الطفل الغارق والدائرة المتسعة
بيتر سنجر
لكي أدفع طلبتي إلى التفكير في أخلاقيات ما ندين به
للمحتاجين، أطلب منهم أن يتخيلوا أنهم يمرون في الطريق إلى الجامعة ببحيرة ضحلة،
وذات صباح، أقول لهم، ترون طفلا وقع في البحيرة ويبدو أنه يغرق، ومن السهل عليكم
أن تخوضوا في البحيرة وتجذبوه ولكن ثيابكم ستبتل وتتسخ بالوحل، وستحتاجون إلى وقت
للرجوع إلى البيت وتبديلها فتفوتكم أولى محاضراتكم.
ثم أسأل: هل ثمة ما يُلزمكم بإنقاذ الطفل؟ وبالإجماع
يجيب الطلبة أن نعم. فأهمية إنقاذ طفل تفوق تكلفة ابتلال ثياب واتساخها بالطين
والتأخر على محاضرة، ومن ثم فذلك ليس على الإطلاق بالسبب الكافي للعزوف عن إنقاذ
طفل. أسأل، وهل من فارق لو أن هناك آخرين يسيرن قرب البحيرة وبوسعهم مثلكم أن
ينقذوا الطفل لكنهم لا يفعلون ذلك؟ ويجيب الطلبة بلا، فعدم قيام الآخرين بما يجدر
بهم أن يقوموا به ليس سببا يمنعنا من القيام بما ينبغي لنا نحن القيام به.
ولا نكاد نكون على بينة من أننا ملتزمون جميعا بإنقاذ
الطفل الغارق أمام أعيننا حتى أسأل: هل من فارق يذكر لو أن الطفل كان بعيدا، في
بلد آخر ربما، لكنه يعاني مثل خطر الموت هذا، ويمكنكم بالمثل أن تنقذوا حياته،
بغير تكلفة كبيرة، وبلا أدنى خطر من أي نوع على أنفسكم؟ يتفق الجميع بلا استثناء
على أن البعد والجنسية لا يغيران من الموقف أخلاقيا. وعندئذ أبين أننا جميعا في
مثل موقف الشخص العابر بالبحيرة الضحلة: كلنا قادرون على إنقاذ حياة بشر، كبار
وصغار، سيموتون بدوننا، وبوسعنا إنقاذهم بتكلفة بالغة الضآلة: بثمن سي دي جديد، أو
قميص، أو سهرة خارج البيت في مطعم أو حفل، تكلفة زهيدة كهذه تعني الفارق بين
الحياة والموت لأكثر من شخص في مكان ما من العالم، ومنظمات الإغاثة الدولية ـ مثل
أوكسفام Oxfam ـ تتغلب على مشكلة البعد.
عند هذه النقطة أثار الطلبة صعوبات سياسية عديدة. هل
يمكننا أن نكون واثقين أن تبرعاتنا ستصل فعلا إلى من يحتاجونها؟ ألا تضيع أغلب
التبرعات في بطون التكاليف الإدارية، أو السفه، أو الفساد المباشر؟ أليست المشكلة
الحقيقية هي زيادة عدد سكان العالم، وهل هناك من مغزى في إنقاذ الأنفس قبل أن تحل
المشكلة؟ وبالإمكان إجابة جميع هذه الأسئلة: لكنني أوضح أنه حتى لو أن قسما لا بأس
به من تبرعاتنا يضيع ويتبدد، فالتكلفة التي نتكبدها من جراء تبرعنا زهيدة للغاية
مقارنة بالفائدة التي تقدمها عند وصولها، أو وصول بعض منها، إلى من يحتاجون
مساعدتنا، وبذلك فسنبقى منقذين لأنفس بتكلفة زهيدة، حتى لو كانت منظمات الغوث أقل
كفاءة في حقيقة الأمر مما ينبغي لها.
دائما ما تدهشني قلة المعترضين من الطلبة على الأخلاقية
الكامنة وراء فكرة أننا ينبغي أن ننقذ أنفس الغرباء ما استطعنا ذلك بتكلفة زهيدة
نسبيا على أنفسنا. في نهاية القرن التاسع عشر كتب "دبليو إتش ليكي WH Lecky " عن الهم الإنساني بوصفه دائرة متسعة تبدأ من الفرد فتشمل
الأسرة "وسرعان ما تشمل الدائرة طبقةً في البداية، ثم أمّة، ثم تحالفا من
الأمم، ثم الإنسانية كلها، وأخيرا
يكون تأثيرها محسوسا في تعاملات الإنسان مع عالم الحيوان". بناء على هذا تكون
الأغلبية الساحقة من طلبتي فيما يبدو موجودة في المرحلة ما قبل الأخيرة من دائرة
ليكي المتسعة. وثمة بالطبع بالنسبة لكثير من طلبتي ولأسباب عديدة، فجوة بين
الاعتراف بما يجب أن نفعله، وبين فعله، ولكنني سأرجع إلى هذا الموضوع سريعا.
قرننا هذا هو أول قرن يمكن فيه الحديث عن مسئولية عالمية
وعن مجتمع عالمي. طوال أغلب فترات التاريخ الإنساني كان بوسعنا التأثير في أهل
قريتنا، أو ربما في مدينة ضخمة، ولكن حتى الملك القوي ما كان ليقدر أن يغزو ما
وراء حدود مملكته. فعندما حكم أدريان الإمبراطورية الرومانية كانت دولته تغطي أغلب
العالم "المعروف"، لكنني اليوم إذ أقلع بطائرة من لندن التي كانت تمثل
إحدى حدود الإمبراطورية الرومانية النائية أجد أنني أعبر بالحد المقابل للإمبراطورية
ولا أكون قطعت حتى نصف المسافة إلى سنغافورة، ناهيكم عن المسافة إلى وطني
استراليا. والأدهى من ذلك وبغض النظر عن مساحة الإمبراطورية ومداها أن الوقت
اللازم للاتصال أو للانتقال كان معناه أنه ما من سبيل للبشر كي يشكلوا فارقا أي
فارق بالنسبة لضحايا الفيضانات أو الحروب أو المذابح أو أي مما يقع في النصف الآخر
من الكوكب. فبحلول الوقت الذي يكون المرء فيه قد سمع بالأحداث واتخذ رد فعل ما، يكون
الضحايا ما بين موتى أو ناجين بغير مساعدة من أحد. لقد كان لمقولة أن "عمل
الخير يبدأ بالبيت" معنى لأنك ما كنت لتثق إلا في البيت ـ أو في بلدتك ـ أن ما
تفعله من خير يحدث فارقا. ولكن الاتصالات الفورية والنقل الجوي غيرا من ذلك كله. فبوسع
جمهور من بليوني مشاهد للتليفزيون أن يروا الأطفال الجياع يستجدون الطعام في منطقة
حلت بها المجاعة، أو يروا اللاجئين يتدفقون عابرين الحدود بحثا عن مكان آمن بعيدا
عمن يخافون أن يقتلوهم. أغلب هذا الجمهور الضخم لديه من الوسائل ما يمكنّه من
مساعدة أولئك الذين يراهم على الشاشة. بوسع كل واحد فينا أن يستل بطاقته
الائتمانية ويقدم من خلال الهاتف تبرعا لمنظمة إغاثة بوسعها في غضون أيام أن تبعث
بالطائرات من يبدؤون في توزيع الطعام والإمدادات الطبية. وبصورة جماعية، يمكن
للأمم المتحدة أيضا ـ بدعم من القوى الكبرى ـ أن تنشر قوات على الأرض حمايةً لمن
يخشى تحولهم إلى ضحايا لإبادة جماعية.
إن قدرتنا على التأثير في ما يحدث، في أي مكان في
العالم، تمثل جانبا من جوانب عيشنا في حقبة المسئولية العالمية. ولكن هناك جانبا
آخر يمثل تناقضا أشد دراماتيكية مع الماضي. لقد كان المناخ والمحيطات حتى وقت قريب
من عناصر الطبيعة التي تبدو محصنة تماما من التأثر بأنشطة البشر التافهة. ولكننا
نعرف اليوم أن استخدامنا للكلوروفلوروكربون يتلف طبقة الأوزون، وأن انبعاثات ثاني
أكسيد الكربون تغير مناخ الكوكب كله بطرق لا يمكن التنبؤ بعواقبها وترفع مستوى سطح
الماء في البحار، وأن أساطيل الصيد تنخل المحيطات من السمك الذي كان يبدو عدده
لانهائي والذي لا يبدو أن عدده هذا يمكن أن يرجع إلى ما كان عليه من قبل. وبهذا
فإن تصرفات المستهلكين في لوس أنجلس يمكن أن تتسبب للأستراليين في سرطان الجلد،
وإغراق أراضي المزارعين في بنجلاديش، وترغم القرويين في تايلند ممن يعيشون من صيد
السمك على الانتقال للعمل في مصانع بانجوك.
في ظل هذه الظروف باتت الحاجة إلى أخلاقيات عالمية ماسةً
ولا مفر منها. فهل هذا أمل لا طائل من ورائه؟ إليكم بضعة أسباب تجعل الإجابة هي:
ربما لا.
إننا نعيش في زمن يرى كثير من ناسه أن حياتهم فارغة
ينقصها الامتلاء والتشبع. فتراجع الدين وانهيار الشيوعية لم يتركا من بعدهما غير
أيديولوجية السوق الحرة، وهذه رسالتها الوحيدة هي هذه: استهلكوا، واعملوا قدر ما في
طاقاتكم، لتكسبوا المزيد فتستهلكوا المزيد. ولكن حتى الذين يحسنون صنعا في سباق
السلع المادية هذا لا يجدون حيواتهم ممتلئة. وبين أيدينا اليوم دليل علمي على ما
قال به الفلاسفة على مدار عصور سابقة: بمجرد أن يكون لدينا ما يكفي لإشباع حاجاتنا
الأساسية، حتى يفقد اكتساب المزيد من الثروة قدرته على منحنا المزيد من السعادة.
تأملوا حياة "إيفان بوسكي" المليونير والمضارب
في وول ستريت الذي أدين سنة 1986 بتهمة التلاعب في سوق الأوراق المالية. ما الذي
حدا بـ بوسكي إلى التورط في أنشطة إجرامية برغم أنه كان يمتلك من المال أكثر مما
يمكنه أن ينفق؟ بعد ست سنوات من فضيحة التلاعب بسوق الأوراق المالية تكلمت زوجة
بوسكي ـ التي لم تكن لها علاقة بأنشطته ـ عن دوافع زوجها في حوار أجرته معها "باربرا
وولترز" لبرنامج 20/20 على شبكة آيه بي سي الأمريكية. سألتها وولترز عما لو
كان بوسكي رجلا يشتهي الرفاهية. فلم تعتقد "سيما بوسكي" بهذا وأوضحت أنه
كان يعمل على مدار الساعة، لمدة سبعة أيام في الأسبوع، ولم يكن يأخذ إجازة ولو
ليوم واحد يستمتع فيه بماله. ثم تذكرت أن زوجها غضب حينما أدرجته مجلة فوربس كواحد
من أثرى أثرياء أمريكا سنة 1982. ظنت وقتها أنه استاء من ذيوع اسمه وقالت له ذلك
فرد بوسكي قائلا "ليس ذلك ما يسوؤني. نحن نكرات. نحن تافهون. نحن في القاع
وأعدك أنني لن أجلب لك هذا العار مرة أخرى. لن نبقى في قاع هذه القائمة".
علينا أن نحرر أنفسنا من هذا المفهوم العبثي للنجاح. فهو
لا يعجز فقط عن إسعاد حتى أمثال بوسكي ممن يبرعون في النضال التنافسي براعة لا
نظير لها، بل إنه يقيم معيارا اجتماعيا هو بمثابة وصفة للظلم العالمي والكوارث
البيئية. لا يمكن أن نستمر في اعتبار أن هدفنا هو اكتساب المزيد والمزيد من
الثروة، أو هو استهلاك المزيد والمزيد من السلع، وأن نخلف من ورائنا كومة أعلى
وأعلى من القمامة.
إننا نميل إلى رؤية الأخلاقيات بوصفها مقابلا للمصلحة
الشخصية مفترضين أن من يجنون الثروات من التلاعب في أسواق الأوراق المالية هم
الناجحون في اتباع مصالحهم الشخصية ـ ما لم يتم القبض عليهم ـ المتجاهلون
للأخلاقيات. ونحسب أن من مصلحتنا أن نحصل على وظيفة أرقى وأعلى راتبا في شركة أخرى
وإن كان معنى ذلك أن نشارك في إنتاج أشياء ليس فيها أي نفع على الإطلاق، أو هي حتى
مضرة للبيئة. في المقابل، نرى الذين يتجاهلون فرص الترقي في مهنهم بناء على أرضية
أخلاقية تتعلق بطبيعة العمل، أو الذين يتبرعون بثرواتهم من أجل قضايا نبيلة فنرى
أنهم يضحون بمصالحهم الشخصية اتباعا لإملاءات أخلاقية ما.
سيقول كثير من الناس إنه من السذاجة الاعتقاد بإمكانية
أن يتحول الناس من حياة قائمة على الاستهلاك، أو قائمة على الترقي في سلم الشركات
الوظيفي، إلى حياة أخلاقية في وجهتها الأساسية. ولكن هذا التحول كفيل بإشباع
احتياج أساسي. إن القطع بلامعنى الحياة لم يعد في يومنا هذا يأتي من فلاسفة
وجوديين يتعاملون مع الأمر وكأنه اكتشاف مذهل، بل إنه يأتي من مراهقين ضجرين يرون
الأمر بديهية واضحة. لعل اللوم ينصب في هذا المقام على المكانة المركزية التي
تحتلها المصلحة الشخصية، والطريقة التي نفهم بها مصلحتنا. إن السعي إلى المصلحة الشخصية
ـ حسب الفهم المعياري لها ـ يعني حياة ليس فيها من المعنى إلا ما لا يجاوز اللذة
أو التشبع الفردي. وحياة من هذا النوع كثيرا ما تكون مشروع خداع للذات. ولقد أدرك
القدماء "مفارقة المتعوي" التي ترى أننا كلما ازددنا سعيا إلى اتباع
رغبتنا في اللذة، راوغنا التشبع. وما من سبب يدعونا إلى الظن بأن الطبيعة البشرية
تغيرت تغيرا راديكاليا يجعلنا نرى حكمة
القدماء غير منطبقة علينا.
هنا تطرح الأخلاقيات حلا. فالحياة الأخلاقية هي التي
نتماهى فيها مع أهداف أخرى أكبر من شأنها أن تمنح حياتنا المعنى. والرؤية التي
تذهب إلى أن هناك تناغما بين الأخلاق والمصلحة الشخصية المستنيرة رؤية قديمة للغاية، لكنها اليوم موضع سخرية
لاذعة. فالكلبية الآن رائجة أكثر من المثالية. ولكن هذه الآمال ليست طائرة في
الهواء بل إن لها أرضيتها، وثمة عناصر من الحقيقة في الرؤية القديمة التي تذهب إلى
أن الحياة الأخلاقية التأملية هي أيضا حياة جيدة لمن يحياها. ولم يحدث من قبل أن
كان الداعي أكبر مما هو الآن إلى القبول بهذه الرؤية على أوسع نطاق ممكن.
في مجتمع بات عُرفه هو السعي الضيق إلى المصلحة الشخصية،
فإن التحول إلى الموقف الأخلاقي يكون أكثر راديكالية مما يدرك الكثيرون.
وبالمقارنة مع احتياج الناس في رواندا إلى الطعام، تتضاءل تماما أهمية تذوق أفضل
أنبذة أفضل كروم أستراليا. ولا يعني تبنينا نهجا أخلاقيا في الحياة أن نعيش الحياة
بلا متعة أو تلذذ بالطعام أو النبيذ، إنما يعني تغييرا للأولويات. الجهد والنفقات
المبذولة في الموضة، البحث الذي لا ينتهي عن المزيد والمزيد من اللذات الغذائية، النفقات الإضافية التي تسم شوق السيارات الفارهة ـ كل
هذه الأشياء وأمثالها تبدو غير ملائمة لمن يغيرون منظورهم بما يسمح لهم أن يضعوا
أنفسهم في مواضع من يتأثرون بأفعالهم. ولو أن دائرة الأخلاق اتسعت بحق، وانتشر وعي
أخلاقي أعلى، فمن شأن ذلك أن يغير المجتمع الذي نعيش فيه تغيرا أساسيا.
بيتر سنجر (1946 ـ ) فيلسوف أسترالي، يعمل حاليا أستاذا
في جامعة برينستن الأمريكية ومحاضرا في مركز الفلسفة التطبيقية والأخلاقيات العامة
في جامعة ملبورن
نشرت هذه المقالة للمرة الأولى في ابريل 1997 في "New Internationalist" ثم أعيد نشرها مرارا في مواقع ومجلات
كثيرة، وهي من الكتابات الأساسية في بابها وللمزيد في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى هذا المقال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق