الأربعاء، 2 أبريل 2014
مستقبل أوربا
مستقبل أوربا
حوار: جريجور بيتر شميتز
أجرى هذا الحوار "جريجور بيتر شميتز" وهو
مراسل دير شبيجل الألمانية وهو جزء من كتاب يحمل اسمه مثلما يحمل اسم جورج سوروس
وعنوانه: "مأساة الاتحاد الأوربي: تفكك أم بعث جديد؟" نشرت أجزاء من هذه
الحوار في بابليك أفيرز، وفي نيويورك رفيو أوف بوكس
***
جورج سوروس (1930 ـ ) أمريكي من أصل مجري. رجل أعمال،
مستثمر، له نشاط خيري كبير. معروف بـ "الرجل الذي قضى على بنك إنجلترا"
بسبب بيعه ما تقدر قيمته بعشرة بلايين دولار أمريكي من الجنيهات مما عاد عليه بربح
بلغ بليون دولار أمريكي أثناء أزمة العملة البريطانية المعروفة بالأربعاء الأسود
سنة 1992. سوروس مشهور بمناصرته لقضايا السياسات اللبرالية التقدمية. أنفق في
الفترة من 1979 إلى 2011 أكثر من ثمانية بلايين دولار أمريكي على قضايا تتعلق
بحقوق الإنسان والرعاية الصحية العامة والتعليم. لعم دورا مهما في تحويل المجر من
الشيوعية إلى الرأسمالية وقدم إحدى أكبر منح التعليم العالي في أوربا للجامعة
الأوربية المركزية في بودابست.
***
جريجور بيتر شميتز: صراع القرم وأوكرانيا يغير من شكل
السياسات الأوربية والعالمية، وسوف نتناوله. لكن دعنا أولا نتكلم عن الموضوع الذي
اتخذت فيه موقفا نقديا على مدار السنين، وهو أزمة الاتحاد الأوربي. فيما يتعلق
باليورو، ألم نتجاوز الأسوأ؟
جورج سوروس: لو أنك تعني أن اليورو موجود ليبقى، فأنت محق. هذا ما أكدته
الانتخابات الألمانية التي لم تتعرض تقريبا لمناقشة الموضوع من الأساس، وهذا ما أكدته
مفاوضات تكوين الائتلاف، حيث تم إيكال الموضوع برمته إلى لجنة فرعية. المستشارة
ميركل راضية عن الطريقة التي عالجت بها الأزمة، وكذلك الشعب الألماني. وقد أعادوا
انتخابها بأغلبية متزايدة. وهي دائما ما تقوم بالحد الأدنى مما يلزم للإبقاء على
اليورو. وهذا ما حافظ لها على ولاء كل من المناصرين للأوربية والمعتمدين على
المستشارة لحماية المصالح الألمانية في الوقت نفسه. وليست هذه مأثرة بسيطة.
اليورو إذن موجود ليبقى، والترتيبات
التي نشأت في رد فعل على الأزمة أصبحت قائمة ومؤسسة بوصفها النظام الجديد الحاكم
لمنطقة اليورو. وهذا يؤكد أسوأ مخاوفي. إنه الكابوس الذي ما فتئت أتكلم عنه. وأرجو
أن يكون الغزو الروسي للقرم نفيرا للصحوة. ألمانيا هي البلد الوحيد التي يسمح لها
وضعها بتغيير النظام السائد. ما من بلد مدين يمكنه أن يتحداها، وأي بلد يجرؤ على
المحاولة سوف يلقى عقابا فوريا من الأسواق المالية والسلطات الأوربية.
ـ لو قلت هذا للألمان سيقولون: حسن، لقد تطورنا تطورا
كبيرا. نحن الآن أكثر سخاء، كما أننا قمنا بتعديل سياستنا التقشفية.
ـ أعترف أن ألمانيا توقفت عن الإمعان
في إغراق الدول المدينة، فبدأت هذه الدول في الحصول على نزر من الأوكسجين مما
يساعدها على الشروع في التنفس. والبعض منها، لا سيما إيطاليا، لا يزال ينحدر، ولكن
بوتيرة أقل كثيرا. وهذا صعد قليلا بالأسواق المالية لأن الاقتصادات ترتطم بالقاع
وهذا يؤدي بصورة شبه أوتوماتيكية إلى ارتدادة في الاتجاه العكسي.
احتمال وقوع فترة ركود طويلة لم
يتبدد بعد. هناك اتفاق عام على أن منطقة اليورو مهددة بانكماش اقتصادي لكن معارضة
المحكمة الدستورية الألمانية وإداراتها التشريعية سوف تمنع البنك المركزي الأوربي
من التغلب بنجاح على إجراءات الانكماش الاقتصادي بمثل ما فعلت بنوك مركزية أخرى،
وأبرزها على سبيل المثال "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي.
لقد أدى احتمال الركود إلى تحريك فعل
سياسي سلبي يزجّ بكل من يرى أن الترتيبات السائدة لا تطاق إلى خانة المناهضين
للأوربية. وهذا يجعلني أتوقع لعملية التفكك أن تكتسب زخما. لقد كنا نواجه في مرحلة
اشتداد أزمةِ اليورو أزمة مالية تلو
الأخرى. الآن سوف نشهد بالأحرى سلسلة أزمات سياسية لا مالية، ولو أنه لن يكون هناك
مفر من وقوع الأخيرة أيضا.
ـ تقول إن الترتيبات الحالية لا تطاق. فما الذي ينبغي
تغييره على وجه الدقة؟ ما الذي ينبغي إصلاحه؟
ـ في ذروة أزمة اليورو، وافقت ألمانيا على عدد من الإصلاحات
النظامية كان أبرزها وأهمها هو الاتحاد المصرفي. ولكن مع زوال الضغوط المالية،
قللت ألمانيا من التنازلات التي سبق أن قدمتها. وذلك ما أفضى إلى الترتيبات
الحالية، وهو ما يؤكد أسوأ مخاوفي.
ـ ونحن نتكلم، يخوض وزراء المالية الأوربيون عملية إنهاء
اتفاقية حول الاتحاد المصرفي. كيف ترى هذا؟
ـ في العملية التفاوضية، تحول ما يعرف بالاتحاد المصرفي إلى شيء
يوشك أن يكون النقيض للاتحاد المصرفي، هو إعادة تأسيس الصوامع الوطنية، أو البنوك
ذوات الإدارات المنفصلة. وهذا انتصار لرؤية 1984 الأورويلية [والإشارة إلى رواية
1984 لجورج أورول التي تنبأ فيها بمستقبل سوداوي للعالم في ظل الحكم الشمولي].
ـ ما عيبها؟
ـ العلاقة المحرمة القائمة بين السلطات الوطنية وإدارات البنوك.
فرنسا على وجه الخصوص مشهورة بالعلاقات المحرمة المالية التي تصل إلى تسيير بنوكها
الكبرى. ألمانيا لديها مجموعة لاندسبانكن Landesbanken البنكية وأسبانيا لديها بنك لاسيكساس caixas ولكليهما صلات غير صحية
بالساسة المحليين. هذه الصلات والعلاقات كانت مصدر ضعف أساسيا للنظام المصرفي
الأوربي وقامت بدور مهم في الأزمة المصرفية التي لا تزال تثقل على منطقة اليورو.
وكان ينبغي للاتحاد المصرفي المقترح أن يقوض هذه العلاقات، ولكن حوفظ عليها إلى حد
كبير، بإصرار ألماني في المقام الأكبر.
ـ هذه إدانة بالغة العنف. كيف تبررها؟
ـ فعليا، الاتحاد البنكي سوف يترك النظام البنكي بغير مقرض أخير
يلوذ إليه. وسلطة القرار المقترحة معقدة للغاية، وفيها كيانات كثيرة لصنع القرار،
وهذا عمليا وضع لا نفع فيه في حالة الطوارئ. والأدهى من ذلك، أن البنك المركزي
الأوربي ممنوع قانونا من القيام بأية أفعال لا تكون مخولة له بوضوح لا لبس فيه.
وهذا يفصله عن بقية البنوك المركزية التي يكون متوقعا لها حرية التصرف في أوقات
الطوارئ.
لكن ألمانيا صممت على الحد من
المسئوليات الموكولة إلى البنك المركزي الأوربي. ونتيجة لذلك، تبقى الدول الأعضاء
عرضة للضغوط المالية التي تأمنها الدول المتقدمة الأخرى. وذلك ما قصدته حينما قلت
إن أعضاء الاتحاد الأوربي من الدول عالية المديونية في وضع شبيه بدول العالم
الثالث ذات المديونيات العالية بالعملة الأجنبية. والاتحاد المصرفي لا يعالج هذا
العيب. بل إنه على العكس من ذلك يؤبده.
ـ تبدو محبطا
ـ أنا فعلا محبط. فأنا لم أدخر جهدا في محاولتي للحيلولة دون
هذه النتيجة، لكن الآن وقد وصلنا إليها، لا أريد أن أواصل خبط رأسي في الجدار.
إنني أقبل نجاح ألمانيا في فرض نظام جديد على أوربا، برغم أنني أجده نظاما غير
مقبول. لكنني لا أزال أومن بالاتحاد الأوربي وبمبادئ المجتمع المنفتح التي أطلقت
شرارته، وأود لو تتجدد تلك الروح مرة أخرى. أود لو تتم محاصرة عملية التفكك، بدلا
من التعجيل به. لذلك لم أعد أناصر سياسة إما أن تقود ألمانيا أو ترحل. ذلك لأن
شباك فرصة إحداث تغيير راديكالي في القواعد الحاكمة لليورو قد أوصد.
ـ أفهم من هذا أنك بصفة أساسية كفرت بأوربا؟
ـ لا. كفرت بتغيير الترتيبات المالية، بعلاقة الدائن والمدين
التي تحولت الآن إلى نظام دائم. سأستمر في التركيز على السياسات، لأنها المجال
الذي أتوقع فيه تطورات دراماتيكية.
ـ فهمت. من الواضح أن الناس مشغولة بصعود الحركات
الشعبوية في أوربا. هل ترى أي فرصة للدفع إلى مزيد من التكامل السياسي، حينما يكون
النزوع القائم هو نزوع إلى التفكك؟
ـ أنا أومن إيمانا عميقا بالعثور على حلول أوربية لمشكلات
أوربا، فالحلول الوطنية تزيد الطين بلة.
ـ يبدو أن مناصري الأوربية غالبا ما يلزمون الصمت حيال
القضايا المهمة خشية أن يكون في الجهر بها مزيد من الدعم للمتطرفين، ومن ذلك على
سبيل المثال، حالة كثرة لاجئي الشرق الأوسط وأفريقيا الراغبين في الوصول إلى أوربا
والمحتجزين في جزيرة لامبيدوسا الإيطالية.
ـ راقك الأمر أم لم يرقك، سياسات الهجرة سوف تكون قضية مركزية
في الانتخابات. لا بد أن نعثر على بديل ما لرهاب الأجانب.
ـ وما اقتراحك في هذا الصدد؟
ـ لقد أسست مبادرة مجتمع أوربا المفتوح المعروف اختصارا بـ OSIFE . من بين أولى مبادرات هذه المؤسسة مبادرة
"التضامن الآن" في اليونان. كانت الفكرة الأصلية تتمثل في تخليق التضمن
الأوربي مع مأزق اليونانيين الذين يعانون من أزمة اليورو، وتخليق التضامن اليوناني
مع المهاجرين الذين يعانون ظروفا غير إنسانية واضطهادا من قبل حزب الفجر الذهبي
الوطني المتعصب. واستغرقنا بعض الوقت إلى أن وقف المشروع على ساقيه، فما كاد ذلك
يحدث حتى كان الأوان قد فات، إذ كانت دول أخرى عالية المديونية قد تأزمت أوضاعها
وباتت بحاجة إلى الدعم. ففاتنا ذلك القارب، لكن مبادرتنا أثمرت عن منتج ثانوي نافع
تمثل فيما تعلمناه عن قضية الهجرة وما
اكتسبناه فيها من رؤية أعمق.
ـ فما الذي تعلمته؟
ـ أن هناك صراعا لا يمكن تجاوزه بين الشمال والجنوب [من دول
القارة الأوربية] فيما يتعلق بقضية اللجوء السياسي. فدول الشمال، لا سيما الدائنة
من بينها، سخية في معاملتها للاجئين السياسيين. ومن ثم يرغب جميع اللاجئين
السياسيين في الذهاب إليها، لا سيما ألمانيا. ولكن العدد أكبر مما تستطيع هذه
الدول استيعابه، فكان أن وضعت اتفاقية أوربية تدعى دابلن ثلاثة التي تلزم اللاجئ السياسي
بالتسجيل في أول بلد يدخله من بلاد الاتحاد الأوربي. وعادة ما يكون البلد الأول
بلدا جنوبيا، هو بالتحديد إيطاليا وأسبانيا واليونان. والثلاثة دول مدينة بقوة
وخاضعة لتقشف مالي. فليس لديها من المنشآت ما يلائم طالبي اللجوء السياسي، فنما
فيها رهاب الأجانب، والحركات المناهضة للهجرة، والتيارات السياسية الشعبوية.
يجد اللاجئ السياسي نفسه في شرك. فلو
أنه قام بتسجيل نفسه في أول بلد يصل إليها، فلن يتسنى له قط طلب اللجوء إلى
ألمانيا. لذلك يفضل أكثرهم البقاء بوضع غير شرعي على أمل أن يجدوا طريقهم إلى
ألمانيا. ويبقون مدانين بعدم الشرعية لفترة غير معروفة. ويعيشون من ثم في ظروف بؤس
شديد تغذي مشاعر المعاداة للهجرة.
ـ ما رأيك في سياسات "فلاديمير بوتين" الأخيرة
فيما يتعلق بأوكرانيا والقرم وأوربا؟
ـ أنت الآن تدخل في صلب الموضوع. روسيا تظهر الآن لاعبا
جيوسياسيا كبيرا. وينبغي للاتحاد الأوربي أن يدرك أنه له في الشرق منافسا يعود إلى
الحياة. روسيا بحاجة ماسة إلى أوربا شريكا لها، ولكن بوتين يجعل من روسيا منافسا.
وفي داخل نظام الحكم الروسي قوى سياسية مهمة تنتقد سياسة بوتين في هذا الصدد.
ـ هل بوسعك أن تكون أكثر تحديدا؟
ـ المهم هو أن نتذكر أن بوتين يقود من موقع الضعف. لقد حقق
شعبية كبيرة في روسيا لاسترداده شيئا من النظام من وسط الفوضى. النظام الجديد ليس
شديد الاختلاف عن القديم، ولكن حقيقة انفتاحه على العالم الخارجي هي التحسن
الواضح، وهي العنصر المهم في استقراره. لكن تحول ديمتري ميدفيديف المرتب مسبقا من
رئيس وزراء إلى رئيس أزعج الشعب إزعاجا عميقا. شعر بوتين أن الحركة الاحتجاجية
تهدده وجوديا. فصار قمعيا في الداخل عدوانيا في الخارج.
وإذ ذاك بدأت روسيا تشحن السلاح إلى
نظام الأسد في سوريا بكميات هائلة وتساعده في التغلب على المتمردين. وآتت المقامرة
أكلها بسبب انهماك القوى الغربية ـ أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ـ في مشكلاتها
الداخلية. أراد باراك أوباما أن يرد على استخدام سوريا للأسلحة الكيميائية. فطلب
موافقة الكونجرس وكان على وشك أن يلقى الرفض حينما جاء بوتين ليقنع الأسد بتسليم
أسلحته الكيميائية طوعا. وكان ذلك له نصرا دبلوماسيا مؤزرا. غير أن انتفاضة الشعب
الأوكراني العفوية ربما تكون علمت بوتين أن حلمه بتجميع بقايا الإمبراطورية
الروسية مستحيل المنال. هو الآن يواجه خيارا بين الحفاظ على المسار أو تغييره
والانتقال إلى المزيد من التعاون مع الخارج وتقليل القمع في الداخل. وبرغم أن
مساره الراهن أثبت أنه مضرٌّ به، إلا أنه فيما يبدو باق عليه.
ـ هل روسيا تمثل تهديدا حقيقيا لأوربا إذا كان اقتصادها
ضعيفا كما تقول؟
ـ القلة المسيطرة على الاقتصاد في روسيا لا تثق في النظام أدنى
ثقة. فيبعثون أبناءهم وأموالهم إلى الخارج. وهذا ما يجعل الاقتصاد بالغ الضعف.
وحتى مع وصول سعر برميل النفط إلى أكثر من مائة دولار أمريكي، وهو الحد الأدنى
الذي تحتاج إليه روسيا لموازنة ميزانيتها، فالاقتصاد في روسيا لا ينمو. وعدوانية
بوتين في الخارج نتاج ضعف. وهو يتصرف بطريقة دفاعية. ليست لديه شكوك، ويمكنه أن
يصل إلى أقصى درجات القسوة، لكنه خبير في الجودو وليس ساديا، ومن ثم فالضعف
الاقتصادي والسلوك العدواني ينسجمان تمام الانسجام.
ـ كيف ينبغي أن يكون رد فعل أوربا؟
ـ عليها أن تكون أكثر اتحادا، لا سيما في رد فعلها على العدوان
الروسي على أوكرانيا. إن بوتين يتباهى بكونه واقعيا من الناحية الجيوسياسية. يحترم
القوة ويجترئ بالضعف. ولكن ما من داع لأن يكون المرء في خصومة دائمة. ففيما يتعلق
بالوضع الراهن في أوكرانيا، أرى أن الاتحاد الأوربي وروسيا يتكاملان من نواح
كثيرة، وكل منهما بحاجة إلى الآخر. فالمجال واسع لروسيا كي تلعب دورا بناء في
العالم، وسبب ذلك الدقيق هو انشغال أوربا والولايات المتحدة كل بما لديه في الداخل
من مشكلات.
ـ وكيف يمكن ترجمة هذا إلى عمل، لا سيما في الشرق
الأوسط؟
ـ الوضع الجيوسياسي تغير تغيرا تاما. عندي أفكار محددة في هذا
الموضوع، ولكنه موضوع بالغ التعقيد. ولا أستطيع أن أوضحه بصورة كاملة لأن الكلام
يتعلق بدول كثيرة.
ـ حاول
ـ أبدأ إذن بملاحظة عامة. هناك عدد متزايد من الأزمات السياسية
المعقدة في العالم. وهذا عرض من أعراض انهيار الحكم العالمي. النظام القائم لدينا
في بداياته. هناك بصورة أساسية مؤسسة واحدة ذات قوة حقيقية هي مجلس الأمن التابع
للأمم المتحدة، فلو اتفق الأعضاء الخمس دائمو العضوية، يمكنهم فرض إرادتهم على أي
طرف في العالم. لكن هناك دولا كثيرا ذات سيادة، وذات جيوش، وهناك دول فاشلة عاجزة عن
حماية احتكارها للقوة القاتلة.
كانت الحرب الباردة نظاما ثابتا،
فالقوتان العظميان كانتا في حالة جمود منشؤه خطر القدرة المتبادلة على الدمار
الأكيد، وكل منهما كانت تكبح التابعين لها. فكانت الحروب تخاض بالدرجة الأساسية في
الأطراف. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهد العالم لحظة عابرة كانت فيها
الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي لا ينازعها منازع في قيادة للعالم.
لكنها أساءت استخدام القوة. وفي ظل نفوذ المحافظين الجدد الذين رأوا أن على
الولايات المتحدة أن تستخدم قوتها في فرض إرادتها على العالم، أعلن الرئيس جورج
دبليو بوش "الحرب على الإرهاب" وقام بغزو العراق بناء على مزاعم زائفة.
وكان ذلك سوء تفسير مأساوي للدور
اللائق بقوة مهيمنة أو إمبريالية. في حين أن قوة الجذب، أعني القوة الناعمة، هي
التي تضمن للإمبراطوريات استقرارها. أما القوة العنيفة فقد تلزم للغزو والحماية،
ولكن على القوة المهيمنة أن تراعي مصالح المعتمدين عليها ضمانا لولائهم بدلا من
تعزيز مصالحها الخاصة دون غيرها. ذلك ما برعت فيه الولايات المتحدة بعد الحرب
العالمية الثانية، حينما أسست الأمم المتحدة وبدأت خطة مارشال [لإعادة إعمار
أوربا]. لكن الرئيس بوش نسي ذلك الدرس وقضى على السيادة الأمريكية في لحظات. فلم
يدم حلم المحافظين الجدد بـ "القرن الأمريكي الجديد" إلا لعشر سنوات. ثم
جاء الرئيس أوباما فعاد بالسياسة الأمريكية من جديد إلى الواقع. وسجله في السياسة
الخارجية أفضل في الحقيقة مما يشيع عنه. فلقد قبل بالخسارة الهائلة في القوة
والنفوذ وحاول اللجوء إلى "القيادة من الخلف". وهو على أي حال أكثر
انشغالا بالسياسات الداخلية منه بالسياسات الخارجية. وأمريكا من هذا الجانب تتشابه
مع أوربا على الرغم من اختلاف الأسباب. الشعب منكفئ على ذاته، متبرم من الحرب.
ونتج عن هذا فراغ في السلطة سمح بنشوء صراعات وتأزمها في شتى أرجاء العالم.
ودخلت روسيا أخيرا إلى فراغ السلطة
هذا محاولة إعادة تأسيس نفسها كلاعب جيوسياسي. وكانت مناورة جريئة استوحاها بوتين
من ضعفه داخليا وأثمرت في سوريا بسبب ضعف الغرب. فقد استطاعت روسيا أن تفعل ما
عجزت عنه القوى الغربية: أن تقنع الأسد بتسليم أسلحته الكيميائية
"طوعا". وبذلك تغير الأفق الجيوسياسي تغيرا راديكاليا. وفجأة، ظهر أفق
لحل ثلاثة صراعات أساسية في الشرق الأوسط: فلسطين وإيران وسوريا، في وقت كانت
توقعات انفراجها في أدنى مستوياتها.
الأزمة السورية أسوأ بكثير، خاصة في
عواقبها الإنسانية. فتدخل روسيا بوصفها موردا للسلاح، وتدخل حزب الله بوصفه موردا
للقوات، قلبا المنضدة على رءوس اللاعبين لصالح الأسد. ولا يمكن للقتال أن ينتهي
وللتسوية السياسية أن تفرض إلا بضمان من المجتمع الدولي. وبغير ذلك، سيستمر
الجانبان في الاقتتال إلى الأبد بمساعدة من الداعمين الخارجيين. ولكن التسوية
السياسية سوف تستوجب لإتمامها شهورا أو سنين من التفاوض. وفي ثنايا ذلك يتبع الأسد
سياسة متعمدة لمنع الطعام وتدمير النظام الصحي إخضاعا للسكان المدنيين. شعاره
"جوعوا أو استسلموا".
هذا يزيد من احتمال وقوع كارثة
إنسانية. وما لم يتم توصيل الدعم الإنساني عبر خطوط الاقتتال، فالذين سيموتون خلال
الشتاء من المرض والجوع أكثر ممن سيميتهم القتال نفسه.
ـ ماذا عن إيران؟
ـ شهدت الأزمة الإيرانية فتحا حقيقيا
اتخذ شكل اتفاقية تتعلق بالأسلحة النووية مع الرئيس الجديد حسن روحاني. لقد كانت
العقوبات المفروضة من القوى الغربية فعالة للغاية. الثورة الإيرانية نفسها تقدمت
حتى وقعت في أيدي زمرة ضيقة، هي الحرس الإيراني، بينما تم استبعاد الملالي إلى حد
كبير من السلطة. وما كان يمكن للقائد الأعلى وزعيم الملالي، أن يرضى بذلك. ولا بد
أن يكون مدركا أيضا أن أغلبية السكان ساخطون على النظام سخطا حقيقيا. وفي تناقض مع
المساعي التفاوضية السابقة، يبدو مؤيدا للوصول إلى تسوية مع الولايات المتحدة.
وهذا يزيد من احتمالات التوصل إلى اتفاقية نهائية. لا بد أن نأخذ في حسباننا ـ
بحسب ما كتب "فالي نصر" أخيرا، أن لإيران من بعد روسيا ثاني أكبر
احتياطات الغاز الطبيعي في العالم، وأن بوسعها منافسة روسيا على إمداد أوربا
بالغاز.
ـ لا يبقى أمامنا إلا الأزمة الكبرى الأبدية: فلسطين.
ـ التطورات التي شهدتها مصر أخيرا
زادت من فرص التقدم في الأزمة الفلسطينية. فالجيش بدعم فعال من العربية السعودية
ودول الخليج أطاح بالرئيس المنتخب الشرعي وهو الآن متورط في قمع قاس للإخوان
المسلمين. هذا التطور المزعج ينطوي على تأثير جانبي حميد: أنه يزيد من احتمال
التسوية السلمية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، مع إقصاء حماس. وهذا وضع ما كان
ليمكن تخيله قبل شهور. لقد انخرط وزير الخارجية جون كيري في المفاوضات الفلسطينية
لفترة طويلة قبل انفتاح نافذة الأمل هذه، ومن ثم فله أفضلية السبق. وعلى الرغم من
أن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو متشكك للغاية، لكنه برغم عناده الشديد، لا
يستطيع أن يعارض المفاوضات معارضة علنية، لأنه في موقف ضعيف نسبيا بعد أن جاهر
بدعم "ميت رومني" في الانتخابات الأمريكية. المفاوضات تحرز تقدما، ولكنه
بالغ البطء في الحقيقة.
لو حلت جميع هذه الأزمات، فإن نظاما
جديدا سوف ينشأ في الشرق الأوسط. والطريق في الحقيقة طويل للغاية، لأن الصراعات
متداخلة، ومن تحتمل له الخسارة في صراع قد يتحول إلى مصدر لإفساد صراع آخر. نتانياهو
مثلا يعارض أشد ما تكون المعارضة أي اتفاق مع إيران لأن السلام مع فلسطين سوف ينهي
مسيرته السياسية في إسرائيل. ومع ذلك يمكن تبين الخطوط العريضة لنظام جديد محتمل،
برغم أننا نعلم آثار أزمة أوكرانيا الراهنة. روسيا قد تزداد نفوذا، العلاقات بين
العربية السعودية والولايات المتحدة تضعف، وقد تخرج إيران وهي حليف أمريكا الأقرب،
تالية لإسرائيل. ولكن الوضع يبقى رخوا قابلا للتغير من يوم إلى آخر.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق