في حواره مع مجلة ذي يوربيان، يحثنا مايكل هاردت على إعادة
النظر في الديمقراطية. تكلم أيضا عن النضال
من أجل المشاركة الديمقراطية، ومستقبل الحركات الاحتجاجية، والدروس المستفادة من لينين.
مايكل هاردت:
طالما هناك غاضبون فهناك أمل
حوار: لارس مينسل
يود مايكل هاردت لو أننا نعيد النظر في الديمقراطية. في حواره مع لارس
مينسل تكلم عن النضال من أجل المشاركة الديمقراطية، ومستقبل الحركات الاحتجاجية،
والدروس المستفادة من لينين.
ـ في أسبانيا، واليونان، وإيطاليا، تتظاهر الشعوب ضد سياسات التقشف التي يناصرها
الاتحاد الأوربي. وفي الوقت نفسه، أفضت الانتخابات في هذه الدول إلى اضطرابات
سياسية، الأمر الذي يزيد من صعوبة مجابهة المطالب الأوربية. هل فشلت الشراكة [بين
الشعب والحكومة] ؟
ـ لم تنجح
بعد. الوضع في إيطاليا وأسبانيا ليس مجرد رفض لإجراءات التقشف، بل رفضل للبنى
السياسية أيضا. الانتخابات الإيطالية أكدت موت حزب اليسار الديمقراطي الذي أصبح
حزب التقشف. ولكن فضلا عن السخط على خطاب التقشف، أحب أن أفسر الأمر باعتباره رفضا
لطريقة مستقرة في ممارسة السياسة ولبنى مستقرة. لقد كان بعض خطاب الـ إندجنادوس [indignados المتظاهرون الأسبان] غير متعلق بالسياسة الاقتصادية وحسب،
بل وبالوضع السياسي أيضا. فقد زعموا أن الأحزاب السياسية لا تمثلهم فرفضوا التعاون
معها أو المشاركة معها. ولا بد أن نفرق بين الاحتجاج أو حتى التصويت الاحتجاجي
بوصفه رفضا اقتصاديا، وبين قلقلة البنية السياسية التقليدية.
ـ ومع ذلك يبدو أن الوضع الاقتصادي في هذه الدول هو الذي كان حافزا
للتظاهر: في أسبانيا كانت الخلفية الاقتصادية هي التي أنزلت الناس إلى الشوارع
ـ هذا يفترض
أنه كان ثمة من الأساس سخط على السياسات ككل، وهي نقطة مثيرة للاهتمام. من الأشياء
التي أراها أكثر إثارة للاهتمام في المناقشات المتعلقة بالـ إندجنادوس أن العملية الراهنة تنعش مسار
الديمقراطية الذي ابتدأ بعد وفاة فرانكو وإدراك مستقبل الديمقراطية الزائف الذي تم
اختراعه اختراعا آنذاك.
ـ انتصر الغضب
ـ لم يولد في
2008 فقط، لكنه كان موجودا من قبل الأزمة الاقتصادية وما نجم عنها من تقشف. ما
أجده مفيدا في هذه النظرة هو أنها تضع قضايا السياسات الاقتصادية والتقشف في مرتبة
ثانوية بالنسبة لغضب قائم، وبالنسبة لرغبات سياسية. وأنا كثيرا جدا ما أشعر أن
قراءة هذه الأحداث في بلادها كانت قراءة شديدة الضيق مقتصرة على طبيعتها
الاقتصادية دون التوسع إلى طبيعتها السياسية. من المؤكد أن خطاب حركة احتلال وول
ستريت وغيرها من حركات الاحتلال كان يتعلق بالتفاوت الاقتصادي، ودور التمويل،
والفقر الجديد، وفجوة الثروة. لكن بعضا من أكثر تجارب الاحتلال عمقا كان يتعلق
بالعلاقات السياسية وشكل الحركات السياسية. ولكن هذا البعد غالبا ما يتوارى.
ـ أشرت إلى الطبيعة الزائفة للديمقراطية، برغم أن الدول التي تناولتها هي
ديمقراطيات برلمانية. وهي تتبنى تقاليد عزيزة علينا جميعا: الممثلين المنتخبين،
المراقبة، التوازن ...
ـ ...وكل ذلك
أفضل قطعا من الاستبداد والدكتاتورية. ولكنني لا أعتقد أنه يمثل كل عزيز علينا في التقاليد الأوربية
أو التقاليد في شمال الأطلنطي. ثمة تقاليد في الفكر الأوربي تنظر إلى الجمهورية
والديمقراطية بوصفهما قائمين على التمثيل [النيابي]. لكن في الولايات المتحدة هناك
غالبا إجلال فائق للحدود للآباء المؤسسين. برغم كل ما كانت لهم من عبقرية، إلا أن
هذا الإجلال يلبسهم جميعا زيا موحدا، فكأنهم كانوا متماثلين طول الوقت، في حالة
اتفاق دائم. في حين كانت بينهم اختلافات غير هينة: جيمس ماديسن ـ وهو من الرئيسيين
في وضع مسودة الدستور ـ كتب أن التمثيل هو السمة الفاصلة في الجمهورية. في حين قال
توماس جيفرسن إن بنيات التمثيل تمثل حجر عثرة في طريق الجمهورية. فالجمهورية عنده
تستوجب المشاركة الفاعلة من جميع أفراد الشعب في حكمهم لأنفسهم. ولذلك أظن أن
لدينا في تراثنا من المصادر ما يعيننا على التفكير في الديمقراطية بطريقة مختلفة.
ـ الأمر إذن أن المشاركة دون المستوى.
ـ ثمة عقبات
ينبغي تذليلها. أنا أتفق معك من بعض النواحي: الإحساس العام الناجم عن الجوانب
التي أشرت أنت إليها هو أن ثمة بالطبع ديمقراطيات. ولكن في المقابل، سيكون من
الصعب أن نجد أحدا لم يتهكم على طبيعة هذه المناظر الإعلامية التي يسوقونها لدينا
بوصفها انتخابات. أنا واثق أن بوسع المرء ـ من وجهة النظر الأوربية ـ أن يستهين
بما يجري في الولايات المتحدة. ولكنني سوف أذهب إلى أنها ظاهرة أكثر عمومية تتعلق
بدور الإعلام، ودور المال. وثمة إدراك عام لا بنقصان يعتور فكرة التمثيل، بل وبزيف
فيها.
ـ في أحدث كتبك وعنوانه "الدستور"، تصف الحركات الاحتجاجية
بأنها ميلاد نوع جديد من الديمقراطية. وأنت كتبت في هذه المجلة عن الديمقراطية في
مائة عام مشيرا إلى مستقبل تصبح فيه المشاركة أكثر عالمية والحكم الذاتي
واقعا. ما الذي يجعلك متفائلا؟
ـ واقعية
التفكير الطوباوي ينبغي أن تقوم على إدراك للرغبات والخيال. وهذا في واقع الأمر هو
الضمان المثالي لأن يكون المشروع الطوباوي عقلانيا مقبولا. وإليك ما يمنحني الأمل:
هناك ـ قبل كل شيء ـ سخط على البنى القائمة حتى حينما تعمل على خير نحو ممكن. قد
تكون مجرد أقلية ـ وإن تكن متنامية ـ هي التي لديها شيء من الرغبة في بديل من نوع
ما، وفي ألا تستسلم للأوضاع الرديئة.
ـ ما سر ظهورها الآن؟
ـمن الآثار
اللصيقة بطبيعة الحرب الباردة ـ في أوربا وفي الولايات المتحدة ـ أنها عملت على
تجميد نقد النظام القائم ...
ـ .. لأن النظام مهما بدا معيبا، كان يبدو أن
ثمة ما هو أخطر منه بكثير من وراء الستار الحديدي؟
ـ بالضبط. وإزالة
ذلك الأسوأ تستبعد الذريعة الأساسية ولا تبقي إلا على السخط، بدون الأسوأ. لو أنك
استبعدت الشر المطلق، لا يبقى بين يديك إلا شيء هو في الحقيقة في غاية الرداءة
أيضا. شرور العالم الأخرى لا تؤدي في أوربا الغربية نفس الوظيفة التي الاتحاد
السوفييتي يؤديها. والإسلام الراديكالي المسيس يمثل وجها عسكريا للخطر لكنه لا
يمثل بديلا سياسيا يمكن أن يزيل السخط السياسي بنفس الطريقة. وذلك ما فتح الباب
أمان إمكانية التعبير عن السخط وتخيل بدائل.
ـ يشيع انتقاد للحركة الاحتجاجية يتمثل في أن طبيعتها التشاركية أبطأت من
صياغة هذا البديل. لقد تبنى حزب القراصنة الألماني مثل هذا النهج، وقوبل في
البداية بحفاوة كنموذج للمستقبل، ولكنه الآن يتعرض لانتقادات تنصب على أنه لا
يمتلك برنامجا شاملا. أيهما الأفضل، المشاركة أم الطريقة العملية في الحكم؟
ـ لا أعتقد
أن المشاركة تعني حتمية أن يفعل الجميع نفس الشيء وأن على كل واحد أن يفعل كل شيء.
والمبدأ نفسه يسري عندما يتكلم المرء عن الإنتاج أو العمل: فتقسيم العمل لا يمنعنا
من اتخاذ قرارات حول طريقتنا في الإنتاج. وأقول مثل هذا عن هذه القرارات السياسية.
فأنت حينما تتكلم عن العملية، أفترض أنك تتكلم عن أقسام الخبرة العملية، والتركيز،
وتوزيع الوقت. هذا لا يستوجب بالضرورة أن يقوم كل واحد باتخاذ القرار في كل شيء.
إننا نمر الآن بلحظة جنينية من لحظات تطوير نظام المشاركة السياسية الفاعلة
والدائمة. لقد أدت كثرة من التجارب إلى كثير من الإحباط. وقد يعتبر أحدهم في ذلك
دليلا على اللاعملية. لكنه في رأيي أنا دليل على أننا لم ننجح بعد. فلا ينبغي
للتجارب أن تظهر ما كنت تتوقعه منه، وهذا ما يحتم الاستمرار في إجراء التجارب.
ـ في سويسرا، تجري ممارسة المشاركة في سياق البنى المستقرة على شكل
استفتاءات. أليست هذه الأنواع من المشاركة خطوة أولى إلى ما في ذهنك؟
ـ ليس من
الصعب العثور على استفتاءات ناجحة ومحفزة على المشاركة السياسية. ولكن أغلب
الاستفتاءات تعمل بطريقة مختلفة، فهي لا تحفز المشاركة والوعي والتحقيق ـ أي البحث
عن الأشياء ـ ولكنها كانت مجرد تعبير عن أقلية معنية. الاستفتاءات تكون مفيدة
عندما تعمل كأداة تربوية/تعليمية شعبية.
ـ ألا يبين ذلك أن المزيد من المشاركة أمر ممكن داخل البنى القائمة؟
ـ قطعا.
المزيد من المشاركة أمر ممكن، وممثلونا القائمون يمكن أن يكونوا أكثر أمانة وأقل
فسادا، كل الأمور يمكن أن تكون طيبة.
ـ أطرح السؤال لأنني أستشعر ميلا إلى إضفاء صبغة رومنتيكية على "الثائر
وحده ضد الجميع" ـ برغم أن في التاريخ أمثلة كثيرة تحسنت فيها الأنظمة من
داخلها.
ـ أنت محق في
عزوفك عن إضفاء الصبغة الرومنتيكية على انتقاد النظام. هناك طرق يعمل بها الاحتجاج
مع الإصلاح من داخل النظام. وانظر إلى احتلال وول ستريت، لقد كانوا يحلمون بنظام
مختلف، ولكن بعض الآثار الفورية المهمة جرت داخل النظام السياسي في الولايات
المتحدة، مثل إدراك دور التمويل. من الآثار الفورية لحركة احتلال وول ستريت، أنه
حدث تحول من النقاش في التفاوت الاجتماعي إلى الحاجة إلى إدراك مشكلات الفقراء،
وقوى وول ستريت الهائلة. تلك تحولات دقيقة، كأنها أصداء لما كان يجري في المظاهرة
بالخارج.
ـ بالحديث عن التقدم، لينين واحد من المفكرين المؤثرين الذين كثيرا ما
تشير إليهم، وهذا اختيار مثير للجدل إلى حد ما. لقد مر على الثورات الروسية قرابة
مائة عام، ما الذي يمكن أن نتعلمه من لينين اليوم؟
ـ الطريقة
التي قرأت بها نظرية لينين للحزب هي أن المرء بحاجة إلى إدراك علاقات الناس ببعضها
البعض في الحياة اليومية لا سيما في العمل. إن التنظيم السياسي الأقوى ـ بالنسبة
له ـ هو ذلك الذي يعمل بموجب بنى علاقات
العمل بين الناس: فإن كان للناس في عملهم رئيس فهم في حياتهم السياسية بحاجة إلى
رئيس.
ولو أنك
تحاول اليوم أن تكون لينينيا حقا، فعليك أن تنظر إلى علاقات الناس في العمل وحينئذ
سوف يتغير الحزب على الفور ليصبح قائما على علاقة أكثر أفقية وتعاونية، ليصبح أقرب
إلى شبكة. ومن ثم يكون التنظيم السياسي الأقوى في يومنا هذا هو القائم على مثل هذه
العلاقة.
ـ أليس هذا ما نراه في الحركات الاحتجاجية اليوم؟
ـ هكذا أقرأ
لينين: لقد عجز الناس عن التنظيم الذاتي في روسيا سنة 1916 لأنهم لم يكونوا يفعلون
هذا في العمل. وبقدر ما يرى المرء الناس في أيامنا هذا قادرين على تنظيم أنفسهم في
العمل وفي حياتهم اليومية، يمكن للمرء أن يأمل في أن يوجدوا تنظيما سياسيا قويا
قائما على ممارسة الناس للتنظيم الذاتي. وغالبا ما يخطر لي أن جيفرسن ولينين توصلا
إلى نفس النقطة: فقد كتب جيفرسن يقول إن "هذه التجربة قد تتمخض عن أن يأتي في
النهاية اليوم الذي نحكم فيه أنفسنا بلا حكام". كلاهما أدركا أن الديمقراطية
ليست شيئا تلقائيا يولد به الناس، لكن لا بد أن يكون حكمنا لأنفسنا بغير سادة
نتاجا لتقدم سياسي. لا يبدو لي أننا وصلنا إلى هذا ولكننا على الطريق.
مايكل هاردت
هو أستاذ الأدب بجامعة ديوك وأستاذ الفلسفة والسياسة بالمدرسة الأوربية للدراسات
العليا في ساسفي. قبل أن يحصل على الدكتوراه في الأدب، كان قد درس الهندسة في
المرحلة الجامعية.
نشر الحوار
أصلا في ذي يوربيان مجازين ونشرت الترجمة اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق