لم تكن الحرية الشخصية يوما
موضع احتفاء بقدر ما هي الآن، ولكننا مع ذلك نخشى الوحدة إلى درجة الرعب، ونرتاب
كثيرا فيما يؤثرونها. الروائية البريطانية "سارة ميتلاند" تكتب في هذا
ما سر مشكلتنا مع الوحدة؟
سارة ميتلاند
أعيش وحدي. ومنذ أكثر من عشرين
عاما. ولا أعني فقط أنني عزباء، بل إنني أعيش ما قد يبدو للكثيرين
"عزلا" لا مجرد "عزلة". فبيتي يقع في منطقة من اسكتلندة هي من
أقل مناطق الكثافة السكانية في أوربا، وفي هذه المنطقة أعيش في أحد أكثر أجزائها
خواء، فإذا كان متوسط الكثافة السكانية في المملكة المتحدة هو 674 نسمة لكل ميل
مربع (أو 246 نسمة لكل كيلو متر مربع)، فإن للفرد في الوادي الذي أعيش فيه أكثر من
ثلاثة أميال (في المتوسط). أقرب متجر يقع على بعد عشرة أميال، وأقرب سوبر ماركت
على بعد أكثر من عشرين ميلا. لا توجد شبكة اتصالات للهواتف المحمولة، وقليلة جدا
حركة المرور على الطريق الأحادي الذي يمر على بعد ربع ميل أسفل بيتي. ويحدث في بعض
الأحيان أن يمر يوم كامل فلا أرى شخصا، وكم أحب هذا.
لكن في العزلة مشكلة، مشكلة
ثقافية جسيمة. فوجود المرء وحده في مجتمعنا الراهن يثير سؤالا مهما حول هويته
وسلامته wellbeing. والسؤال في المقام الأول وبصورة ملحة بحاجة إلى الطرح. وقد يحدث،
لاحقا، وعلى مدى فترة زمنية أطول، أن نحتاج إلى محاولة الإجابة عليه.
السؤال نفسه مراوغ بعض الشيء
لكنه يبدو على هذا النحو مثلا: كيف وصلنا، في العالم المتقدم، المرفّه نسبيا على
الأقل، إلى هذه اللحظة الثقافية التي نقدّر فيها الاستقلال الذاتي، والحرية
الشخصية، والتحقق، وحقوق الإنسان، والفردية فوق ذلك كله، تقديرا يفوق كل تقدير سبق
وأوليناه لتلك القيم جميعا، وفي الوقت نفسه نرى المستقلين بذواتهم الأحرار المتحققين
وهم يشعرون بالرعب من أن ينفردوا بأنفسهم؟
من الواضح أننا نؤمن بملكيتنا لأجسادنا
وحقنا في أن نفعل بها ما يعنّ لنا ابتداء من القتل الرحيم وحتى تكبير الثدي،
ولكننا لا نرغب في أن نكون وحدنا مع هذه الممتلكات الثمينة. إننا نعيش في مجتمع
يرى ارتفاع تقدير المرء لذاته دليلا على سلامته، لكننا لا نرغب في مصاحبة هذه
الشخص المرغوب المثير للإعجاب.
نرى الأعراف الاجتماعية
والأخلاقية معوقات لحرياتنا الشخصية، ولكننا نخاف كل من يولي الزحام ظهره ويتبنى من
العادات "الخارج منها عن المألوف".
نحن نؤمن أن لكل شخص
"صوتـ"ـه الشخصي المنفرد، والمبدع بلا شك، ولكننا نتعامل بارتياب أسود
مع كل من يستخدم إحدى أوضح المناهج الثابتة لتنمية هذه الإبداعية: أي العزلة. نحن
نعتقد بتفردنا، وخصوصيتنا، وجدارتنا بالسعادة، لكننا نخاف أن نكون وحدنا.
نعلن أن الحرية والاستقلال
الذاتي الاثنين صحيحان وجيدان ولكننا نرى أن كل من يمارس الحرية باستقلال ذاتي إما
"تعيس أو مجنون أو شرير" أو جميع ما سبق.
كتبت فيكي وارد Vicky Ward في "لندن إيفيننج
ستاندرد" في عام 2008 تقول إن "تعداد السكان في الولايات المتحدة لعام
1980 كشف أن 6 في المائة من الرجال فوق سن الأربعين لم يتزوجوا مطلقا. وإن 16%
الآن في هذا الوضع ... وضع ’الرجل العانس’" وهو لقب يلمح إلى أن في هؤلاء
الرجال "شيئا ما" في أفضل الحالات، أو إلى أنهم في أسوأ الحالات مرضى
اجتماعيون [سوشيوباتيون sociopaths].
"وإن المرء ليخشى على
هؤلاء الرجال، مثلما يخشى المجتمع بصورة تقليدية على العزباوات. فهم لا يرون إلى
أي مدى سوف تكون وحدتهم. لولا أن جاءني في الوقت المناسب، فخفَّف من قلقي، صديقٌ
بريطاني فقال ’أريد أن أتزوج’. فها هو أخيرا، رجل يستحق".
في العصور الوسطى، كانت كلمة
"العانس" Spinner مجاملة.
فالعانس شخص، في العادة امرأة، تحسن الغزْل، ومن تحسن الغزل فهي مكتفية ذاتيا من
الناحية المالية، وكان الغزل من الطرق القليلة للغاية التي كانت تمكّن نساء القرون
الوسطى من تحقيق الاستقلال الاقتصادي. ثم توسع استخدام الكلمة فأصبحت تنطبق على كل
النساء عند الزواج على سبيل القول بأنهن دخلن في علاقات الزواج مختارات غير
مرغمات، ومن منظلق الحرية لا الفاقة. وهي اليوم إهانة، لأننا نخاف "على"
أمثال هؤلاء النساء، ثم الرجال أيضا.
من بين أشياء قليلة للغاية يمكن
لغريب أن يشعر بكل أريحية وهو يعلق عليها بوقاحة تعليق على كون الشخص أعزب، أو وحيدا
ـ أو مدخنا أيضا ـ فيقول: هذه حالة رهيبة (ولعلها غلطتك أنت مثلها مثل التدخين)
بدلا من الاشتراطات والأوضاع الاجتماعية الطبيعية.
في العادة، نكون لطافا، بل
ومفرطين في اللطف، فلا نشير إلى الأشياء التي نعتبرها مثيرة للحزن. بل إننا لا
نسمح لأنفسنا مطلقا بالتعليق على كثير من الأحداث المحزنة. ونبذل أقصى الجهد
لاجتناب الحديث عن الموت، والعقم، والتشوه، والأمراض المزمنة. فلن يكون من اللائق
في حفل عشاء أن تسأل شخصا ما كيف حدثت له إعاقته أو عن سبب ندبته. ومفهوم، في
تصوري، أن تتصور امرأة سعيدة في علاقتها أن كل وحيد هو بالضرورة يعاني معاناة
مأساوية. ولكن الأمر أكثر تعقيدا من هذا: فنبرة "وارْد" ليست ببساطة
نبرة التعاطف. وقد يبدو للوهلة الأولى أن خوفها "على هؤلاء الرجال" ناجم
عن مراعاة وطيبة، ولكنها تفصل نفسها عن هذا القلق، فهي ليست خائفة شخصيا، ولكن
"المرء ليخشى عليهم". وسرعان ما يزلُّ تعاطفها المصطنع إلى حيث يصبح
حكما، فالرجل الذي "يستحق" هو الرجل الباحث عن الزواج، فإذا لم يكن
باحثا، فإن فيه "شيئا ما" متعلقا بالصحة النفسية، ومحتمل جدا أن يكون
"مريضا اجتماعيا".
هل يحتمل أن تكون خائفة؟ إنها
تقول قي مقالتها إن مدينة نيويورك ـ التي تقيم فيها ـ تحتوي من العزباوات عددا
أكبر من العزاب، فإذا كانت تشعر أن وجود الشريك الملتزم أمر ضروري لسلامة المرأة
فلعلها تشعر أنها مهددة من الرجال الراغبين في شيء مختلف.
كاتبة المقال خنزيرةً في حقل البرسيم |
ترمَّلت أمي قبيل بلوغها الستين،
فعاشت وحيدة طوال الأعوام الخمسة والعشرين الباقية من حياتها. ولا أتذكر أنها
تصالحت يوما مع الوحدة، كانت محبوبة للغاية من كثيرين، بل ومن ناس غير متوقعين،
ولكنني أعتقد أن شعورها بالوحشة ظل حادا وعميقا منذ موت أبي، ولم تكن تحتمل فكرة
أنني أستمتع بالعزلة. أنا في رأيها، نبذت الزواج، فبت سعيدة مثل خنزيرة في غيط
برسيم. كان ذلك يفزعها، وكانت تشن هجوما جزئيا مستمرا على وضعي الأخلاقي: كنت في
نظرها أنانية. فمن الأنانية أن أعيش بمفردي وأستمتع بذلك.
المثير للاهتمام أن هذه التهمة
قديمة للغاية. ففي القرن الميلادي الرابع، عندما كان شباب المسيحيين المتحمسون
يرحلون عن الإسكندرية زرافات قاصدين الرهبنة في الصحراء المصرية قال أسقفهم
باسيل وهو حانق عليهم لأحدهم: "وقَدَمَا مَنْ سوف تغسلهما في الصحراء؟"
والمعنى الضمني هو أنهم بنشدانهم الخلاص الشخصي خارج المجتمع، لا ينشرون الدين ولا
يخدمون الفقراء، ومن ثم فهم أنانيون. وهي تيمة بقيت تفاجئنا مرارا وتكرارا منذ ذلك
الحين، لا سيما في القرن الثامن عشر، ولكن لها بريقا جديدا في المجتمع المعاصر،
لأننا لا نتحلى بنفس الحس الأخلاقي الرفيع تجاه الواجب العام
أو "المدني". المفترض أننا الآن نسعى إلى تحققنا الشخصي، وإلى الانطلاق
في أفعالنا من مشاعرنا، وإلى بلوغ الأصالة والسعادة الشخصية، على أن نفعل كل ذلك ـ
للغرابة ـ ولسنا منفردين.
يحمل الاتهام اليوم ـ أكثر من ذي قبل ـ حكما أخلاقيا
ومنطقا واهيا. فأنا أكتب مقالا شهريا في تابلت (وهي مجلة أسبوعية كاثوليكية)
يتناول جزئيا حياتي في وحدتي. وفي أحد الشهور كتبت عن الطريقة التي قد ينشأ بها
صراع الواجبات: كيف تكون "الراهبة" خيرة تجاه احتياجات ومطالب أصدقائها؟ قد يتوقع
المرء من قراء المجلة الكاثوليك أن يكونوا أكثر تعاطفا مع حياة العزلة نظرا لما
وراءها من إرث طويل (وموقّر). ولكنني تلقيت بعضا من الرسائل المسمومة، منها رسالة
بعثها شخصٌ لم أقابله قط، لكنه لم يجد أدنى حرج في أن يبعث لي برسالة طويلة لاذعة
قال فيها ضمن ما قال إنه "نظرا لكونك امرأة بلا ميول طبيعية علاوة على أنك
ذات موقف كاره للآخرين، فقد يكون من حسن حظنا أن تنسحبي إلى عويلمك الضئيل الأناني،
ولكن عليك أن تكوني أمينة وأنت تتكلمين عن هذا العويلم على أقل تقدير".
غير أنه ليس من الواضح لماذا يكون اختيار المرء أن يعيش
وحيدا مدعاة لكل هذا التقريع الأخلاقي. من الصعب أن نحدد بدقة ما الذي يعنيه الناس
بالاتهامات العديدة التي يوجهونها، وذلك ربما لأنهم هم أنفسهم لا يعلمون. فالاتهام
بالتعاسة مثلا غير قابل للدحض ـ لا لأنه صحيح بل لأنه قائم دائما على افتراض أن
الشخص الذي يعلن أنك في واقع الأمر بالغ التعاسة لديه معرفة داخلية بحالتك
الشعورية تفوق معرفتك أنت بها. فلو أنك قلت "والله، غير صحيح، أنا سعيدة
للغاية" فإنكارك هذا إثبات لاتهامه لا العكس. ومؤخرا، حاول أحدهم مواساتي في
شقائي فقال حينما أكدت له أنني سعيدة فعلا "إنك تظنين أنك سعيدة". لكن
السعادة إحساس، وأنا لا أظن بل أحس. لعلي، بطبيعة الحال، أعيش في جنة البلهاء
[وجنة الأبله جحيم الحكيم، كما يقول توماس فولر ـ المترجم] وكل صرح البهجة والرضا
مصيره التهاوي من حولي عما قريب، ولكن حتى ذلك الحين أنا إما أكذب أو لا أقول إلا
الصدق.
إلين مكأرثر |
الاتهام بالجنون أو الشر أكثر قابلية للنقاش. لكن أول ما
نؤسس له هنا هو مدى العزلة الذي يعتبره نقاد العزلة "أكثر مما ينبغي".
وعند أي مرحلة نشعر أن شخصا ما يتحول إلى مجنون خطير أو آثم شرير؟ لأن من الواضح
أن هناك فرقا بين شخص يؤثر أن يستحم وحده وشخص يمضي ليعيش في جزيرة غير مأهولة لا يصل إليها البحر إلا عند اشتداد الموج، بين
شخص يقول لصديقه على الهاتف إنه لن يحضر الحفل الجماعي الليلة لأنه يخطط لليلة
يقضيها مع نفسه، وبين شخص يلغي جميع الارتباطات الاجتماعية على مدار أربعة أشهر
ليقضيها وحده. لو أنك تؤلف كتبا عظيمة أو تنجز مآثر بارزة، فالأرجح أن نعجب ـ لا
أن ننتقد ـ "شجاعتـ"ـك و"التزامـ"ـك. فأغلبنا لم ير
"إلين مكأرثرEllen
MacArthur " تعيسة
أو مجنونة أو شريرة عندما استطاعت في 2005 أن تكسر الرقم المسجل للإبحار المنفرد
حول العالم، برغم أن ذلك كان يعني أن تبقى بمفردها تماما لمدة 71 يوما، وأربع عشرة
ساعة، وثماني عشرة دقيقة، وثلاثا وثلاثين ثانية.
وبرغم عدم وجود إحصائيات في هذا الصدد إلا أن انطباعي هو
أننا لا نجد غضاضة في أن يكون أي شخص وحده في مناسبات نادرة ـ لا سيما لو أنه
اجتماعي فيما عدا ذلك ـ أو لغرض مميز ومثير للاهتمام، أما الذين يثيرون حنقنا فيما
يبدو فهم الأفراد الذين يتخذون العزلة نمطا لحياتهم ومثالا لسعادتهم.
الأمر على أية حال نسبي. فأنا أعيش منعزلة، لكن ساعي
البريد "نيل" يأتي في أغلب الأيام. وراعي الغنم الشاب المبتهج يمر بخرافه
على تلي بدراجته الهادرة ثلاث مرات أو أربعا على الأقل من كل أسبوع، ناشرا
من حوله موجة من البهجة. وعندي هاتف، وأذهب إلى الكنيسة كل أحد. ولي أصدقاء
وأبناء، بل إنهم في بعض الأحيان يأتون لزيارتي. كما أن المجتمعات الريفية الصغيرة
اجتماعية بشكل حتمي ومدهش، فأنا أعرف أسماء كل شخص وبعضا من ظروف الجميع ممن
يعيشون في نطاق خمسة أميال من حولي. (فليس في العالم ما هو أكثر اجتماعية من طريق أحادي).
وحتى لو كنت أعيش في عزلة أعمق، لبقيت هنا مشتبكة مع آخرين: فأنا أقرأ كتبا ألفها
ناس، وأشتري طعاما أنتجه ناس وباعه لي ناس، وأضغط على زر المصباح فإذا بالعاملين
في الشبكة الكهربائة يقدمون الكهرباء لي دائما فيضاء المصباح.
من المفيد إذن أن يسأل المرء نفسه عن مقدار العزلة الذي
إن تجاوزه فقد بلغ الحيز المفترض للجنون أو الشر، ومن المفيد ولا شك أن يسأل المرء
أولئك الذين ينتقدون كل من يبدو مستمتعا بقدر من الوحدة يفوق القدر الذي يرتاحون
هم إليه.
في كتابه "العزلة" يحاول "فيليب كوك Philip Koch " أن يستعصر
من الاتهامات ما يشبه الحجج المنطقية المتماسكة: فيشير إلى أن منتقدي الصمت يرون
الرغبة فيه "جنونا" (أو دُنوًّا من الجنون) لأسباب عديدة.
العزلة غير طبيعية. الهومو
سابينس جينيا وتطوريا حيوان قطيعٍ أو جماعة. كلنا فينا الدافع البيواجتماعي biosocial الأساسي بحسب ما يقول "بول هاملوس" في
"العزلة والخصوصية" لأن "تبادل الخبرة، والتقارب الشديد بين الرفاق
والجهد المشترك المبذول وجها لوجه كانت ولا تزال أساسية وحيوية بالنسبة للإنسان
... وليس من الممكن للفرد المنتمي إلى سلالة اجتماعية أن يغتني تماما ويحقق
الاكتفاء الذاتي ... فلقد ضمن الانتخاب الطبيعي أن يبقى لدى الفرد إحساس ملازم
دائم بالنقصان". أما من لا يشتركون في "قوة التلاحم" هذه فهم إما
ضالون أو مرضى.
العزلة مرض. تصر علوم
النفس، والعلاج النفسي، والتحليل النفسي بالذات، على أن العلاقات الشخصية ـ ومن
المثالي أن تكون محققة للتشبع الجنسي والحميمي ـ لازمة للصحة والسعادة. وهذه فكرة
استحدثها فرويد فبقيت وتطورت بارتباطها بمنظِّرين (مثل جون باولبيJohn
Bowlby) وارتباطها بالذات ببعض المنظرين من أمثال
مالاني كلاينMelanie
Klein، وهي بصفة عامة فكرة شائعة راسخة في المناهج
التعليمية. (وهذا قد يدعم أيضا فكرة أنك لا يمكن أن تكون حقا سعيد وأنت وحدك. فبما
أنك بحاجة إلى الغير من أجل السلامة العقلية، يكون ظنك أنك سعيد في الوحدة وهما
وضلالا).
العزلة خطر (والاستمتاع
بها من ثم ماسوخية). إنها خطر فيزيقي لأنك لو تعرضت لمجرد حادث بسيط لن تجد من
يسعفك، وهي خطر فيزيقي لأنك لا تحتك بالواقع بصورة طبيعية، وليس هناك من يلاحظ
عليك أولى التغيرات.
هذه الحجج الثلاثة قائمة على افتراضات تحتاج فعليا إلى
مناقشتها ـ لو صحت على كل الناس في كل زمان. وأنا أعتقد على المستوى الشخصي (ولست
الوحيدة في ذلك) أنها ليست صحيحة في ذاتها ولا تلقي اعتبارا إلى الاختلافات
الفردية.
غير أن الحجج "الأخلاقية" ـ ولو في حدود تعريف
كوك لها ـ أقرب إلى العبثية. فهذه المجموعة الثانية من الاعتراضات على العزلة تميل
إلى أن تكون النقيض الدقيق إلى المجموعة الأولى.
العزلة استغراق في الذات. المقصود هنا
أنها لذائذية أنانية، وأن الحياة المنفردة بصورة آلية أسعد وأيسر وأفكه من
الاشتباك الجاد مع المجتمع، وأن كل شخص في الحانة إنما هو يمارس ـ ولو بالمقارنة
مع الوحيد على الأقل ـ انضباطا ذاتيا
نبيلا وينفق ساعات كل يوم في جهد إيثاري بائس يخدم به احتياجات جيرانه.
العزلة هروب. الذين تحلو
لهم الوحدة هم هاربون من "الواقع، رافضون أن يبذلوا الجهد
لـ"لالتزام" بالحياة الواقعية، وبدلا من ذلك يعيشون حياة فنتازية شبه
حلمية. عليهم أن "يسترجلوا، ويعيشوا في الواقع، ويعاركوه. لكن لو أن الحياة
الاجتماعية طبيعية بهذا القدر وصحية
ومبهجة حسبما يصر المجتمع المعاصر، فما الذي يجعل أحدا يهرب منها في المقام الأول؟
العزلة مضادة للمجتمع. حسن، هي
بالطبع كذلك، فهذا هدفها. ومن ثم فهذه الحجة محض حشو. ولكن اصطلاح "مضادة
للمجتمع" ينطوي على إدانة أخلاقية ضمنية لا سافرة، فمن الواضح أنها شيء رديء
دون أن يكون واضحا على الإطلاق ما الذي يعنيه بالضبط. كل ذلك إنما يقول إن
"العزلة إيثار لأن تكون وحدك على أن تكون مع الآخرين/أنا [المتكلم] وهذا فيه
أذى لي". صحيح، لكنه قائم على افتراض أن الوحدة بداهة شيء سيء، وأن التواجد
في المجتمع بداهة شيء جيد.
العزلة تخلٍّ عن المسئولية الاجتماعية. هذا يعني
ضمنيا أن كل واحد فينا عليه شيء يسمي "المسئولية الاجتماعية"، دونما
تحديد لما قد يتكون منه هذا الشيء، ولكنه مهما يكن، هو شيء ـ لسبب لا أحد يقوله ـ
لا يمكن لشخص يعيش ـ لوقت مهما يكن ـ وحيدا.
الآن، من الواضح، حتى هنا، أن من الممكن إجراء بعض
المناقشات المثيرة للاهتمام. ما الذي تقدمه العلاقات الشخصية على وجه الدقة ولا
يستطيع غيرها تقديمه؟ هل يمكن مثلا أن يكون "أنطوني ستور" Anthony
Storr
محقا في أن العمل الإبداعي يقدم عزاء بديلا بل وتسرية
أفضل؟ أو إحساسا بالمعنى؟ هل عزلة البعض الوديعة السعيدة تعمل كترياق، أو حتى كقوة
توازِنُ اهتياج الآخرين في أنشطتهم الاجتماعية؟ وماذا تكون بالضبط مسئوليتنا
الاجتماعية في مجتمع أغلب منه فيه لا حول لهم ولا قوة؟ كيف يكون عمل التعددية
الثقافية في ضوء وجود الأفراد في مقابل الجماعات؟ ما الذي يجعل مزاعم البعض بأنهم
سعداء بطريقة مختلفة يثير كل هذا القلق ـ وما الذي يجعل الشكل الشائع للغاية من
أشكال التعبير عن هذا القلق يأتي حكما وإدانة لا مجرد انشغال حقيقي؟ كيف يقوم
مجتمع باختيار المواضيع التي يسمح لنفسه بإصدار الأحكام عليها وهو لا يملك أدنى
فكرة عن الخير المطلق؟ وفوق ذلك كله، لماذا لا تجري هذه المحاورات والمناقشات؟
أعتقد بصفة شخصية أن السبب يكمن في الخوف. فالخوف يشل الإبداع، ويجهد الخيال،
وينال كثيرا من القدرة على حل المشكلة، ويضير بالصحة، ويبدد الطاقة، ويستنزف
الذكاء، ويحطم الأمل. وهو أيضا إحساس غير جيد.
الخوف يخلط الأمور، وإنه لمن الصعب عليك أن تفكر بوضوح
وأنت مرعوب. ونحن في حال خوفنا ننزع إلى تصوير خوفنا للآخرين في الغالب في صورة
غضب: فيبدأ كل من يبدو مختلفا في الشعور بأن ثمة ما يهدده. ومن مشكلات هذا النزوع
أن هذه التصورات "تترسخ". فلو أنك كررت على الناس عددا كافيا من المرات
أنهم تعساء، وناقصون، وربما مجانين، وأنانيون بالقطع، فسوف يجيء حتما صباح غائم
بارد يستيقظون فيها على بوادر سؤال بارد مزعج عما لو أنهم يشعرون بالوحشة فعلا
بدلا من كونهم يعيشون ببساطة في حالة وحدة. وثمة ظاهرة تكميلية تضيف إلى المشكلة:
الإعلام يقتات على الخوف.
لعلكم لاحظتم أن المملكة المتحدة تمر بموجات من الأمراض
القاتلة الضارية، على الرغم من أن قلة قليلة من الناس ـ في ضوء النسبة والتناسب ـ
هي التي تصاب بهذه الأمراض. ولا بد لـ "المرض الإعلامي" الناجح من
استيفاء بعض المعايير المعينة، ومن بين هذه المعايير، أن يكون له اسم علمي شديد
التعقيد واسم شعبي شديد الوضوح: ولكم مثلا مرض "اعتلال المخ إسفنجي الشكل
البقري"
(ونظيره البشري المعروف بمرض كرويتزفيلدت
جاكوب) المشهور شعبيا باسم جنون البقر، ولقد كان هذا المرض مثاليا. ينبغي أيضا
للمرض أن يكون مرضا
يفضي إلى الموت لكنه نادر (فمرض كرويتزفيلدت جاكوب لا يصيب إلا واحدا من
كل مليون شخص في العالم كل عام وأغلبية هذه الحالات لا علاقة لها ألبتة بالمنتجات
البقرية الملوثة) فيكون الأرجح ألا يصاب به القراء، وينبغي لو أمكن أن يكون السبب
في هذا المرض هو جشع شخص ما أو غباؤه (وفي هذه الحالة كان الاتهام بالجشع والغباء
من نصيب المزارع ومصنّعي الأغذية).
الأمراض أيسر ما يعين على التلاعب الرامي إلى إثارة
النوع المطلوب من الخوف، أي النوع الذي يفضي إلى بيع الجرائد. وثمة مخاوف أخرى
يمكن اللعب بها. وفي اللحظة الأخيرة ثمة الرعب المصنَّع إعلاميا والشائع للغاية،
الرعب من "الوحيد".
وفي يوم من الأيام، وليس هذا اليوم بشديد البعد عنا، حدث
أن كان لكلمة "الوحيد" وقع بطولي وإيحاءات لها علاقة بالمغامرة، فالحارس
الوحيد Lone
Ranger لم يكن حزينا
ولا مجنونا ولا شريرا، حتى أن تكساس استعارت منه اسمه هذا وتباهت به فبات اسمها هو
"ولاية النجم الوحيد". ولكنك لو بحثت في ويكبديا عن الوحيد loner لوجدت هذه القائمة من الروابط إلى المصطلحات
المرتبطة بالكلمة: تجنب اضطراب الشخصية ـ مرض التوحد ـ البطل البيروني
ـ الأسرة المختلة ـ الرهبنة ـ هيكوموري Hikikomori ـ الانطوائية ـ الوحشة ـ الذئب
المتوحش
ـ الاضطراب الاكتئابي الأساسي ـ كراهية
الناس ـ الانعزال ـ اضطراب الشخصية الفصامي ـ رهاب المجتمع ـ الرفض الاجتماعي ـ العزلة
ـ البطل المأساوي
وقد أبرزت الكلمات التي لا ترتبط ارتباطا مباشرا
بـ"الحزن والجنون والشر"، برغم أن سياق القائمة يثير أسئلة حتى حول هذه
المصطلحات الأربعة، فهل لا بأس في أن تكون "انطوائيا"؟ هل الرهبان في
الغالب مجانين؟ هل العزل اضطراب اكتئابي جسيم؟ هل الأبطال البيرونيون مستوحشون؟
ولكن الأكثر إثارة بالنسبة لي هو ما يغيب عن القائمة: المغامرة، الحساسية،
الصوفية، الإبداع، العبقرية، الجنوح/ روبنسن كرورزو، الحبس الانفرادي، التجوال.
كانت جريتا جاربو "وحيدة" شهيرة، برغم أنها في
واقع الأمر لم تقل يوما "أريد أن أكون وحدي" (وإن قالتها راقصة الباليه
الروسية جروزنسكايا التي لعبت جاربو دورها في فيلم Grand Hotel ). كانت
ممثلة بارعة وعظيمة كتب عنها المؤرخ السينمائي "ديفيد دينبي" في 2012
يقول إنها أدخلت على فن التمثيل تعبيرا رهيفا كان له أثره على المشاهدين لا يمكن
إنكاره. كانت ناجحة بالطبع حينما تقاعدت وهي في الخامسة والثلاثين بعد ثمانية
وعشرين فيلما. وقرب نهاية حياتها ـ وقد عاشت حتى بلغت الخامسة والثمانين ـ حكت
لستيف برومان ـ كاتب سيرتها السويسري ـ (والذي كانت تتعاون معه) إنها سئمت هوليود:
"لم أعد أحب عملي. كانت هناك أيام كثيرة أرغم فيها نفسي على الذهاب إلى
الاستديو ... كنت أريد بحق أن أعيش حياة أخرى". ففعلت. وفي تقاعدها عاشت نمط
حياة بسيطا وسلسا وفي بعض الأحيان "اعتباطيا". ولكن كان لها دائما
أصدقاء مقربون تسافر معهم وتمارس بصحبتهم أنشطتها الاجتماعية. وهي لم تتزوج ولكن
كانت لها علاقات حب جادة مع رجال ونساء. كانت تقتني الأعمال الفنية. وتمشي، وحدها
أو مع رفاق، لا سيما في نيويورك. كانت شديدة المهارة في تجنب الصحفيين. ومنذ
اختيارها التقاعد ولما بقي من حياتها رفضت الفرص التي عرضت عليا للمشاركة في
المزيد من الأفلام، وهذا يجعل من المعقول أن نفترض أنها كانت راضية عن اختيارها.
واضح أن عددا هائلا من الناس، للكثير والمختلف من
الأسباب، على مدار التاريخ وفي شتى الثقافات، يختارون من العزلة مقدار ما نشدته
جاربو، وبعد أن يجربوا نمط الحياة هذا لفترة يواصلون التمسك باختيارهم، حتى وإن
كانت الفرص قائمة وجيدة لعيش حيوات أكثر اجتماعية. وهم في الغالب لا يتحولون إلى
قتلة متسلسلين فصاميين، أو مرضى مغرمين بالأطفال مغتصبين لهم، أو متوحدين أشرارا.
بل يتحول البعض منهم في واقع الأمر إلى فنانين عظماء ومفكرين مبدعين وقديسين، ولو
أنه ليس كل من يحب أن يكون وحده عبقري، وليس كل العباقرة محبين للوحدة.
نشر المقال أصلا في الجارديان
في 11 يناير 2014 ونشرت ترجمته اليوم في شرفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق