اختيار قصائد سلفيا بلاث
كارول آن دافي
أسابيع قليلة
كانت قد انقضت على عيد ميلادي السابع عشر عندما ماتت "سلفيا بلاث" في
الحادي عشر من فبراير سنة 1963، أثناء أسوأ شتاء مرت به انجلترا في تاريخها المسجل.
كان للجليد ـ العميق بما يشكل خطرا على الأطفال ـ هديرٌ في آذاننا ووعيد مدوٍّ،
ونحن نهوي بين أذرعه الباردة لننحت منه الملائكة، وفي الصباح كانت نوافذ غرف النوم
تكون معتمة تماما من وراء الجليد.
في لندن، كانت سلفيا
بلاث قد كتبت إلى أمها في الولايات المتحدة تقول "الحمد الله أني خرجت من
دنفور في الوقت المناسب، وإلا لبقيت فيها إلى أبد الآبدين مدفونة تحت عشرين قدما
من الجليد لا أملك أن أنقب لنفسي مخرجا منه". محشورةً في شقة في بريمورس هيل،
في البيت الذي كان يسكنه من قبلها شاعرها المحبب "دبليو بي ييتس"، مع
طفلين، وبدون هاتف، منفصلةً عن زوجها الشاعر "تيد هيوز"، عاشت بلاث في دوامة
ذلك الاكتئاب المرضي القاتل الذي استولى عليها منذ مراهقتها استيلاء الطاعون. كانت
في الثلاثين.
على الرغم من
أنها كانت قد نشرت مجموعتها الشعرية الأولى "التمثال وقصائد أخرى" The
Colossus and Other Poems سنة 1960
وروايتها "الناقوس الزجاجيThe Bell Jar"[1]
قبيل وفاتها، إلا أن شهرة بلاث الكبيرة والدائمة لن تتحقق لها إلا بعد الوفاة، في
أعقاب نشر آريل Ariel سنة 1965.
عاشت سلفيا
بلاث حياة الشاعرة بأكثر الصور استثنائية ـ "تائهة، وسط حبال النور" ـ
وليس أقل مظاهر ذلك أنها كانت بمثابة بطلة في أوساط الحركة النسائية في الستينيات
والسبعينيات. فها هو صوت شعري واضح الأسلوب، راديكالي بتفرد، وهو يتخذ لنفسه
موضوعا غير مسبوق في متن الشعر من قبل: تجربة أن يكون الإنسان امرأة. لقد كتبت
بلاث في الجندر والأمومة والزواج والخيانة والأمراض الانتحارية في قصائد تضيئها طاقة
الحب والغضب إضاءة البرق إذ يلتمع على المستنقعات.
تأثرت بلاث ـ
بسبب نظام ورش الكتابة الإبداعية الأمريكية ـ بالشعراء الاعترافيين من أمثال روبرت
لويل وآن سكستن، ولكنها كانت ترى نفسها شاعرةً للصنعة عندها أهمية كأهمية ارتياد
الذات واستكشافها:
"أعتقد أن
قصائدي تأتي مباشرة من التجارب الحسية والعاطفية التي أمر بها، ولكن لا بد لي من
القول بأنني لا أملك أن أتعاطف مع صرخات القلب التي لا تطلقها إلا إبرة أو سكينة
أو ما لا أدري. أعتقد أن على الواحدة أن تسيطر على تجاربها وتراوغها، حتى أشدها
ترويعا ـ كالجنون والتعرض للتعذيب وهذه النوعية من التجارب ـ وعلى الواحدة أن
تراوغ هذه التجارب حينما تراوغها بعقل حاضر وذكي".
بلاث، شأن كل
الشعراء العظماء، تطارد القصيدة مطاردة لا تعرف الرحمة. وعلى الرغم من أنه لا
يمكننا التفكير في القصيدة بمعزل عن الحياة ـ كما هي الحال مع أوسكار وايلد مثلا
أو شعراء الحرب، إلا أن لديها ضربا من الانفصال النوراني الذي يطلق في نهاية الأمر
قصيدتها حرةً من حياتها. ويكتب هيوز في مقدمته لـ "القصائد الكاملة"
(1981) قائلا: إن سلفيا بلاث "كانت في تعاملها مع الشعر تنحو منحى الحرفية،
فإن لم يتسن لها أن تخرج من الخشب بمنضدة، فلا بأس بمقعد أو حتى دمية".
وعن قصائد آريل
يعلق "شيمس هيني" قائلا "إنها تمتلئ في ذاتها بالابتهاج، ابتهاج
العقل الذي يبدع إبداع روح ساخرة، معريا الشخص من معاناته. وهي مؤثرة بلا تردد،
مقتحمة سامعيها، وهي ـ أي القصائد لا الشاعرة ـ ما نراه".
كنت في الخامسة
والعشرين حينما حصلت على كتاب "القصائد الكاملة" هدية في عيد ميلادي،
ولكنني كنت قد تعرضت لقصائد منفردة من الكتاب من قبل (أتذكر وأنا طالبة أنني
استشهدت وأنا طالبة بقولها الصادق العجيب "يا لها من نشوة/إصبعي لا
البصلة"، وذلك حينما جرحت نفسي جرحا بالغا وأنا أجهز السلاطة، ويخطر لي الآن
أن بين قصيدتي "فالنتاين" وقصيدتها
"جرح" رباطا من دي إن آيه مشترك) ومع ذلك كان هذا الكتاب أول لقاء حقيقي
ـ وصاعق ـ لي مع شعر بلاث. شعرت أيامها، مثلما أشعر الآن، وكأنني أقرأ شاعرة معاصر
ومفارقة. بعد سنتين، في عام 1983، كنت محظوظة أن فزت بمسابقة الشعر الوطنية عن
قصيدتي "أيا من كانت"، وهي قصيدة عن الأمومة ما كانت لتكتب لولا بلاث.
كان من بين
المحكمين الشاعرة الولزية "جيليان كلارك" المولودة سنة 1937، أي بعد
خمسة أعوام من بلاث. ولقد كتبت لي مؤخرا تقول:
"إنني لم أعرف ـ إلى أن قرأت بلاث ـ أن ما أكتبه
قصائد من الأساس، وبالذات ’الساعة الشمسية’. وأغلب النساء أيامها (وذلك هو جيل
النساء اللاتي كن يذهبن إلى الجامعة ـ إن كن ذكيات ـ ويحصلن على الدرجات العلمية، ثم
هن يتزوجن لينجبن أطفالا وهن في العشرينيات من أعمارهن) كن يجدن أنفسهم في البيت
والأطفال من حولهن، وهن يشاهدن ’حيواتهن المهنية البراقة’ ودرجاتهن العلمية
الجديدة اللامعة تذهب إلى المجهول. آن ستفنسن الأمريكية (وهي أكبر سنا مني) كانت
ترى نفسها "شاعرة" وهي لا تزال في الجامعة. أما في بريطانيا فلم يكن
الحصول على درجة علمية في اللغة الإنجليزية إلا مسألة أكاديمية بحتة. جيل ما قبل
بلاث من الطلبة البريطانيين درس أعمال الرجال الموتى القدماء، وهم مهما تكن
روعتهم، كانوا قيدا على فكرة أن النساء أيضا قد تكن من جملة الشعراء. في ذلك الوقت
كانت بلاث عندما تتكلم تؤجج النار في قلوب آخر جيل من شاعرات بريطانيا الصامتات.
كلنا بدأنا نتكلم، كل بطريقتها، لأنه على حين غيرة بدا أن هناك من يسمع".
كانت الكاتبات
تصغين لبعضهن البعض. بدأت كلارك تنشر شعرها سنة 1971، بعد سنة من نشر "المخصيِّ
الأنثى" لـ جرمين جرير. مجموعتي الأولى "عارية واقفة" صدرت بعد
أربعة عشر عاما، أي عام 1985، وأنا تقريبا في مثل عمر سلفيا بلاث عنما ماتت. كان
من بين الشاعرات الكبيرات في ذلك الوقت كاتبة السيرة الذاتية لبلاث ـ ولكن في وقت
لاحق ـ آن ستيفنسن، وفلور آدوك، وإيلين فينشتين، وجيني جوزيف، وروث فينلايت (صديقة
بلاث)، وباترشيا بير، وإليزابث جينينجس، وكذلك القادمات الجديدات يو آيه فانثورب،
وليز لوكهيد وفيكي فيفر، وهن الشقيقات الكبريات اللاتي مهدن الطريق إلى حد بعيد
أمام جيلي. كانت الواحدة تنظر إلى الولايات المتحدة وترى شعر إليزابث بيشب، وآن
سكستن، وآدرين ريتش، وإلى أيرلندا حيث الأعمال الأولى لإيفان بولند المعجبة بريتش.
أما التي كانت تطل على كل تلك المواهب المتباينة جميعا فهي بلا جدال سلفيا بلاث.
تأتيني بلاث ـ
ولما نمتلك بعد رفاهية النضج ـ بكونها الشعري الخاص المخلوق من أوله إلى آخره.
مجازها مدهش، وصاعق في بعض الأحيان أو منفر، فيه من الشجاعة ما كبّدها ـ في نهاية
المطاف ـ الكثير:
ومرة أخرى
أفعلها.
في عام من كل
عشرة أعوام
أقدر عليها ـ
معجزة تمشي على
قدمي،
ذات جلد ساطع
كأنه مصباح
نازي
بقدمي اليمنى
كثقالة الورق
ووجهي
كتان يهودي
فاخر
بلا قسمات
انزعوا عني
الغطاء
يا أعداء
[وانظروا]
هل أنا مخيفة؟
في موازاة
مقالة "دبليو إتش أودن" الملتوية والمناصرة في الوقت نفسه لكتاب أدرين
ريتش الأول "تغيير العالم"
(والذي قال فيه إن قصائد ريتش "أنيقة
الثياب بسيطتها، تتكلم بخفوت لكنها لا تهمس، تحترم الأكبر سنا لكن لا تخضع لهم، ولا تقول إلا الصدق")، كان شعر بلاث بمثابة "تصريح بألا تكوني
لطيفة".
تقوم ميثولجيا
بلاث الشخصية على "رجل في الزي الأسود" هو الأب الراحل الذي تستهدفه
الكثير من القصائد. وتشيع في قصائدها الأقمار والمرايا، والشموع والأشجار. فهي ترفع
عينيها إلى القمر لتراه "محملقا من قبعته العظمية"، لكن قصائدها الأخيرة
والعظيمة تشدها إلى الأرض. ومثلما قالت آن ستيفنسن "في اثنتي عشرة قصيدة
أخيرة كتبت قبيل وفاتها، هذه القصائد تبدي ميتافيزيقا عدمية لم يبد أن ثمة مهربا
منها إلا الموت". غير أن هيوز شعر بأنها "كانت مرغمة أن تكتب تلك الأشياء،
وإن تعارضت مع مصالحها الحيوية. لقد ماتت قبل أن تعرف ما الذي ستفعله في حياتها
رواية ’الناقوس الزجاجي’ وقصائد آريل".
الشعراء في
النهاية محتفون، بالحياة وبالشعر ذاته. وشاعرة محترفة مثل بلاث ترد إلينا الحياة
مرة أخرى في لغة براقة ـ صحيح أنها حياة عظيمة المعاناة، ولكن فيها مع المعاناة
بطيخا وسبانخ وتينا وأطفالا وريفا وخلدان ونحلا وتيوليبا ومطابخ وصداقات. وقد يكون
في شعر بلاث شيء من برودة الانفصال عن العالم، فهي ـ مثل ييتس" تنظر بـ
"عين باردة، إلى الحياة، وإلى الموت"، ولكنها في الوقت نفسه تقوم بتوظيف
اللعب الكوميدي، ولديها شهية عظيمة إلى التجربة الحسية، وفي شعرها بهجة الموسيقى
والقوافي المتلاحقة.
في مختاراتي
التي تصدر عن فيبر لتوزع مع "القصائد الكاملة" محاولة لرصد تاريخي بعض
الشيء لتجربتها، وقد حاولت أن أسير عبر أفق شعر بلاث وكأني أتعرف به للمرة الأولى،
وقد كبرت خمسين عاما عما كنت عليه عند وفاتها. وفي ثنايا ذلك، مررت مرة أخرى
بالتجربة الطازجة، واستشعرت اللذة شبه الجسدية التي استشعرتها عندما قرأت للمرة
الأولى تلك الشاعرة الحية الذكية الشجاعة التي غيرت من أجلنا جميعا عالم الشعر
كله.
نشر هذا
الموضوع أصلا في الجارديان ونشرت الترجمة اليوم
الجمعة التاسع من نوفمبر 2012 في ملحق مرايا الذي يصدر مع جريدة عمان
[1] تصف "إستر" بطلة الرواية ما تشعر به باكتئاب بقولها إنها
واقعة في شرك ناقوس زجاجي، عاجزة عن التنفس، والناقوس الزجاجي جهاز معملي يستخدم
في تكوين الفراغ، وقد يكون في شكله شبيها بالجرس وتستعمل في صناعته مواد مختلفة
تتراوح ما بين الزجاج وأنواع مختلفة من المعادن، ـ بحسب ويكبديا الإنجليزية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق