ما أشبه
يوم الإسلاميين بالبارحة .. دروس 1979
كرستيان
كاريل
متظاهر أمام السفارة الأمريكية في تونس في 12 سبتمبر |
إنه العام 1979 ـ وفيه قام الثوار
الإيرانيون باقتحام السفارة الأمريكية في طهران وأسروا عشرات الدبلوماسيين
الأمريكيين، وفيه أيضا، وداخل المملكة العربية السعودية ـ حليف الولايات المتحدة
المخلص ـ قام متطرفون إسلاميون بالاجتراء على محاصرة المسجد الحرام في مكة، وتلك
كانت بداية ظاهرة إسلامية جديدة عرفة بالإسلامية Islamism.
من المؤكد أن المنظرين للإسلام السياسي
والمناصرين له كانوا موجودين منذ فترة، كما كانت هناك انفجارات استثنائية للنشاط
الإسلامي في أرجاء العالم الإسلامي في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بل إن
حديثا دار في بعض البلاد عن "صحوة sahwa " الوعي السياسي الإسلامي. ولكن
قليلين من خارج الأمة ummah ـ أي المجتمع العالمي لأتباع الإسلام ـ
هم الذين أعاروا انتباههم، والولايات المتحدة بالذات ضبطت متلبسة بالغفلة بينما
آية الله الخوميني يتقدم على طريق تحويل نظريته الخاصة بالحكم الإسلامي إلى واقع
ملموس.
لم يكن الإسلام السياسي قد أصبح نظرية
بعد. ولكنه أصبح قوة عملية نشطة في السياسات العالمية.
ربما يكون لنا نفع في تذكر أحداث عام
1979 ونحن نتأمل واقعة الموت المأساوي الذي مني به سفير الولايات المتحدة لدى
ليبيا "كرستوفر ستيفنز" ووقائع الاعتداءات على المباني الدبلوماسية
الأمريكية في القاهرة وصنعاء وتونس وسواها في العالم الإسلامي. (من المثير ان ذلك
العام شهد آخر حالة وفاة لدبلوماسي أمريكي خارج أمريكا ـ قبل كرستوفر ستيفنز ـ وهو
الدبلوماسي سيء الحظ أدولف دابس الذي لقي مصرعه أثناء محاولة فاشلة لأسر رهائن من
فندق في كابول). غير أن أحداث هذا الأسبوع
يبدو أن وراءها ـ ولو جزئيا على أقل تقدير ـ فيلما مسيئا للإسلام. ولكنها
أعمال سيطرت عليها جماعات لم تكن معروفة تقريبا قبل الثورات العربية الأخيرة،
وأعني الإسلاميين السلفيين. ومرة أخرى تأتي هذه القوة السياسية المتنامية من داخل
العالم الإسلامي ـ وهي قوة لم يكن الغربيون يعون بوجودها إلا لماما ـ ولكنها أثبتت
بصورة دراماتيكية مقدرتها على صياغة السياسات العالمية.
وشأن الإسلاميين في عام 1979، لا يمكن
النظر إلى السلفيين (وهم أنصار الرجوع إلى إسلام النبي وأتباعه الأوائل النقي من
كل شائبة والبعيد عن كل مظاهر الحداثة) بوصفهم وافدين جددا. فالجماعة السلفية في ليبيا
التي أعلنت مسئوليتها عن اغتيال ستيفنز هي جماعة أنصار الشريعة، وهي جماعة متطرفة
ظهرت بعد سقوط القذافي ويعتقد أن لها آلافا من المؤيدين. وهي جماعة معروفة لدى
الليبيين بدأبها على تدمير أضرحة الصوفية التي يعتبرها السلفيون رموزا لانحراف
العقيدة. (يجل الصوفية بعض الراحلين منهم ويعدونهم في مقام القديسين والأولياء،
وهو ما يعتبره السلفية فعلا وثنيا؛ فهم ملتزمون بالعقيدة الإسلامية القائلة بأن لا
إله إلا الله).
لقد جاء فوز حزب النور السلفي في مصر
بربع مقاعد البرلمان بمثابة صدمة لجميع المراقبين الغربيين، فقد حصل الحزب على
قرابة ربع أصوات المصريين في أول انتخابات ديمقراطية فعلا تشهدها مصر، ويبدو أيضا
أن هؤلاء السلفيين المصريين كانوا من بين المحرضين الأساسيين على الاعتداء على
سفارة الولايات المتحدة في القاهرة يوم الثلاثاء الماضي. وفي تونس ـ التي تحظى
بسمعة طيبة بوصفها إحدى أكثر دول المنطقة تسامحا ـ تصدر السلفيون العناوين
بتمزيقهم العلم الوطني (واستبدالهم به راية سوداء هي راية الإسلام النقي) ومهاجمة
أماكن بيع الكحول، وانتقاد اللاعبات التونسيات المشاركات في الأولمبياد. علاوة على
أن السلفيين في تونس لعبوا دورا بارزا في مظاهرات السفارة الأمريكية في تونس.
يتبين من هذه الدول الثلاث، أن الربيع
العربي كان خيرا على السلفيين، فقد أتاح لهم الظهور بل والبروز في مجتمعات لم تكن أنظمة
الحكم الدكتاتورية الغابرة فيها تسمح لهم إلا بالانزواء بعيدا عن المشاركة في
السياسة. (وإن كان كثير من المصريين في واقع الأمر ينظرون إلى السلفيين بريبة لما
تردد عنهم من تعاون مع شرطة مبارك السرية في الأيام الخوالي). ولكن السلفيين الذين يوصفون ـ بدون الاستناد إلى إحصائيات
واضحة ـ بأنهم الجماعة الأسرع تزايدا، حققوا نموا واضحا ونفوذا متزايدا في أماكن
متباعدة تباعد كشمير وشمال القوقاز ولبنان وغزة والعراق.
تتسم الحركة السلفية ـ إن كان بوسع
المرء أن يتكلم عن حركة متماسكة ـ بالتشظي والتعدد وعدم الانتظام في ظل قيادة
واضحة. والأسباب التي تعزى إليها سرعة صعود هذه الحركة أسباب معقدة للغاية. ولكن
من السهل علينا أن نتخيل أن أحد أكبر الدوافع يتمثل في جاذبية الأجوبة البسيطة
التي تقدمها السلفية في وقت يشهد تغيرات متلاحقة وراديكالية. فالدعوة إلى
"العودة إلى الجذور" تمنح وضوحا
ومباشرة تتناقض تناقضا صارخا مع سياسات الفساد والعجز التي تسم الحكومات
الاستبدادية والديمقراطيين المهادنين الحذرين.
ولا أعني بهذا أن المسلمين كلهم
بالضرورة يعتنقون هذا الاتجاه. إن القالب الذي يتبعه أكثر السلفيون هو الإسلام
الطهراني المتزمت المتبع في المملكة العربية السعودية، وهو نسخة من العقيدة لم تلق
الكثير من الرواج في أرجاء العالم الإسلامي على الرغم من الجهود السعودية لتمويل
انتشار هذه النسخة. (من المؤكد أن التمويل السعودي السخي للجماعات السلفية في
العالم يمثل عاملا من عوامل نموها السريع، برغم أن السعودية من جانبها تقمع
سلفييها كلما تعلق الأمر بالعمل السياسي داخل المملكة). بل إن علينا أن نحذر
التعميمات الكسول. فبعض السلفيين مسالمون أو هم بعديون عن السياسة، وبعض منهم يكن
تعاطفا سافرا مع المنظمات الجهادية. ولكن علينا هنا أيضا أن ننتبه إلى فوارق
واختلافات جوهرية. فجماعة أنصار الشريعة توصف الآن بالفعل في بعض الجهات الإعلامية
الغربية بالتابعة للقاعدة، برغم أنه لم يثبت وجود أي روابط تنظيمية مباشرة بين
الجماعتين. وفي مثل منطقية هذه العلاقة المحتملة، محتمل أيضا أن يقرر الجيل الجديد
من المتطرفين السلفيين أن يقدموا أنفسهم بوصفهم مناقضين لاسم القاعدة القديم الذي
لم يحرز أي نجاح في إقامة حكومات متصالحة مع الشريعة.
ومع ذلك، وفي ضوء صعود السلفيين
وبروزهم، فإن تورطهم في موجة العنف الأخيرة لا يبشر بخير. غير أنه من بشائر الخير
أن نرى أن أغلبية المسلمين في الدول المعنية غير منجذبة تقريا إلى المشاركة في مثل
هذه الأفعال، بل إنه مما يبعث على الأمل أن نرى بوادر على أن العنف في ليبيا (التي
نجح متطرفوها في قتل دبلوماسي كان له دور محوري في النضال ضد القذافي) قد ينال من
المتطرفين أنفسهم.
لكن خطر السلفيين الحقيقي لا يكمن في
مقدرتهم على اجتذاب الأغلبية بقدر ما يكمن في مقدرتهم على الاستقطاب. ففي الدول
ذات الأقليات الدينية الضخمة (مثل مصر بأقباطها المسيحيين الكثيرين)، غالبا ما نرى
السلفيين يتصدرون جهود تهميش الجماعات غير الإسلامية.
في ليبيا وتونس تعمل الجماعات السلفية
بجد على النيل من الحكومات المنتخبة انتخابا ديمقراطيا. ولعل الأكثر إثارة
للتخوفات في تنامي نفوذ السلفيين ـ وهم من غلاة السنة الذين يميلون إلى اعتبار الشيعة مهرطقين ـ كفيل
بإثارة توترات مذهبية في وقت يظهر فيه الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط شديد
التأثر بالانقسامات المذهبية.
ومن المهم أن نتذكر أن قليلين في عام
1979 هم الذين استشرفوا أن إيران سوف تقيم جمهورية إسلامية سوف تبقى في السلطة
لثلاثة عقود تالية.
ما أريد قوله هو أنه لا ينبغي لأحد أن
يتوقع من السلفيين ـ بكل التعقيدات التي يتسببون فيها لعلاقات الولايات المتحدة مع
الشرق الأوسط الجديد ـ أن يختفوا قريبا من المشهد.
عن نيويورك رفيو أوف بوكس
نشر في جريدة عمان بتاريخ 15 سبتمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق