير الإخبارية تقول إن الحرب انتهت منذ بضعة أيام.
فلم أعرف من أحق أن أصدقه. قلت لنفسي إن الأحسن أن أتجاهلهم. وهم على أي حال
ذاهبون. ومن ثم عدت إلى غرفة المعيشة وتناولت مجلة. كانت هناك صورة رجل ميت. وكان
هو نفسه قد عبر للتو أمام بيتي. وميت آخر تعرفت أيضا عليه. جريت عائدا إلى المطبخ
وأطللت، فإذا جمع منهم قادم باتجاهي. فتحت الباب. قالوا "لماذا لم تكن تحارب
معنا؟". قلت "لم أكن أعرف من العدو، صدقوني لم أكن أعرف". قال
أحدهم "أحسنت الجواب، أنا شخصيا لم أتمكن من تحديده". نظر الآخرون إليه
كما لو أنه مجنون. وقال آخر "كان الطرف الآخر بوضوح هو العدو، ذوو العيون
الصغيرة اللامعة أولئك". قال آخر "كانوا في غاية الوضاعة،
والبشاعة" قال واحد "كان أحدهم طيبا جدا معا، هدهدني بين ذراعيه".
قلت "اسمعوا، أنتم الآن موتى جميعا، وسوف تفعلون جميعا أشياء طيبة". قال
أحدهم "إنما نحن نستجمع قوانا". أغلقت الباب وعدت إلى غرفة المعيشة. وفي
أول الأمر سمعت خربشات على الشباك، ولكنها تلاشت بعد ذلك. وفي البعيد سمعت بوقا،
ثم هدير مدفع. لا زلت لا أعرف أيَّ طرف من الطرفين كنت أتبعه.
ولد جيمس
تيت (1943-2015) في مدينة كنساس بولاية ميزوري الأمريكية، فازت أعماله الشعرية
بالجائزة الوطنية للكتاب عام 1994 وببوليتزر للشعر عام 1991 وغيرهما من الجوائز.
عمل أستاذا للشعر بجامعة ماساتشوستس، وكان رئيسا لأكاديمية الشعراء الأمريكيين.
يقول عنه الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك "إن شعره ينجح من حيث لم ينجح قبله
إلا القليلون، ينجح عبر طرائق لم يسبقه إليها الكثيرون. وإن شعره ينجح، فيحملني
كلما قرأته على الظن بأن اللاشعر، هو أصدق صديق حظي به الشعر". والنصوص
المنشورة هنا جميعا مأخوذة من ديوانه النثري "أشباح الجنود".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق