عندما تم تسريب ثلاث قصص غير منشورة لـ "جيه دي سالنجر" على
الإنترنت مؤخرا، تفجرت أسئلة عديدة حول القرصنة والخصوصية، وأصبح بين أيدينا سبيل
جديد لقراءة "الحارس في حقل الشوفان"
سالنجر: ما الذي يمكن لأعماله غير المنشورة أن تنبئنا
عنه؟
جابي وود
"أحب أن أكتب". ذلك ما قاله سالنجر في عام
1974، مستدركا بقوله "ولكنني أكتب فقط من أجل المتعة. وإن ثمة سلاما إعجازيا
في عدم النشر". كان ذلك بعد تسع سنوات من ظهور قصته "16هابوورث
1924" في مجلة ذي نيويوركر [سنة 1965]، والتي كان مقدرا لها ـ وإن لم يعلم أحد
ذلك في حينه ـ أن تكون آخر أعمال سالنجر المنشورة. منذ ذلك الحين، انسحب الكاتب
إلى بيته على تل كورنيش في نيوهامشر، وبقي فيه حتى وفاته قبل ثلاث سنوات.
كان التأكيد على أنه قضى كل تلك الفترة وهو يمارس
الكتابة يأتي مصحوبا بقدر كبير من الدراما. فيزعم صديق أنه رأى سالنجر "ومعه
مخطوطات أمام عينيّ". وجويس مينارد، التي كانت عشيقة له سنة 1972 وقامت في
وقت لاحق ببيع ما تبادلته معه من مراسلات في مزاد علني ـ كتبت في يومياتها أنها
كانت تسمعه "يكتب [على الآلة الكاتبة] كل يوم"، فلعلها نسيت أن ثمة من
كان يسمع "جاك تورينس" يفعل نفس الشيء في [رواية] "اللمعان"
[لستيفن كينج]. سالنجر نفسه كان قد قال منذ وقت طويل إنه يطور حلقات في حيوات
عائلة جلاس وإن لديه "خططا لطيفة قاهرة لإنهائها". (ولم يبد أن أحدا
لاحظ الفارق بين اللطيف والقاهر). وفي سيرتهما الصادرة مؤخرا، كشف "شين
ساليرنو" و"ديفيد شيلدس" النقاب عن أنه على الرغم من أن ورثة
سالنجر "رفضوا الاعتراف حتى بوجود مخطوطات سالنجر السرية
الأسطورية" إلا أن لديهما معلومات جيدة بأن ثمة خططا لإصدار عدد من الأعمال.
احتمال. ولكن قصص سالنجر الثلاث التي تم تسريبها الأسبوع
الماضي على الإنترنت لم تكن سرية ولا أسطورية. فبحسب ما قال "كينيث
سلاونسكي" كاتب سيرة سالنجر عبر موقعه deadcaulfields.com فإن هناك
عددا من قصص سالنجر غير المنشورة، وعددا من القصص المنشورة غير المندرجة في كتب،
وعدد آخر من القصص التي يعرف الجميع أنها مفقودة. وتلك كانت ثلاث مخطوطات محفوظة
في أراشيف جامعية يمكن أن يراها كل من يبالي بزيارة هذه الجامعات. وسالنجر لم يرغب
في نشرها، إما لأنها غير مكتملة، أو لأنه استخدم مادتها استخدامات أخرى. ومن ثم
فالسؤال الحقيقي هنا هو كيف حدث لأسطورة سالنجر أن تضخمت بهذه الطريقة، وكيف أمكن
أن يكون ثمة كل هذا الجوع إلى أعماله.
ثمة، في اعتقادي، ثلاثة أسباب تتعلق على الترتيب:
بالكاتب وبالقراء وبالعمل نفسه.
وأولا، لا شيء يدعو إلى اختراق الخصوصية بقدر الانعزال. ليس
واضحا إلى أي مدى كان سالنجر واعيا بأنه يثير شهية متتبعيه. لقد كان بحسب أغلب
الروايات رجلا يميل إلى الهدوء، وكان فيه، بحسب أحد محرريه، ما يوشك أن يكون
"سمت التحفظ المصري". لقد بقيت في نفسه ولا شك ندوب من تجربة الحرب التي
شارك فيها ضمن عمليات إنزال ساحل أوتا و"تحرير" كاوفرنج الرابع Kaufering
IV. كما أن أعماله رفضت من الناشرين والمحررين
مرات كثيرة حتى صار بوسعه، وعلى حد تعبيره، أن يحصل على خطاب برفض النشر بدون أن يحرك يديه.
أما عن قرائه، فمن المرجح أن يقول أغلب الجادين من
المعجبين بـ "الحارس في حقل الشوفان" إنهم قرأوها للمرة الأولى في
مراهقتهم، في ذلك الوقت التكويني الذي بدا فيه أن شخصية "هولدن كولفيلد"
تتكلم بالنيابة عنهم، بل إنها تتكلم إليهم هم، دون غيرهم، في الفنتازيا التي يعيشون فيها. ولقد وصف الشاعر وكاتب
السير "إيان هاملتن" ـ الذي قاضاه سالنجر عندما حاول أن يؤلف عنه كتابا ـ
هذا الإحساس بقوله: "بدا لي أنه ’كتابي أنا’ وكان الوقع عليّ أشبه بوقع
الكارثة حينما عرفت أنني ربما أكون المراهق المليون الذي ينتابه هذا الشعور ...
لقد وجد فيه كل من قرأه رسالة موجهة إليه هو بالذات". ومن بين الملايين عدد
ضئيل قام بتفسيره حتى توصل إلى نتائج مؤسفة، فلقد ارتبط الكتاب ارتباطا لا ينفصم
بـ "مارك ديفيد تشابمان" الذي اعتبر أن الكتاب بمثابة المانيفستو الخاص
به بعد قتله [الموسيقي الشهير] "جون لينون".
وأخيرا العمل. أغلب كتابة سالنجر تتألف من ملحمتين
عائليتين متقاطعتين متعددتي الأصوات السردية، ملحمة آل كولفيلد وملحمة آل جلاس.
ومن ثم يمكن أن نجمع منهما معا حِسًّا مسلسلاتيا، فيبقى ثمة طول الوقت حس معذِّب
بوجود حلقة محتملة. فضلا عن أن إحدى القصص المتداولة الأسبوع الماضي على الإنترنت
(وهي قصة "المحيط الملآن بكرات
البولينج") تحمل تاريخا سابقا على "الحارس في حقل الشوفان (وتحمل أيضا
استشرافا لها)، فهي بعبارة أخرى افتتاحية، أو هي المعادل الأدبي لظاهرة حروب
النجوم. فلا عجب أن يجن جنون الجماهير.
ربما كان ذلك أيضا جزءا من عزلة سالنجر. وعلى الرغم من
إمكانية قول هذا في حق أي روائي، إلا أن شجرتيه العائليتين الروائيتين الخياليتين
المأزومتين استثنائيتان بالقطع. لقد رفضت ذي نيويوركر "الحارس في حقل
الشوفان" بناء على أنه ليس من الطبيعي أن يوجد في أسرة واحدة أربعة أبناء
استثنائيين بهذه الطريقة، وعلى أساس أن ذلك أمر "لا يمكن الدفاع عنه". فإن
كان ذلك قيل في حق أبناء أسرة كولفيلد، فماذا يقال في أبناء أسرة جلاس (فاني،
وزُووِي، وسيمور، وبادي، وولتر، وويكر، وبو بو) الذين كانوا أشد إغراقا في الشذوذ
عن المألوف. لقد ذكرت جويس مينارد أن سالنجر كان يراكم "كومات من
الكراسات" عن هذه الشخصيات: "حتى الأجزاء التي لم يتناولها بالكتابة في
حياتهم، يكون بحاجة إلى معرفتها. يدوِّن المعلومات بدأب أب، ويقوم بتحديثها
بقصاصات".
لو أن ذهنه كان ممتلئا بالفعل بأفراد آل كلوفيلد وآل
جلاس ـ بمن فيهما من أطفال حساسين، ومراهقين ساخرين، وممثلين في برامج مسابقات،
وكتّاب ناشئين، وأشقاء موتى، وآباء مسحورين ـ فإلى أي مدى يكون بحاجة إلى رفقة غير
روائية؟ لو أن لنا أن نصدق المذكرات التي كتبتها ابنته مارجريت سالنجر، لقلنا إنه
لم يكن بحاجة إلى رفقة تذكر. ولكن الابنة أعلنت للعالم، في المقابل، أن أباها كان
يشرب بَوْلَه.
ما الذي يمكن أن تنبئنا به القصص غير المنشورة عن كتابة
سالنجر؟ القصتان الأقصر (وهما المنسوختان من مجموعة سالنجر في مركز هنري رانسم بـ
أوستن في ولاية تكساس) تميلان أكثر إلى الكآبة. "صبي عيد الميلاد"،
مؤرخة في 1946، وهي عبارة عن حوار مخيف في مستشفى صغير، حيث رجل في الثانية
والعشرين من العمر، يحتضر، ويستقبل زيارة في يوم عيد ميلاده من صديقته إيثيل.
محاولتها الأمومية للترويح عنه، وموقفه الغاضب من العالم يحدثان حالة من التوتر المرتعش، والإيحاء الاحتفالي الساخر الذي ينطوي عليه العنوان يغلق القصة
تمام الإغلاق.
أما القصة المنشورة بعنوان "باولا" فهي عمليا
مخطوطة كان يفترض أنها مسودة لقصة ضائعة، يشار إليها في بعض الأحيان بـ "مسز
هينتشر". وواضح تماما أنها لم تكتمل، بما فيها من تكرارات، وجمل منقوصة،
وانحرافة مفاجئة في الحدث. المقدمة رهيبة، ولكنها مروية من خلال واحد من شخصيات
سالنجر الساذجة. امرأة تدعي لزوجها أنها حامل، ثم ... حسن، لن أحرق النهاية. في
رسالة مؤرخة في عام 1941، أشار سالنجر إليها بوصفها "قصة رعب" (هي قصة
الرعب الأولى والأخيرة لي)".
القصة الأكثر اكتمالا في المجموعة هي "المحيط
الملآن بكرات البولينج"، وهي محفوظة في جامعة برينستن محمية من النشر إلى ما
بعد وفاة سالنجر بخمسين عاما. كانت قد بعثت إلى مجلة سنة 1945، ولكنها رفضت، وتم
تبرير ذلك بأسباب عديدة من بينها أنها "قاتمة أكثر مما ينبغي". هي عبارة
عن بورتريه مأساوي لطيف لشقيق هولدن كولفيلد الأصغر، ويرويها فينسنت كولفيلد الأخ
الأكبر الذي سيكون اسمه في "الحارس في حقل الشوفان" هو "د.
ب." وتحتوي على رسالة رائعة يبعثها هولدن من المعسكر إلى الوطن مليئة
بالأخطاء الهجائية.
الشخصية الرئيسية المصورة في هذه القصة هي شخصية كينيث،
وهو صبي فضولي شعره في حمرة عملة معدنية جديدة ومتفان في الأدب تفانيا يجعله ينسح
أبياتا من شعر براوننج على ظهر قفازه الذي يلعب به البيسبول. هو يحب الرياضة لكنه
يضطر إلى التوقف عن الذهاب لحضور المباريات عندما يرى لاعبا عظيما يتعرض
للطرد. وبعد أن يقرأ "ثالثة الأسافي" لهنري جيمس
يكف عن الكلام مع أي شخص لمدة أسبوع. ويدافع بحرارة عن أخيه الغائب هولدن عندما
يشير إليه شخص في مطعم، من باب التعاطف، بأنه "ذلك "المجنون
الصغير". يعاني من "مشكلات جسيمة في القلب". ومن بين جميع الأنفس
الحساسة في عالم سالنجر، فإن كينيث كولفيلد هو الأكثر تأثيرا. قد يبدو ـ لبعض
القراء ـ سوداويا عتيقا بعض الشيء، ولكنه في الحقيقة يفترض أن يكون أفضل مما يليق بهذا
العالم، وهو ذو بصيرة أيضا. وهو يشعر بالقلق
على هولدن الذي لا يستطيع أن "يقدم أي تنازلات". وينصح فينسنت بالزواج
من صديقته لأنها ليست بالغة الذكاء وبالتالي "لن تجرح مشاعرها حينما تسخر
منها". وفي النهاية يموت فجأة ، وبصراع عاطفي غير معقد بعض الشيء.
لماذا لم يرغب سالنجر في خروج هذه القصة إلى النور؟ حسن،
من ناحية، لأنه أعاد الاشتغال على مادتها لاحقا. فـ كينيث أصبح آلي Allie في
"الحارس"، الصبي الذي مات قبل أربع سنوات من بداية الرواية. في
الرواية، يموت باللوكيميا في "مين" وليس بمشكلة في القلب في كوب كود، ويكتب
على قفاز البيسبول بالحبر الأخضر لا بالأسود. ولكنه نفس الصبي، وحينما نتعرف عليه
من خلال هولدن نعرف أن هولدن ـ في الليلة التي مات هو فيها ـ كان نائما في الجراج،
و"ليلتها قمت بتكسير جميع نوافذ الجراج بيدي هاتين بلا أي سبب آخر". لا
تزال يدا هولدن متأذيتين بسبب ذلك، وقد حاول والداه أن يعرضاه على محلل نفساني. في
القصة، يقول كينيث إنه وإن كان مقدرا له أن يموت، فقد بقي يتسكع في المكان بعض
الوقت. ثم يوضح
فينسنت أنه يكتب عن كينيث لكي يجعل روحه ترقد في سلام. "لم أعد أحتمل. ينبغي
أن تتوقف روحه عن التسكع حولنا هذه الأيام". وهذاالتسكع، في "الحارس في
حقل الشوفان" قد يفسر كل شيء.
في وقت لاحق من الحياة، عند الكلام عن أعماله غير
المنشورة فيما يتعلق بشخصيات جلاس، وصف سالنجر قصصه بـ"المصقولة المفرودة، كل
بطريقته الخاصة"، وهذا تعبير رائع، ومفيد عند التفكير في إعادة الاشتغال على
الكتابة. هي أشباح قصص تالية، شذرات، محاولات أولى، أفكار تجريبية. يمكن لنا
القول، بطريقة ما، إن نشر "المحيط الملآن بكرات البولنج" غير ضروري لأن
"الحارس في حقل الشوفان" موجودة، ولأن تأثير موت شقيق هولدن يصبح بمرور
الوقت أداة سردية أنفع من الاستدعاء المباشر للموت نفسه. لكن القصة تظل تمثل قراءة
بديعة مع ذلك.
برغم أنها أرسلت للنشر في 1945، ربما يكون العمل الذي أثمر "المحيط الملآن بكرات
البولنج هو العمل الذي أثمر فصول "الحارس في حقل الشوفان" الستة التي
قال سالنجر إنه حملها معه أثناء عمليات الإنزال الحربي. وفي تعليق سيري منشور مع
إحدى قصصه سنة 1944، قال إنه كان يكتب "كلما أجد وقتا ومخبأ فارغا".
وعلى أية حال، صدرت قصتا كولفيلد الأخريان في مجلة
كولييه Collier في ديسمبر 1945، بعد شهور قليلة من إطلاق
سراح سالنجر من وحدة العلاج النفسي في نورمبرج التي (حسب ما كتب لإرنست همنجواي في
رسالة من هناك) دخلها بنفسه.
هل ينبغي أن تتاح لنا قراءة هذه القصص؟ الشخص أو الأشخاص
الذين نشروا هذه القصص فعلوا ذلك بدون استئذان، هذا واضح تماما، لكن أليس هذا فعلا
ينم عن كرم أدبي من النوع الذي يشجعنا الإنترنت على الإيمان به؟
من ناحية، لو كانت هذه الأراشيف معتزمة على رقمنة
مقتنياتها ـ وهو ما تلجأ إليه بالفعل الكثير من الأراشيف مع مقتنياتها ـ فهذه
الوثائق كانت لتظهر على أية حال. ومن ناحية أخرى، لم يكن سالنجر يعتزم نشرها على
الإطلاق. في الأسبوع الماضي، وفيما كنت أنا وزملائي نحاول تتبع البائع على موقع
"إي باي" والذي خرجت من عنده القصص المطبوعة سرا، كان "كينيث سلافينسكي"
كاتب سيرة سالنجر يؤكد على اعتراضه "على تسريب هذه القصص ونشرها على
الإنترنت. فهي لا تزال خاضعة لحقوق سالنجر في النشر وقرار نشرها من عدمه، وتوقيت
النشر يخص ورثة سالنجر حصريا وليس الجماهير، بغض النظر عن مدى شعورهم
بأحقيتهم".
غير أنه حتى بعدما استسلم بائع
"إي باي" وغير اسمه إلى "الفراشة
الجائعة"، لم أملك إلا أن أتساءل عن مدى تفانيه في سالنجر. فلقد كان
يطلق على نفسه "سيمور ستين
جلاس" Seymourstainglass وهو اسم سيمور جلاس الذي
يظهر في عدد من قصص سالنجر والذي ينتحر بإطلاقه الرصاص على نفسه في قصة "يوم
مثالي" في نهاية يوم هادئ على الشاطئ بصحبة صديقة في الرابعة من العمر، تظل
طول اقصة تطلب رؤية المزيد من الزجاج، بينما ظللت لا أملك إلا أن أتساءل عما لو
كان الدرس المستفاد من حياة سالنجر هو أن إبعاد الشيء عن النظر لا يضيف إلا مزيدا
من الرغبة في النظر؟
عن ديلي تلجراف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق