بدلا من سيرتها الذاتية تصدّر سفيتلانا
ألكسيفيتش موقعها على الإنترنت، بالسطور التالية التي تصلح مدخلا كاشفا لرؤيتها لكتبها
خاصة، وللكتابة عامة
بدلا من سيرة
سفيتلانا ألكسيفيتش
أبحث عن نوع أدبي يكون الأنسب لرؤيتي
للعالم، يعبّر عما تسمعه أذناي وما تراه عيناي من الحياة. جرّبت هذا وذاك، وانتهيت
أخيرا إلى نوع تتكلم فيه الأصوات البشرية مع أنفسها. في كتبي، بشر حقيقيون يتكلمون
عن الحوادث الكبرى في العصر، كالحرب، أو كارثة تشيرنوبل، أو سقوط امبراطورية
عظيمة. يسجلون معا تاريخ البلد، وتاريخهم المشترك، إذ يضع كل منهم في كلمات قصة
حياته أو قصة حياتها. فاليوم وقد أصبح الإنسان والعالم كثيري الأوجه، شديدي
التنوع، أصبحت الوثيقة في الفن متزايدة الإثارة والأهمية، بينما يثبت ضعف الفن
بشكله المألوف. الوثيقة تقرّبنا من الواقع إذ تقتنص الأصول وتستبقيها. وبعد عشرين
عاما من العمل على المادة الوثائقية وتأليف كتب بناء عليها أعلن أن الفن فشل في
فهم أشياء كثيرة عن البشر.
لكنني لا أسجل وحسب تاريخا جافا للأحداث والوقائع،
إنما أكتب تاريخ المشاعر البشرية. ما يفكر الناس فيه ويفهمونه ويتذكرونه من الحدث.
ما يؤمنون به ويسيئون فهمه، ما يتوهمونه، ويرجونه، ويخشونه، ويختبرونه. هذا ما
يستحيل تخيله أو ابتكاره، بحجم التفاصيل الحقيقية. إننا سرعان ما ننسى كيف كنا قبل عشرة أعوام أو
عشرين أو خمسين. وفي بعض الأحيان نخجل من
ماضينا ونرفض أن نصدق ما جرى لنا في الواقع الفعلي. والفن قد يكذب، أما الوثيقة
فلا. برغم أن الوثيقة أيضا نتاج إرادة شخص ما وهواه. إنني أؤلف كتبي بآلاف
الأصوات، والمصائر، والشذرات، المؤلفة لحياتنا ووجودنا. وأحتاج ما بين ثلاث سنوات
وأربع لتأليف كل كتاب. أجري اللقاءات وأسجل الحوارات مع ما بين خمسمائة شخص
وسبعمائة في كل كتاب. تاريخي يحتضن العديد من الأجيال. يبدأ من ذكريات من شاهدوا
ثورة 1917، ويمر بالحروب وجولاجات [معتقلات] ستالين، ويصل إلى الزمن الحاضر. فهو
قصة روح سوفييتية روسية واحدة.
كتابي الأول هو "وجه الحرب غير الأنثوي"
أكثر من مليون امرأة سوفييتية شاهدن ما جرى في
الخطوط الأمامية للحرب العالمية الثانية. تراوحت أعمارهن ما بين الخامسة عشرة
والثلاثين. برعن في العديد من المهن العسكرية، صرن ملاحات، وسائقات دبابات، وحاملات
رشاشات، وقناصات، وأشياء أخرى كثيرة. لم يكن فقط ممرضات أو طبيبات كما في الحروب
السابقة. ولكن الرجال نسوا النساء بعد الحرب. سرق الرجال النصر من النساء.
في كتابي تتكلم النساء المجندات عن هذه الجوانب من
الحرب التي لم يأت الرجال بذكر لها. نحن لا نعرف شيئا عن مثل هذه الحرب. الرجال
وصفوا بطولاتهم بينما تكلّم النساء عن شيء آخر. فعلى سبيل المثال، كم كان مرعبا
السير بطول حقل مغطى بجثث القتلى، مبعثرة كالبطاطس، وكلها لشباب. إن المرأة لتأسف
لهم جميعا، الروس منهم والألمان.
وبعد الحرب، كان على النساء أن يخضن حربا أخرى.
أخفين هوياتهن العسكرية وشهاداتهن، وجراحهن، لأنهن أردن أن يتزوجن.
كتابي الثاني هو "الشهادة
الأخيرة: كتاب القصص غير الطفولية"
هذه ذكريات حربية لأولئك الذين كانوا فيما بين
السابعة والحادية عشرة في زمن الحرب. هي الحرب موصوفة من خلال عيون الأطفال
البريئة. ولقد قال دوستويفسكي مرة إن الخير العام لا قيمة له إن كان ثمنه دمعة على
خد طفل.
الكتاب الثالث هو "صبية في
الزنك"
هذا كتاب عن الحرب السوفييتية الأفغانية التي استمرت
عشرة أعوام. وقوامه قصص يحكيها أكثر من مائة ضابط وجندي ممن شاركوا في هذه الحرب
غير المفهومة، وأرامل أيضا وأمهات لضحايا الحرب. نتعلم كيف تصادم عالمان ـ الشرق
والغرب ـ في نزال قاسٍ ويائس. أي نوع من الحرب كانت، وما الذي كان يفكر الناس فيه
آنذاك، كيف قتلوا بعضهم البعض، وكيف كدحوا جميعا من أجل البقاء. "حتى الوقت
كان يمر هناك مرورا مختلفا، نتيجة الحائط نفسها كانت مختلفة: رجع بنا الزمن قرابة
مائتي عام". ذلك ما ظللت أسمعه مرارا وتكرارا في كثير من القصص.
يطالع القراء هذا الكتاب كما لو كان مكتوبا الآن لا
في زمن الحرب، كما لو كان مكتوبا لنا، نحن الشهود على مأساة الحادي عشر من سبتمبر
حينما تغيّر العالم تغيُّرا جذريا في يوم واحد. يتراجع الكتاب بدلا من أن يتقدَّم،
وصولا إلى المسلح لا الأعزل. يقول أحد الشخصيات في النهاية: "لن يرغب أحد ممن
كانوا هناك أن يقاتل من جديد. عليكم أن تقاتلوا الأفكار لا الناس. اقتلوا الأفكار،
التي تجعل عالمنا مخيفا طاردا، واتركوا الناس وشأنهم".
أليس هذا ما في عقل كل واحد فينا اليوم؟
صلاة تشيرنوبل: تواريخ المستقبل
عالم مختلف ذلك الذي نعيش فيه بعد كارثة تشيرنوبل.
في الحقيقة أن كارثتين وقعتا في الوقت نفسه تقريبا، إحداهما ذات بعد كوني في
تشيرنوبل، وأخرى اجتماعية حينما هوت أرض الاشتراكية الهائلة. ولقد طغت الثانية على
الأولى لأنها كانت شاغلا فوريا لنا جميعا، وأيسر على أفهامنا. ولكن ما حدث في
تشيرنوبل كان الكارثة الأولى من نوعها، فنحن أول من يمرون بها. ونحن نعيش معها
الآن، وشيء ما يجري لنا: معادلة الدم والشفرات الجينية تغيّرت، آفاق كاملة مألوفة
لم تعد كذلك. ولكننا كي نفهم ما يجري، نحتاج إلى خبرة بشرية مختلفة وأداة داخلية
مختلفة، هي غير موجودة بعد. عيوننا وأنوفنا لا تستشعر بعد العدو الجديد، العدو
الوافد من المستقبل: الإشعاع. حتى كلماتنا ومشاعرنا لم تتكيف بعد مع ما جرى، وكل
تجربتنا مع المعاناة، أعني التجربة وراء تاريخنا كله، لا نفع لها الآن. فمقياسنا
للرعب لا يزال نفسه: الحرب. ووعينا لم يتوغل إلى أعمق من هذا، لا يزال ساكنا عند
العتبة. وما جرى في تشيرنوبل أسوأ كثيرا من الجولاج ومن الهولوكوست.
من الصعب أن ندافع عن أنفسنا ضد المجهول، ضد ما لا
تألفه البشرية. لقد غيّر تشيرنوبل علاقتنا بالزمن. تعبيران من قبيل
"أبدا" و"إلى الأبد" ممتلئان الآن بمعنى مختلف ومادة أخرى. كل
أفكارنا عن الكوارث الكبيرة والصغيرة لم تعد ذات جدوي، وقد اختلس الإنسان نظرة إلى
هوة الكون. لقد حرمنا الخلود في غمضة عين. سكن الزمن فوق عالم الموتي وصار ما كان
عليه دائما: الأبد.
يوم ما، هو يومنا، هو يوم تشيرنوبل، أضحى أسطورة.
ولسوف تنظر الأجيال الجديدة وراءها فترانا وتتساءل كيف جرى ذلك كله، وأي نوع من
البشر كانوا يعيشون وقتها، وما الذي كانوا يشعرون به أو يفكرون فيه، وكيف كانت
علاقتهم بما بقي في ذاكرتهم.
الإنسان والحدث، هل يستويان؟ هل يمكن ذلك؟ الأحداث في
علاقة الشخص بها تؤلف حياته أو حياتها، ولكن الأحداث في علاقة الكثيرين بها هي
التي تؤلف التاريخ. وتاريخ تشيرنوبل لم يزل في طور الكتابة. وهذا لغز على القرن
الحادي والعشرين أن يعثر على حل له.
الغزال الرائع والصيد الأبدي
في هذا الكتاب حكايات مائة رجل وامرأة عن رغبات
البشر وإخفاقاتهم وسعادتهم. ولكن ما الذي سيصادفه القارئ في هذا الكتاب؟ أن كل
الأشياء مصيرها الذكريات. وأن كل حياة تنطوي بطريقتها الخاصة على إثارتها. وأنه لا
فهم للحياة بغير الموت. وأن الحب يغوص بنا في أعماق ذواتنا. وأن البشر لا هم
قديسون ولا شياطين لكنهم قائمون بين هؤلاء وأولئك. أن معرفتنا لا حول لها ولا قوة.
وأن الناس في الحب تبحث عما تبحث عنه في الحرب وفي الجريمة. وأن كل واحد فينا يخفي
بداخله الرجال والنساء. وأننا نعيش وسط ظلال، بين المحال وما لا وصول إليه. وأنك
في الحب قد تختفي كما في الموت. وأن الحياة الحقيقية وموت الجسد كليهما يستعصيان
علينا. وأن المسيح كان أيضا بشرا. وأن بوسعك أن تموت من الحب وسط الحرب. وأن كل
إنسان قد يتذكر ما يود لو يخفيه. وأن كل كائنات هذا العالم يحب أحدها الآخر ـ
الزهور، والشجر، والفراشات، والديدان، والطيور. وأنه ما لتكنولوجيا حديثة أن
تحررنا من احتياجنا إلى الحب، والإحساس، والمعاناة. وأنه ليس بوسعنا أن نعتاد فكرة
أن كل شيء محدود بدوام حياتنا. وأن هناك رجالا يدركون كم هو أمر مثير أن يكون
الإنسان امرأة. وأن زمن الحب يسري فينا فيختلف سريانه عن الزمن العادي في حياتنا.
وأن الناس يتوقون إلى الخلود. وأن الألغاز البشرية هشة ولا ترحم. وأن الألم فن.
وأن موتنا البسيط شديد القرب. وأن كل ما هو روسي يملؤه الحزن.
نقلا عن موقع الكاتبة http://www.alexievich.info
نشرت الترجمة في عدد سبتمبر/أكتوبر 2015 من عالم
الكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق