لماذا
تخلف الأمريكيون وتقدم غيرهم؟
آن جونز
احتفالا
بالعيد الوطني في أوسلو
|
قبل بضع
سنوات، أفقت على تفاهة ما أفعله بنقلي حقائق حروب أمريكا الكارثية عبر عملي
الصحفي، فتركت أفغانستان إلى بلد جبليٍّ آخر شديد البعد، كان بمثابة القطب الشمالي
بالنسبة لأفغانستان: أرض رخاء وسلام يبدو على كل من فيها تقريبا أنه ينعم بحياته
الطيبة سواء في العمل أو في نطاق الأسرة.
هم هناك لا
يعملون كثيرا ـ وفقا للمعايير الأمريكية على أية حال. ففي الولايات المتحدة يعمل
أصحاب الوظائف الدائمة لأربعين ساعة في الأسبوع، وإن يكن المتوسط الفعلي تسعا وأربعين
ساعة، مع ملاحظة أن عشرين في المائة يعملون لساعات تتجاوز الثمانين في المائة
المتبقين. أما الناس هناك، في المقابل، فيعملون سبعا وثلاثين ساعة في الأسبوع، هذا
لو لم يكونوا في إجازاتهم الطويلة مدفوعة الأجر. وفي نهاية يوم العمل، في الرابعة
عصرا (أو الثالثة في الصيف)، فإن لديهم من الوقت ما يكفي للاستمتاع بالتريّض في
الغابة أو السباحة مع الأطفال، أو تناول المشروبات مع الأصدقاء، وهو ما يفسر
سعادتهم ـ على عكس الأمريكيين ـ بوظائفهم.
كنت غالبا
ما أتلقى الدعوات لمشاركتهم. فكانت طاقتي تتجدَّد، إذ أتريَّض أو أتزلَّج في ريف
يخلو من الألغام الأرضية، أو حينما أستمتع بمقاه غير مهددة بالتفجير. وبالتدريج،
انحسر توتري الحربي، وبدأت أندمج في تيار الحياة البطيء الهادئ الوديع الخالي من
الأحداث هناك.
وبعد أربع
سنوات، فكرت أنني ينبغي أن أستقر، فرجعت إلى الولايات المتحدة. وشعرت بقوة كما لو
كنت أنتكس إلى العالم الآخر العنيف الفقير، حيث يحتدم التوتر ويتشاجر الناس. شعرت
بالفعل أنني رجعت إلى الوجه الثاني من أفغانستان والعراق: أعني ما فعلته الحربان
اللتان خاضتهما أمريكا في أمريكا نفسها. فحيثما أعيش الآن، في الوطن، لا يوجد ما
يكفي لإيواء المشردين. وأغلب الناس إما مثقل بالعمل أو محروم من العمل، والسكن
مغالى في أسعاره، والمستشفيات مكدسة بالمرضى غير مكتفية من الأطباء، والمدارس
المقسمة عنصريا إلى حد كبير غير جيدة بالقدر الكافي. التعاطي الزائد للمخدرات سبب
شائع للموت، والرجال في الشوارع يهددون لابسات الحجاب. فهل كان الجنود الأمريكيون
الذين غطيت أخبارهم في أفغانستان يعلمون أنهم يقاتلون من أجل ذلك؟
***
التعمية
على الموضوع
ذات ليلة تابعت المناظرة الرئاسية في الحزب
الديمقراطي عسى أن أرى لديهم خططا من أي نوع لاسترداد أمريكا التي عرفتها. ولدهشتي
سمعت اسم ملاذي الجبلي الوديع: النرويج. كان بيرني ساندرز يدين النسخة الأمريكية
المعوجة من "رأسمالية الكازينو"
casino capitalism التي تزيد الإثرياء طَفْوًا والطبقة العاملة غرقا. قال إنه يجدر
بنا أن "ننظر إلى دول مثل الدنمارك، والسويد، والنرويج لنتعلم مما فعلوه
للعاملين لديهم".
وأضاف أنه يؤمن بـ "المجتمع الذي يعيش الجميع فيه ـ وليس حفنة من
البليونيرات فقطـ حياة كريمة" وهو ما ينطبق يقينا على النرويج. فلقد عمل
النرويجيون على مدار عصور إنتاجا لما فيه نفع الجميع ـ لا ربح القلة ـ فأصغيت بكل
جوارحي في انتظار أن يعلنها ساندرز في وجوه الأمريكيين.
ولكن هيلاري كلينتن سرعان ما عارضته قائلة "نحن لسنا الدنمارك"
وقالت مبتسمة "أنا أحب الدنمارك" ثم سدَّدت إلى الرجل لكمة وطنية بقولها
"نحن الولايات المتحدة الأمريكية" (طيب يا ستي، لم ينكر أحد ذلك).
وامتدحت الرأسمالية و"جميع المشاريع الصغيرة التي بدأت لأن في بلدنا الفرص والحرية التي تخوّل للناس أن
يهيِّئوا لأنفسهم وأسرهم حياة طيبة". بدا أنها لا تعرف أن الدنماركيين
والسويديين والنرويجيين يفعلون ذلك أيضا، وبنجاح أكبر بكثير.
الحقيقة أن ربع المشاريع الصغيرة الأمريكية تقريبا لا يقوم على أفكار براقة
جديدة، بل على يأس شباب وشابات من العثور على وظيفة لائقة. فأغلبية المشاريع
الأمريكية لا تعدو مغامرات بلا أجور، وبلا عمال إلا أصحابها، وفي أغلب الحالات بلا
أفق نجاح قبل زوالها. قال ساندرز إنه يؤيد المشاريع الصغيرة تمام التأييد ولكنها
لا تعني أي شيء "لو أن كل الدخل والثروة يصعد إلى القمة المؤلفة من 1%"
(ولقد قال جورج كارلين :إنما يسمونه الحلم الأمريكي لأنكم لا بد أن تكونوا
نياما كي تصدقوه").
لم يضف أحد شيئا في تلك المناظرة عن الدنمارك أو السويد أو النرويج. وبقي
الجمهور في جهله. ثم حاول ساندرز في كلمة ألقاها لاحقا في جامعة جورج تاون
بواشنطن أن يوضح هويته كاشتراكي ديمقراطي. فقال إنه ليس الاشتراكي بألف التعريف
ولامه، ذلك الذي يؤيد ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. في المقابل تمتلك الحكومة
النرويجية وسائل إنتاج الكثير من الأصول العامة وهي الشريك الأساسي في الكثير من
المشاريع الخاصة الحيوية. أطبق عليَّ. النرويج، والدنمارك، والسويد تعتمد نسخا
مختلفة من نظام أنجح كثيرا من نظامنا. غير أن المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين
الذين يقولون إنهم يحبون هذه البلاد أو يريدون التعلم منها لا يعرفون هم أنفسهم في
ما يبدو كيف يعمل النظام لديهم.
***
لماذا لسنا الدنمارك
سنويا، يظهر الدليل على أنهم يعملون في تقديرات غنية بالبيانات تصدر عن
الأمم المتحدة وغيرها من الهيئات الدولية. فعلى سبيل المثال، يقيس تقرير منظمة
التنمية والتعاون الاقتصادي السنوي لمستوى الرفاهية الدولي أحد عشر عاملا تتراوح بين الشروط المادية
كإمكانية الحصول على سكن أو عمل، وحتى العوامل المتعلقة بجودة الحياة مثل التعليم
والصحة والعمر المتوقع ومشاركة الناخبين ورضا المواطنين العام. ومن عام إلى عام
تأتي مجموعة البلاد الاسكندنافية على القمة،
وتتخلف الولايات المتحدة عنها كثيرا. فضلا عن أن النرويج تأتي في المرتبة الأولى
في مؤشر التنمية البشرية الذي أعده برنامج الأمم المتحدة للتنمية على مدار اثني عشر من الأعوام الخمس عشرة الماضية،
وتأتي كذلك دائما في قمة المقارنات الدولية المتعلقة بالديمقراطية والحقوق المدنية
والسياسية وحرية التعبير والصحافة.
فما الذي يجعل الاسكندنافيين مختلفين إلى هذا الحد؟ بما أن الديمقراطيين لا
يستطيعون إخباركم، والجمهوريين لن يريدوا لكم أن تعرفوا، فاسمحوا لي أن أعرض لكم
هنا مقدمة سريعة. إن ما يسميه الاسكندنافيون بالنموذج الاسكندنافي هو نظام بسيط وذكي يبدأ من التزام عميق
بالمساواة والديمقراطية. وهذان مفهومان يجتمعان على هدف واحد، لأنه لا وصول إلى
أحدهما بغير الآخر.
وفي هذا الموضع بالضبط، تفترق هذه الدول عن أمريكا الرأسمالية، إذ إنها
ألأشد تفاوتا بين الدول المتقدمة جميعا، والتي من ثم لا تعد بلدا ديمقراطيا. يقول
أساتذة العلوم السياسية إن الولايات المتحدة أصبحت بلدا أوليجاركيا [أي خاضعا لحكم
القلة]، يديره شديدو الثراء على حساب المواطنين. ولعلكم لاحظتم هذا.
لقد رفض الاسكندنافيون ـ على مدار القرن الماضي ـ في سعيهم إلى المساواة أن
يقبلوا بأي أيديولوجية منفردة من الأيديولوجيات المتنافسة على السلطة، فلا رضوا
بالرأسمالية أو الفاشية أو الماركسية أو الاشتراكية أو الشيوعية. وفي ظل انحباسهم
جغرافيا وسط دول كبرى تخوض حروبا باردة أو ساخنة على هذه العقائد، شرع
الاسكندنافيون يبحثون عن طريق وسطي. ولقد تنافس على ذلك الطريق الوسطي العمال
الطامحون إلى الاشتراكية من جهة وأصحاب الأعمال الرأسماليون وأصدقاؤهم النخبويون
من جهة مقابلة إلى أن أدى التنافس في البداية إلى اقتصاد مختلط. وبفضلٍ كبير
للتضامن وفطنة العمال المنظمين والأحزاب السياسية التي كانت تدعمهم، أثمر النضال
الطويل نظاما يجعل الرأسمالية تعاونية، ثم يعيد توزيع ما تحققه من ثرواتها بالعدل.
ولقد شهد العالم كله مثل هذه النضالات في القرن العشرين، لكن الاسكندنافيين وحدهم
تمكنوا من الجمع بين أفضل أفكار المعسكرين واستبعاد أسوأ ما لديهم.
وفي عام 1936، كان الصحفي الأمريكي الشهير ماركيز تشايلدس أول من وصف نتيجة
النضال الاسكندنافي للأمريكيين في كتابه "السويد: الطريق الأوسط". ومذ
ذلك الحين تقوم الدول الاسكندنافية وجيرانها كفنلندا وأيسلندا بتحسين نظامهم
الهجين. واليوم في النرويج، هناك مفاوضات بين الكونفدرالية النرويجية للنقابات
العمالية والكنفدرالية النرويجية للمشاريع من أجل تحديد الأجور وشروط العمل في
أغلب المشاريع الرأسمالية، العامة والخاصة، التي تحقق الثروات، بينما تموِّل نسبة
عالية ومنصفة من ضرائب الدخول نظام الرفاه المطلق الذي تتبعه الدولة ويستفيد منه
الجميع. علاوة على أن هاتين الكونفدراليتين تعملان معا لتقليل التفاوت بين الوظائف
عالية الأجور ومنخفضة الأجور. ونتيجة لذلك، تأتي النرويج والسويد والدنمارك
وفنلندا بين أكثر دول العالم تساويا في الدخول، ويتجاوز مستوى المعيشة فيها مختلف
الجداول.
ها هنا الفارق الكبير: في النرويج، الرأسمالية تخدم الناس. والحكومة التي
ينتخبها الناس تشرف على ذلك. والأحزاب الثمانية التي فازت بالمقاعد البرلمانية في
الانتخابات الوطنية الأخيرة ـ بما فيها حزب هوايري Høyre المحافظ الذي يقود الحكومة
حاليا ـ ملتزمة بالحفاظ على دولة الرفاه. أما في الولايات المتحدة فتولِّي
السياسات النيولبرالية الثعالبَ مسؤولية بيت الدجاج، ويستعمل الرأسماليون الثروة
الناتجة عن مشاريعهم (مثلما يستخدمون الألاعيب السياسية والتمويلية) في الاستيلاء
على الدولة ونتف ريش الدجاج.
ولقد برعوا في مضغ الاتحادات العمالية. فلا ينتمي إلى هذه الاتحادات من
الأمريكيين اليوم إلا 11% من العمال. في حين تصل النسبة إلى 52% في النرويج، و67%
في الدنمارك، و70% في السويد. وهكذا تعظَّم القلة ثرواتها في الولايات المتحدة
وتحافظ عليها مستعملةً الحكومة "المنتخبة ديمقراطيا" في صياغة السياسات
والقوانين المحابية لمصالح طبقتها الثعلبية. يخادعون الناس بإصرارهم ـ شأن هيلاري
كلينتن خلال المناظرة ـ على أن للأمريكيين جميعا "حرية" إقامة المشاريع
في سوق أمريكا "الحرة"، وهو ما يعني ضمنيا أن صعوبة الحياة على أحد إنما
هي خطؤه هو دون غيره.
في الدول الاسكندنافية، في المقابل،
تحرر الحكومات المنتخبة ديمقراطيا شعوبها من السوق باستعمال الرأسمالية
أداةً لمنفعة الجميع. فيتحرر الشعب بذلك من طغيان دافع الربح القاهر الذي يسوق
حياة كثير من الأمريكيين جاعلا إياهم أشد حرية في اتباع أحلامهم في أن يكونوا
شعراء أو فلاسفة أو نُدُلا أو أصحاب مشاريع، كل وهواه.
***
الشؤون العائلية
ربما لا يحلو للسياسيين لدينا أن يتكلموا عن النموذج الاسكندنافي لأنه يبين
بوضوح ما بعده وضوح إمكانية حمل الرأسمالية على العمل من أجل الكثرة لا القلة.
وانظروا إلى دولة الرفاه النرويجية. هي دولة للجميع. بمعنى أن مساعدة
المرضى أو المسنين ليست خيرية، ولا تقوم على أساس تبرعات شحيحة من النخبة
للمعوزين. إنما هي حق لكل مواطن. ويتضمن ذلك كل امرأة، سواء هي زوجة أم ليست كذلك،
وكلَّ طفل مهما يكن أبواه. إن معاملة كل شخص بوصفه مواطنا تحرر المرء من أن يكون
مملوكا لغيره بقوة القانون سواء كان هذا الغير زوجا على سبيل المثال أو أبا
مستبدا.
وهذا ما يصل بنا إلى لب الديمقراطية الاسكندنافية: أعني المساواة بين
النساء والرجال. في السبعينيات من القرن الماضي، خطت النسويات في النرويج إلى
السياسة فعجَّلن من
إيقاع التغير الديمقراطي. لقد كانت النرويج بحاجة إلى قوة عمل كبيرة، ووجدتها في
النساء. إذ انتقلت ربات البيوت إلى الوظائف مدفوعة الأجر جنبا إلى جنب الرجال، مما
ضاعف تقريبا من القاعدة الضريبية. وهو ما كان يعني للنرويج ورخائها أكثر من اكتشاف
احتياطيات النفط في شمال الأطلنطي بالمصادفة. فلقد حسبت وزارة المالية أخيرا أن
أولئك الأمهات العاملات أضفن إلى صافي ثروة النرويج الوطنية ما يكافئ في قيمته
"صافي ثروتها الوطنية" والتي تعد الآن من بين أضخم صناديق الثروات ذات
السيادة في العالم بقيمة تتجاوز 873 بليون دولار أمريكي. وبحلول عام 1981 كانت
النساء جالسات على مقاعد البرلمان وعلى مقعد رئاسة الوزراء، ومقاعد الوزارة.
النسويات الأمريكيات سعين إلى مثل هذه الأهداف أيضا في سبعينيات القرن
الماضي، لكن الأقوياء، المنهمكون في مكائدهم داخل البيت الأبيض، خاضوا حربا على
النساء انتكست بالبلد كلها، ولا تزال رحاها دائرة إلى اليوم في هجمات قاسية على
حقوق النساء الأساسية في الرعاية الصحبة والحرية التناسلية. في عام 1971، وبفضل ما
قامت به النسويات المنظمات من عمل جاد، مرَّر الكونجرس بموافقة الحزبين قانون
التنمية الشاملة للطفل لتأسيس نظام الرعاية اليومية الوطني بميزانية قوامها عدة
بليونات من الدولارات خدمة للأطفال من أبناء الآباء العاملين. وفي عام 1972 استخدم
الرئيس نيكسن حق الفيتو ضد هذا القانون فانتهت المسألة. وفي عام 1973 مرَّر
الكونجرس قانونا (اقترح للمرة الأولى سنة 1923) لتعديل الدستور بما يخوِّل منح
المرأة حقوق المواطنة المساوية للرجل. وبإقرار خمس وثلاثين ولاية ـ بفارق ثلاث
ولايات عن عدد الولايات الثماني والثلاثين المطلوب ـ تم إعلان موت تعديل الحقوق
المتساوية في عام 1982 لتبقى المرأة الأمريكية في هوة تشريعية. في عام 1996، وقَّع
الرئيس بيل كلينتن قانون المواءمة بين المسؤولية الشخصية وفرص العمل ماحيا به ستة
عقود من سياسة الرفاه الاجتماعي في الولايات المتحدة "التي نعرفها"،
منهيا المعونات النقدية الفدرالية للفقراء، وتاركا للفقر ملايين من النساء
العائلات لأسرهن فلا يزال الكثير منهن ومن أولادهن يعانون منه بعد عشرين عاما.
واليوم، حتى النساء المستقرات ماليا ممزقات بين وظائف يحصلن فيها على رواتب أقل من
المستحقة، وبين أبنائهن.
جرت الأمور على غير ذلك تماما في النرويج. فهناك، دفعت النسويات وعلماء
الاجتماع بقوة ضد أكبر العقبات الواقفة في طريق الديمقراطية الكاملة: أي الأسرة
النووية. في خمسينيات القرن الماضي، كان عالم الاجتماع الأمريكي العالمي تالكوت بارسونز
قد أعلن أن ذلك الترتيب ـ الذي يبقى بموجبه الزوج في العمل والزوجة الضئيلة في
البيت ـ هو الترتيب المثل لاستيعاب الأطفال في المجتمع. ولكن الدولة النرويجية
بدأت في السبعينيات تفكيك هذه الصيغة غير الديمقراطية بأن تولت هي وظائف المرأة
التقليدية غير مدفوعة الأجر في البيت. فصارت رعاية الأطفال والمسنين والمرضى
والمعاقين مسؤولية مطلقة لدولة الرفاه، وتحررت المرأة لتتمكن من الاستمتاع بالعمل
وبالأسرة معا.
والمفارقة، أن تحرير المرأة أضاف إلى حياة الأسرة, إذ يقول كثيرون في
النرويج إنه جعل الرجال والنساء أكثر تشابها ومن ثم أكثر تفاهما وسعادة. كما ساعد
الأطفال على الانسراب من ظل الأبوين الجاثم. في النرويج، يحصل كلٌّ من الأب والأم
على إجازات مدفوعة الأجر بالتناوب لرعاية الطفل في عامه الأول أو لفترة أطول من
ذلك. وابتداء من عمر سنة يبدأ الأطفال في الذهاب إلى الحضانات لدراسة يتم معظمها
في الهواء الطلق. وبوصول الأطفال إلى سنِّ الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، أي عند
بلوغهم السادسة، يكونون مكتفين ذاتيا،
واثقين في أنفسهم، يعرفون طرق المدينة، ويعرفون إن فاجأتهم عاصفة ثلجية في
الغابة كيف يوقدون نارا وكيف يدبرون طعامهم. (شرحت لي معلمة بالحضانة قائلة
"إننا نعلمهم مبكرا كيف يستخدمون البلطة ليفهموا أنها أداة وليست
سلاحا").
أما بالنسبة للأمريكيين فيستقبحون فكرة المدرسة التي "تخطف"
الأطفال من ذويهم لتجعل منهم حاملي بلطات، ويرونها فكرة همجية. وبرغم أنه ما من
قياس ثابت، إلا أن الأطفال الاسكندنافيين يقضون على الأرجح مع آبائهم غير
المستلبين من قبل وظائفهم أوقاتا نوعية أفضل من التي يقضيها الأطفال الأمريكيون من
أبناء أسر الطبقة الوسطى النمطية فتصرفهم الأمهات المتوترات عن دروس تتراوح ما بين
الموسيقى والكاراتيه. لكل هذه الأسباب، وغيرها، تعتبر منظمة "أنقذوا
الأطفال" الدولية أن النرويج أفضل بلد على وجه الأرض لتربية الأطفال بينما
تتخلف عنها الولايات المتحدة لتأتي في المرتبة الثالثة والثلاثين.
***
لا تسلموا بكلامي
هذا الموجز البسيط لا يقدم لكم إلا القشرة الاسكندنافية، لذلك أحث القراء
الجادين على الاستعانة بجوجول. ولكنني أحذركم: ستجدون انتقادات كثيرة لدول النموذج
الاسكندنافي، والأدهى من ذلك أن أساطين النيولبرالية ـ لا سيما البريطانيين ـ
دائمو النيل من الاسكندنافيين والتنبؤ بقرب زوال دولهم الديمقراطية الاجتماعية.
فلا يزال الخبراء من عبدة مارجريت تاتشر يقولون للنرويجيين إنهم لا بد أن يحرروا
اقتصادهم ويخصخصوا كل شيء إلا القصر الملكي. بينما لا تفعل الحكومة النرويجية في
أغلب الحالات إلا العكس، إن فعلت شيئا أصلا، وتبقى الديمقراطية الاجتماعية قائمة.
وهي ليست مثالية بالقطع. بل هي دائما عمل بحاجة إلى رعاية ودأب، وهي دائما
عمل في طور الاكتمال. والحكم بالتوافق يستوجب الجهد والوقت, ومن ثم يمكنكم التظر
إليها بوصفها ديمقراطية بطيئة، وهي، على بطئها هذا، تسبقنا بسنوات ضوئية وسنوات.
كاتبة المقال صحفية وكاتبة من أعمالها "كابول في الشتاء" (2006)
و"حرب لم تضع أوزارها" (2010) وأحدث كتبها صدر بعنوان "كانوا
جنودا: كيف رجع جرحى الحروب الأمريكية .. القصة الممنوعة".
نشر المقال في موقع مجلة ذي نيشن الإلكتروني
بتاريخ 28 يناير 2016 ونشرت الترجمة الثلاثاء 16 فبراير 2016 في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق