مترجمته إلى الإنجليزية:
ترانسترومر خريطتي في العالم
حوار:
دانيال شونبيك
في أعقاب صدور ترجمتها الجديدة لمختارات من أشعار توماس
ترانسترومر، والمنشورة [في اللغة الإنجليزية] تحت عنوان "المنجل
الساطع"، تحكي "باتي كرين" قصة فاتنة وقدَرية عن الطريقة التي
انتهت من خلالها إلى ترجمة الشاعر السويدي الراحل الحاصل على جائزة نوبل في الأدب.
انتقلت كرين مع أسرتها إلى مدينة تومبا بالسويد سنة 2007
بعد أن حصل زوجها على وظيفة في مصنع للورق هناك. وبعد عام من انتقالها إلى السويد،
فازت بإقامة صيفية في كلية فيرمونت فعادت إلى الولايات المتحدة للتفرغ لكتابتها.
وذات مساء كانت جالسة في مقهى بجوار الشاعرة جين فاتلنتَين، ولأن فاتلنتَين كانت
تعلم أن كرين تعيش على مقربة من ستوكهولم، طلبت منها توصيل كتاب إلى صديقها توماس.
وبعد عام من ذلك، كانت كرين جالسة في بيت
توماس ترانسترومر تحدثه بالسويدية، وبدأت تترجم قصيدته "المحطة" إلى
اللغة الإنجليزية. وبعد بضع سنوات قليلة ـ وليس هذا جزءا من القصة القدرية، بل هو
جزء من قصتنا اليوم ـ وصلت إحدى بروفات "المنجل الساطع" النهائية [التي
توزَّع للدعاية] إلى الاستديو الخاص بي في كاتسكيلز وإذا بالباب الذي بدا لسنين أنه
موصد بيني وبين شعر ترانسترومر ينخلع من مفصلاته.
***
ـ هل يبدو غريبا لك أنه لو لم يقع واحد فقط من تلك
الأحداث لما كنت أنا وأنت نجري هذا الحوار الآن؟
ـ غريب بالطبع. لولا إطار فارغ في دراجتي، ما كنا بالقطع
لنجري الآن هذا الحوار. فمن خلال إطار دراجتي الفارغ التقيت بزوجي، الذي في وقت
لاحق حصل على تلك الوظيفة التي نقلتنا إلى السويد. أتخيل أن هناك حوادث في حياتك،
لعل من بينها لقاء بالصدفة، هي التي ساقتنا إلى هذا الحوار الذي نجريه الآن.
منعطفات كالتي مررت بها، مثل الانتقال إلى الحياة في السويد، وتعلم اللغة، وإعادة
اكتشاف ترانسترومر، واللقاء العرضي مع جين فالنتين، وكل ما نتج عن ذلك، تبدو لى علاقة
ذلك كله بما يحدث للمرء في مجموعة معينة من الظروف أوهي من علاقته بما يجعله المرء
يحدث. أعتقد أني أتكلم عن فرصة تقتنص. عن باب ينفتح لك فتدخل، وتنظر، فإذا بغرفة
جديدة فيها المزيد من الأبواب. ها أنا في استوكهولم، أحضر دروس "اللغة السويدية
للمهاجرين". ها أنا أقرأ ترانسترومر في السويدية، لغته الأصلية. وها هي مسودة
أولى لترجمتي لقصيدة "من يوليو 90" وثمة خطوط بالرصاص وضعها ترانسترومر
تحت كلمة pit.
وها نحن يا دانيال الآن نجري هذا الحوار. كيف أقابل ذلك كله؟ أرجو أن يكون
بالامتنان، والتواضع، والعمل الجاد.
ـ الآن وقد نشرت كتابا بترجماتك لترانسترومر، هل تغيَّر
إحساسك به كشخص، وهل ترين أنك شخصيا قد تغيّرت؟
ـ لا أعتقد أن أحدا يغرق نفسه في شيء ما ثم لا يتغيَّر
بطريقة أو بأخرى. وأنا أقرأ عمل ترانسترومر، وقبل أن أبدأ في ترجمته، كنت غالبا ما
أشعر أنه يتكلم إليّ. ليس بالمعنى المباشر بالطبع، لكن من خلال الأشياء والأماكن
التي ينصب اهتمامه عليها. فهي الأماكن التي يحلو لي النظر إليها، وطريقته في النظر
إليها هي التي دأبت على إفحامي. لكن القصائد، بدت لي على مستوى آخر وكأنها خريطة
إرشادية. لم أفهم هذا في وقته. لكنني أقوله بأثر رجعي. في الصيف الماضي رجعت إلى
السويد للمرة الأولى منذ أن تركتها في يوليو 2010. وعند لحظة معينة أثناء السير في
حينا القديم وزيارة الأماكن التي كنت أكثر التردد عليها، بت واعية أن أبيات معينة
في شعر ترانسترومر كانت تتالى في ذهني. ومهما يكن السبب في ذلك، ظل كولاج الكلمات
يتوالى، بالسويدية في بعض الأحيان، ولكن بالإنجليزية في الغالب. كان الأمر أقرب
إلى اللاوعي، إلى التجلي، ثم حدث وأنا أعيش هناك وأغرق نفسي في شعره أنني كنت في
الوقت نفسه أناضل لأعثر على مكان لي في بلده، وفي موضع ما من طريقي إلى ذلك، امتزج
الأمران. كانت سويدي هي ترانسترومر، والعكس صحيحا. صار شعره جزءا من ذاتي.
ـ وماذا عن الترجمة واللغة؟
ـ في مرحلةِ ما قبل السويد، كنت قد أنفقت قدرا غير قليل
من الوقت في تأمل تحديات ترجمة الشعر وألغازها. لم تكن لديّ في ذلك الوقت رغبة في
الترجمة، ولكن تجربة قراءتي لنسخ إنجليزية عديدة وشاسعة الاختلاف لنفس الحفنة من
قصائد بابلو نيرودا جلعتني أنتهي إلى أنني ما دمت لا أعرف الأسبانية فلن يكون
بوسعي أن أقول بيقين إنني أحب نيرودا. كل ما بوسعي هو أن أقول إنني أحببت نسخة
جيمس رايت من نيرودا. وكانت المعاني الضمنية في كلامي ذلك تفتنني بقدر ما تثير
ضيقي. غير أنه يبقى ممن الصعب أن أعرف كيف ترك هذا أثرا على ترجمتي أنا، أو حتى إن
كان ذلك قد ترك تأثيرا على عملية الترجمة. لا أعتقد أنني كنت لأمتلك الثقة في
الاجتراء على الترجمة لو لم أكن شعرت بارتياح إلى اللغة. وكلما ازددت تفكيرا في
الأمر، أجد أنني ربما ما كنت لأغوص بكل ذلك العمق في الترجمة لو لم أشعر برابط
يربطني بالمكان نفسه، أعني أفق سويد توماس ترانسترومر.
ـ لم يكتب الكثير حول طريقة ترانسترومر في كسر الأسوار
بين الماضي والحاضر. يكتب مثلا في قصيدة "صلاة" قائلا: "فتحتْ
حياتي عينيها أحيانا في الظلام". عند كل قراءة لهذا البيت، يصدمني زمن الفعل،
إذ أشعر ببساطة قاهرة أنه ينبغي أن يكون في المضارع. ماذا تفعلين في تغييب
ترانسترومر الحدود بين الماضي والمضارع؟
ـ أتذكر حالا ما قاله في حوار أجري معه قبل سنة من
إصابته بالجلطة، في رده على سؤال عن عملية الكتابة لديه، وبالتحديد عن العلاقة بين
الأفقين الداخلي والخارجي. الإلهام عنده "هو الشعور بأن تكون في مكانين في
الوقت نفسه. أو الوعي بأنك في مكان بالغ القرب ولكن كل شيء منفتح بالفعل".
وانظر إلى الأبيات الافتتاحية المنسابة انسيابار رائعا في قصيدته "في عمق
أوربا" إذ يقول "أنا اللحاء البنيّ الطافي بين قنطرتين / مستلقٍ على
سرير في فندق بينما المدينة المحيطة تصحو". ها هنا هو عند ملتقى عالمين. إما
ملتقى النوم والصحو أو الماضي والحاضر، ولعل تغييب الحدود ينجم عن السرعة التي
يتحرك بها بين الحالتين. وفي بعض الأحيان قد يكون الأمر مزلزلا، كما هو الحال مع
زمن الفعل في مفتتح قصيدته "صلاة". لكن هل يريد الفعل أن يكون في الزمن
المضارع، مثلما ترى أنت، أم نحن الذي نريده في هذا الزمن؟ سهل على الناطق بالقصيدة
أن يسكن كلا الإطارين. لو كان البيت يقول بدلا من ذلك "تفتح حياتي عينيها
أحيانا في الظلام" فسوف تبدو فترات الوعي هذه أخضع لسيطرة الناطق بالقصيدة،
وكأنما العين المفتوحة خيار. ولكنه بكتابته في الماضي، تبدو السيطرة غائمة مراوغة
وكذلك لحظات الصفاء المباغت، فضلا عن إحساس الانقطاع الموصوف في بقية أبيات
القصيدة: "أشعر كما لو أن الحشود تحركت في الشوارع / عمياء ملهوفة في الطريق
إلى معجزة / بينما أنا ساكن في مكاني لا يراني أحد"، هذا الانقطاع يشير إلى
وحدة عميقة تتوازى مع ما يظهر لاحقا من خوف الطفل العميق من الظلام، والارتياح إلى
النور العابر بعد ظلام الليل المريع. هذا ليس مهربا من حالة العمى والاهتياج، بقدر
ما هو مسار فيها. ولو كانت القصيدة بدأت في الزمن المضارع، لبدا للقارئ أن الناطق
بها والطفل منفصلان. لكنهما في سياق النسخة المكتوبة يشعران أنهما الشخص نفسه.
وهذه قصيدة مختلفة تماما.
ـ إحساسك أن ترانسترومر دليل هاد لك يعد من أنصع تجارب
قراءة "المنجل الساطع" ونموذج "القبطان" يسيطر على كثير من
هذه القصائد. في "القبطان المنسي" على سبيل المثال يقول: "خرج س من
مقبرته بعد أربعين عاما / ليصبح رفيقا لي". أحب إحساسك بترانسترومر بوصفه
الشاعر الذي يسهر ليطمئن علينا في أوقات الخوف والفزع. هل تشعرين بأي إحساس في
القصائد في ما يتعلق بما تفضي إليه هذه المسارات؟
ـ هذا المسار يفضي إلى ما يشبه الرضا، ومن ذلك الرضا
بالشك العميق. انظر إلى مصير القبطان في قصيدة "القبطان المنسي" الذي
"في آخر الأمر تمدّد / ناظرا إلى الأفق"، والذي انتهت معاناته وانتقلت
إلى فكرة الأفق المريحة بوصفه نقطة تلاش ونقطة وصول في الوقت نفسه. أثر ذلك
بالنسبة لي كأن تكون في طائرة تمر باضطرابات شديدة الإزعاج، بينما أنت جالس بجوار
رجل مستغرق، واضح أنه مستريح تماما إلى الكتاب الذي يطالعه. كم هو مطمئن أن تنظر
إليه وهو يقرأ في هدوء. وكم هو مطمئن أن تنظر إلى القبطان وهو ناظر إلى الأفق، أو
تشعر، عبر كل خلية في جسمك، بهمسات ملاك عديم الوجه يقول لنا إننا لسنا مضطرين إلى
أن نكون كاملين، كما في قصيدته "أقواس رومانية".
ـ قال روبرت بلاي في حواره مع باريس رفيو إن ترانسترومر
"أقرب منا جميعا إلى الموسيقى الصامتة في قلب الكون". ويقابل بين
ترانسترومر وميكلآنجلو الذي يبدو أن أعماله تقول "أنا الذي خلقت كل هذا. أنا
ربكم الأعلى". دائما ما ينتابني شعور بأن ترانسترومر يرى أن وظيفته تتمثل في
الانتباه إلى العالم الطبيعي. ما إحساسك إزاء علاقة ترانسترومر بالعالم وما فيه من
طاقة؟ أو بعبارة أخرى، لحساب من يعمل ترانسترومر؟
ـ أحب هذا المقتطف من كلام بلاي. فهو وصف دقيق لا يمكنني
أن أجد خيرا منه لأشرح اقتران ترانسترومر بالأماكن الصغيرة والسهولة التي يتحرك
بها حولها. سواء الأمر بين العالم الطبيعي والداخلي، أو حياته الحلمية وحياته
الصاحية، أو الماضي والحاضر، يخول له خياله اليقظ وحساسيته العميقة أن يقيم في آن
واحد داخل أماكن عديدة من الوجود والوعي، بينما يسمح صبره الطويل للأشياء أن تتكشف
كيفما تشاء، وعلى نحو يجعل الحدود في ما بينها مسامية. قد أقول إن ترانسترومر
يجسِّد الرابط العميق الراسخ إلى العالم الطبيعي، وأن حضوره في شعره مسألة حتمية.
"إن ما نوهب إياه أكبر، وإن يكن كلًّا غامضا ومراوغا". إحساس توماس
ترانسترومر في لحظات الإلهام، أي اللحظات التي يكون فيها في مكانين معا ويكون
"كل شيء مفتوحا" ترتبط بقوة بهذا المعنى وتخاطب هذه العلاقة بالعالم
خطابا مباشرا. تنبع الكتابة من هذه العلاقة، وليس العكس. الكتابة تقطير وصقل لها.
ولحساب من يعمل؟ ربما لحساب الخلود. أو النسيان. أو
كليهما.
ـ يسمع المرء وأنت تتكلمين عن ترانسترومر القصائد، فيبدو
له أن الرجل في حقيقته مجرى للطاقة. ويحيرني اندفاعنا إلى أن نحاول إبراز
ترانسترومر في علاقته بالعالم وما فيه من غموض، وهو ما لا نفعله مع أي شاعر آخر.
هل هذا هو الآسر الحقيقي في شعره، كونه يعيننا على التصالح مع مكاننا من العالم
الذي غالبا ما يكون مريعا، وغائما، ومهلكا؟
ـ تبدو المجرى كلمة ممتازة، وخيارا بارعا. من الصعب بحق
ألا ننظر إليه هذه النظرة، وهي تتوازى مع ملاحظة بلاي الرائعة حول كون ترانسترومر
أقرب منا إلى معين الطاقة الصامت في قلب الكون. وهناك أمثلة كثيرة للغاية في
كتابته تشي بهذا، منها هذه الأبيات من قصيدته "معادلات شتوية":
أقف تحت نجوم السماء
وأشعر بالعالم يزحف
من وإلى
معطفي
كأنه عش نمل
وهذه الأبيات أيضا من قصيدته "أعمق" حينما
يعلق في المرور وتضرب الشمس زجاج سيارته:
أنا الآن شفاف
تنفذ الأبصار إليّ
وبعض الكتابة يظهر داخل جسدي
كلمات بالحبر سري
تظهر
حينما تقترب ورقة للحرارة.
وهذه الأبيات في ختام الجزء الأخير من
"البلطيق" حيث يكتب عن جدته:
"أتذكرها
إذ أويت إليها
لحظة وفاتها
(أم عبورها؟)
إذ انبعثت منها فكرة
ففهمت وأنا ابن السنوات الخمس
كلَّ ما حدث
قبل نصف ساعة
من الاتصال الهاتفي.
ترانسترومر في قصائده شخصية طيّعة: انفتاح، وسماء ليلية،
وعش نمل، وورق معرض للنار. ومرةً تلو الأخرى يجسد ألغاز
العالم ويجعلها ملموسة بما يسمح بفهمها، أو يقرّبنا من فهمها، فيمنحنا سبيلا إلى
أن نتخيل أنفسنا قادرين على قول ما لا سبيل إلى قوله، وإمساك ما لا سبيل إلى
إمساكه. "لنا أن نرى الجمال مارقا، من طرف أعيننا". ننال تلك اللمحة.
فهل يعيننا ذلك على التصالح مع مكاننا من العالم وهل هو بعض من أسباب بقاء هذا
الشعر؟ أتصور أن إجابة السؤالين هي نعم.
دانيال شونبيك شاعر أمريكي أحدث أعماله هو "الحاجز
الأمريكي" وتصدر له قريبا مجموعة شعرية بعنوان " C’est la guerre
".
عن موقع باريس رفيو الإلكتروني ـ نشرت الترجمة اليوم في ملحق شرفات
صلاة
أحيانا
تفتح حياتي عينيها بغتةً
في الظلام.
أشعر كما لو أن حشودا من الناس
تتدافع عمياء في الشوارع
مهتاجةً
في طريقها إلى معجزة ما
وأبقى هنا
لا يراني أحد.
ذلك كأن يغلب النوم طفلا
خائفا
يصغي إلى دقات قلبه الثقال
ويبقى على هذا
لوقت طويل، طويل
إلى أن يضع الصباح نوره
في ثقوب المفاتيح
فتفتح أبواب الظلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق