تبرئة الكنيسة من
الافتراء على جاليليو
جاكوب هاج ميسرا
جاليليو |
عندما أعلن البابا
يوحنا بولس الثاني سنة 1992 أن جاليليو كان على حق، بعد مرور أكثر من ثلاثمائة
وخمسين عاما على إدانة محاكم التفتيش له، لم يتجاوز رد فعل العالم اللامبالاة
والابتسام. فلم يعد لدى أحد شك الآن في أن الأرض تدور حول الشمس، بل إن المدارس
الكاثوليكية الخاصة كانت تدرِّس لطلبتها مركزية الشمس حتى قبل الاعتذار الرسمي.
دراستنا التاريخية
لقضية جاليليو تشير ضمنا إلى تشبث الكنيسة دونما داع بالتأويل الحرفي للإنجيل،
الذي يفرض على المؤمنين به القبول بنظرية مركزية الأرض التي لا سند لها. ابتداء من
المدرسة الابتدائية يعلموننا أن الكنيسة وقفت وقفة حازمة في وجه التقدم العلمي،
صارخة فيه أن "توقف!". والحق أن الصدام مضى عبر العصور شبيها بمسرحية
أخلاقية بطلاها العلم ضد الدين، تضع أنصار التقدم في مواجهة الرجعيين المتدينين.
لكن ماذا لو أن هذه المسرحية الأخلاقية نفسها ليست سوى دوجما؟
نحن نعلم أن أفكار
جاليليو كانت صحيحة، ولكن أفضل علوم القرن السابع عشر كانت تميل إلى إيثار الكون
الذي تحتل الأرض مركزه. فهل اعتمدت محكمة التفتيش أكثر مما ينبغي على اللاهوت أم
أن قضاتها حاكموا جاليليو وفقا للمعايير العلمية في زمنه؟ بعبارة أخرى، هل أصابت
محكمة التفتيش؟
ومثلما ينبغي لكل العلم
الصالح، تبدأ إجابة هذا السؤال بالدليل. وفي حالة جاليليو ولغز تصميم الكون، يتضمن
الدليل نقطتين ضئيلتين: إحداهما علامة
ترقيم، والأخرى بحجم نجم بعيد بحسب رؤيته بالعين المجردة من على الأرض.
في عام 1572، وقع
انفجار نجمي حار في أمره الملوك والمواطنون والفلكيون على السواء. فحتى ذلك الحين
كان يفترض أن النجوم البعيدة خالدة وثابتة، فإذا بالعالم ينتبه، حينما انفجر نجم
طاعن في السن من تلقاء نفسه في حريق هائل وسط سماء الليل رأته الأعين المجردة.
وزعم بعض الفلكيين أن تلك الظاهرة الغريبة وقعت في المجال الجوي المنخفض، أسفل
القمر، تأكيدا لرؤية العالم الأرسطية السائدة. في حين لم يقتنع آخرون.
كان الفلكي الدنماركي
تايكو براهي Tycho Brahe يعد من أدق
الفلكيين في عصره. ويُذْكَر أيضا بعواقب مزاجه الحاد الذي أفقده أنفه في مبارزة.
وبرغم أن الأساطير تشير إلى أنه كان يضع أنفا صناعيا من ذهب أو فضة، فقد كشف نبش
مقبرته لاحقا عن أن أنفه ذلك كان مصنوعا من نحاس.
سجل تايكو ـ وكان
معروفا باسمه الأول هذا فقط ـ مشاهداته في دراسته للانفجار النجمي، وأظهرت قياساته
الحديثة تماما في زمنه أن الانفجار كان ثابتا في السماء مثل النجوم البعيدة، لا دائرا
شأن الكواكب. واكتشف أن السماوات ليست ثابتة بل إن لها القدرة على خلق نجوم جديدة.
بعد سنة، نشر دراسة
بعنوان "عن النجم الجديد" "De nova stella"، فراقت كثيرا لملك الدنمارك لدرجة أنه منح تايكو جزيرة هيفن
Hven يكون لوردا عليها. ووفَّرت
تلك الجزيرة لتايكو موقعا معزولا لمتابعة برنامج وصف مواضع النجوم والكواكب أثناء
الليل.
كان يعمل بدون تلسكوب،
وكانت قياساته بالعين المجردة تعتمد على أدوات قياس كثيرة ودقيقة كان يحتفظ بها في
قبو معتم لتحسين ظروف المراقبة. ولم يصل أحد من معاصري تايكو إلى عدد الأجسام
الفضائية التي درسها هو ومساعدوه، ولم يحقق أحد ما حققه من دقة.
لاحقا سوف يرسِّخ تايكو
مكانته عند راعيه بملاحظاته الفلكية، وتأويلاته الفلكية المحببة للمذنب العظيم الذي
ظهر سنة 1577. وبرغم اضطراره إلى الاستمرار في عمله بين الحين والآخر مستشارا
فلكيا للملك، فقد كان إسهام تايكو الباقي طويلا بين إسهامات معاصريه العلمية هو نموذجه
الفلكي الذي جمع فيه بين أفضل جوانب نظرية مركزية الأرض السائدة ونظرية نيكولاس
كوبرنيكوس الجديدة القائلة بمركزية الشمس.
أدرك تايكو أن نظرية
مركزية الأرض الصارمة التي تقطع بأن كل الأجرام السماوية تدور حول الأرض لا تفسّر ملاحظاته.
فيبدو أحيانا أن كوكب المريخ على سبيل المثال يتحرك إلى الخلف في السماء قبل أن
يعود من جديد ليتحرك إلى الأمام، وهي الظاهرة المعروفة بالحركة العكسية. هذه
الحركة الوهمية تبدو منطقية تماما في ظل نموذج تتحرك فيه الكواكب حول الشمس، في
حين يتحتم على القائلين بمركزية الأرض أن يلوذوا بحيل فلكية معقدة (معروفة
بالسلاسل الكاملة epicycles) لتفسيرها
وتبرير رؤيتهم للعالم. وبالمثل، لاحظ
الفلكيون مراحل في كوكب الزهرة، مثل مراحل القمر تماما، وهو ما لا يمكن أن يحدث
إلا لو أن الزهرة يدور حول الشمس.
حلَّ تايكو هذه
المشكلات بإقامته نموذجا تدور الكواكب فيه حول الشمس، بينما الشمس والقمر يدوران
حول الأرض. لتبقى الأرض نفسها ثابتة في مركز الكون، بينما تحتل النجوم البعيدة
أقصى الفضاء دائرة بدورها حول الأرض. هذا الهجين في كون تايكو وفّر إطارا رياضيا
ثابتا لتفسير الملاحظات المعاصرة له. والحقيقة أن الملاحظات السائدة في تلك الحقبة
كانت تدعم النظام التايكي أكثر مما تدعم نظرية كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس.
تاريكو براهي |
كان النقد الأساسي
للكون الذي تحتل الشمس مركزه هو حجم النجوم البعيدة. فالنجوم كانت تبدو لعيني
تايكو المجردتين دوائر صغيرة في السماء. وقد أكّد جاليليو وغيره من الفلكيين الذين
كانوا يصوبون التلسكوبات إلى السماء هذه الملاحظات بل وقاسوا الحجم النسبي لأسطع
النجوم. ذلك كان يعني لتايكو ببساطة أن النجوم أجرام شبيهة في طبيعتها بالشمس
لكنها تقيم في مجال شديد البعد. ولكن ذلك كان يمثل مشكلة للقائلين بمركزية الشمس. فقد
زعمت نظرية كوبرنيكوس أن النجوم بعيدة للغاية. وفي ضوء حجمها المرصود كان ذلك يعني
أنها لا بد أن تكون هائلة الأحجام في الحقيقة، لدرجة أن تتجاوز حجم الشمس مرات
كثيرة، بل لا بد أن يكون منها ما يبلغ مثل ضخامة الكون كله. وكان من الصعب الدفاع
عن هذا الزعم الهرائي.
ندرك اليوم أن الشكل
الدائري الذي تبدو عليه النجوم يرجع إلى التفاعل بين مصادر الضوء النجمي الشبيه
بالنقاط مع الغلاف الجوي للأرض (المعروف بالقرص الجوي) . تايكو وجاليليو والجميع
غيرهم كانوا يقيمون حججهم على ملاحظات مغلوطة، ولكن التكنولوجيا الأولية في زمنهم
لم تكن تسمح بحل لهذا الأمر.
بل إن المدافعين عن
نظرية كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس غالبا ما كانوا يركنون إلى الدين لتبرير
حجم النجوم الهائل. فحينما وجّه تايكو سؤالا لعالم الرياضيات الألماني كريشتوف
روذمان عن مشكلة حجم النجوم، قال الأخير "قل في شسوع الكون وأحجام النجوم ما
شئت، وانسب إليها من الضخامة ما أردت، فلن يضاهي ما تقوله فيها لانهائية
الخالق". كان الدين إذن، وليس العلم، هو المهرب الوحيد للكوبرنيكيين.
تايكو بدوره كان متدينا،
فأرغم رؤيته للكون على التناغم مع اللاهوت. لكنه كان في الوقت نفسه يتخوف من إقامة
حججه العلمية على الأسانيد الدينية وحدها، مؤثرا على ذلك أن يلاحظ كلما أمكنته
الملاحظة. وبقيت مشكلة حجم النجوم اعتراضا أساسيا على مركزية الشمس بالنسبة لتايكو
وكثيرين غيره خلال القرن الثامن عشر.
كان التأويل الحرفي
الذي آثرته الكنيسة للكتاب المقدس متناغما مع نظام تايكو، بينما كانت مركزية الشمس
تثير شكوكا علمية ولاهوتية معا. وغالبا ما تركز المسارد التاريخية لاتهام جاليليو
على الزعم بأن مركزية الشمس هرطقة، في حين أنه كان من الممكن تماما انتقاد جاليليو
انتقادا منصفا بالاستناد إلى العلم وحده.
في الرابع والعشرين من
فبراير سنة 1616، استأجرت محكمة تفتيش روما فريقا من أحد عشر مستشارا للتحقيق في
الشكوى المقدمة ضد جاليليو، وأصدرت حكما بإدانة النظام الكوبرنيكي الذي كان يناصره
جاليليو. قيل إن فكرة وجود الشمس في المركز ... "حمقاء وعبثية في فلسفتها؛
وهرطقية تماما، بما أنها تناقض صراحة في مواضع كثيرة منطق الكتاب المقدس".
كلمات هذا الحكم (وهي
مكتوبة باللاتينية) بقيت بدقة في المسارد التاريخية، ولكن مسألة معينة في الترقيم
تشير إلى أن هناك أسبابا علمية ودينية لإدانة جاليليو. هناك فاصلة منقوطة تفصل
العبارة الخاصة بالفلسفة عن التالية لها الخاصة بالهرطقة، وهي تظهر في بعض الأحيان
مجرد فاصلة، وفي بعض الأحيان تحذف تماما.
والفارق حاسم (في اللاتينية الأصلية أيضا)[1]:
هل اتهم مستشارو محكمة التفتيش جاليليو لاعتراضات علمية ولاهوتية منفصلة، أم أن
الاعتراض المتعلق بالفلسفة يتوازى فقط مع الاعتراض المتعلق بالهرطقة؟
لقد استطاع الفيزيائي
كرستوفر جراني أخيرا أن يستخرج نسخا مصورة عالية الجودة من الحكم الأصلي، يتبين
منها أن الفاصلة المنقوطة موجودة فعلا في التاريخ. فلقد كان المستشارون، والقضاة
من بعدهم، مؤمنين جميعا بأن الحجج العلمية تمثِّل أساسا كافيا للاعتراض على أفكار
جاليليو. واتهام الهرطقة كان يقدم سببا إضافيا، ولكن القضية العلمية ضد جاليليو
كانت قوية وكافية. وفي اتهام جاليليو ومحاكمته أقوال مماثلة تؤكد أن المحكمة كانت
واعية تمام الوعي بالاعتراضات العلمية على تصور جاليليو للكون.
كانت لدى الكنيسة أسباب
لاهوتية واضحة لإيثار أفكار تايكو على أفكار جاليليو، ولكن علم الفلك المعاصر لها
كان أيضا يقف في صفها. وفي القرن التاسع عندما فهمت ظاهرة انحراف الضوء في الغلاف
الجوي الأرضي، حدث أن حُلَّت مشكلة حجم النجوم بإدراك أن القرص الجوي لمظهر النجم
مخادع. كما أظهرت القياسات الرياضية التي قام بها الفلكي الألماني فريدريش بيسيل
سنة 1838 أن النجوم البعيدة تغير فعليا مواقعها في السماء تغييرات بسيطة بسبب حركة
الأرض في المدار (وهو ما يعرف بالتغير الظاهري) فكان ذلك دليلا قاطعا على أن صواب
ما ذهب إليه كوبرنيكوس لا ما ذهب إليه تاكو.
أصاب جاليليو الفكرة
الصحيحة، لكنه كان يفتقر إلى ما يكفي من الأدوات والنظرية لإقناع معاصريه
المتشككين. ولو أن البابا بول الخامس (الذي فرض الرقابة على جاليليو) والبابا
أوربان الثامن (الذي وضع جاليليو رهن الحبس المنزلي) كانا يصدقان نموذج تايكو
لأسباب علمية، فهل يكون بوسعنا أن نلومهما على تخوفهما من فكرة بدت في الوقت نفسه
خطرة من الناحية اللاهوتية؟
ربما تكون الفرصة
الأولى لتبرئة جاليليو قد سنحت في قرابة منتصف القرن التاسع عشر عندما أمكن إجراء
أولى القياسات الحساسة للتغير الظاهري. غير أن ذلك حدث خلال سنوات بابوية بايوس
التاسع الإحدي والثلاثين، فقد أدان البابا نظرية التطور لداروين وأي
"استنتاجات علمية معروفة بمناقضتها عقيدة الكنيسة، لا سيما إذا كانت الكنيسة
أدانتها". وإثر ذلك احتلت نظرية التطور خشبة المسرح بوصفها قضية التوتر
الأساسية بين الكنيسة والعلم، بينما كانت مركزية الشمس تحظى بالقبول الشعبي في
هدوء.
جاء إعلان يوحنا بولس الثاني بعد 150 سنة من
ظهور الدليل القاطع على مركزية الشمس. وفي حين أن هذا الإعلان يمثل خيانة للمعارضة
الصلبة في الكنيسة، فليس بوسعنا أن نتهم الكنيسة بأثر رجعي بالاشتراك في تشويه
جاليليو علميا. فلو أن خيرة العقول كعقل تايكو وغيره كانت قادرة على إجابة جميع
الأسئلة العلمية واللاهوتية خلافا لجاليليو، فمن الذي كان ينبغي أن تصدقه الكنيسة؟
واضح أن جاليليو كان سابقا
على عصره، عندما كانت الملاحظات تدعم نموذجا للكون غير نموذجه. لكن لم يكن هناك
دليل على مؤامرة عظمى ضد جاليليو أو بيانات مزورة أو تصدير لخرافة متشبهة بالعلم
بدلا من علم جاليليو. من المؤكد أن الكنيسة كان لديها دوافع أخرى غير مطاردة العلم
المحض، ولكنها أيضا اختارت علم عصرها وليس الجهل. وعلم العصر الذي كان يحتل منصة
المجد أثناء محاكمة جاليليو لم يتم تهميشه.
من الصعب طمس فكرة
علمية. وعلينا دوما أن ننتبه للعلم بوصفه أداة فضح لضعف الأوهام والأساطير
والخرافات حينما لا تدعمها الملاحظة الدقيقة. وفي الوقت نفسه علينا أن لا نسارع
إلى تصديق مزاعم المؤامرات المؤسسية. فقد تقوم منظمات معدومة الضمائر في بعض
الأحيان باستئجار علماء لإجراء تجارب مدبرة والوصول إلى نتائج معدة سلفا، وما أكثر
أشباه العلماء. ولكن هذه التجارب الزائفة سهلة التفنيد. وعندما تزعم مؤسسات أنها
تعمل بناء على أسس علمية محضة، فعلينا أن نحرص على تحليل نتائجها بصرامة في ضوء
الدليل القائم قبل أن نصدر حكمنا. وما كان لعالم مثل جاليليو أن يتوقع أقل من هذا.
عن بوسطن جلوب ونشرت الترجمة في جريدة عمان
[1] تستخدم
الفاصلة المنقوطة semicolon للربط بين فكرتين في جملة، تصبح كل منهما بسبب الفاصلة النقوطة مساوية
للأخرى. "هناك من يكتب مستعملا الكمبيوتر؛ هناك من يكتب مستعملا القلم"
أنت هنا لم تعدد بل ساويت. [مثال الكمبيوتر والقلم هو مثال يقدمه جوجول ضمن تعريفه
للفاصلة المنقوطة] وفي حالتنا ساوت الفاصلة المنقوطة بين فساد فلسفة الفكرة (أي
علميتها ربما بلغة ذلك الزمن) وهرطقتها ـ المترجم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق