كيف
تكتب: عام من النصائح
جو
فاسلر
تحاورت
على مدار عام مع قرابة خمسين كاتبا مختلفا لسلسلة " عن ظهر قلب" [By Heart] الأسبوعية المعنية بتناول
المقتطفات الأثيرة والأبيات العزيزة لدى الكتَّاب. أطلعنا كل كاتب على الفقرات
التي ساهمت في تشكيله، أو في تغيير حياته، والتي ساعدته على مواصلة ممارساته
الإبداعية طوال حياته أو حياتها. كانت مشاركاتهم منتقاةً بعناية، وشديدةَ الشخصية.
وعلى الرغم من أنني كنت أبدأ كل مرة بطرح السؤال نفسه على كل واحد فيهم ـ ما السطر
العزيز عليك؟ ـ إلا أن أجوبتهم لم تنتظم قط في صيغة واحدة.
وتجتمع
مشاركاتهم فإذا بها أشبه بحضور برنامج للكتابة الإبداعية، أنا شخصيا تعلمت منهم
الكثير. وإليكم هنا بعض أفضل الفقرات القصار المتضمنة نصائحهم الكتابية على مدار 2013،
عام كامل من النصائح الثمينة.
***
ذكّرنا
خالد حسيني (مؤلف "عداء الطائرة الورقية" ومؤلف "وردَّد الجبل
الصدى" الصادرة هذا العام) أننا لا نستطيع الاقتراب إلا من الكتاب الذي نرغب
في كتابته، وبأن المنتَج النهائي لا يمكن أن يقتنص إثارة الفكرة الأولى. في محاولة
منه لتفسير الإحباط المعتاد في الكتابة أشار حسيني إلى هذه السطور التي كتبها ستيفن
كينج:
"أهم
الأشياء أعصاها على اللغة. الأشياء التي تخجل أن تذكرها، لأن الكلمات تختزلها،
وبعد أن تكون في رأسك غير محدودة، إذا بها بخروجها تصير حبيسة نطاق وحجم. ولكنها
أكبر من ذلك، أم ماذا؟ أهم الأشياء هي التي تكمن على مقربة من ذلك الموضع الغامض
المدفون فيه قلبك السري، كأنها علامات هادية إلى كنز يود أعداؤك لو يسلبونك
إياه".
يقول
خالد حسيني:
يكتب
المرء لأن في عقله فكرة يشعر أنها شديدة الأصالة، شديدة الأهمية، شديدة الصدق. ثم
إن هذه الفكرة تمر ـ بمضي الوقت ـ عبر مرشّحات عقله المختلفة، ومنها إلى يده،
ومنها إلى الصفحة أو شاشة الكمبيوتر، فإذا بها تشوهت، وإذا بها تقلّصت. وتكون
الكتابة التي ينتهي إليها المرء ـ لو حالفه الحظ ـ مجرد اقتراب من الفكرة الأصلية
التي كان يريد أن يقولها.
عندما
يحدث هذا، فإنه يكون تنبيها رقيقا لك بمحدوديتك ككاتب. يمكن أن يكون أمرا محبطا
إلى أقصى حد. حينما أكتب، تخطر
لي في بعض الأحيان فكرة نقية، راسخة، تعبر من رأسي إلى الشاشة، واضحةً، كأنما هي
مارة عبر زجاج. وينتابني إذ أقوم بتوصيل فكرة بالغة الصدق والواقعية كهذه الفكرة،
إحساس قاتل بالبهجة الفائقة. لكنه أمر لا يحدث كثيرا. (ولا أتصور إلا أن بعض
الكتاب فقط هم الذين يكتبون بهذه الطريقة طول الوقت. وأعتقد أن هذا هو الفارق بين
العظمة ومجرد الجودة).
حتى الكتب التي أنهيتها ما هي إلا مقاربات لما كان في
نيتي بالفعل. أحاول أن أضيِّق الفجوة، بقدر ما أستطيع، بين ما أردت أن أقول وما هو
فعلا على الصفحة. وتبقى برغم ذلك فجوة، موجودة دائما. وذلك أمر صعب، شديد الصعوبة.
وفيه مذلة.
ولكن من أجل هذا وجد الفن، لكي يتجاوز كلٌّ من القارئ
والكاتب حدوده ويجد نفسه أمام شيء ما حقيقي. يبدو أمرا إعجازيا، أليس كذلك؟ أن
يتسنى لشخص إيضاح شيء ما بغاية الجمال والصفاء، ويتبين أن هذا الشيء كان بداخلك
أنت، بداخلك لكنه محاط بضباب لا نفاذ له. غير أن الفن العظيم ينفذ، يصل إلى ذلك
القلب السري، ويبيّنه لك، ويمسكه أمام عينيك. ويكون تجليا، وانكشافا، حينما تقع لك
هذه التجربة المؤثرة. تشعر أنك بت مفهوما، بت مسموعا، ومن أجل ذلك نسعى إلى الفن،
فنشعر أننا أقل وحدة. نكون أقل
وحدة. فبالفن ترون أن الآخرين يشعرون بمثل ما تشعرون به، فتطمئن قلوبكم.
***
يعترض "جيم شيفرد"، مؤلف "الحب
والهيدروجين"، على الحكمة الأدبية المستقرة منذ عهد جويس، وهي أن القصص
القصيرة ينبغي أن تقام حول تجلٍّ· تتغير به الحياة. في قراءته لقصة "رجل
طيب يصعب العثور عليه" الكلاسيكية لفلانري أوكونور يرى أن لحظات البصيرة لا
تدوم، ومعرفته بذلك كانت مفتاحه إلى نحت شخصيات واقعية.
في قصتها، تنتقل أوكونور من كوميديا عائلية ساخرة إلى
اكتشاف قاس، بينما تقود الجدة عائلتها الغاضبة في رحلة عبثية في ريف جورجيا. فيما
تبحث الجدة عن بيت صباها، تسوق عائلتها كلها إلى حتفها على يد قاتل شرس، هو
"البراوي" الذي يظهر احتراما غريبا للجدة، التي تسامحه قبل وفاتها.
"كان بوسعها أن تكون امرأة صالحة" يقول
البراوي "لو كان هناك من يوجهها في كل دقيقة من حياتها".
وعن هذا السطر يقول جيم شيفرد:
تؤمن أوكونور حقا أن بوسع أي واحد فينا لوهلة أن يفيض
بالجمال الذي يفترض أنه ينتج عن التجليات. لكنني أعتقد أنها تؤمن كذلك بأننا
مذنبون جوهريا. تقول: لا تحسب للحظة أنك لن تزلّ في غضون يومين، لمجرد مرورك بلحظة
عابرة من الاستنارة ترى فيها نفسك فجأة في رؤية واضحة.
وهذه فكرة أجدها هائلة النفع في عملي. فلُبُّ شخصياتي
جميعا هو أنها تفهم الصواب، وتدرك ما الذين ينبغي القيام به، لكنها برغم ذلك لا
تفعله. ذلك الإحساس بأن لدينا هذه القدرة على أن نكون عباقرة في تدمير أنفسنا، هو
مناقض بطريقة أو بأخرى لفكرة التجلي التقليدية التي تنبئنا بأن القصص ما هي إلا
إعطاء معلومات لشخصيات هي في أمسِّ الاحتياج إليها. التجليات عموما افتعالات
تافهة.
***
أثنت "تريسي تشيفاليير"، مؤلفة "الفتاة
ذات القرط اللؤلؤي"، على المصمم "مييس فان دير روهي" وقوله الشهير
إن "الأقل أكثر". فيما يلي، تبين تشيفاليير كيف تشذب بدانة السردية، وما
سر أهمية الإيجاز:
ما يبقى بعد الحذف يبقى مركزّا. وفي الامتناع قوة. في
"الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"، لا تتماس الشخصيتان الرئيسيتان غير مرتين ـ
باليد، وبالأذن ـ ويقول لي القراء إن هاتين اللمستين من أشد ما قرأوه إيروتيكية.
في روايتي الجديدة "الهروب الأخير" تنتمي البطلة إلى مذهب الكويكرز، فهي
لا تقول إلا القليل، امتثالا لتقليد الصمت في اجتماعات الكويكرز. وعبر المسودات
ظللت أحذف من حواراتها، فالآن حينما تتكلم "أونور برايت"، ينتبه القارئ
إلى أن هذا حدث.
كما
أنني أتيح للقارئ، حينما أستخدم قدرا أقل من الكلمات، أن يملأ الفجوات من عنده. وعبارة
"الأقل أكثر" تشجع على التعاون، وذلك ما ينبغي للكِتاب أن يفعله ، فهو
عقد بين كاتب وقارئ.
***
تعترف "فاي ويلدن" أن الكتابة على المستوى
اليومي قد تبدو كدحا لا طائل من ورائه. وأشارت إلى القول المأثور عن كامو، حيث يذهب إلى أنه"
على المرء أن يتخيل أن سيزيف سعيد"، فقالت إنه يساعدها في الانتصار على مشاعر
اللامعنى المثبطة.
لو أننا تأملنا ـ مع كامو ـ سيزيف عند سفح الجبل، يمكننا
أن نراه يبتسم. هو راض بمهمة تحدي الآلهة، والرحلة أهم لديه من الهدف. إن إنجاز
بداية، ووسط، ونهاية، ومعنى لفوضى الإبداع، لأمر يفوق قدرة أي إله: ولكنه الشيء الذي يفعله
الكتّاب. وهكذا فإنني أرتّب المكتب، بل وألمعه قليلا، وأضع بضع زهرات في مزهرية،
وأبدأ.
وفيما أبدأ رواية أذكّر نفسي بقول كامو إن هدف الكاتب هو
أن يمنع الحضارة من تدمير نفسها. أجد الشجاعة، أصل إلى القمة، وإن بقيت الصخرة تقع كل مرة
فلتقع، في ستين داهية،
وأبدأ من جديد. وأعيد الكتابة. المهم أن تبقى البهجة. والابتسامة. يا سيزيف.
***
محسن حامد، مؤلف "كيف تحقق الثراء القذر في آسيا
الناهضة"، يرى أن التدريب البدني يساعد على كسر فترات النضوب لدى الكاتب.
ويتبع نصيحة العداء "هاروكي موراكامي"، فيتبيّن له أن المشي اليومي جعله
أكثر إبداعا. يقول حامد:
أحتاج ألا أتوقف. ولما كنت أوشك على بلوغ الأربعين، وقد
استنفدت كثيرا من الحيل التي وظَّفها الكتَّاب من قبلي لتحريك الأشياء كلما
تكلَّست بداخلي: السفر بالكيمياء، انفطار
القلب، تغيير القارة، الزواج، الإنجاب، الاستقالة من الوظيفة إلخه. وبلا جدوى.
فبدأت أمشي. كل صباح. أول شيء أفعله، بمجرد أن أصحو، وهو ما يعني السادسة أو
السابعة صباحا بما أنني أب. أسير لمدة نصف ساعة. أصبحت ساعة. ثم أصبحت تسعين
دقيقة.
نصيحة موراكامي تتعلق بالرواية الطويلة. وأنا أكتب روايات
قصيرة. فمنطقي هو هذا: إذا كان على موراكامي أن يجري ليكتسب اللياقة اللازمة لما
يفعله، فيمكنني أنا أن أدبر أموري بالمشي. ومع مراعاة فارق السرعة الملموس، يتبين
أن المشي لخمسة أميال في اليوم هو كل ما أحتاج إليه. صفا رأسي. ازدادت طاقتي.
تقلصت آلام رقبتي. أحيانا كنت أكتب لنفسي رسائل نصية بأفكار وجمل وفقرات كاملة
بينما أنا سائر. في أوقات أخرى أنجرف فقط مع الطريق، وذراعاي في خصري، أفكر وأفرز وأنظر.
أطلقني المشي. هو أشبه بالـ LSD. أو بمكتبة. يفعل فيك أشياء. أنهيت روايتي
بعد سنتين فقط (فالإجمالي ستة) من المشي يوميا. ولا أخطط للتوقف. ولو أن الخيار
بين فترات طويلة من الإخفاق الكتابي المهين وبين التعرق، فأنا أعرف في أي جانب أنا
وبطلي موراكامي.
***
يناصر "مايكل
بولان" نظرية أن يوسّخ المرء يديه. وكان إنشاء حديقة بالنسبة له عونا
على صوغ أسئلة لم يسبق له قط أن طرحها على نفسه. فمن خلال البستنة وأعمال
"ويندل بيري"، استطاع أن يكشف النقاب عن موضوعه وسبيله إليه، يقول بولان:
كنت قد تعلمت جملةَ قيمٍ من [هنري ديفيد] ثورو في
المكتبة، ولم يحدث إلا حينما اختبرتها ـ في بوتقة الحديقة الحقة، مع الآفات الحقة،
في قطعة الأرض الحقة ـ أن أمكنني تكوين قيمي أنا بصورة أتمّ.
وحدث أثناء قراءة "ويندل بيري" أن صادفني بيت
معين بات بمثابة الشعار لكثير من عملي: "الأكل فعل زراعي". هذا بيت
يعينك على أن تصل ما بين نقطتين كل منهما في عالم: المزرعة، والطبق، مهما بدا
العالمان متباعدين. بعبارة أخرى، علينا أن نربط طعامنا بالطريقة التي ينمو بها
طعامنا. وبطريقة ما، فإن كلَّ ما كتبته عن الطعام لم يكن يعدو وصل نقطتين مثلما
يدعونا بيري. لذلك أحاول حينما أكتب عن شيء مثل صناعة اللحوم أن أتتبع السلسلة
الطويلة كلها: من طبقك إلى الحظيرة، ومن الحظيرة إلى حقل الذرة، ومن هناك إلى حقل
النفط في الشرق الأوسط. يذكرني بيري أننا جزء من نظام غذائي، وأننا بحاجة إلى
التفكير في الأكل في ضوء هذه الحقيقة، وما يترتب عليها.
في النهاية، قادني هذا الاكتشاف إلى تغيير في عملي. كنت
محررا في هاربر، كما كنت أحب تحرير المجلات. لم يكن يخطر لي أن بوسعي أن أعيش من
الكتابة، لكن عملي التحريري، أعني مساعدتي لغيري من الكتاب في نثرهم، ومتابعة
عملية المراجعة، والعثور على المسارات السردية في موضوع معقد، كل ذلك جعلني أتردد كثيرا
في أن أجرب قلمي. ولم أعثر على موضوع إلى أن اصطدمت بالحديقة. وبالانهماك في جهدي
الزراعي الخاص على نطاق ضيق، تغير اتجاهي: تعلمت طريقة في الحياة والتفكير لم أكن
أعرفها من قبل. أردت أن أكتب المزيد والمزيد عن الحقائق الزراعية والسياسية
المرتبطة بما أضعه في فمي.
***
على مدار السنين، كان لـ "جيسيكا فرانسيس كين"
عزاء في أعمال الفيلسوف الرواقي "ماركوس أورليوس". كان قوله "ما
الذي يوجد ثمة ولا يمكن احتماله؟" هو الذي ساعدها أن تتذكر أن مواجهة الصفحة
البيضاء ليس مؤلما الألم الذي لا احتمال له، فتوقفت عن التلكؤ والإرجاء. تقول كين:
الكتابة صعبة، لكن هل هي عصية على الاحتمال؟ منذا الذي
يقول إنها كذلك؟ حتى وأنا أطرح السؤال أتذكر علامة تعجب في الفقرة التي كتبها
أورليوس "حق لك أن تشعر بالعار لو اعترفت بهذا!" ساعدتني كلماته على
احتمال الرفض، فحينما يرفض ناشر عملا لك، لا يكون في ذلك أي بهجة، ولكنك تسأل نفسك
أهو أمر لا يحتمل؟ وتجد أنك بسرعة تستعد
لتجهيز ظرف آخر، يحمل طابع بريد لترفقه مع رسالتك التالية إلى الناشر التالي.
ساعدتني كلماته على احتمال مبيعات روايتي الأولى البطيئة، وذكرتني بأن أبدأ من
جديد بعد فجوة طالت إثر ميلاد أول أولادي. لم أكن أعرف كيف أجد مجالا للكتابة في
وجود الطفل. فذلك صعب، لكن، هل يفوق الاحتمال؟ وأرجعت نفسي من جديد إلى المكتب.
***
في كتاب مذكراته المهنية الكلاسيكي "عن
الكتابة" يعالج "ستيفن كينج" كلَّ ما يعرفه أحد أساتذة الحكي على
وجه التقريب. ولكن ثمة موضوعا واحدا لا يغطيه ذلك الكتاب: كيف تكتب جملة افتتاحية
مثالية. عرض كينج أفكاره التي تبلورت على مدار سنين كثيرة من الكتابة فيما يتعلق
بكيفية استهلال كتاب، وعن سر أهمية البدايات. قال كينج:
لن يقوم كتاب أو ينهدم بأول سطر فيه، لا بد في الكتاب من
قصة، وهذا هو الشغل الحقيقي. ولكن بوسع سطر استهلالي جيد جدا أن يفعل الكثير
لتأسيس الإحساس الحاسم بالصوت، هو أول ما تتعرف إليه، فتمتلئ شغفا، هو أول ما
يهيِّؤك للانسحاب الطويل. هناك إذن قوة لا تصدق في قولك "تعال هنا".
تريد أن تعرف. ويبدأ شخص ما في الإنصات.
***
شرح "بول هاردنج" كيف أن التجاور والتناقض من
مرتكزات الأدب العظيم، وقد اتخذ من "جون تشيفر" نموذجا استثنائيا في
تطبيق هذا المبدأ. يقول هاردنج:
التناقض جوهري كخطوة أو كمنهج، في الفن. اسمه في
الموسيقى اللحن المصاحب. في لوحات المناظر الطبيعية هو المقابلة ين المقدمة
الداكنة دائما، والخلفية الفاتحة دائما. وفي الكتابة، الحياة والموت. وصول الموت
الوشيك، أي شيء أعظم من هذا تتضح على خلفيته الحياة؟ في روايتي "Enon"، وكلها عبارة عن سوناتا، فيها صوت
واحد، هي سوناتا ضد خطر الظلمة المطبقة. وكلما ازداد الظلام، واقتربنا من نقطة نور
متبقية، تزداد هذه النقطة جمالا ولمعانا بسبب ندرتها وصفائها وسط العتمة. إن المرء
يجمع المتناقضات، وبالمزج بينها يحصل على شيء أقرب ما يكون إلى غموض التجربة
الإنسانية.
ومثل هذا المبدأ فاعل أيضا في حالة المجاورة، بين
اللامتناهي، ومتناهي الصغر. وهو فاعل في الكتابة، حينما تصف شيئا على نطاق الكون،
ثم تصف شيئا دقيقا كحبة رمل. بوسع المرء أن يتناول مشهد محليا حميميا بسيطا ـ شخص
مثلا يحتسي فنجان شاي عند الغروب ـ فيرى فيه هذه الحقيقة، هذه الحقيقة البشرية
البديهية، حقيقة أن العظيم والحقير، والجيد والرديء، والمنير والمظلم، كلها
متداخلة.
لا بد للأقطاب أن تقام جميعا حول الأسئلة التي لا يمكن
بالفعل اختزالها، حول الألغاز التي لا يمكن الوصول إلى قرارها. وإلا فإنك تخاطر
بفضح نفسك. كتابات الدرجة الثانية هي التي تعلمك أي الأقطاب تختار: "كن طيبا
مع الغرباء!"، فإذا بك واقع في شرك البروباجندا أو الحكمة المستقرة الموروثة.
أعتقد أن تعريف الكيتش أو السنتمنتالية هو إنكار قطب لحساب قطب آخر. هذا يرجع بنا
إلى شخصية تشيفر، في سعيها وإخفاق مساعيها إلى إنكار العتمة إظهارا للنور. ولكن في
هذا النموذج، في هذا النموذج المفاهيمي، لا يمكن أن يكون ثمة معنى لشيء إن هو فصل
عن نقيضه. وها هو أينشتين، وها هي النسبية: لا معنى لشيء إلا في ضوء علاقته
بنقيضه.
***
في العصر الرقمي، بات الناس متصلين مثلما لم يكونوا قط
من قبل. ولكن "جوناثان فرانزن" ذكَّرنا أن كتَّاب الأدب لا غنى لهم عن
الفردانية. وبيّن لماذا لا تحدث الكتابة العظيمة إلا بعيدا عن الغيم، بعيد الزحام.
كان فرانزن قد توقف عند قول لكارل كراوس هو هذا:
"لا بد أن شيئا لم يوجد من قبل قد دخل إلى العالم.
يا آلة البشرية الجهنمية".
يقول فرانزن:
ساحر هو الإنترنت في كثير من الأشياء. أداة بحثية ساحرة.
عظيم في الشراء، عظيم في الجمع بين الناس للعمل على أشياء مشتركة، كالبرامج
الإلكترونية، أو في الجمع بين من يشتركون في الولع بشيء ما، أو من يعانون مرضا
واحدا ويريدون أن يأنسوا ببعضهم البعض. الإنترنت رائع في كل هذا. لكنه بصفة عامة،
ومواقع التواصل الاجتماعي بخاصة، يرسخ فكرة أن كل شيء ينبغي إعلانه، ينبغي
الاشتراك فيه. عظيم هو حينما ينجح. ولكنه يفشل فشلا خاصا، في تقديري، في مجال
الإنتاج الثقافي، والإنتاج الأدبي تحديدا. الروايات الجيدة لا تكتبها لجان.
الروايات الجيدة ليست نتاج تعاون. الروايات الجيدة يكتبها من يعتزلون طوعا،
ويتعمقون، ويرسلون من الأعماق تقارير عما يصادفونه هناك. يضعون ما يعثرون عليه في
قالب يمكن التواصل معه، والتشارك فيه، ولكن ليس قبل مرحلة الانتهاء من الإنتاج. إن
ما يصنع رواية جيدة، بعيدا عن مهارة الكاتب، هو مدى صدقها مع الذاتية الفردية.
يتكلم الناس عن "عثورك على صوتك"، حسن هذا هو الأمر. أنت تعثر على صوتك
الفردي، لا صوت الجماعة ...
وهذا يصدق، ويصدق بصفة خاصة، على كل راغب في كتابة أدب
جاد. عندما قابلت دون ديليلو، كان يؤسس طرحه القائل بأنه لو توقف ظهور كتاب الأدب
بيننا فسيكون معنى ذلك أننا هجرنا مفهوم الشخص الفرد. سنكون مجرد جمع. ولذلك يبدو
لي أن مسئولية الكاتب الأساسية للغاية في أيامنا هذه هي أن يستمر في محاولته أن
يكون شخصا، لا واحدا في جمع. (والموضع الذي يتكون فيه الجمع الآن موضع إلكتروني
بطبيعة الحال). هذه مهمة أساسية لكل من يعتزم الآن أن يكون كاتبا ويبقى كذلك. فحتى
حينما أقضي نصف يومي على الإنترنت، أبعث رسائل، أحجز تذاكر طيران، أشتري أشياء عبر
الإنترنت، أنظر إلى صور الطيور وكل ذلك، أحتاج بصفة شخصية إلى مراعاة أن أحجّم
نفسي. أحتاج أن أتأكد أنني لا تزال لي ذات خاصة. فمن الذات الخاصة تأتي كتابتي.
وكلما شُددت عنها، صرت زاعقا آخر لا يزعق إلا بما هو موجود أصلا. إنني أحاول ككاتب
أن أنتبه إلى ما لا ينتبه إليه الناس. أحاول أن أراقب روحي بأقصى ما أستطيع من
انتباه وأعثر على سبل للتعبير عما أعثر عليه فيها.
عارض "أندريه دوبوس" التخطيط. وفي تحذيره من
عقلنة المرء لعمله، أصرَّ على أن الأدب القصصي يولد عند الكف عن محاولة السيطرة
عليه من خلال العمل على الوصول إلى نهاية معدة مسبقا.
يقول ريتشارد باوش: لا تفكر، احلم.
ويقول دوبوس:
نولد جميعا ولنا خيال. كل واحد فينا يحصل على خياله.
وأعتقد بصدق ـ وبناء على سنين من الكتابة يوميا ـ أن القص الجيد يأتي من حيثما
تأتي الأحلام. وأتصور أن الدخول إلى حلم شخص آخر، أي في عالمه الحلمي، يمثل رغبة
إنسانية عامة نشترك فيها كلنا. وهذا هو القص. وكأستاذ للكتابة القصصية، لا أقول
لطلبتي أكثر من هذا. هذا وحسب.
لقد تعلمت أن الشخصيات سوف تولد بمجرد أن تتوقف أنت عن
التدخل.
وإليكم الفارق. ثمة اختلاف كبير بين تأليف شيء وتخيله.
أنت تؤلف شيئا حينما تفكر في مشهد، حينما تمنطقه. تفكر "أحتاج أن يحدث كذا
فيتسنى حدوث كيت". وفي ذلك شكل من أشكال السيطرة على المادة لا أراه من الفن.
وأحسب، وبصراحة، أنه يفضي إلى افتعال، مهما يكن جميلا. وفي مثل هذه الكتابة لا
يمكن أن تخطئ أذنك نبرة الزيف.
كانت هذه هي مشكلتي الأساسية في بدايتي: كنت أحاول أن
أقول شيئا. كنت، حينما بدأت أكتب، عميق الوعي بذاتي. كنت أكتب قصصا تقول فكرة، أو
تعالج أمرا أصارعه أنا فلسفيا. وعرفت أنه، ولو بالنسبة لي، شارع سد. فهي كتابة من
الخارج لا من الداخل.
وحدث في بداياتي الأولى، قبل أن أنشر بالقطع، أن بدأت
أعرف أن الشخصيات سوف تحيا فعلا إذا أنت تراجعت وانسحبت. كان أمرا مثيرا، ومخيفا
بعض الشيء. إذا سمحت لها أن تفعل ما تريد أن تفعل، وتفكر وتشعر كيفما تشاء أن تفكر
وتشعر. أمر جميل، وفيه سحر مثير. وبعد كل هذه السنين، هذه هي النشوة التي أكتب
للحصول عليها: نشوة الشعور بأن الأشياء تجري من تلقاء نفسها.
تعلمت إذن بمرور السنوات كيف يكون السقوط الحر إلى ما
يجري. وما يجري هو أنك تكتب شيئا أنت بالفعل لا تعرف إن كنت تريد الكتابة عنه.
تبدأ أشياء في الوقوع تحت قلمك الرصاص وأنت لا تريدها أن تقع، أو لا تفهمها. ولكن
تلك هي اللحظة التي يبدأ فيها قلب العمل في الخفقان.
***
يشرح شيرمن أليكسي كيف أن الكتّاب يبقون أسرى الشيء الذي
يعذبهم ـ وذلك الشيء، في حالته، هو نشأته في محمية للهنود الحمر ـ لكنه يؤكد أن
الإلهام كامن في سجن طفولتنا. ولذلك فهو يستحثنا أن نستحضر أوجاعنا وعذاباتنا
وننتج فنا عظيما.
يشير أليكسي إلى عبارة ترد على لسان شخصية في رواية
لأدريان لويس: "آيه يا عم أدريان، إنني حبيس محمية عقلي".
ويقول أليكسي:
ننزع إلى التردد على
السجون. نظل نرجع إليها. ولا ينطبق هذا على هنود المحميات فقط بالطبع. فلي أصدقاء
من البيض نشأوا في غاية الراحة، لكنهم يكرهون أسرهم، ومع ذلك أراهم وهم يرجعون
إليها في كل كريسماس أو عيد شكر. كل عام يتلاقون مع الأسر حتى فبراير. وأظل أقول
لهم "أنتم، على فكرة، لستم مضطرين للذهاب. يمكنكم المجيء إلى بيتي".
فلماذا يقررون التعرض للإهانة والسخافة ممن يفترض أن يمنحوهم الحب؟ ليكون الواحد
منهم هناك: في ضاحية عقله، في بلدة عقله الزراعية. في غرفة نوم عقله القديمة.
أعتقد أن كل كاتب واقف في مدخل سجنه. فنصفه فيه، ونصفه
خارجه. مجرد فعل الحكي رجوع إلى سجن ما يعذبنا ويبقينا أسرى له، والكتاب يكررون جرائمهم.
يقطع الكاتب كل هذه الرحلة وسجنه معه، يعيد زيارته في عقله. راجيا أن يصل إلى نقطة
يدرك فيها جمالا في سجنه، أيضا. وربما عند بلوغ هذه النقطة، يكون ثمة جمال أيضا في
"إنني حبيس محمية عقلي". ثم إنه في المحمية حدث لي أنا أن تعلمت حكي
الحكايات.
***
قالت آيمي بندر إن أفضل الكتابة أشدها غموضا، وإنها تترك
موسيقى اللغة تسوقها، لا الأعراف التقليدية المتعلقة بالحبكة والشخصية ومعرفة إلى
أين يمضي كل شيء.
الكتابة التي أميل إلى اعتبارها "جيدة" هي
جيدة لأنها غامضة، لا تحدث إلا حينما أحيد عن الطريق، حين أخفف قبضتي قليلا، فإذا
بي أندهش. أكثر ما أفرح بلغتي حينما لا أفهمها فهما تاما. حين تدعم الأمل بأن ثمة
المزيد للكتابة عنه، أن هناك بابا مفتوحا لارتياد المزيد. عندئذ تصبح الكتابة متعة
حقيقية. أشعر أن الأمر كله عبارة عن انتظار نوع من الاكتشاف يحدث على مستوى
الجملة، وذلك في مقابل أن يكون بين يديك مصباح مثبت على شخصية. ذلك هو الشيء الذي
يحركني منذ الجملة الأولى وحتى الأخيرة.
أعرف أن كتابتي ناجحة حينما أشعر أن هناك شيئا يحوم تحت
السطح، في ذلك المكان الشعوري الغامض.
واللغة، في نهاية المطاف، هي الباب إلى الحبكة والشخصية،
فكلتاهما مبنيتان على لغة. فلو أنك ظللت تكتب صفحة في اليوم لمدة شهر، ثم تناولت
ما كتبت وبحثت عن مواضع اللغة الناجحة، فسوف تبدأ الحبكة والشخصية في الظهور.
بالنسبة لي، تظهر الشخصية والحبكة مباشرة من الكلمة، بدلا من أن يكون لدي مصباح
مثبت على شخصية أو حدث. فأنا لا أعمل بهذه الطريقة. برغم أنني أعرف كتّابا يعملون
بها، أما أنا فلا أستطيع. أقول لنفسي، أوه عندي فكرة عن الشخصية، وحينما أجلس
لأكتب، تبدو الفكرة مفروضة، ولا تدوم غير دقيقتين. أجد بوسعي أن أكتب سطرين ثم لا
أجد بعدهما ما أقول. بالنسبة لي، الطريقة الوحيدة التي أجد بها ما أقوله هي أن
أعمل على مستوى الجملة، وأبقى متشبثة بالجمل التي تمنح إحساسا رهيفا بأن هناك
المزيد. يكون معنى ذلك أنني وقعت على شيء خفي أكتب عنه، شيء فيه من المجهول
اللاواعي ما يمكن استخراجه. بطريقة ما أستشعر هذا، فيبقيني ويحملني على الاستمرار
...
من هذه الألغاز ما يتكشف، لكنها لا تتكشف جميعا. وأحسب
أن كل قصيدة جيدة يبقى فيها شيء من الغموض. وكذلك أفضل الكتابة. الكلمات التي
تتململ وقد التف بداخلها لغز ما. التي تقيم شكلا يعيش من حوله شيء ما، وتلمح
إلماحا إلى كنه ذلك الشيء، لكن دون أن تفضحه وتكشف عنه تمام الكشف. هذا ما أريد أن
أفعله في كتابتي: أقدم كلمات تكون بمثابة وعاء لشيء ما، غامض، أكبر منها.
***
تؤمن آيمي تان بقيمة التفاصيل الصغيرة. حكت عن كتابة
تتعلق بالصور الفوتغرافية ـ التي استلهمت منها روايتها الجديدة ـ وأوضحت سر
إيثارها الانتقال من نقطة في الصورة إلى نقطة أخرى.
أنا في طرف الدقائق القصصية. لا أستطيع أن أقول لنفسي إن
الأمر هكذا مع جميع الناس. التعميمات ليست جزءا من طريقتي في التفكير. تبدأ قصصي
من مستوى التفصيلة الميكروسكوبية، مستوى الدقائق التي تتكون منها كل حياة. هذه هي
أرضي.
وأنا أكتب قصة، ينبغي عليّ أن أنفتح على جميع الاحتمالات
التي يمكن أن تأتي عليها تصرفات الشخصيات وأفكارها. وأفضل طريقة بالنسبة لي هي
الكتابة الحرة، كما في مسودات الروايات. تساعدني الكتابة باليد على البقاء منفتحة
على جميع الظروف الخاصة، وجميع التفاصيل الصغيرة التي تضيف إلى الحقيقة.
كثير من كتاباتي في بدايتها ـ وفي منتصفها بالذات ـ تؤسس
ما تعتقد به الشخصيات وهو تواجه المواقف والمصاعب وتمر بها. سواء وهي تقع في الحب،
أو يموت لها عزيز، أو تحسب أنها موشكة على الموت: كيف تكون ردود أفعالها، وما
التجارب التي تشكّل ردود أفعالها؟ عليّ أن أنفتح على معتقداتها، مهما يكن الإطار
الذي تأتي من خلاله ردود أفعالها تجاه ما تعيش فيه من ظروف. وكما يقول ويتمان
"ربما [هذا الطريق] هو الذي لا شيء غيره في البر والبحر"، لكنني لا أحصر
نفسي في طريق واحد، بل أسمح لنفسي بدلا من ذلك بالتجوال للاستكشاف في نطاق عريض.
في مسوداتي، يوجد الكثير للغاية من الفوضى. ففي حين
أحاول الانفتاح على مختلف الاحتمالات، تهيمن الفوضى. فكيف لي أن أعرف إن كنت أسلك
مسارا مثمرا؟ وكيف لي إذا حدث لشخصية شيء ما في حياتها أن أحدد أي التفصيلات سوف
يخدمني؟ إنني أخطئ دائما بالانحياز إلى الإكثار من التفاصيل وأنا أقوم بالبحث
والكتابة. ثم أتخلى عن خمسة وتسعين في المائة منها. ولكني أحب هذا. هذا جزء من
عملية الكتابة عندي. ولا أعتبره مطلقا تضييعا للوقت ...
أحاول أن أرى قدر ما أستطيع، بتفاصيل ميكروسكوبية. وعندي
تمرين يساعدني على هذا، تمرين الاستعانة بالصور الفوتوغرافية العائلية. أجتاح
الصورة بقدر ما أستطيع، نقطة بعد نقطة، أو بيكسل بعد بيكسل. ونحن لا ننظر إلى
الصور بهذه الطريقة، بل نلقي نظرة عامة، ونركز أكثر ما نركز على منتصف الصورة.
لكنني أبدأ مثلا من زاوية، وأمسح التفاصيل واحدة بعد واحدة. وأغرب ما يحدث أنك
تنتهي وقد لاحظت أشياء ما كنت لتلاحظها مطلقا. في بعض الأحيان، أكتشف تفاصيل
أساسية، حاسمة، مهملة، برغم ما لها من أهمية بالغة في قصة عائلتي. وهذه العملية
استعارة لطريقتي في العمل، فهي نفس الطريقة في النظر الفاحص، عن كثب، إلى الأماكن
غير المتوقعة، واستيعاب كل ما يوجد.
***
قدَّم كريج نوفا نصيحة مأخوذة من روبرت جريفز: "لا
يوجد شيء اسمه كتابة جيدة، إعادة الكتابة هي الجيدة". وأوضح كيف إن إدخال
تغييرات جذرية ـ كتغيير النوع الأدبي كله، أو النبرة، أو الراوي ـ يساعده على
معرفة موضوعه والتقدم إلى المسودة النهائية.
يقول كريج نوفا:
إليكم مثلا، وجهة النظر. لنفترض أنك تكتب مشهدا لرجل
وامرأة ينفصلان. وهما يفعلان ذلك أثناء تناولهما للإفطار في شقتهما. ولكن المشهد
يفشل. ممل، سطحي.
بتطبيق النظرية المشار إليها في ما سبق، يكون الحل هو
تغيير وجهة النظر. بمعنى أنه لو كان الحكي من وجهة نظر الرجل، فبدِّل إلى وجهة نظر
المرأة، فإذا لم تفلح، فاحك من وجهة نظر الجار الذي يستمع إليهما من الشقة
المجاورة، فإذا لم تفلح اجعل هذا الجار يحكي قصة الانفصال، مثلما يسمعها، لصديقته.
وإذا لم تفلح، فاحكها من وجهة نظر لص كان قد دخل الشقة واختبأ في خزانة بالمطبخ
بمجرد أن دخل الاثنان وبدأ شجارهما.
يبدو لي أنك مع كل وجهة نظر تضيفها، وكل حكي للقصة،
تكتشف شيئا لم تكن تعرفه من قبل. ولو صح هذا في حالة وجهة النظر، فينبغي أن يصح في
حالات البنية، واللغة، وجميع عناصر القص.
***
لا أتكلم عن اللذة. بل الفرحة.
لا أتكلم عن المتعة.
لكن علينا أن نقبل بعناد،
فرحتَنا،
في جحيم هذا العالم
هذا ما يقوله جاك جيلبرت الذي تستشهد به إليزابث جيلبرت.
عارضت إليزابث جيلبرت فكرة أن جذور الفن العظيم تكمن في
المعاناة. هي ترى أن الإصرار بعناد على الفرحة يساعدها في صد الكراهية عن نفسها،
فتكون أكثر امتلاء، وأكثر إنتاجا.
تقول جيلبرت:
قد تكون الكتابة مسعى دراماتيكيا للغاية، حافلا بالكوارث
والفواجع والمشاعر المتقلبة والمحاولات الفاشلة. وقد أصبح طريقي ككاتبة أيسر بكثير
بعد أن تعلمت أنه حينما تسوء الأمور، فإن عليّ أن أعتبر أن محاولاتي مثيرة، لا
باعثة على الأسى.
والآن، كيف نخرج من هذه الأحجية؟ أمر ظريف أن أكون رأيت
بوسعي أن أكتب كتابا ثم إذا بي لا أستطيع، فيكون علي أن آتي بزجاجة خمر فأجهز
عليها قبل الحادية عشرة لأفقد الإحساس بهول الأمر.
يمكنكم أن تعتبروا الأمر ممارسة روحية استطعت غرسها في
نفسي على مدار السنين. عملت بجهد لإنشاء هذه العلاقة، بحيث لا تكون صراعا فوضويا.
أنا لا أقف في وجه كتابتي فأخرج دامية اليدين. لا أصارع ملهمتي. لا أجادل. أحاول
أن أتحاشى كراهية الذات، والإحساس بالمنافسة، وكل هذه الأمور التي تَسِم حياة
الكتاب وتعكرها . أحاول أن أبقى على إصراري العنيد على البهجة.
وعندنا هذه الفكرة الرومانتيكية الألمانية إلى أقصى حد،
القائلة بأنك إذا لم تكن تعاني الألم، وإذا لم يكن الفن الذي تنتجه سببا في الألم،
فأنت لست على الطريق الصحيح. وطالما شككت في هذا ... أقصد، تأمل اللغة التي
نستخدمها في الكلام عن العملية الإبداعية: "افتح شرايينك وانزف".
"اقتل أحبابك" [وتقال بمعنى التخلص من الأجزاء التي يحبها الكاتب في
كتابه لكنها لا تخدم الكتاب]. دائما ما تعتريني الرغبة في البكاء حينما أسمع الناس
يتكلمون عن مشروع فيقولون: "أعتقد أنني كسرت ظهره أخيرا". هذه بصدق
علاقة معتلة بين الكاتب وكتابه. أتحاول أن تكسر عموده الفقري؟ لا عجب إذن أن يبدو
عليك الإجهاد! فأنت حوَّلت الأمر إلى معركة. ولا بد أن يكون لدينا من الخبرة
بالعالم ما يجعلنا نعرف أن ما تصارعه يصارعك.
نشر
الموضوع أصلا في ذي أتلانتيك ونشرت ترجمته اليوم والثلاثاء الماضي في ملحق شرفات
· يعرف وبستر epiphany بأنها لحظة
ترى فيها فجأة شيئا ما أو تفهمه فهما جديدا أو صافيا. ومن هنا رأينا أن التجلي قد
تكون كلمة مناسبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق