كيف علمني بورخيس اعتناق تراثي اليهودي
إيلان ستافانز
في السادس عشر من يونيو سنة 1986، وهو اليوم
التالي لوفاة بورخيس، كنت في بيونس أيرس. قبل ذلك كنت قد ادّخرت من المال ما يكفي
لأشتري تذكرة طيران إلى الأرجنتين، على أمل أن أزوره. بل لقد كان للرحلة هدف أشد
من هذا طموحا: وهو أن أتعرّف على الحياة اليهودية في "المخروط الجنوبي".
لكن بورخيس في نظري، وبرغم عدم يهوديته، كان يمثل مركز تلك الحياة. فعلى مدار
مسيرته، كتب كتابات ممتازة عن كافكا وسبينوزا وجوليم. وكان قد زار إسرائيل حيث تسلّم
جائزة القدس وتماهى مع الدولة اليهودية الشابة في نضالها من أجل الوجود في شرق
أوسط رافض لها. والأهم من ذلك كله أن حساسيته كانت يهودية: فله ذاكرة حديدية وشغف
بالقراءة والتزام بخيانة الترجمة واللغات التي يجيدها تتعدد باستمرار، علاوة على فهمه
أن الكوزموبوليتانية ـ لا القومية ـ هي الترياق الوحيد لعلل الحياة الحديثة.
شأن أغلب المعجبين، كنت أعرف أن حالة بورخيس شخَّصت
قبل نوفمبر الماضي بسرطان الكبد. ولم يكن معلوما لي أنه وتلميذته السابقة ـ
البالغة من العمر أربعين عاما ماريا كوداما التي كانت في ذلك الوقت قد أصبحت زوجة
له منذ ثمانية أسابيع ـ قد سافرا إلى جينيف. كان يبدو لعقلي الغض ـ وقد بلغت
الخامسة والعشرين في ابريل ـ أن بورخيس خالد. ولم يكن كاتب غيره، من الأحياء أو
الأموات، قد ترك في نفسي الأثر العميق الذي تركه بورخيس. كنت على دراية بكل ما
كتبه كأنني الذي كتبته وليس هو. وكان بوسعي أن أردد من ذاكرتي قصائده "إيمرسن"
و"الجنرالي كويروجا يتجه إلى موته راكبة عربة" و"إلى قارئي كائنا
من يكون" و"القمر". وبعد ليال من الرقابة الحثيثة لتصرفات أبطاله
بيير مينارد وإريك لونروت وجارموير هالديك وإيما زونو والساحر في "الأطلال
الدائرية"، كنت قد اتخذت منهم أصدقاء مقربين، لدرجة أن أجري معهم حوارات
وأحاديث. كانت مقالته "الكاتب الأرجنتيني والتراث" قد كتبت ردًّا من نوع
ما على مقالة "التراث والموهبة الفردية" لـ تي إس إليوت، وكانت في رأيي
أقرب إلى مانيفستو، إذ أكدت أنه ما لفنان أن يحصر نفسه في الأفق الذي كبر بين
جنباته. فالأفق منصة للانطلاق لا زنزانة في سجن.
كانت مفاجأة لي وأنا أسير إلى كشك جرائد عند
ملتقى شارعي كاليه سويباتشا وكورينتيس بالقرب من فندق بيونس أيرس شديد التواضع
الذي كنت أقيم فيه أن قرأت العنوان الزاعق: Borges muere en Ginebra. كان قد رحل عن عالمنا في صباح اليوم السابق
في جينيف بسويسرا، عامدا أن يكون بعيدا عن الوطن، مصدوما من الأرجنتين التي بدت في
نهاية القرن العشرين أضيق أفقا مما كانت عليه في أي وقت مضى. انتفت الفرصة إذن لإشباع
رغبتي في الاتصال به. كنت قبل بضع سنين قد حضرت بضع فعاليات له في المكسيك (وكان
ذلك في قاعة أولين يوليتزلي حيث شاركه المنصة خلالها ـ لو لم تخني الذاكرة ـ ألَن
جينسبرج وأوكتافيو باث وجونتر جراس وآخرون)، وفي زيارة سابقة إلى بيونس أيرس، سرت
معه في شوارع المدينة وزرته في شقته.
لكن ليس في هذه المرة ... ففيما كنت أسير متبعا
الطريق الذي كان يسلكه، إكراما لذكراه، مرددا لنفسي سطورا من عمل له أحفظه، أدركت
أن وفاة بورخيس كانت في الوقت نفسه بداية لي أنا. والكاتب الشاب يثقل على نفسه كثيرا
لحظة أن يدرك أثر سلف له عليه. لعلي كنت بحاجة إلى أن أنسى أعماله، وأنأى بنفسي،
وأتحرر. مؤكد أنني سبق أن حاولت ذلك. فبعد سنوات أرخت لرحلتي بهذه الطريقة في
سيرتي "عن الكلمات المستعارة" (الصادر سنة 2001) التي كتبتها على مدار
سنة قضيتها في لندن:
عندما بدأت الكتابة، كان لبورخيس أثر حاسم عليّ.
بأسلوبه الصافي الدقيق شبه الرياضي، وحبكاته الذكية، ونفوره من الـ verborrea أي انسيال الكلمات بلا نهاية أو سبب، وهي
علة لا تزال قائمة في الأدب الأسباني حتى اليوم. فجاء بورخيس بدرس لم يقدمه أحد
مثلما قدمه (ولا أستثني من ذلك الشاعر الحداثي روبين داريو من نيكاراجوا). مفاد
ذلك الدرس أن الأدب ينبغي أن يكون مجرى للأفكار. لكن درسه كان صعب الاستيعاب، وكأنما
الحضارة الهسبانية كانت قليلة الاهتمام بالأفكار، كثيرة الضيق بالجدال، لا مبالية
بالبحث المنظم. الحياة شديدة القسوة، فادحة النقصان، لا يحسن إهدارها على التفلسف.
ولم يكن من قبيل الصدفة طبعا أن ولد بورخيس أرجنتينيا. فما كان الأمر ليتم على نحو
آخر، لأن الأرجنتين ترى نفسها ـ أو دأبت على أن ترى نفسها ـ جيبا أوربيا في نصف
الكرة الأرضية الجنوبي. وكان من شأن مواطني بيونس أيرس أن يقولوا لك في أربعينيات
القرن العشرين إن مدينتهم هذه هي عاصمة العالم، وتعقبها باريس الريفية في المرتبة
الثانية.
ما كدت أكتشف بورخيس حتى أدركت ـ مثلما أدرك
كثيرون غيري ـ أن عليَّ أن أمتلكه. حصلت
عل كل طبعة وقعت عليها يداي من أعماله، سواء بالأسبانية أو في ترجماتها إلى الفرنسية
أو الإنجليزية أو الإيطالية أو الألمانية أو العبرية، علاوة على نسخ من مجلة "صور"
الأرجنتينية الشهرية التي شهدت الظهور الأول لخير أعماله، والحوارات التي أجريت
معه في الجرائد. وبدأت مجموعتي تتنامى مع انطلاقي في أولى تجاربي في الأدب التي لم
تعد بعض الأوصاف الفقيرة والقصص الوجيزة والمقالات الأدبية الفاترة المفتقرة إلى
العاطفة. وسرعان ما بات التأثير الذي يفرضه عليّ يبدو سافرا. ولكي أعزّي نفسي، كنت
أترجم السطر الشهير من "وصايا الحكاء المثالي العشر" ـ وعوانها بالأسبانية أفضل بلا حدود Decálogo del perfecto cuentista ـ لهوراشيو كويروجا، وهو كاتب شهير وإن يكن
مأساويا من كتاب منعطف القرن في أورجواي: "على الكاتب الشاب كي يولد أن يقلّد
أساتذته المحبوبين بقدر ما يستطيع". وليس هذا القول ـ مثلما أدرك الآن ـ خلوا
من المخاطر، فهو يشجّع على الاستنساخ، وربما يدفع دفعا إلى السرقة في أدب أمريكا
اللاتينية. ولكنني عميت عن تلك الرؤى. ولم يكن لي رجاء في الأدب إلا أن أخالف بورخيس،
وأكون بورخيس. وكم يبدو ذلك عبثيا الآن!
تحول التأثير إلى قلق، والقلق إلى انزعاج. هل
سيكون لي يوما صوتي الخاص؟ وذات أصيل يائس، وفيما كنت عاجزا عن تسويد سطر واحدا
يمكن أن أقول إنه يخصني أنا، جئت بجميع ما لديّ من عناوين لبورخيس فكدَّستها في
الجراج وصببت عليها الجازولين وأضرمت فيها النار. كان ذلك أقرب إلى الثأر، أو
العمل اليائس المقدس: الكفاح من أجل أن أولد ومن أجل أن أمتلك مكاني الخاص ومن أجل
ألا أشبه أحدا غيري، أو على أقل تقدير ألا أشبه بورخيس. هبت النار جامحة أول
الأمر، ثم خبت في نهاية المطاف. رأيت الكتب، وكانت تتراوح عددا ما بين الخمسين
والسبعين، تسطع وتتوهج ثم تعتم ثم تصير رمادا. وابتسمت وأنا أفكر في ألمانيا هتلر
وتشيلي بينوشيه وصين ماو. وفكّرت في "الإعدام حرقا" لإلياس كانيتّي وفي
"451 فهرنهايت" لراي برادبيري. فكرت في عشرات من كتب الصلوات والتلمود
وغيرها من كتب الأحبار التي أحرقتها محاكم التفتيش في أسبانيا وفي العالم الجديد،
في أماكن شديدة البعد عن وطني. وتذكرت كذلك مقالة بورخيس نفسه "السور والكتب"
عن شيه هوانج تي أول إمبراطور للصين، وكان معاصرا لهانيبال، والذي أقيم في عهده
سور الصين والذي أحرقت في عهده أيضا جميع كتب التاريخ. كان شيه هوانج تي يرى نفسه
بداية جديدة، فكان لزاما على التاريخ أن يبدأ من جديد.
كان هاينرش هاينه يقول: "إن أولئك الذين
يحرقون الكتب، سيحرقون البشر أيضا في نهاية المطاف". وأعترف أن افتتاني بعد
أن حرقت الكتب بقي على حاله. فلم تمض شهور قليلة على وصولي إلى الولايات المتحدة حتى
كنت قد حصلت على ترجمات إنجليزية زهيدة الثمن لكتب عديدة، من بينها
"قصص". والحق أن قراءة بورخيس في لسان شكسبير كان كشفا. فبسبب قربه من
اللغة الإنجليزية منذ نعومة أظافره بدا (ولا يزال يبدو) لي أن أعماله مكتوبة
بالأسبانية مرورا بمصفاة الإنجليزية. فيبدو وكأنها خطرت لكاتبها بلغة ثم نفذت بلغة
غيرها. وأثر ذلك مدهش: إنه فعل الترجمة بشفرته الوراثية الفريدة، حتى لو لم يتعرض
لموضوع الترجمة في صدارته. فبوصفي مكسيكيا في نيويورك لا يعرف الإنجليزية el inglés إلا لماما ولا يرجو في الوقت نفسه أن يكون
منبوذا أو مهمشا، كان الغوص في كتابة بورخيس باستعمال كلمات موطني الجديد باعثا
على الارتياح، وجدت فيه ملاذا، وفرصة للشعور بأنني في وطني وإن كنت بعيدا عن وطني.
ولدت في بيت يهودي. كان أبواي ابني مهاجرين من
بولندا وروسيا البيضاء وأكرانيا، فكانت اليديشية والأسبانية لغتيّ الأوليين. وفي
صغري تمردت بحماس على تعليمي اليهودي الذي بدا لي ضيق الأفق. كنت أريد أن أكون
مواطنا عالميا، وليس ابن بيت صغير في القسم الجنوبي من مكسيكوسيتي. حرقت مراكبي
وسافرت إلى أوربا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. لم تكن بي رغبة تذكر إلى أن أكون
يهوديا أو مسكسيكيا. ولما كان حلمي هو أن أكون كاتبا، فقد كنت أكتب بلا توقف،
باحثا عن صوتي الخاص.
والصوت في الأدب مرتبط ارتباطا لا انفكاك له
بالمكان. وكلما ازددنا حلما بالكون، ازداد أفقنا اللصيق وضوحا وقيمة. ردتني أسفاري
إلى الوطن، فالوطن هو المكان الذي تولد للمرء فيه شكوكه. كنت أشعر بالعار ـ ولعل
الأصوب أن أقول إنني كنت أشعر بالفزع ـ لأنني لم أكن أحب المكسيك بالقدر الكافي،
ولأنني استطعت الرحيل عنها للعثور على
إجابات في أماكن أخرى. وكنت أشعر بالعار لأن تعليمي لم يجعل مني يهوديا كاملا، ولو
كان فعل لذلك، فما الذي كان ليجعلني أسائل تراثي؟
لم أكن قارئا نهما قبل رحيلي. ولدى عودتي، بدأت
أطلب الإجابات في الكتب. وأخيرا عثرت على بورخيس. فجفلت في أول الأمر، لقد بدا لي متغطرسا
للغاية، نرجسيا إلى أبعد حد. لكن ألم أكن أنا أيضا كذلك؟ ثم تبين لي الأمر: تبين
لي الوجهان في العملة الواحدة. كان بورخيس يغوص في بيئته ليفهم تراثه، ثم إنه كان
يضع تراثه ذلك في ميزان أكبر. كان الوقوع على "الكاتب الأرجنتيني
وتراثه" هو الذي جعلني أفهم بورخيس
أخيرا، أو أستنيم على الأقل لوهم أني فهمته. وحدث أن أدركت موقعي من العالم حينما
قرأت له أن اليهود يستشعرون بما يشبه التفاني اليهودي في الثقافة لأنهم "لا
يشعرون أنهم مقيدون" بأي تفانٍ لتلك الثقافة.
كنت في حقيقة الأمر لا أستشعر أنني مقيد، لا
بيهوديتي ولا بمكسيكيتي. وعلّمني بورخيس أن لا بأس في ذلك، بل لقد أوضح لي فعليا
أنها ميزة لك أن لا تشعر أنك مقيد بل حر.
كنت حرا. صار بوسعي أن أكون مكسيكيا ويهوديا
باختياري لا رغم أنفي. وأكرر سطورا من مقالة بورخيس سبق أن استشهدت بها. يتكلم
فيها بوصفه أرجنتينيا: "أعتقد أن تراثنا كله ينتمي إلى الثقافة الغربية،
وأعتقد أيضا أن لنا حقا في ذلك التراث، يفوق حق سكان هذا البلد الغربي أو ذاك".
ويضيف "أعتقد أننا نحن أبناء الأرجنتين، ونحن أبناء أمريكا الجنوبية بصفة
عامة ... قادرون على تناول الثيمات الأوربية، وتناولها بغير خرافة، وباستهانة يمكن
أن تكون لها، بل إن لها، عواقبها السعيدة". والنتيجة التي يتوصل إليها ملفتة،
وهي أن "أي شيء ننجح نحن الكتاب الأرجنتينيين في القيام به سوف يصبح جزءا من
تراثنا الأرجنتيني، مثلما تنتمي معالجة الثيمات الإيطالية لتراث إنجلترا من خلال
جهود تشوسر وشكسبير".
نعم، كل ما أنجح في القيام به ينتمي إليّ مثلما
ينتمي إلى تراث العالم. والهزيمة جزء جوهري من الأدب: فعلى المرء أن يبدأ بإدراكه
مدى هشاشة ومحدودية رؤيته. غير أن في الهزيمة رضا. ولست بحاجة إلى الكتابة لأكون
عضوا في ناد، فعملي ـ إن كان فيه أي جدارة ـ سيجعل حدود هذا النادي أقل منعة،
وأكثر مرونة. ذلك لأن تراثي هو تراث العالم.
ولا ينبغي أن يكون شيء غريبا عليّ، ولا ينبغي أن أشعر بالغربة عن أي مكان.
وبعد سنين، صادفت سطرا عند روبرت لويس ستيفنسن أكّد لي ذلك المعنى فصار تسبيحة من
تسابيحي: "ما من أرض أجنبية، إنما المسافر الأجنبي".
كنت أدين بالفضل لبورخيس. وكنت أريد أن
أقابله. كنت قد رأيته بضع مرات في المكسيك
في ثنايا فعاليات كبيرة ولكن الوقت لم يسمح بحديث تفصيلي، فسعيت إليه في بيونس
أيرس، ولكن بعد أن فات الأوان.
عندما اكتشفت أنه لم يعد في هذا العالم أو منه،
أطلقت نفسي أهيم في بيونس أيرس، دامع العينين، أجوب شوارع المدينة، بلا غاية أو
هدف، مستعيدا ما بيني وبين السيد، متأملا مستقبلي أنا الكاتب المبتدئ، مدركا أن
حواري معه سوف يبقى إلى الأبد مسألة شخصية.
لقد كان عمله خريطة لي. قد يبدو من المفارقات أن
يكون غير يهودي هو الذي يعلم يهوديا كيف يتعرف على تراثه. لكن أليس ذلك ما درجنا
على القيام به نحن اليهود، أن نصوغ إحساسنا بأنفسنا وفقا لاحتياجات البيئة؟ (ويخطر
لي هنا كتاب جان بول سارتر الصغير "معاداة السامية واليهود" (1946)،
ففيه يذهب الفيلسوف الفرنسي مذهبه الإشكالي إلى أن اليهود بحاجة إلى معادة السامية
كي يكونوا أنفسهم والعكس صحيح). لقد كان بورخيس حبرا لي في مدرسة يهودية بحجم
العالم كله، وكنت تلميذه المؤقت.
كاتب المقال صاحب دار نشر ريستليس بوكس وأستاذ كرسي
سيبرنج للثقافة الأمريكية اللاتينية بكلية أمهرست. حصل على جوائز عديدة منها زمالة
جوجنهايم ووسام الرئاسة التشيلية والجائزة اليهودية للكتاب. ترجمت أعماله إلى لغات
عديدة وتحولت إلى أعمال مسرحية وسينمائية. يقدم برنامج "حوارات مع إيلان
ستافانس" في شبكة بي بي إس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق