"رأس المال" في
القرن الحادي والعشرين
ستيفن بيرلستاين
ما كدتم تحسبون أن كارل
ماركس فقد أخيرا كل أهمية له من الناحية السياسية أو الاقتصادية، حتى جاء عالم
اقتصاد فرنسي عبقري ليستدرك ما فات الفيلسوف الألماني، فيصحح كثيرا من أخطاء
ماركس، ويحدّث تحليله في ضوء تجارب لاحقة ويستخرج من بطن الأرض طائفة كبيرة من
البيانات الاقتصادية الحديثة يدعم بها النظرية القائلة باحتواء الرأسمالية على تناقضات
جوهرية كفيلة بتدميرها ذاتيا. عالم الاقتصاد هو
"توماس بيكيتي" الأستاذ بمدرسة باريس للدراسات الاقتصادية الذي قام هو و"إيمانول
سايز" من جامعة كاليفورنيا بإطلاق شرارة الجدل أخيرا حول تفاوت الدخول. جمع
بيكيتي وسايز بيانات من العوائد الضريبية تؤكد أن دخول الطبقة الوسطى بقيت ثابتة
طوال الثلاثين عاما الماضية وكشفا كيف أن دخول الطبقة العليا قد ابتعدت أشد ما
يكون الابتعاد عن الجميع.
بطموح جارف ومقدرة بارعة،
يأتي كتاب بيكيتي الأخير "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" مقتديا
في وضوح شديد بمثال "رأس المال" لكارل ماركس. ولكن حيثما كان بحث ماركس
متواضعا، يكون بحث بيكيتي استثنائيا. وحيثما تنبأ ماركس بانهيار الرأسمالية بوصفه
مقدمةً تفضي إلى فردوس بروليتاري طوباوي، يرى بيكيتي مستقبلا من نمو بطيء وتفاوتات
أسطورية كتفاوتات "عصر القشرة الذهبية "[i] بحيث يحصل أصحاب
رأس المال الموسرين على حصص أضخم وأضخم من الثروة العالمية والدخول.
يكتب بيكيتي أن
"صدام الشيوعية والرأسمالية طغى على البحث العلمي بدلا من يحفزه فيوجّه
المؤرخين وعلماء الاقتصاد بل والفلاسفة إلى دراسة رأس المال والتفاوت".
بدأ السعي إلى نظرية
موحدة لطبيعة الرأسمالية مع أوائل علماء الاقتصاد السياسي. فقد ذهب القس الموقر
"توماس مالثوس" إلى نظرية مفادها أن النمو السكاني سوف يُبقي الكم
الأكبر من البشرية أسير البؤس والفقر مثلما كان الحال فعلا على مدار أغلب تاريخ
البشر. وذهب "ديفيد ريكاردو" إلى أن طبقة ملاك الأرض سوف تظل تزداد ثراء
إلى أبد الآبدين نظرا لأن قيمة الأرض ثابتة الحجم سوف تظل ترتفع نسبيا بالمقارنة
مع المعروض المتزايد من السلع الأخرى. وتنبأ ماركس بأن التنافس المهلك بين العمال
والمستثمرين سوف يؤدي حتما بالأجور إلى مستويات الإعانة ويؤدي بعائدات الاستثمار
إلى الصفر، مركزا الثروة في أيدي يقل عددها أكثر فأكثر.
نعرف الآن أن ما فشلت
هذه النظريات الحتمية في التنبؤ به هو ذلك الانفجار الإنتاجي الذي أدت إليه
التكنولوجيا الجديدة بما سمح للمجتمع أن يتفادى المصير المأساوي الذي تخيلته النظريات.
لكن بيكيتي بحشده كما مثيرا للإعجاب من البيانات التي ترجع إلى قرون مضت ويذهب إلى
أن آليات الرأسمالية العميقةَ سوف تعيد تأكيد نفسها على الأرجح فتولِّد من جديد
"تفاوتات اعتباطية غير قابلة للاستمرار من شأنها أن تجهز تماما على القيم
التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية".
في القصة كما يسردها
بيكيتي، كانت الظروف الفريدة التي توفرت في ما بين 1930 و1970 هي التي أتاحت
الحفاظ على الانجراف الطبيعي للرأسمالية نحو التفاوت. كان من بين تلك الظروف حربان
عالميتان، وكساد عالمي، وركود ناجم عن الديْن، وهي جميعا ظروف تآمرت على تدمير
كميات هائلة من الثروة. كانت تلك السنوات أيضا استهلالا لسياسات حكم اقتصادي عمدت
إلى إعادة توزيع الدخل والقوة الاقتصادية مع إشاعة أحدث التكنولوجيا بين الدول
النامية. وأدى النمو السريع في النتاج الاقتصادي إلى النيل من أهمية الثروة
الموروثة وخلق طبقة وسطى عالمية جديدة هائلة لها ثروتها الخاصة.
وكان في ذروة تلك "الحقبة الذهبية" أن قام عالم الاقتصاد "سيمون كوزنتس" ـ المعروف بأبي حساب
إجمالي الناتج المحلي GDP ـ بوضع نظرية مفادها أنه مع
تقدم البلاد عبر مراحل عديدة من التنمية، سوف يصل دخل الأسرة في نهاية المطاف إلى
المزيد من التساوي. لكن بيكيتي يضرب مثالا يبين أن "منحنى كوزنتس" ما هو
إلا حدوتة أطفال يرويها الأمريكيون والأوربيون بهدف استدراج الدول النامية إلى
أحضان الرأسمالية. فما كاد نمو السكان والتضخم يتباطأ في العالم الصناعي في
سبعينيات القرن العشرين، ويرجع النمو الاقتصادي إلى مستويات أكثر طبيعية، حتى بدأ
نزوع الرأسمالية إلى الاتجاه نحو التفاوت في الثروة والدخل في تأكيد نفسه من جديد.
تقوم نبوءة بيكيتي بالنمو البطيء والتفاوت المتطرف
في القرن الحادي والعشرين على بيانات تاريخية ومعادلة بسيطة. توضِّح البيانات التي
جمعها ـ بمساعدة كثير من الباحثين في بلدان مختلفة ـ أن الإنتاج لكل شخص (أي
الإنتاجية) تميل عبر فترات طويلة من الزمن إلى النمو بمعدل 1 إلى 1.5 في المائة.
توضح البيانات أيضا أن معدل العائد على الاستثمار عبر فترات طويلة من الزمن يتراوح
بين 4 و5 في المائة.
مشكلة هاتين النزعتين
التاريخيتين، حسب ما يشرح بيكيتي، هي أنه كلما يكون العائد على رأس المال المالي
(الاستثمار) أعلى من العائد على رأس المال البشري (الإنتاجية) لفترة ممتدة، فإن
حسبة بسيطة تكفي لنصل إلى نتيجة أن ذلك الوضع سيفضي إلى ازدياد التفاوت. والسبب:
أن أصحاب أعلى الدخول سيدخرون ويستثمرون مما يؤدي إلى توليد دخل رأسمالي يتيح لهم
أن يتقدموا على أولئك الذين يعتمدون فقط على الأجور والرواتب ـ إلى حد الانفصال
عنهم. ولا يستغرق الأمر غير أجيال قليلة قبل أن تتحول هذه الثروة المتراكمة إلى
عنصر مسيطر في الاقتصاد والبنيان الاجتماعي الاقتصادي.
يقول بيكيتي إن البيانات
في واقع الأمر توضح أن هذا حدث بالفعل في الولايات المتحدة حيث يتجاوز التفاوت في
توزيع الدخل والثروة ما كان عليه الحال في أوربا الطبقية سنة 1900.
جزء من القصة الأمريكية،
بحسب ما يكتب بيكيتي، يعكس الازدياد الرهيب في أجور رؤساء الشركات والممولين في
وول ستريت الذين يشكلون جزءا هائلا من نسبة الواحد في المائة العليا من أصحاب
الدخول. وكما يرى بيكيتي، فإنه ليس من الممكن تفسير دخولهم الهائلة في ضوء
المؤهلات التعليمية أو براعة الأداء وحسب، بل هي انعكاس لسوق عمل وإنتاج تنافسي
معيب يسمح للواحد في المائة من ذوي الدخول الأعلى بالحصول على أكثر بكثير من قيمة
إسهامهم الاقتصادي الفعلي.
يقول بيكيتي إن الأثرياء
أيضا في وضع يسمح لهم بالمخاطرة بمدخراتهم إذ يكون لديهم القدرة على تجنيد أفضل
مدراء الاستثمار وخبراء التمويل، مما يتيح لهم الحصول على عائدات أفضل من عائدات
المدخرين من الطبقة الوسطى. وهم، خلافا للمدخرين من الطبقة الوسطى، يميلون إلى
إعادة استثمار دخلهم الاستثماري كل عام بدلا من إنفاقه. ولئن أنتم جمعتم هذه
العوائد الفلكية مع سحر سكنى المجمعات السكنية المغلقة لرأيتم كيف لبنيان طبقي
صارم أن يتشكل.
والحق أن إحدى أمتع
اللمسات التي يطرحها بيكيتي في كتابه هي التي تتمثل في كيفية اعتماده على روايات
"أونوريه دي بلزاك" و"جين أوستن" و"هنري جيمس"
لإيضاح اقتصاديات المجتمعات الطبقية الصارمة وكيف أنها تقام على أساس من رأس المال
المتراكم. ولكن حتى هذا الجنوح الأدبي لا يحدث إلا مدعوما ببيانات تفصيلية مذهلة
عن حجم التركات وتدفقها في فرنسا وإنجلترا على مدار القرنين الماضيين. والاستخدام
المبدع الذي يبديه بيكيتي عند تعامله مع هذه المعلومات التاريخية ليس أقل إثارة
للإعجاب من الجهد المضني المبذول في تجميعها في المقام الأول.
على وضوح نثر بيكيتي
وبراعة اللغة الإنجليزية الناصعة التي توفرت له في ترجمة "آرثر
جولدهامر" يبقى هذا الكتاب موجها للاقتصاديين أكثر مما هو موجه للقارئ العام.
فالكتاب، المؤلف من خمسمائة وسبع وسبعين صفحة وخمس وسبعين صفحة من الهوامش فيه
تكرارات تثير الضيق. والاستطرادات الطويلة التي يناقش فيها الكاتب مواضيع من قبيل
التضخم أو أزمة اليورو الحالية لا تضيف الكثير إلى الطرح المركزي في الكتاب، علاوة
على أن بيكيتي ينفق الكثير من الوقت في شرح مضجر لاختلافات ثانوية بين البلاد في
تاريخ الاقتصاد. وهو، شأن ماركس، كان ليستفيد كثيرا من محرر ذي ممحاة لا ترحم.
في الختام، فإن الإثارة
في تحليل بيكيتي للماضي أكثر من الإقناع في تنبؤاته للمستقبل. فهو يعجز عن تقديم
تفسير كاف يبين من خلاله كيف أن تراكم الكثير للغاية من رأس المال الباحث عن الفرص
الاستثمارية الجيدة لن يؤدي في نهاية المطاف إلى تقليل العائدات كما تشير النظرية
الاقتصادية. وشأن كبار المنظرين من قبله، يستبعد هو الآخر بسهولة شديدة احتمالية
أن تحدث انفجارة إنتاجية تدفعها تكنولوجيا جديدة وتكون استهلالا لحقبة ممتدة أخرى
من النمو الكبير في الإنتاج وفي متوسط الدخول. بل هو يحذر قائلا إنه "لو كان
للمرء أن يأمل بحق في نظام اجتماعي أكثر عدلا وعقلانية فلا يكفي أن يعتمد على
نزوات التكنولوجيا".
فضلا عن أنه، خلافا
للقرن التاسع عشر، حينما كانت العقارات والسندات الحكومية هي الشكل الأساسي لرأس
المال، فإن الأصول الأكثر مخاطرة هي التي تأتي بأكبر الثروات في الاقتصاد العالمي
الحديث، الأصول التي يمكن أن تفقد قيمتها أسرع من غيرها نتيجة لتغير التكنولوجيا
أو للمنافسة العالمية.
يقطع بيكيتي بأنه ليس
حتى من الواضح إن كان السبيل الوحيد إلى اجتناب مستقبل النمو البطيء والتفاوت
المتطرف هو من خلال ضريبة المصادرة. إن الوصفة التي يقدمها هي عبارة عن ضريبة على
الثروة العالمية تصل إلى اثنين في المائة وضريبة تصاعدية على الدخل تصل إلى ثمانين
في المائة. لكنه يعترف بأن "السنوات الذهبية" كانت ذهبية بسبب تفاعل
معقد بين القوانين والقواعد والضرائب وغيرها من المحدِّدات المفروضة على سلطة
الشركات. فلماذا نفترض أن المجتمعات الديمقراطية سوف تعجز أو تعزف ـ في مواجهة
مستويات غير مقبولة من التفاوت ـ عن صياغة
حزمة مماثلة من المحددات وتفرضها على رأس المال؟
برغم كل عيوبه، يبقى
"رأس المال في القرن الحادي والعشرين" لبيكيتي سياحة فكرية حقيقية،
وانتصارا لتاريخ الاقتصاد على النمذجة الحسابية النظرية التي طغت على محترفي
الكتابة الاقتصادية في السنوات الأخيرة. إن بيكيتي يقدم بحثا جيدا ودقيق التوقيت
يذكرنا بأنه ما من شيء محتوم في سيطرة رأس المال البشري على رأس المال المالي وأن
الرأسمالية بطبيعتها الكامنة تنزع نزوعا مدمرا إلى التفاوت في الدخول والثروات
والفرص.
ستيفن بيرلستاين، كاتب
عمود اقتصادي في صحيفة "واشنطن بوست" وأستاذ كرسي روبنسن للعلاقات
الدولية والعامة في جامعة "جورج مايسن".
نشر المقال أصلا في واشنطن
بوست ونشرت ترجمته اليوم في جريدة عمان
[i] "عصر
القشرة الذهبية" أو the Gilded Age هو فترة من تاريخ الولايات المتحدة تشمل تقريبا العقود الثلاثة
الأخيرة من القرن التاسع عشر في ما بين 1870 و1900. وصاغ المصطلح كل من "مارك
توين" و"تشارلز دودلي وورنر" في كتابهما"عصر القشرة الذهبية:
حكاية من يومنا هذا" والذي نشراه في عام 1873 وسخرا فيه مما اعتبراه حقبة
مشكلات اجتماعية جسيمة تتقنع بطلاء ذهبي براق. ويكبديا ـ المترجم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق