لماذا
يمثل صعود الاستبداد كارثة عالمية
جاري كسباروف ـ ثور
هالفورسين
واشنطن بوست ـ 13
فبراير 2017
في
الشهر الماضي أصغت النخبة العالمية في أدب للرئيس الصيني
شي جينبينج وهو
يلقي الخطاب الافتتاحي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا. لم يذكر
الدكتاتور الصيني بالطبع كيف يعتقل هو وأتباعه ناشطي حقوق الإنسان ويخفونهم،
ويضطهدون الأقليات العرقية والجماعات الدينية، ويديرون نظاما هائلا للرقابة
والمراقبة، من بين شرور كثيرة. إنه لأمر صادم أن يوفر منتدى مخصص لـ"تحسين وضع
العالم" هذا المنبر المهم لزعيم نظام قمعي. بدأ شين كلمته بتساؤله "ما
الذي أصاب العالم؟" والحقيقة أنه جزء من المشكلة التي أصابت العالم.
في
الوقت الراهن يشهد النشاط الاستبدادي طفرة. فبحسب بحث مؤسسة حقوق الإنسان، يعاني
مواطنو 94 دولة من حكم أنظمة غير ديمقراطية، بمعنى أن الطغاة يحكمون وأصحاب الملك
المطلق والعسكر ومن ينافسونهم من المستبدين يحكمون 3.97 مليار نسمة. وهذا يمثل 53%
من سكان العالم. وهكذا يكون الطغيان إحصائيا
أحد أضخم التحديات التي تواجهها الإنسانية ما لم يكن أضخمها على الإطلاق.
تأملوا
حجم بعض أزمات العالم الأخرى. هناك قرابة 836 مليونا يعيشون في فقر مدقع، و783
مليونا يفتقرون إلى مياه الشرب. شرَّدت الحروب والصراعات 65 مليونا من بيوتهم. بين
1994 و2013 تأثر قرابة 218 مليونا بالكوارث الطبيعية. وهذه المشكلات كلها رهيبة،
بل تبدو عويصة غير قابلة للحل، لكن لدينا على الأقل جهات في الأمم المتحدة وفرقا
في مؤسسات مثل الخارجية الأمريكية تكرس جهودها لكلٍّ من هذه المشكلات.
أما
الطغاة والمستبدون المنتخَبون، في الجانب الآخر، فآمنون. إذ يقدم البنك الدولي
أموالا لإنقاذ الأنظمة بصفة دورية. وما من فريق عمل مناهض للطغيان في الأمم
المتحدة، ولا تقرير أهداف تنموية مستدامة ضد الاستبداد، ولا جيش من الناشطين.
ولقد
عانينا ـ أعني كاتبي هذا المقال ـ من بلايا الاستبداد على المستوى الشخصي. فأحدنا
تعرض للضرب، والوضع على القوائم السوداء، والإرغام على الحياة في المنفى، بسبب
مسؤولي الكرملين. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يكف عن سحق حرية التعبير،
وتجاسر على ضم القرم وزيادة النشاط العسكري في العالم بطرق تذكّرنا أيام الحرب
الباردة. والكاتب الآخر رأى أمه تموت برصاص قوات الأمن في فنزويلا وقريبا له يذوي
لقرابة ثلاث سنوات سجينا للرأي. واليوم يدير الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو نظام
حكم يعتقل المنشقين وينتهك المتظاهرين، ويتورط في فساد واسع النطاق لدرجة تجعل
بلده الآن مهددا بانهيار اقتصادي كارثي.
ولبوتين
ومادورو شركاء متآمرون في شتى أرجاء العالم، وزملاء في الطغيان يفتكون بحرية
الصحافة ويعتقلون الخصوم، ويتلاعبون بالانتخابات ويقترفون الكثير من الجرائم ضد
حقوق الإنسان. فتركيا التي كانت في يوم من الأيام بلدا ديمقراطيا واعدا لا تكاد
تتنفس. إذ أغلق رئيسها رجب طيب إردوجان 149 جهة إعلامية، وأغلق أكثر من ألفي مدرسة
وجامعة، وفصل أكثر من 120 ألف موظف مدني، واعتقل أكثر من 45 ألف شخص لشبهة
الانشقاق. وفي كوريا الجنوبية، يحكم كيم يونج أون أشد الحكومات شمولية على وجه
الأرض، فيغسل أدمغة خمسة وعشرين مليون نسمة ويرهبهم بالإعدامات العلنية، والمجاعات
العمدية وبشبكة هائلة من معسكرات الاعتقال ذكّرت محققي الأمم المتحدة بكمبوديا على
عهد بول بوت وبألمانيا النازية.
وهناك
كثير من الطغاة الأقل شهرة في بلاد مثل البحرين وكزاخستان وغينيا الاستوائية حيث
ينهب الطغاة موارد بلادهم الطبيعية ويكنزون الأرباح في حسابات خاصة خارج البلاد.
ولكي يغطوا على جرائمهم الوحشية، يستعملون الأنصار في جماعات الضغط وشركات
العلاقات العامة بل والجماعات السياسية في العالم الحر ليبيضوا سجلات أفعالهم.
وإذا
لم يكن الظلم والقهر كافيين، فهناك التكلفة الاجتماعية الهائلة التي تتسبب فيها
الحكومات المستبدة. ففي الدول التي يرأسها الطغاة معدلات أعلى من المرض العقلي،
ومستويات أقل من الصحة والعمر المتوقع، ومثلما اشتهر عن أمارتيا صن قوله إن قابلية
هذه الدول للمجاعات أكبر من سواها. مواطنو هذه الدول أقل تعليما وسجلاتها من براءات
الاختراع أقل. فقد شهد 2016 من براءات الاختراع في فرنسا وحدها أكثر مما في العالم
العربي كله، وليس ذلك لأن العرب أقل إقداما من الفرنسيين، بل لأن جميعهم تقريبا
يعيشون في ظل طغيان خانق. من الواضح أن لقمع حرية التعبير والإبداع آثارا ضارة على
الإبداع والنمو الاقتصادي. والمواطنون في المجتمعات الحرة والمنفتحة مثل ألمانيا
وكوريا الجنوبية وتشيلي يشهدون تطورات في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا لا يملك
مواطنو بيلاروسيا وبورما وكوبا إلا الحلم بها.
وانظروا
إلى الأمم الحرة تروا أنها لا تخوض حروبا مع بعضها بعضا. فالتاريخ يبيّن لنا أن
هذا يمثل القانون الأكيد في نظرية السياسة. في الوقت نفسه، نرى الطغاة يخوضون
حروبا طول الوقت، مع قوى أجنبية في الغالب، ومع شعوبهم في كل الوقت. ولئن كان
يشغلكم أمر الصحة العامة أو الفقر أو السلام فالخيار واضح أمامكم وضوح الشمس:
قاوموا الطغيان.
المأساوي
أن المنظمات والمؤسسات العالمية عاجزة عن التعامل الأمثل مع الاستبداد. قد تحتج
الحكومات الغربية أحيانا على انتهاكات حقوق الإنسان في بلاد كروسيا وإيران وكوريا
الشمالية، لكنها تتجاهل روتينيا أماكن مثل الصين والعربية السعودية مراعاة
لاتفاقات تجارية وأخرى أمنية. والأمم المتحدة التي قامت لإحلال السلام والعدل في
العالم تضم كوبا ومصر ورواندا في عضوية مجلسها الخاص بحقوق الإنسان. فنرى ممثلا
لبلد ديمقراطي يحظى بقدر من الشرعية كالذي يحظى به ممثل بلد دكتاتوري. فأحدهما
يمثل مواطني بلده، والثاني يعمل على إخراسهم. والنتيجة أن مجلس حقوق الإنسان لم
يصدر بين يونيو 2006 وأغسطس 2015 أي إدانة لأنظمة الحكم القمعية في الصين وكوبا
ومصر وروسيا والعربية السعودية وتركيا.
وبرغم
أن الدكتاتورية هي جذر كثير من بلايا العالم ـ كتواضع الصحة وأنظمة التعليم
الفاشلة، والفقر العالمي على سبيل المثال ـ لا يكاد الاستبداد يلقى اهتماما من
المؤتمرات العالمية الكبرى. ولا عجب، فكثير من المنابر مثل المنتدى الاقتصادي
العالمي ومبادرة كلينتن العالمية الميتة فعليا تتلقى تمويلات من حكومات مستبدة.
وقليل من جماعات حقوق الإنسان هو الذي يركز حصريا على الاستبداد، بل إن أغلب هذه
المؤسسات تنفق أقدارا غير قليلة من ميزانياتها على انتقاد الحكومات الديمقراطية
وسياساتها. فنادرا ما يوضع الطغاة في دائرة الضوء.
وهكذا
وقع عبء النضال النبيل ضد الطغيان على كاهل نشطاء أفراد ومنشقين يعيشون في ظل
أنظمة حكم مستبدة أو يعملون من المنافي. ولقد تبين للصحفيين عبدالعزيز الحمزة
وميرون إستيفانوس أن قليلا من الناس في الدول الحرة السالمة هم المهتمون بالكتابة
عن سوريا أو إريتريا، فأخذا على عاتقيهما القيام بذلك، برغم الخطر الهائل الناجم
عنه. كما انشقت هاينسون لي عن كوريا الشمالية لتجد أن ضحايا تجارة الجنس في الصين
غالبا ما يتعرضن للإهمال والتجاهل، فبدأت الضغط على الحكومة الصينية بنفسها.
وعندما توفي الزعيم الديمقراطي الكوبي أوزوالدو بايا والد روسا ماريا بايا في ظروف
غامضة سنة 2012، وقع على كاهلها عبء المطالبة بتحقيق رسمي ومعاملة عادلة للمعارضة
في كوبا. أمثال هؤلاء الأفراد يعيشون احتياجا دائما إلى الدعم، لأنه ليس في
بلدانهم سبيل شرعي للاحتجاج، أو الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ACLU،
أو واشنطن بوست، أو حزب معارضة يمثل حقوقهم.
ولكي
يلقى الطغيان والدكتاتورية المقاومة الصحيحة، ولكي تلقى المشكلات الكثيرة الناجمة
ـ كالصراع المسلح والفقر والتطرف ـ علاجا لجذورها، فلن يكون ذلك إلا بحصول هؤلاء
المنشقين على الدعم والنصح الاستراتيجي والتدريب التقني والانتباه والتضامن. ولكي
ينقلب السحر على الساحر، أي على القمع والظلم، فلا بد أن ينضم الناس من جميع
المجالات إلى هذه الحركة. فيا أيها الفنانون وأصحاب المشاريع والعاملون في
التكنولوجيا والمستثمرون والدبلوماسيون والطلبة، بوسعكم أيا من تكونون أن تنضموا
للمجتمع المدني المهدد وتسألوا كيف يمكنكم أن تقدموا يد العون باستعمال معارفكم
ومواردكم ومهاراتكم.
إن
الطغاة اليوم يحكمون جزءا متزايدا من الكوكب، ولكن قادة العالم الحر يفتقدون
الدافع والمبادرة إلى خلق عصبة للدول الديمقراطية على غرار الأمم المتحدة. في
الوقت نفسه نعتقد، كأفراد يعيشون في مجتمع حر، أن واجبنا الأخلاقي هو أن نفعل ما
يفضح انتهاكات حقوق الإنسان وأن نستعمل حريتنا لمساعدة الآخرين على مثل ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق