‏إظهار الرسائل ذات التسميات ريموند كارفر Raymond Carver. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ريموند كارفر Raymond Carver. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 27 يناير 2021

حياة أبي ـ ريموند كارفر

حياة أبي

ريموند كارفر



اسم أبي هو كليفي ريموند كارفر. دأبت عائلته على مناداته بريموند، وأصدقاؤه على مناداته بـ"كاف راء". وسمِّيت أنا باسم ريموند كليفي كارفر جونيور [وجونيور تعني الصغير]. كرهت اسم جونيور هذا. كان أبي وأنا ولد صغير يناديني بـ"فروج" [أي ضفدع]، ولم أجد في ذلك بأسا. لكنه بدأ بعد ذلك، شأن البقية من أفراد أسرتي، يناديني بـ"جونيور". واستمرَّ في مناداتي بذلك حتى بلغت الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة وأعلنت أنني لن أردَّ على من يناديني بذلك الاسم كائنا من يكون. فبدأ يناديني بـ دُك [اختصارا من دكتور]. ومنذ ذلك الحين، وحتى وفاته في السابع عشر من يونيو سنة 1967، ظلَّ يناديني بـ دُك، أو بيا بني.

عندما مات، اتصلت أمِّي بزوجتي لتنقل إلينا الخبر. كنت في ذلك الوقت بعيدا عن أسرتي، بين حياتين، أحاول الالتحاق بمدرسة العلوم المكتبية في جامعة أيوا. ولمَّا أجابت زوجتي الهاتف، رمت أمِّي الخبر قائلة إن "ريموند مات". للحظة ظنَّت زوجتي أنّ أمِّي تنبئها بوفاتي. ثم أوضحت أمِّي عن أيٍّ من الريموندين تتكلم، فقالت زوجتي "الحمد لله، ظننته ريموندي أنا".

سار أبي، وتطفل على السيارات، وركب عربات قطارات فارغة، حينما سافر  من أركانسو إلى ولاية واشنطن سنة 1934 بحثا عن عمل. لا أعرف هل كان سفره ذلك إلى واشنطن سعيا وراء حلم. ولكنِّي أشكُّ في ذلك. فلا أحسب أنَّ أحلامه طاولت ذلك. أعتقد أنَّه ببساطة كان يبحث عن عمل ثابت بأجر لائق. وكان العمل الثابت هو العمل الوجيه. عمل لبعض الوقت في تعبئة التفاح ثم حطَّ الرحال في العمل حمَّال مؤن في سدِّ كولي الكبير. وادَّخر قرشين فاشترى سيارة ساقها راجعا إلى أركانسو لمساعدة أهله، أعني جديَّ، في حمل متاعهم والانتقال إلى  الغرب. وحكى لاحقا أنَّه وجدهما يوشكان على الموت جوعا هناك، ولم يكن ذلك كناية من كنايات اللغة. وحدث في تلك الفترة القصيرة في أركانسو، في بلدة اسمها ليولا، أن التقت أمِّي بأبي على الرصيف وهو خارج من حانة.

"كان سكران" هكذا قالت "ولا أعرف لماذا تركته يتكلَّم معي. عيناه كانتا لامعتين. ليتني كنت أملك يومها بلَّورة مسحورة؟". كانا قد التقيا قبل ذلك مرَّة، ربَّما قبل سنة أو نحو ذلك، في رقصة. حكت لي أمِّي أنَّه صاحَب بنات قبلها. "أبوك كانت له صديقات، حتى بعد زواجنا. ولكنه بالنسبة لي كان الأول والأخير. لم يكن لي رجل غيره قط. لكنني لم أفتقد أي شيء". تزوَّجا على يدي قاضي المنازعات في يوم رحيلهما إلى واشنطن، فتاة ريفية طويلة جسيمة، وفلاح تحول إلى عامل معمار. قضت أمِّي ليلة زفافها مع أبي وأهله، محشورين جميعا في خيمة على الطريق في أركانسو.

في أوماك بواشنطن، عاش أبي وأمي في بيت صغير لا يزيد كثيرا عن كوخ. وعاش جدَّاي بجوارهما. كان أبي لم يزل يعمل في السدِّ، ثم عمل لاحقا في توربينات توليد الكهرباء الضخمة في المياه المحجوزة لمئات الأميال داخل كندا، وكان مع الجموع الواقفة حينما استمع إلى خطبة فرانكلين دي روزفلت في موقع إقامة السدّ. ويوما قال لي أبي "إنه لم يذكر بكلمة أولئك الرفاق الذين ماتوا في بناء ذلك السد". وبعض أصدقاء أبي ماتوا هناك، وكانوا من أركانسو وأوكلاهوما وميزوري.

ثم عمل بعد ذلك في مصنع أخشاب في كلاتسكاني بولاية أوريجون، وهي بلدة صغيرة على نهر كولمبيا. هنالك ولدت، وكانت لدى أمِّي صورة لأبي واقفا أمام بوابة المصنع، رافعا إيَّاي بفخر أمام العدسة. وقد التوت قلنسوتي وأوشك رباطها أن ينحلّ. أما قبعته هو فتراجعت عن جبهته، وقد ابتسم ابتسامة عريضة. هل كان ذاهبا إلى العمل أم انتهى من نوبته للتوّ؟ لا يهم. في كلتا الحالتين، كانت له وظيفة وأسرة. وتلك كانت أيام سعده.

في سنة 1941 انتقلنا إلى ياكيما بواشنطن، حيث عمل أبي في صيانة المناشير، وهي حرفة تقتضي مهارة اكتسبها في كلاتسكاني. ولمَّا نشبت الحرب، حصل على تأجيل للتجنيد لاعتبار عمله ضروريا للمجهود الحربي. فقد كان الخشب المعالج مطلوبا لدى القوات المسلحة، وقد حافظ على مناشيره حادة ماضية يمكن أن تحلق بها شعر ذراعك.

بعدما انتقل أبي إلى ياكيما، نقل أهله إلى الحي نفسه. وبحلول منتصف الأربعينيات، كان بقية أهل أبي ـ أي أخاه وأخته وزوجها وكذلك الأعمام وأبناء العمومة وبناتها وأغلب الأقارب مهما بعدت صلاتهم ـ قد رحلوا من أركانسو. فعمل الرجال كنهم في بويسي كاسكيد ـ حيث كان أبي يعمل ـ والنساء عملن في تعبئة التفاح في المصانع. وفي غضون فترة قليلة بدا ـ بحسب رواية أمِّي ـ أن الجميع أيسر أحوالا من أبي. حكت أمِّي قائلة إن "أباك لم يكن يستطيع الحفاظ على النقود. كانت النقود تشعل جيوبه و تهرب. وكان دائما يعمل من أجل الآخرين".

أول بيت أتذكر بوضوح أنني سكنته، في 1515 جنوب الشارع الخامس عشر في ياكيما كان له حمام خارجي منفصل. في ليلة الهالوين، أو في أيِّ ليلة، لمجرد الاستمتاع، كان أبناء الجيران، وهم صبية في أوائل سنوات المراهقة، يحملون مرحاضنا ويمضون به فيرمونه على جانب الطريق. ويكون على أبي أن يأتي بمن يساعده في إرجاعه إلى البيت. أو يأخذه أولئك الأولاد ويقيمونه في الفناء الخلفي من بيت شخص آخر. ومرة أضرموا فيه النار فعليا. لكن لم يكن بيتنا هو الوحيد ذو المرحاض الخارجي. فلمَّا بلغت من العمر ما يتيح لي أن أعرف ما يجري من حولي، كنت ألقي الحجارة في مراحيض الآخرين حينما أرى فيها أحدا. وكان يطلق على هذا قصف المراحيض. ولكن بعد حين بدأ الجميع ينتقلون إلى السباكة الداخلية إلى أن حدث فجأة أن أصبح مرحاضنا هو المرحاض الخارجي الأخير في حيِّنا. أتذكَّر العار الذي شعرت به حينما أوصلني ذات يوم مستر وايز، أستاذي في الصف الثالث، إلى البيت بعد المدرسة فطلبت منه أن ينزلني أمام المنزل السابق على بيتنا مباشرة مدَّعيا أنن أعيش هناك.

لا أزال أتذكر ما جرى ذات ليلة حينما رجع أبي إلى البيت متأخرا ليجد أمِّي وقد أغلقت جميع الأبواب دونه. كان سكران، وشعرنا بالبيت يهتز وهو يدبّ على الباب. وحينما نجح في فتح شبَّاك عنوة ضربَتْه بالمصفاة بين عينيه وألقت به خارجا. رأيناه ملقى على العشب. وكم ظللت بعد ذلك لسنين أتناول تلك المصفاة ـ وهي ثقيلة ثِقَل أسطوانة فرد العجين ـ وأتخيل إحساس تلقِّي ضربة في الرأس بشيء كذلك.

أتذكَّر في تلك الفترة أن أبي كان يصطحبني إلى غرفة النوم، فيجلسني على السرير، ويقول لي إنني قد أضطر إلى الذهاب للإقامة عند عمَّتي لافون لبعض الوقت. ولم أكن أفهم ما الذي فعلته فيكون لزاما عليَّ أن أترك البيت لأعيش. لكن هذا أيضا ـ ومهما تكن الأسباب ـ كان ينتهي وينسى، ببساطة، لأننا بقينا نعيش معا، ولم يكن لزاما عليّ قطّ أن أذهب لأعيش مع أحد.

أتذكر أنَّ أمِّي كانت ترمي له الويسكي في الحوض. أحيانا كانت ترميه كلَّه، وأحيانا، إذا خافت أن يضبطها ويكشف أمرها، كانت ترمي نصفه فقط ثم تضيف ماء على الباقي. ذقت مرَّة من هذه الويسكي، فوجدته شديد الرداءة، لا أعرف كيف تأتَّى لأحد أن يشربه.

بعد فترة طويلة بلا سيارة، اشترينا واحدة، سنة 1949 أو 1950، وكانت فورد 1938. ولكن قضيبا انكسر بداخلها في أول أسبوع بعد شرائها، وكان لزاما على أبي أن يعيد تركيب المحرك كله.

قالت أمِّي "كنَّا نركب أقدم سيارة في المدينة. كان يمكن أن نشتري كاديلاك بكل النقود التي أنفقها على إصلاح تلك السيارة". وجدَتْ مرَّة طلاء شفاه امرأة أخرى على أرضية السيارة، ومنديلا مثقَّبا. قالت لي أمِّي "أترى هذا؟ تركته عاهرة في السيارة".

رأيتها مرَّة تأخذ طاسة ماء فاتر إلى غرفة النوم وأبي نائم فيها. أخذت يده من تحت الغطاء ووضعتها في الماء. وقفت في الطرقة أشاهد. أردت أن أعرف ماذا يجري. قالت لي إن ذلك كان ينبغي أن يجعله يتكلم وهو نائم. كانت بحاجة إلى أن تعرف بعض ما كانت على يقين من أنه يخفيه عنها.

في كلِّ عام تقريبا، وأنا صغير، كنا نستقل حافلة نورث كوست ليمتد عابرين جبال كسكيد من ياكيما إلى سياتل لنقصد فندق فينسيا ونأكل، فيما أتذكَّر، في مكان اسمه "دينر بيل كافيه". ومرَّة قصدنا "إيفارز آكرز أوف كلامز" فشربنا كؤوس مرق المحار الدافئ.

في سنة 1956 التي تخرجت فيها في المدرسة الثانوية، ترك أبي وظيفته في مصنع ياكيما وعمل في تشستر، وهي بلدة في شمالي كلاليفورنيا فيها مصنع خشب صغير. ولا بدَّ أن أسباب قبوله العمل في تلك الوظيفة تتعلق بأجر أعلى في الساعة وبوعد غامض بأن يتولى في غضون بضع سنوات منصب رئيس عمال صيانة المناشير هناك. لكنني أظن أن السبب الأساسي هو أن أبي بدأ يتململ وأراد فقط أن يجرِّب حظَّه في مكان آخر. كانت الألفة قد بدأت تعتري كلَّ شيء بالنسبة له في ياكيما. وأيضا كانت السنة السابقة قد شهدت وفاة والديه في غضون ستة أشهر من أحدهما الآخر.

لكن بعد أيام قليلة من التخرُّج، وبينما كنت وأمي نحزم متاعنا للانتقال إلى تشستر، بعث أبي رسالة قال فيها إنَّه مريض منذ فترة. قال إنَّه لا يريد أن نقلق، لكن المنشار جرحه. وربما تلوَّث دمه بقطعة فضيَّة صغيرة من الحديد. على أي حال، وقع ما ألزمه بترك العمل، حسبما قال. وفي البريد نفسه وصلت إلينا بطاقة بلا توقيع، يخبر أحدهم فيها أمِّي بأنَّ أبي يوشك أن يموت وأنَّه يشرب "الويسكي الخام".

حينما وصلنا إلى تشستر، وجدنا أبي يعيش في مقطورة تابعة للشركة. لم أعرفه فور أن رأيته. لعلي للحظة لم أشأ أن أعرفه. كان هزيلا وشاحبا ويبدو ذاهلا. بنطاله دائم السقوط عن خصره. لم يبد أنَّه أبي. بدأت أمِّي تبكي. أحاطها أبي بذراعه وأخذ يربت على كتفها في دهشة وكأنَّه هو نفسه لا يعرف سبب ذلك كله. عشنا نحن الثلاثة في المقطورة، واعتنينا به بأكثر ما في وسعنا. لكنَّه كان مريضا، ولم يتحسَّن. عملت معه في المصنع في صيف ذلك العام وجزء من خريفه. كنَّا نستيقظ في الصباح فنتناول البيض وخبز التوست ونحن نستمع إلى المذياع ونخرج من البيت ومعنا عمودا الغداء. ونعبر البوابة معا [أي بوابة المصنع] في تمام الثامنة صباحا، ثم لا أراه بعد ذلك إلا عند ميعاد الانصراف. رجعت في نوفمبر إلى ياكيما لأكون أقرب إلى صديقتي، وهي الفتاة التي استقرَّ رأيي على أنِّي سوف أتزوجها.

عمل أبي في مصنع تشستر حتى فبراير التالي، وحينها انهار وهو في العمل ونقلوه إلى المستشفى. سألتني أمِّي إن كنت أنوي الذهاب للمساعدة. أخذت الحافلة من ياكيما إلى تشستر عازما على الرجوع بهما إلى ياكيما. لكن أبي في ذلك الوقت، كان يعاني، فضلا عن مرضه الجسماني،  من انهيار عصبي، وإن كنا في ذلك الوقت لم نكن نعرف تلك التسمية. على مدار رحلة الرجوع إلى ياكيما، لم ينطق كلمة، حتى لو سئل سؤالا مباشرا. "كيف حالك يا ريموند؟"، "أأنت بخير يا أبي؟") وكان غاية ما يتواصل به، إن تواصل، هو أن يحرِّك رأسه أو يرفع راحتيه عاليا كمن يقول لا أعرف أو لا أبالي. والمرَّة الوحيدة التي قال فيها شيئا طوال الرحلة، ولنحو شهر بعد ذلك، كانت حينما أسرعت بالسيارة على طريق حصبائي في أوريجون فانخلع أنبوب العادم. قال "كنت تسوق أسرع من اللازم".

في ياكيما رأى طبيب أبي وأشار بأن يذهب إلى طبيب نفسي. كان على أبي وأمي أن يتوجَّها إلى المعونة الاجتماعية، حسبما كان يقال آنذاك، ودفعت المقاطعة تكاليف الطبيب النفسي. سأل الطبيب النفسي أبي "من الرئيس؟". طرحوا عليه سؤالا بوسعه أن يجيبه. وأجابه. قال أبي "أيكي" [وكذلك كان يطلق على أيزنهاور"]. مع ذلك وضعوه في الطابق الخامس من مستشفي فالي التذكاري وبدأوا يعالجونه بالصدمات الكهربائية. كنت في ذلك الحين قد تزوَّجت وبدأت لتوِّي تكوين أسرة لي. وكان أبي لم يزل في المستشفى حينما ذهبت زوجتي إلى هناك، وإن في الطابق الأدنى لطابقه مباشرة، لتضع طفلنا الأول. بعدما وضعتْ، صعدتُ إلى أبي لأبلغه بالخبر. سمحوا لي بعبور باب حديدي ودلُّوني على مكان أبي. كان جالسا على أريكة وعلى ساقيه بطانية. وحدَّثت نفسي، يااه، ما هذا الذي يجري لأبي؟ جلست بجواره وأخبرته بأنَّه صار جدًّا. انتظر دقيقة ثم قال "أشعر فعلا أنَّني جدّ". ذلك كلُّ ما قال. لم يبتسم ولم يتحرَّك. كان في غرفة كبيرة مع كثير من الناس. ثم عانقته، وبدأ يبكي.

بطريقة ما خرج من هناك. لكن بعدما حانت السنوات التي لم يعد يقوى فيها على العمل، فما كان منه إلا أن لزم البيت محاولا التكهُّن بما هو آت وبما أخطأ فيه في ما سبق من حياته فآل إلى تلك النهاية. وتنقلت أمِّي من وظيفة تافهة إلى أخرى. وبعد زمن طويل صارت تشير إلى الوقت الذي قضاه في المستشفى، وتلك السنوات التي تلتها، بـ"الفترة التي مرض فيها ريموند". فلم يعد لكلمة المرض وقعها القديم عليّ بعد ذلك أبدا.

في سنة 1964، وبعون من صديق، أسعده الحظ بوظيفة في مصنع في كلاماث بكاليفورنيا. انتقل وحده إلى هناك ليرى إن كان يقوى على الأمر. عاش غير بعيد من المصنع، في كوخ من غرفة واحدة غير مختلفة كثيرا عن المكان الذي بدأ فيه حياته هو وأمي حينما انتقلا إلى الغرب. وكان يخطُّ رسائل إلى أمي، فإن اتصلتُ بها قرأتها عليَّ عبر الهاتف. قال في تلك الرسائل إن حياته محتملة لكن غير أكيدة. كان يذهب كلَّ يوم إلى العمل وهو يشعر أنَّ ذلك اليوم أهمُّ أيَّام حياته. لكن كلّ يوم، كما كتب لها، كان يجعل اليوم التالي أيسر عليه. كان يطلب منها أن تبلغني تحياته. وأن تقول لي إنه حينما يعجز عن النوم فإنه يفكر فيَّ وفي الأوقات الجميلة التي كنَّا نقضيها معا. وأخيرا، بعد نحو شهرين، استعاد شيئا من ثقته في نفسه. صار يذهب إلى العمل غير متهيِّب من احتمال أن يخذل أحدا مرَّة أخرى. ولمَّا اطمأنَّ تماما، بعث يطلب أمي.

كان قد ابتعد عن العمل ستَّ سنوات خسر فيها كلَّ شيء ـ البيت والسيارة والأثاث والأجهزة بما فيها الثلاجة الضخمة التي كانت فخرا لأمِّي وفرحة لها. فقَد أيضا سمعته ـ وقد قيل إن ريموند كارفر عاجز عن سداد فواتيره ـ وفقد احترامه لنفسه. حتى ذكورته فقدها. قالت أمِّي لزوجتي "طوال تلك الفترة التي مرض فيها ريموند كنَّا ننام معا في سرير واحد وإن لم تكن بيننا علاقة. أرادها مرَّات قليلة، لكن لم يحدث شيء. لم أفتقدها، لكن أظنُّه هو أرادها، أنت عارفة".

في تلك السنوات كنت أحاول أن أعول أسرتي وأكسب لقمة عيشي. لكنَّنا، لأسباب كثيرة، كنَّا كثيري التنقُّل. فلم أستطع أن أتابع أولا بأول ما كان يجري في حياة أبي. ثمّ سنحت لي الفرصة في أحد أعياد الكرسماس أن أخبره بأنَّني أريد أن أصبح كاتبا. لعلّي أخبرته أيضا بأنّني أريد أن أصبح جرَّاح تجميل. سألني "عن أيِّ شيء تريد الكتابة؟". ثمَّ قال كأنَّما يريد أن يجد لي مخرجا "اكتب عن أشياء تعرفها. اكتب عن بعض رحلات صيد السمك التي قمنا بها". قلت إنّني قد أفعل، لكنّني علمت أنّني لن أفعل. قال "ابعث لي ما تكتب". وقلت إنّني سوف أفعل، ثم لم أبعث شيئا. لم أكن أكتب أيَّ شيءٍ عن صيد السمك، ولم أتصوَّر أنّه قد يبدي اهتماما خاصًّا بما كنت أكتبه في تلك الأيام، أو قد يفهمه بالضرورة. فضلا عن أنّه لم يكن قارئا. أو على الأقل لم يكن القارئ الذي كنت أتخيّل أنّني أكتب له.

ثمّ مات. كنت بعيدا للغاية، في مدينة أيوا، ولم تزل في صدري أشياء لم أقلها له. لم تسنح لي الفرصة لكي أودعه، أو لأقول له إنّني أرى أنّه يؤدِّي عملا عظيما في وظيفته الجديدة. وأنّني فخور به وبقدرته تلك على الرجوع.

حكت أمِّي أنَّه رجع من العمل في تلك الليلة وتناول عشاء ضخما. ثم جلس إلى المائدة وحيدا فأنهي ما كان متبقيا في زجاجة ويسكي عثرت هي عليها بعد يوم أو نحو ذلك مخبَّأة في قاع القمامة تحت حبَّات قهوة. ثم نهض وذهب إلى السرير، فتبعته أمِّي بعد قليل. لكنَّها اضطرَّت في تلك الليلة إلى القيام للنوم على الأريكة. قالت إنَّ "صوت شخيره كان عاليا فلم أستطع أن أنام". في الصباح التالي تفقَّدته فوجدته مستلقيا على ظهره مفتوح الفم، غائر الوجنتين، رماديّ السحنة كما قالت. علمت أنَّه مات، لم تحتج إلى طبيب لينبئها بذلك. لكنَّها اتصلت بطبيب، ثمَّ اتصلتْ بزوجتي.

من الصور التي احتفظت بها أمِّي لها هي وأبي خلال أيامهما الأولى في واشنطن صورة له وهو واقف أمام سيارة وفي يده كأس بيرة وبضع سمكات اصطادها معلقة في وتر. يرتدي في هذه الصورة قبّعته بالمقلوب، كاشفا عن جبهته، وقد علت وجهه ابتسامته الخرقاء. طلبتها منها فأعطتها لي، هي وأخريات. علَّقتها على الجدار، وصرت كلَّما انتقلت اصطحبتها معي وعلَّقتها على جدار آخر. وكنت بين الحين والآخر أنظر إليها في تمعُّن، محاولا أن أستخلص عن أبي شيئا، وربما عن نفسي في ثنايا ذلك. لكنَّني لم أستطع. ظلَّ أبي يتقدَّم مبتعدا عنِّي أكثر فأكثر، ويتأخَّر في الزمن. وأخيرا، عند انتقالي في إحدى المرَّات، فقدت الصورة. وإذ ذاك حاولت أن أستحضرها، وفي الوقت نفسه سعيت إلى أن أقول شيئا عن أبي، وكيف أنِّي ظننت أننا من بعض النواحي المهمة متشابهان. كتبت القصيدة حينما كنت أعيش في عمارة بمنطقة مدينية في جنوب سان فرانسيسكو، في وقت وجدت نفسي فيه، شأنَ أبي، أعاني اضطرابات بسبب الخمر. كانت القصيدة محاولة للتواصل معه.

صورة أبي في عامه الثاني والعشرين

أكتوبر. هنا في هذا المطبخ الرطب الغريب

أتأمَّل وجه أبي الشاب يعلوه الخجل.

بابتسامة خجلة، يمسك في يد حلقة سمك أصفر شائك

وفي الأخرى زجاجة بيرة كارلسبرج.

 

ببنطال من الجينز وقميص قطني

يتكئ على مقدمة فورد من طراز 1934.

يحلو له أن يظهر في الصور شجاعا وطيبا

من أجل ذريَّته،

على رأسه قبعته القديمة متباهية فوق أذنيه.

أراد أبي طوال حياته أن يكون جريئا.

 

لكن تفضحه العينان،

واليد الواهية

والسمك الميت

وزجاجة البيرة.

 

أبي،

أنا أحبك

لكن كيف أقول لك شكرا

أنا الذي مثلك تعيا يدي عن حمل كأسي

بل ولا أعرف أين أماكن صيد السمك.

 

هذه القصيدة صادقة في جزئياتها، باستثناء أنّ أبي مات في يونيو لا في أكتوبر مثلما تقول أول كلمة في القصيدة. أردت كلمة فيها أكثر من مقطع صوتي لتكون أبطأ قليلا. لكن الأهمّ من ذلك أنّني أردت شهرا ملائما لما شعرت به وأنا أكتب القصيدة، شهرا قصير النهار واهن الضوء، يعلق في هوائه الدخان، وتتبدَّد الأشياء. ويونيو هو أيام الصيف ولياليه، وحفلات التخرج، وذكرى زواجي، وعيد ميلاد أحد أبنائي. يونيو لم يكن بالشهر اللائق لأن يموت فيه أبّ.

بعد انتهاء المراسم في دار الجنائز، وبعد أن خرجنا، جاءت إليَّ امرأة لا أعرفها وقالت "هو الآن أسعد حيثما هو". ظللت ناظرا إلى تلك المرأة إلى أن اختفت. لا أزال أتذكَّر زرا صغيرا في القبَّعة التي كانت تعتمرها. ثم جاء أحد أبناء عمومة أبي ـ ولا أعرف اسم الرجل ـ وأمسك بيدي. قال "كلُّنا نفتقده" وعلمت أنَّه لا يقولها بداعي اللياقة وحده.

بدأت أبكي للمرة الأولى منذ وصلني الخبر. ولم أقو على البكاء قبل ذلك. لأنَّ الوقت، على الأقل، لم يتح لي. وإذا بي فجأة لا أستطيع التوقُّف عن البكاء. عانقت زوجتي وظللت أبكي بينما تقول وتفعل كلَّ ما في وسعها لمواساتي، هناك في عصر ذلك اليوم الصيفي.

سمعت الناس يقولون لأمي عبارات العزاء، وكنت سعيدا بحضور عائلة أبي، ومجيئهم إلى حيث عاش. ظننت أنَّني سوف أتذكَّر كلَّ ما قيل أو حدث في ذلك اليوم وأنَّني قد أجد سبيلا إلى كتابة ذلك في وقت ما. ولم يحدث ذلك. نسيت كلَّ شيء، أو تقريبا كلَّ شيء. ما أتذكَّره بوضوح هو أنَّني سمعت اسمنا يستعمل كثيرا في عصر ذلك اليوم، اسم أبي واسمي. لكنَني علمت أنّهم يتكلّمون عن أبي. ريموند الذي كان أولئك الناس يردِّدونه بأصواتهم الجميلة المنبعثة من طفولتي، ريموند.

 

 

ريموند كارفر (1938-1988) قاص وشاعر أمريكي، يعد من أهم الكتاب الأمريكيين في حياته، من أشهر أعماله "ما الذي نتكلم عنه حينما نتكلم عن الحب" و"الكاتدرائية" وغيرها من المجموعات القصصية الشهيرة.

المقالة المترجمة هنا نشرت في مجلة Esquire سنة 1984 ثم في مجلة Granta سنة 1985، وهي مترجمة عن نسختها المنشورة في طبعة VINTAGE CONTEMPORARIES EBOOK  من كتاب Fires الصادرة سنة 2015.


نشرت الترجمة العربية في مجلة نزوى يناير 2021

الثلاثاء، 6 مايو 2014

الكاتدرائية .. قصة لـ ريموند كارفر

الكاتدرائية
قصة: ريموند كارفر


هذا الأعمى، صديق زوجتي القديم، كان في طريقه ليبيت الليلة عندنا. زوجته كانت قد ماتت، وذهب يزور أقاربها في كونكتيكت، ومن بيت أصهاره اتصل بزوجتي، وتمت الترتيبات: أن يأتي بالقطار، في رحلة تطول لخمس ساعات، وتقابله زوجتي في المحطة. لم تكن زوجتي قد رأته منذ ذلك الصيف الذي قضته في العمل عنده في سياتل قبل عشر سنوات. لكنها بقيت والأعمى على اتصال. فكانا يسجِّلان الأشرطة ويرسلانها بالبريد ذهابا وإيابا. ولم أكن متحمسا لزيارته هذه، فأنا لم أكن أعرفه، ومسألة أنه أعمى كانت تضايقني، لأن فكرتي عن العمى كانت مأخوذة من الأفلام، وفي الأفلام يتحرك العميان ببطء ولا يضحكون أبدا، واحيانا يقودهم كلب مدرَّب، فلم يكن وجود أعمى في بيتي مطمعا من مطامعي.
في ذلك الصيف في سياتل، كانت هي بحاجة إلى وظيفة، فلم تكن لديها نقود على الإطلاق، والرجل الذي كانت على وشك أن تتزوجه كان يدرس في كلية الضباط ولم تكن لديه هو الآخر أية نقود. لكنها كانت تحب الرجل، وهو كان يحبها، وهذا الكلام. ورأت في الجريدة شيئا: مطلوب المساعدة .. القراءة لرجل أعمى، ورقم هاتف. فاتصلت وذهبت وعُيِّنت في التو واللحظة، وظلت تعمل عند هذا الأعمى طول الصيف، تقرأ له، دراسات حالات، وتقارير، وما شابه هذا، وتساعده على تنظيم مكتبه الصغير في إدارة الخدمة الاجتماعية بالمقاطعة. وصارا صديقين حميمين، زوجتي والأعمى. فمن أين أعرف هذه الأمور؟ هي حكت لي. وحكت لي شيئا آخر. أن الأعمى سألها، في آخر يوم لها في المكتب، إن كانت تسمح له بتحسس وجهها. فوافقت. وحكت لي أنه تحسس بأصابعه كل جزء في وجهها، بأنفها، وحتى رقبتها! ولم تنس ذلك مطلقا. بل حاولت أن تكتب عنه قصيدة. وكانت دائما تحاول أن تكتب قصائد، وتكتب واحدة بالفعل أو اثنتين كلَّ عام، ويكون ذلك عادةً بعد أن يقع لها أمر مهم.
عندما بدأنا نتقابل، أرتني قصيدة. وفي القصيدة، كانت تتذكر أصابعه وحركتها في وجهها. وفي القصيدة تكلمت عما شعرت به وقتها، وما خطر لها والأعمى يتحسس أنفها وشفتيها. لا أتذكر أنها أثارت إعجابي كثيرا. طبعا لم أقل لها هذا. فربما كل ما في الأمر أنني لا أفهم الشعر. وأنا أعترف عموما أنه ليس أول ما تمتد إليه يدي حينما ألتقط شيئا أقرؤه.
على أية حال، الرجل الذي كان أول من قطف شهدها، ذلك الضابط باعتبار ما سيكون، كان حبيب طفولتها. ماشي الحال. الذي أقوله هو أنها في نهاية ذلك الصيف تركت الأعمى يمرر يديه على وجهها، ثم ودعته، وتزوجت المحروس الذي كان قد أصبح في ذلك الوقت ضابط صف وسافرت من سياتل. لكنهما ظلا على تواصل، هي والأعمى. فكان أول تواصل بينهما بعد سنة تقريبا، عندما اتصلت به ذات ليلة من قاعدة للقوات الجوية في ألاباما. كانت تريد أن تتكلم. فتكلما. طلب منها أن ترسل له شريطا تحكي له فيه عن حياتها، ففعلت هذا، بعثت الشريط، وفي الشريط حكت  للأعمى عن زوجها وعن حياتهما معا في الجيش. قالت للأعمى إنها تحب زوجها لكن المكان الذي يعيشان فيه لا يعجبها، ولا يعجبها كونه هو جزءا من شغل العسكرية. حكت للأعمى أنها كتبت قصيدة وأنه موجود فيها. وحكت له أنها تكتب قصيدة عن حالتها كزوجة لضابط في القوات الجوية. لم تكن القصيدة انتهت بعد. كانت لا تزال تكتبها. وسجل الأعمى شريطا. وبعث لها الشريط. وسجلت هي شريطا. واستمرا على هذا الحال سنين. وينتقل ضابط زوجتي من قاعدة إلى قاعدة. فترسل هي الشرائط من قواعد القوات الجوية في مودي ومكجير ومكونيل وأخيرا من ترايفيس قرب سكرامنتو حيث شعرت ذات ليلة بالوحدة والانقطاع عن الناس الذين ظلوا يتسربون من حياة الترحال تلك. شعرت أنها غير قادرة أن تخطو خطوة أخرى بعد. فقامت وبلعت كل الحبوب والأقراص في صندوق الأدوية بزجاجة كاملة من الجن، ثم أخذت حماما ساخنا، وغابت عن الوعي.
لكنها بدلا من أن تموت مرضت. تقيأت. ولما رجع ضابطها ـ ولماذا ينبغي أن يكون له اسم وقد كان حبيب الطفولة فماذا يريد أكثر من هذا؟ ـ إلى البيت من حيثما كان، رآها واتصل بالإسعاف. وبعد وقت، وضعت كل ذلك في شريط وبعثت الشريط إلى الأعمى. وبمرور السنوات، كانت تضع كل شيء في الأشرطة وتسارع إلى إرسال الأشرطة. أعتقد أن ذلك كان أفضل تسلية لها بعد كتابة القصيدة السنوية. وفي أحد أشرطتها حكت للأعمى أنها قررت أن تبتعد لبعض الوقت. وفي شريط آخر، حكت له عن طلاقها. وبدأنا أنا وهي نتقابل، وطبعا حكت للأعمى عن ذلك. كانت تحكي له كل شيء، أو ذلك ما بدا لي. ومرة طلبت مني أن أسمع آخر شريط من الأعمى. منذ سنة تقريبا. قالت إنني في الشريط. فقلت ليكن، أسمعه. وجهزّتُ لنا كأسين، وجلسنا في غرفة المعيشة، واستعددنا للاستماع. وضعت الشريط في المسجل أولا، ثم ضغطت زرًّا، وصدر عن الشريط صريرٌ أعقبه شخصٌ يتكلم بصوت جهير. خفَّضتِ الصوت. وبعد دقائق من الثرثرة التي لا ضرر فيها، سمعت اسمي من فم هذا الغريب، هذا الأعمى الذي لم أكن اصلا أعرفه! وبعده هذا: "ومن كلِّ كلامك عنه، كلُّ ما يمكنني أن أستنتجه ..." وقوطعنا، بطرقة على الباب، أو بغيرها، ولم نرجع إلى الشريط. وربما كان هذا حسنا، وأكون سمعت كلَّ ما أردت أن أسمعه.
والآن هذا الأعمى نفسه قادم لينام في بيتي.
قلت لزوجتي "ربما أصطحبه إلى البولنج" وكانت واقفة أمام الطاولة تقطع شرائح البطاطس، فوضعت السكين التي كانت تستعملها واستدارت إليّ.
قالت "لو كنت تحبني، فسأقول لك ما تفعله من أجل خاطري. وإذا كانت لا تحبني، ماشي، لكن لو كان لك صديق، أي صديق، وهذا الصديق جاء في زيارة، سوف أجعله يشعر بالارتياح". وجففت يدها في منشفة الأطباق.
قلت "ليس لي أصحاب عميان".
قالت "ليس لك أصحاب أصلا. نقطة. لكن، يا إلهي، الرجل ماتت زوجته! ألا تفهم هذا؟ الرجل فقد زوجته".
لم أردّ. لم تكن حكت لي الكثير عن زوجة الأعمى. كان اسمها بيولا. وذلك اسم امرأة ملونة.
سألت "أكانت زوجته زنجية؟"
قالت زوجتي "هل جننت؟ عقلك طار مثلا؟" وتناولت ثمرة بطاطس. فرأيتها تصطدم بالأرض ثم تتدحرج حتى أسفل الموقد.  قالت "ماذا فيك؟ أنت سكران؟"
قلت "مجرد سؤال".
فعبّأتني حينذاك زوجتي بتفاصيل أكثرها لم يكن يعنيني. جهّزت كأسا وجلست إلى مائدة المطبخ أسمع. وبدأت نتف القصة تتساقط في المكان.
كانت بيولا قد ذهبت لتعمل عند الأعمى في الصيف التالي لتوقف زوجتي عن العمل عنده. وسرعان ما رتبت بيولا والأعمى لنفسيهما زواجا كنسيا. زواجا بسيطا ـ فمن الذي يريد الذهاب إلى كنيسة أصلا؟ ـ اقتصر عليهما والقسيس وزوجة القسيس. ولكنه زواج كنسي مهما يكن. قال إن بيولا أرادته ذلك. ولكن لا بد أن بيولا في ذلك الوقت كانت تحمل السرطان في غددها. وبعد أن عاشا ثماني سنين ملتصقيْن ـ و"ملتصقين" هذه بتعبير زوجتي ـ بدأت حالة بيولا المرضية تتدهور بحدة. ماتت في غرفة بمستشفى في سياتل، والأعمى جالس جنب سريرها ممسك يدها. تزوجا، عاشا وعملا معا، ناما معا، وأكيد أنهما مارسا الجنس ـ ثم تحتَّم على الأعمى أن يدفنها. كل هذا دون أن يرى نهائيا كيف كان شكلها تلك المرأة اللعينة. كان ذلك يتجاوز قدرتي على الفهم. فلما سمعته أسفت للأعمى قليلا. ثم وجدت نفسي أفكر في الحياة المحزنة التي لا بد أن تكون المرأة عاشتها. تخيلوا امرأة لم تستطع أن ترى نفسها مرة في عيني الرجل الذي تحبه. مرت بها الأيام يوم بعد يوم ولم تحصل على أبسط مجاملة من حبيبها. امرأة لم يستطع زوجها أن يقرأ تعبير وجهها، أهو البؤس أم أي شيء أفضل من ذلك. امرأة كان يمكن أن تتجمل أو لا تتجمل، وهل كانت لتفرق معه؟ كان بوسعها إن شاءت أن تظلِّل عينا واحدة بالأخضر، وتثقب أنفها، وتلبس بنطالا أصفر، وحذاء أرجوانيا، ولا يهم. وبعد ذلك تموت ببساطة، ويد الأعمى على يدها، والدمع ينهمر من عينيه العمياوين ـ أنا الآن أتخيل ـ ولعل آخر فكرة تخطر لها هي أنه لم يعرف قط كيف هو شكلها وأن قطارا سريعا يمرق بها إلى المقبرة. ورث روبرت بوليصة تأمين صغيرة ونصف ورقة نقدية مكسيكية من فئة عشرين بيسو، بينما النصف الآخر منها معها في التابوت. شيء يقطع القلب.
مضى الوقت فذهبت زوجتي إلى المحطة لاصطحابه. ولما لم يكن عندي ما أفعله ـ ولا يلام في هذا طبعا سوى الأعمى ـ جلست أشرب كأسا أمام التليفزيون حتى سمعت السيارة تتوقف في المدخل، فنهضت عن الكنبة وكأسي في يدي ومضيت إلى الشباك ألقي نظرة.
رأيت زوجتي تضحك وهي تركن السيارة. رأيتها تنزل وتغلق بابها. والابتسامة لم تزل على وجهها. بصدقٍ مذهلة. دارت إلى الجانب الآخر من السيارة حيث كان الأعمى بالفعل يستعد للخروج. هذا الأعمى، تخيلوا!، كانت له لحية كاملة! لحية على أعمى! قلت، هذه مبالغة. مدّ الأعمى يده يسحب حقيبة من المقعد الخلفي. أمسكت زوجتي ذراعه، وأغلقت باب السيارة، وظلت تتكلم طول الطريق، وتسوقه عبر المدخل ثم صعودا على السلم وصولا إلى السقيفة الأمامية. أغلقت التليفزيون. وأنهيت كأسي، وشطفته، وجفّفت يدي. ثم ذهبت إلى الباب.
قالت زوجتي "أريدك أن تقابل روبرت. هذا هو زوجي يا روبرت، حكيت لك كل شيء عنه". كانت متوهجة. وتمسك بالأعمى من كم معطفه.
أنزل الأعمى حقيبته ومد يده. تناولتها. شد بقوة على يدي، واستبقاها، ثم أفلتها.
قال هادرا "أشعر كما لو كنا التقينا من قبل فعلا".
قلت "وأنا مثلك". ولم أدر ما الذي يمكن أن أضيفه. ثم قلت "مرحبا. أنا سمعت عنك الكثير". وبدأنا عندها نتحرك، جماعةً صغيرةً، من السقيفة إلى غرفة المعيشة، وزوجتي تسوقه من ذراعه. كان الأعمى يحمل حقيبته بيسراه، وزوجتي تقول أشياء من قبيل "يسارا من هنا. صح. حاسب الكرسي هنا. بالضبط. تفضل اجلس هنا. هذه كنبتنا. اشترينا هذه الكنبة قبل أسبوعين فقط".
بدأت أقول شيئا عن الكنبة القديمة. كنت أحب تلك الكنبة القديمة. لكنني لم أقل أي شيء. ثم أردت أن أقول شيئا آخر، كلاما بسيطا، عن مناظر الرحلة عبر هدسن، وكيف أنك عند الذهاب إلى نيويورك ينبغي أن تركب في جانب القطار الأيمن، وفي جانبه الأيسر وأنت راجع.
قلت "هل كانت رحلتك جيدة في القطار؟ بالمناسبة، في أي جانب من القطار ركبت؟"
قالت زوجتي "يا له من سؤال، أي جانب! وما أهمية أي جانب؟"
قلت "سؤال يا ستي والسلام".
قال الأعمى "في الجانب الأيمن. أنا لم أركب قطارا منذ نحو أربعين سنة. منذ أن كنت طفلا.  مع أهلي. ومر زمن الآن. كنت قد نسيت الإحساس نفسه. عندي الآن شتاء أبيض في لحيتي. أو هذا ما يقال لي يعني" والتفت الأعمى إلى زوجتي يسألها " هل أبدو متميز الشكل يا عزيزتي؟"
قالت "شكلك متميز يا روبرت" وقالت "روبرت أنا مبسوطة أنني أراك".
أخيرا أبعدت زوجتي عينيها عن الأعمى ونظرت إليّ. وبدا لي أنه لم يعجبها ما رأته، لكني هززت كتفيّ.
لم أقابل قط، أو لم أعرف شخصيا، أحدا أعمى. كان هذا الأعمى في أواخر الأربعينيات، بدينا، أصلع، منحني الكتفين كما لو أن عليهما ثقلا. يرتدي بنطالا بنيا، وحذاء بنيا، وقميصا بنيا فاتحا، وربطة عنق، ومعطفا رياضيا. أنيق. وعنده أيضا تلك اللحية المكتملة. لكنه لم يكن يستعمل عكازا ولم يكن يرتدي نظارة سوداء. وكنت أحسب أن النظارة السوداء لازمة للعميان. في الواقع كنت أود لو كان يرتدي واحدة، فللوهلة الأولى بدت عيناه كعيني أي شخص، لكنك لو تمعنت لرأيت فيهما شيئا مختلفا. البياض أكثر، والبؤبؤان يتحركان في المحجرين كما لو كان لا يعرف بأمرهما، أو كما لو كان غير قادر على إيقافهما. مرعب. وأنا أحملق في وجهه رأيت البؤبؤ الأيسر يتحرك باتجاه أنفه بينما الآخر يجاهد للبقاء في مكان واحد. ولكنه جهاد بلا نتيجة، فقد كانت العين تحوم دون أن يعرف بأمرها أو يريده.
قلت "اسمح لي أقدم لك كأسا، ما الذي تحبه؟ عندنا القليل من كل شيء. والليلة سهرة".
قال بسرعة بصوته الضخم "أنا رجل الويسكي يا صاحبي".
صاحبي! قلت "صح. مؤكد أنك كذلك. أنا كنت أعرف".
لمس بأصابعه حقيبته الموضوعة موازية للكنبة. يطمئن عليها. ولا ألومه على ذلك.
قالت زوجتي "سأنقلها إلى غرفتك فوق".
قال الأعمى صائحا "لا. لا بأس. يمكن أن تطلع حينما أطلع أنا".
قلت "قليل من الماء مع الويسكي؟"
قال "قليل جدا".
قلت "كنت أعرف".
قال "شربة. الممثل الأيرلندي، باري فيتزجيرالد؟ أنا مثل هذا الأخ. فيتزجيرالد قال لك عنما أشرب الماء أشرب الماء. وعندما أشرب الويسكي أشرب الويسكي". ضحكت زوجتي. ورفع الأعمى يده إلى ما دون لحيته. فرفع لحيته قليلا ثم تركها تنسدل.
أعددت الكئوس، ثلاثة من الويسكي في كل واحد رشة ماء. وارتحنا في جلستنا ورحنا نتكلم عن رحلات روبرت. أولا الرحلة الجوية الطويلة من الساحل الغربي إلى كونكتيكت، تناولناها. ثم من كونكتيكت إلى هنا بالقطار. وشربنا كأسا آخر على شرف هذه المرحلة من الرحلة.
تذكرت أني قرأت في مكان ما أن العميان لا يدخنون لأنهم، حسب ما تذهب إليه التكهنات، لا يستطيعون أن يروا الدخان الذي ينفثونه. وكنت أحسب أن ذلك أقصى ما أعرفه وما لا أعرف غيره عن العميان.  لكن هذا الأعمى دخّن سيجارته حتى العقب ثم أشعل غيرها. وهذا الأعمى ملأ مطفأته وزوجتي أفرغتها.
عندما جلسنا إلى المائدة لتناول العشاء، شربنا كأسا آخر. وكدّست زوجتي طبق روبرت بمكعبات اللحم، والبطاطس، والفاصوليا الخضراء. ودهنت أنا له قطعتي خبز بالزبد وقلت "لكي يكون خبزا وملحا". تجرعت بعضا من كأسي. قلت "والآن فلنصل" فأحنى الأعمى رأسه، ونظرت إليّ زوجتي فاغرة الفم.
بدأنا الأكل. أكلنا كل ما كان يمكن أكله على المائدة. أكلنا كما لو كان آخر زادنا. لم نتكلم. أكلنا. بنهم. مسحنا المائدة. أكل بلا مزاح. أكل بجدية. حدد الأعمى طعامه على الفور، عرف بالضبط أين يوجد كل شيء في طبقه. شاهدت بإعجاب استعماله السكينة والشوكة في قطع اللحم التي قطع منها اثنتين وراح يتناول القطع بالشوكة، ثم يلحقها بالبطاطس، وتليها الفاصوليا، ثم يأخذ لقمة كبيرة من الخبز بالزبد، ويتبع ذلك كله بجرعة كبيرة من الحليب. ولم يبد أنه يتضايق من استخدام أصابعه بين الحين والآخر.
أجهزنا على كل شيء، بما في ذلك نصف فطيرة بالفراولة. ولبضع لحظات جلسنا وكأننا دائخون. وقد تناثر العرق على جباهنا. وأخيرا، قمنا تاركين المائدة بأطباقها الوسخة، دون أن ننظر وراءنا، أخذنا بعضنا إلى غرفة المعيشة وغصنا من جديد في أماكننا. جلس روبرت وزوجتي على الكنبة. وأنا على الكرسي الكبير. شربنا كأسين ثلاثة أخرى بينما يتكلمان عن أهم ما مر بكليهما في السنوات العشرة الأخيرة. وأنا في أغلب الوقت كنت أنصت. وبين الحين والآخر أنضم إليهما. لم أرده أن يظنني تركت الغرفة، ولم أردها أن تظن أني أشعر أنني مستبعد. تكلما في أشياء وقعت لهما ـ لهما! ـ في هذه السنوات العشر الماضية. وانتظرت بلا جدوى أن أسمع اسمي يخرج من بين شفتي زوجتي الحلوتين: "وظهر زوجي العزيز في حياتي"، أو شيء من هذا القبيل. لكنني لم أسمع شيئا من هذا. لكن مزيد من الكلام عن روبرت. روبرت الذي فعل القليل من كل شيء فيما يبدو، فهو الفهلوي الأعمى. لكن أحدث شيء أنه افتتح هو وزوجته وكالة توزيع خمنت أنهما كانا يعيشان منها، كيفما اتفق. كان الأعمى أيضا مذيعا هاويا في محطة إذاعية، فتكلم بصوته الجهير عن حواراته مع زملائه المذيعين في جوام وفي الفلبين وفي ألاسكا وحتى في تاهيتي. قال إن لديه أصدقاء كثيرين في تلك الأماكن لو أحب أن يزورها. ومن وقت إلى آخر كان يدير نحوي وجهه الأعمى، ويضع يده تحت لحيته، ويسألني عن شيء. كم لي من الزمن في وظيفتي الحالية؟ (ثلاث سنين) هل أحب عملي؟ (لا) هل سأبقى فيه؟ (وما البديل؟) وأخيرا، حينما ظننت أنه بدأ ينفد، قمت وفتحت التليفزيون.
نظرت إلي زوجتي في ضيق، وهو توشك على الاقتراب من درجة الغليان. ثم نظرت إلى الأعمى وقالت "روبرت، عندك تليفزيون؟"
قال الأعمى "يا عزيزتي، أنا عندي اثنان. واحد ملون، وواحد أبيض وأسود، أنتيكة. والظريف أنني حينما أفتح التليفزيون، وأنا أفتحه دائما، أفتح الملون. ظريف، ألا ترى هذا؟".
 لم أدر ما الذي يمكن أن أقوله في هذا. لم يكن لديّ ما أقوله نهائيا فيه. لا رأي. فتابعت نشرة الأخبار محاولا أن أنصت لما يقوله مقدمها.
قال الأعمى "هذا التليفزيون ملون. لا تسأليني كيف، لكنني أعرف".
قلت "غيَّرْنا من فترة"
ارتشف الأعمى من كأسه. رفع لحيته، تشممها، وتركها تسقط. مال إلى الأمام، عدّل موضع مطفأته على المنضدة الصغيرة، ثم أشعل سيجارته. ثم رجع يستند إلى الكنبة وقد فرد ساقيه وأراح إحداهما فوق الأخرى.
غطَّت زوجتي فمها وتثاءبت. تمطّت. قالت "أظن أنني سوف أصعد لألبس الروب. أعتقد أنني سأغيّر ملابسي. روبرت كن على راحتك".
قال الأعمى "أنا على راحتي".
قالت "أريدك فعلا أن تكون على راحتك في هذا البيت".
قال الأعمى "أنا مرتاح".
بعدما غادرت الغرفة، استمعت أنا وهو إلى تقرير الأحوال الجوية ثم جولة الرياضة. وكانت قد تأخرت كثيرا فلم أدر إن كانت سترجع. فكّرت أنها قد تكون نامت. وتمنيت أن تنزل. خفت أن تتركني وحدي مع الأعمى. سألته إن كان يريد كأسا آخر فقال بالتأكيد. ثم سألته إن كان يحب أن يحشّش معي. قلت إنني لففت عدة سجائر. ولم أكن لففت، لكني كنت أخطط أن أفعل ذلك في ثوان.
قال "سأجرب معك".
قلت "صح جدا. هذا هو الكلام".
أخذت كأسي وانتقلت بجانبه على الكنبة، ثم لففت لنا نِمْرَتَيْنِ بدينتين، أشعلت واحدة ومررتها إليها. وضعتها بين إصبعيه، وسحب.
قلت "احبسه قدر ما تستطيع". كان واضحا أنه لا يعرف الأوليات.
نزلت زوجتي على السلم بالروب الوردي والشبشب الوردي.
قالت "ما الذي أشمه؟"
قلت "رأينا أن ندخن بعض الحشيش".
ألقت عليّ زوجتي نظرة متوحشة. ثم نظرت إلى الرجل وقالت "روبرت، لم أكن أعرف أنك تحشش".
قال "الآن أصبحت أحشش. هذه هي المرة الأولى في كل شيء. لكنني لا أشعر بشيء بعد".
قلت "هذه نوعية هادئة جدا. معتدلة تماما. نوعية تفكر وأنت تدخنها. لا تجعلك تفقد تركيزك"
قال وهو يضحك "لا يبدو هذا يا صاحبي".
جلست زوجتي على الكنبة بين الأعمي وبيني. مررت النمرة إليها، فأخذتها، وسحبت نفسا، وأرجعتها لي. قالت "هي السيجارة ماشية بأي طريقة؟" ثم قالت "لم يكن ينبغي أن أدخن معكما. أنا أساسا لا أستطيع أن أفتح عيني. ذلك العشاء أجهز عليّ. ما كان ينبغي أن أكثر هكذا".
قال الأعمى "فطيرة الفراولة. هي التي فعلت هذا" وضحك ضحكته الهادرة. ثم هز رأسه.
قلت "لا يزال هناك منها".
قالت زوجتي "هل تريد المزيد منها يا روبرت؟"
قال "ربما بعد قليل".
ركزنا مع التليفزيون. تثاءبت زوجتي مرة أخرى. قالت "سريرك جاهز لك وقتما تريده يا روبرت. أعرف أن يومك كان طويلا بلا شك. عندما تكون مستعدا للنوم قل هذا". وشدت ذراعه "روبرت؟"
أفاق وقال "أنا مستمتع فعلا بوقتي. هذا يعلو على الشرائط، أليس كذلك؟"
قلت "وأنا في الطريق إليك" ووضعت النمرة بين أصابعه، فسحب، واستبقى الدخان، ثم زفره، وبدا كأنه يفعل ذلك منذ أن كان في التاسعة.
قال "شكرا يا صاحبي. لكن يهيأ لي أني أخذت كفايتي. بدأت أشعر به". وناول زوجتي الصرصور المشتعل.
قالت "شرحه. مثله. أنا أيضا." وتناولت الصرصور منه وناولته لي. قالت "سأبقى جالسة هنا بينكما أنتما الاثنان وأنا مغمضة. على أن لا يضايقكما هذا، تمام؟ أنت أو هو. فإن تضايق أحد يقول. وأبقى جالسة هنا بينكما مغمضة إلى أن تستعدا للنوم. سريرك جاهز يا روبرت وقتما تريده. بجوار غرفة نومنا في الطابق الأعلى. سنريك إياه حينما تكون مستعدا. وأيقظاني إذن لو غلبني النوم" وأغمضت وغلبها النوم.
انتهت نشرة الأخبار. قمت وغيَّرت المحطة. عدت فجلست على الكنبة. تمنيت لو لم تقع منا زوجتي. كان رأسها مرتخيا على مسند الكنبة، وفمها مفتوح. تحركت فانحسر الروب عن ساقيها معريا فخذا ريانا، مددت يدي أغطيها بالروب، ووقتها وقعت عيني على الأعمى. لماذا بحق الجحيم؟! وكشفت ثانية عن ساقها.
قلت "أخبرني حينما تريد قطعة من فطيرة الفراولة".
قال "أكيد"
قلت "تعبت؟ هل تريد أن أصطحبك إلى سريرك؟ مستعد لترتطم بالقش؟"
قال "ليس الآن. لا، سأسهر معك يا صاحبي. لو هذا يناسبك. سأبقى سهران إلى أن تكون أنت مستعدا للنوم. الفرصة أصلا لم تسنح لنا للكلام. فاهم قصدي؟ أشعر أنني وهي احتكرنا المساء". رفع لحيته وتركها تسقط. تناول سجائره وولاعته.
قلت "تمام" ثم قلت "أنا سعيد برفقتك".
وأعتقد أنني كنت كذلك فعلا. فقد كنت في كل ليلة أحشش وأسهر قدر ما أستطيع إلى أن أقع نائما. ونادرا ما أذهب أنا وزوجتي إلى السرير في وقت واحد. وحينما أذهب أخيرا إلى السرير تنتابني هذه الأحلام، وأحيانا أستيقظ بسببها وقد مس قلبي الجنون.
كان شيء ما عن الكنيسة والعصور الوسطى على التليفزيون. ليس اللغو التليفزيوني المعتاد. أردت أن أشاهد شيئا آخر فغيرت بين المحطات، ولم أجد عليها شيئا أيضا. فرجعت إلى القناة الأولى واعتذرت.
قال الأعمى "لا بأس يا صاحبي. لا يفرق معي. أي شيء تريد مشاهدته لا بأس به. فدائما ما أتعلم شيئا ما. التعلم لا ينتهي أبدا. ولن يضيرني أن أتعلم شيئا الليلة، فعندي أذنان".
مر وقت دون أن نقول أي شيء. كان يميل إلى الأمام ورأسه ملتفت باتجاهي، وأذنه اليمنى موجهة إلى التليفزيون. منتهى الإزعاج. وبين الحين والآخر ينهدل جفناه ثم ينفتحان من جديد. بين الحين والآخر يضع إصبعه في لحيته ويعبث بها كما لو كان يفكر في شيء يسمعه من التليفزيون.
على الشاشة، جماعة من الرجال في مسوح الرهبان يهاجمهم ويعذبهم من يلبسون كالهياكل العظمية والشياطين. كان لابسو أزياء الشياطين يغطون وجوههم بأقنعة الشياطين، وقرونهم، وكانت لهم ذيول طوال، وذلك جزء من مهرجان قال الإنجليزي قارئ التعليق إنه كان يقام سنويا في أسبانيا. حاولت أن أشرح للأعمى ما كان يجري.
قال "هياكل عظمية. أعرف بأمر الهياكل العظمية". وأطرق. ظهرت على التليفزيون تلك الكاتدرائية. وبعد ذلك منظر طويل وبطيء لكاتدرائية أخرى. وأخيرا انتقلت الصورة إلى كاتدرائية باريس المشهورة، بدعاماتها الطائرة وأبراجها الراشقة في السحب. وتراجعت الكاميرا حتى أظهرت الكاتدرائية كاملة وقد علت على الأفق.
كانت تمر أوقات على الإنجليزي قارئ التعليق يخرس فيها تماما، ويترك الكاميرا تتحرك وحسب بين الكاتدرائيات. أو تتجول في الريف، فإذا الرجال في الحقول وراء ثيرانهم. وتمهلت قدر ما استطعت. ثم شعرت أنني لا بد أن أقول شيئا، فقلت "إنهم يعرضون الآن الكاتدرائية من الخارج. هناك ميازيب.  وتماثيل صغيرة محفورة على شكل وحوش. أخمّن أن يكونوا الآن في إيطاليا. فعلا، هم في إيطاليا. هناك لوحات على جدران هذه الكنيسة".
"أهي من الجص يا صاحبي؟" وارتشف من كأسه.
تناولت كأسي. لكنه كان خاويا. حاولت أن أقلب ذاكرتي ما استطعت وقلت "تسألني إن كانت اللوحات من الجص؟ سؤال جيد. لا أعرف".
انتقلت الكاميرا إلى كاتدرائية خارج لشبونة. لم تكن الاختلافات بين الكاتدرائية البرتغالية والكاتدرائيات الفرنسية الإيطالية بالاختلافات الجسيمة. لكنها كانت موجودة. أغلبها في المظاهر الداخلية. ثم خطر لي خاطر فقلت "خطر لي خاطر. هل لديك أدنى فكرة عما هي الكاتدرائية؟ أقصد كيف هو شكلها؟ أنت فاهمني؟ عندما يقول لك شخص الكاتدرائية، فهل تكون لديك أدنى فكرة عن أي شيء يتكلم؟ هل تعرف الفارق بينها وبين كنيسة معمدانية مثلا؟"
ترك الدخان يتدفق من فمه وقال "أعرف أن بناءها كان يقتضي مئات العمال على مدار خمسين أو مائة سنة. سمعت رجلا يقول ذلك بالطبع. أعرف أن أجيالا من نفس العائلات كانت تعمل في بناء الكاتدرائية. هذا أيضا سمعته منه. الرجال الذين كانوا يبدأون العمل في كاتدرائية نادرا ما كانوا يعيشون حتى يروا عملهم مكتملا. وبهذا المعنى يا صاحبي، لا فرق بينهم وبيننا، أليس كذلك؟" وضحك. ثم انهدل جفناه من جديد. وأطرق رأسه. بدا أنه نعس. ربما كان يتخيل نفسه في البرتغال. كان التليفزيون يعرض الآن كاتدرائية أخرى. وهذه كانت في ألمانيا. حسبما قال الإنجليزي بصوته الرتيب. قال الأعمى وقد اعتدل وحرك رأسه إلى الخلف وإلى الأمام "الكاتدرائيات يا صاحبي لو جئت للحق، هذا كل ما أعرفه عنها تقريبا. هذا الذي قلته حالا. ما سمعته يقوله. لكن ربما تصف لي واحدة؟ أتمنى لو أنك تفعل. سأحب هذا. لو كان يهمك أن تعرف، أنا فعلا  ليست عندي أدنى فكرة".
حملقت بقوة في منظر الكاتدرائية المعروض على الشاشة. كيف يمكنني أصلا أن أبدأ في وصفها؟ لكن ماذا لو كانت حياتي تتوقف على هذا؟ ماذا لو أن مجنونا يهدد حياتي ويقول إما أن أصفها وإلا؟
حملقت أكثر في الكاتدرائية قبل أن تقفز الصورة إلى الريف. لم أر فائدة. التفت للأعمى قائلا "بداية، هي عالية جدا" ورحت أنظر حولي في الغرفة بحثا عن إشارات. "ترتفع إلى أعلى. عاليا، عاليا. نحو السماء. هي ضخمة جدا، البعض منها كذلك، وعندها تلك الروافع. التي تعينها على الارتفاع طبعا. هذه الروافع اسمها الدعامات. وهي تذكرني بالقناطر، لسبب ما. لكنك ربما لا تعرف القناطر أيضا، صح؟ أحيانا تكون في واجهات الكاتدرائيات شياطين محفورة وما إلى ذلك. أحيانا سيدات وسادة. لا تسألني لماذا".
كان مطرقا. وبدا النصف العلوي من جسمه يتحرك إلى الوراء وإلى الأمام.
قلت "ممتاز طبعا، اليس كذلك؟"
كف عن إطراقه ومال إلى الأمام باتجاه طرف الكنبة. كان وهو ينصت لي يمرر أصابعه في لحيته. لم يصله شيء مني، وهذا كان واضحا لي. لكنه ظل ينتظر أن أواصل بطريقتي. أطرق كما لو كان يحاول أن يشجعني. حاولت أن أفكر ما الذي سوف أضيفه. "هي ضخمة جدا" قلت "هائلة يعني. مبنية من الحجر. وأحيانا من الرخام أيضا. في تلك الأيام البعيدة، أيام كانوا يبنون الكاتدرائيات، كان الناس يريدون أن يتقربوا إلى الرب. في تلك الأيام البعيدة كان الرب جزءا مهما من الحياة اليومية. يمكنك أن تعرف هذا من بناء الكاتدرائيات. أنا آسف يا أخي، إنما الظاهر أن هذا أقصى ما عندي. واضح أنني لا أجيد هذا".
قال الأعمى "بل هو جيد يا صاحبي. شوف، اسمعني، أرجو ألا يكون لديك مانع أن أسألك. هل يمكنني أن أسألك شيئا؟ دعني أسألك سؤالا بسيطا، بنعم أولا. الأمر أن لدي فضولا وليس في السؤال إهانة. أنت مضيفي. لكني دعني أسألك هل أنت متدين على أي نحو؟ أليس لديك اعتراض على سؤالي؟"
هززت رأسي، ولم يكن بوسعه أن يرى هذا. والغمز بالعين كالإيماء بالرأس بالنسبة للأعمى. قلت "أعتقد أنني لا أومن به. ولا بشيء. وهذا صعب في بعض الأحيان. تفهم ما أقول؟"
قال "أكيد"
قلت "بالضبط"
كان الإنجليزي لا يزال يلوك كلامه. تنهدت زوجتي في نومها. أخذت نفسا طويلا ثم واصلت نومها.
قلت "عليك أن تسامحني. لكنني لا أستطيع أن أقول لك كيف هو شكل الكاتدرائية. أنا فقط غير مؤهل لعمل هذا. لا أستطيع أن أفعل أكثر مما فعلت".
جلس الأعمى في غاية السكون، مطرق الرأس، ينصت لي.
قلت "الحقية أن الكاتدرائيات لا تعني لي أي شيء خاص. لا شيء. كاتدرائيات. هي مجرد أشياء يراها الواحد في آخر الليل في التليفزيون. هذه هي الكاتدرائيات عندي".
في تلك اللحظة تنحنح الأعمى. وصادفه ما تناول من أجله المنديل من جيبه الخلفي. ثم قال "فهمت يا صاحبي، لا بأس. يحدث. لا تقلق نفسك". وقال "شوف، اسمعني. هل يمكنك أن تسدي لي معروفا؟ خطرت لي فكرة. لم لا تحضر لنا بضع ورقات ثقيلة؟ وقلما. سنفعل شيئا. سنرسم واحدة معا. هات قلما وبضع ورقات ثقيلة. هيا يا صاحبي أحضر الحاجة".
فصعدت. بدا وكأنما لم يبق في ساقي أدنى قوة. شعرت فيهما بما أشعر به بعد أن أجري. بحثت في غرفة زوجتي. وجدت بعض أقلام الحبر في سلة على مكتبها. ثم بدأت أفكر أين يا ترى يمكن أن أجد نوعية الورق التي كان يتكلم عنها.
أسفل، في المطبخ، عثرت على كيس تسوق في قعره قشر بصل، فأفرغته منه، وهززته جيدا، وأخذته إلى غرفة المعيشة فجلست به بجوار قدميه. أبعدت بضعة أشياء، وفردت ثنيات الكيس، وبسطته على المنضدة.
نزل الأعمى فجلس بجانبي على السجادة أسفل الكنبة. مرر أصابعه على الورقة. من أعلى إلى أسفل ومن الجنب إلى الجنب، والحواف، حتى الحواف. والأركان أيضا تحسسها بأصابعه.
قال "تمام. تمام، فلنرسمها".
تناول الأعمى يدي، اليد التي فيها القلم. طبّق يده فوق يدي وقال "هيا يا صاحبي، ارسم. سأتتبعك، وكل شيء سيكون على ما يرام، أنت ابدأ الرسم فقط وأنا سوف أخبرك. سترى. هيا ارسم".
فبدأت. رسمت في البداية صندوقا يشبه بيتا، كان يمكن أن يكون البيت الذي أعيش فيه. ثم رسمت من فوقه سطحا عند كلا طرفيه رسمت أبراجا. شيء جنوني.
قال "جميل. رائع. أداؤك جيد. ما كان يخطر لك أن يحدث في حياتك شيء كهذا يا صاحبي، صح؟ يعني، الحياة غريبة، ونحن نعرف هذا. والآن استمر. أكملها يا صاحبي".
وضعت شبابيك وأقواسا. رسمت دعامات طائرة. أضفت أبوابا ضخاما. لم أستطع أن اوقف نفسي. انتهى البث التليفزيوني. وضعت القلم وثنيت أصابعي وفردتها. تحسس الأعمى الورقة. حرك أنامله على الورقة، على كل ما رسمته، مطرقا.
قال الأعمى "أداء طيب".
تناولت القلم من جديد، وعثر هو على يدي. مضيت. أنا لست رساما، ولكني مضيت أرسم كما أنا.
فتحت زوجتي عينيها وحدقت فينا. جلست على الكنبة وروبها مفتوح. قالت "ماذا تفعلان؟ أخبراني، أريد أن أعرف".
لم أرد.
قال الأعمى "نرسم كاتدرائية. أنا وهو نعمل عليها" وقال لي "اضغط بقوة. هذا حسن. هذا جيد. مؤكد أنك فعلتها يا صاحبي. أنا عارف. لم تكن تحسب أنك تقدر على ذلك، لكن ها أنت قدرت، أليس كذلك؟ أنت الآن ارتقيت إلى العمل بالغاز. فاهم ما أقصد. سنصنع لأنفسنا شيئا ما هنا في ثوان. وكلمني عن الذي ليس رساما. والآن ضع بعض الناس هناك. فأي كاتدرائية بلا ناس؟"
قالت زوجتي "ماذا يجري؟ ما الذي تفعله يا روبرت؟ ماذا يجري؟"
قال لها "لا شيء. كل شيء تمام" وقال لي "الآن أغمض".
فعلت. امتثلت لما قاله وأغمضت.
قال "أغمضت؟ ليس فينا من غش".
قلت "أغمضتهما".
قال "أبقهما مغمضتين. والآن لا تتوقف. ارسم".
وظل كما هو، أصابعه فوق أصابعي تمضي على الورقة. شيء لم يسبق له مثيل في حياتي.
ثم قال "أعتقد أننا انتهينا. أعتقد أنك فعلتها. ألق نظرة. ما رأيك؟"
ولكنني كنت مغمضا. ورأيت أنني قد أبقى مغمضا لوهلة. رأيت أن ذلك ما يجدر بي أن أفعله.
قال "هاي، هل أنت ناظر؟"
كنت لا أزال مغمضا. كنت في بيتي. وأعرف هذا. ولكنني لم أشعر وكأنني في حيز.
قلت "يا له من شيء، يا له من شيء".
1983