تيري
إيجلتن: لم أعد أعرف أحدا يريد البقاء في الجامعة
حاوره: ألكسندر باركر
ـ أليكس نيفن
ذي أوكسونيان رفيو
يشكل "تيري إيجلتن" طوال حياته المهنية الممتدة على
مدار عقود عديدة جزءا من الثقافة البريطانية يصعب تغييره. ولد ونشأ في سالفورد
بمانشستر لأبوين كانا مهاجرين أيرلنديين من الطبقة العاملة، فاز بمنحة لدراسة
الأدب الإنجليزي في كمبريدج حيث درس على يد [الروائي والناقد والأكاديمي] ريموند
وليمز. عرف أثناء عمله الأكاديمي في كمبريدج ثم في أوكسفورد بقراءاته الماركسية
للأدب الإنجليزي، وبمناصرته للنظرية القارية continental theory في مرحلة مبكرة
نسبيا ثم أثناء هيمنتها. أصبح كتابه "نظرية الأدب" (الصادر سنة 1983)
الكطتاب الأول بل الكلاسيكي في موضوعه، ومنذ صدور ذلك الكتاب واصل إيجلتن تقديم تحليلاته
النظرية لطائفة من المواضيع ابتداء من عروض الشعر وحتى ما بعد الحداثة من خلال صوت
نقدي مثير للجدل وسهل على القراء وواسع الاطلاع. يحاول إيجلتن في أحدث كتبه
"وكان ماركس على حق" أن يلخص ويعيد تقديم المبادئ الماركسية في سياق
الأزمة المالية العالمية وفي مناخ يشهد صعودا لمناهضة الرأسمالية.
ـ لماذا كان ماركس على حق؟
ـ سألني شخص ليلة أمس هذا السؤال فكانت إجابتي هي اليونان.
هناك مفارقة في حقيقة أن يقوم شعب أغنى الحضارات الإنسانية في التاريخ بتقليب
حاويات النفايات بحثا عن طعام. ذلك في ظني هو التناقض الذي تكلم عنه ماركس. أكدّت
أيضا على فكرة أن ماركس كان معجبا بقدرة الرأسمالية في مجال زمني قصير للغاية على
مراكمة ثروات ـ مادية وروحية وثقافية ـ ولكن مع عجزها عن عمل ذلك بدون ما يناقضه
من خلق للتفاوت في الوقت نفسه، ونحن نرى مثالا صارخا على هذا في اليونان اليوم.
هذا مثال أضربه لأبين أهمية ماركس اليوم. فماركس لا يحظى بالأغلبية حتى في أوساط
حركة مناهضة الرأسمالية. هذا أمر ينبغي للمرء أن يقوله. ذلك يرجع إلى ما لقيته
الماركسية من تشويه على يد الستالينية، وهو تشويه سوف يحتاج اليسار الماركسي إلى
وقت طويل قبل أن يبرأ منه. ولكنني بصفة شخصية لست مشغولا بأن يضع الناس لافتة
"الماركسية" على صدورهم طالما
هم يتبنون موقفا انتقاديا مت الوضع الراهن. ليس مهما بأي اسم يسمون أنفسهم.
ـ هل تعتقد في هذه اللحظة من التاريخ أنه يمكن استخدام كلمات
مثل الماركسية والشيوعية والاشتراكية واليسارية بالتبادل فيما بينها، أم أنك تصر
على التفرقة الحادة؟
ـ لا، ما قلته يشير إلى إن هذا غير ممكن، فالمرء قد يكون
يساريا جيدا ومفكرا مناهضا للرأسمالية، دون أن يكون مدينا للماركسية بشيء. أنا لن
ألح أكثر مما ينبغي على الحاجة إلى أن يكون ماركس محقا، برغم أنني أفترض أن
الماركسية هي الانتقاد الأساسي المناهض للرأسمالية داخل اليسار. ما يدهشني هو
التغير الدراماتيكي الذي طرأ على المشهد منذ ابتداء الألفية على سبيل المثال. فعند
بداية هذه الألفية كان يفترض بالتاريخ أن
يكون انتهى. فالرأسمالية كانت في حالة ثقة بنفسها بل وفي حالة غطرسة. ثم إنه منذ
سقوط مركز التجارة العالمية، بات هناك ما يقال له الحرب على الإرهاب، والأزمة
الرأسمالية الهائلة، والربيع العربي، ومجتمعات كالمجتمع اليوناني تترنح على شفا
تغير راديكالي، وغالبية الشباب الأمريكي يفضل الاشتراكية على الرأسمالية. ما كان
لامرء أن يتوقع ذلك قبل عشر سنوات. لذلك أتصور أن الأزمة الرأسمالية بالطبع هي
التي أعادت الماركسية، أو الاشتراكية على اقل تقدير، إلى الأجندة. لا لأن الناس
بدأت بغتة تقرأ ماركس أو أن أجيال اليسار الجديدة نشأت عفوا. الأزمة دائما هي التي
تظهر النظام، تظهر حدوده، والأنظمة في العادة لا تحب ذلك، ومن ثم يتسنى للناس أن
تنظر إليها بأعين انتقادية جديدة.
ـ تكلمت عن أن ماركس ما كان يشعر بضرورة أن تكون الثورة عنيفة.
هل تشعر أن ما يجري حاليا من ردود أفعال على الأزمة وعواقبها هو بداية ثورة بهذا
المعنى؟
ـ أعتقد أنه قد يكون من التعجل قليلا أن أقول بهذا. أعتقد أنني
أفضل أن أنتظر وأرى. لطالما تكلم الاشتراكيون عن أوضاع ما قبل الثورة. ولا أعتقد
أن أشخص الوضع الحالي بهذا التشخيص. وماركس طبعا كان ضد التنبؤ، وتنبؤاته الخاصة
انتهت إلى فشل ذريع. يمكنني القول بأنه دائما يكون من التعجل الإفراط في تقدير
سقوط قوة النظام. فهم لديهم من الدبابات أكثر مما لدينا بكثير. من ناحية أخرى، لا
يمكن للرأسمالية ـ شأنها في ذلك شأن أي نظام سياسي آخر ـ أن تعمل بدون قدر معين من
المصداقية. هي لا تحتاج إلى احتفاء الناس بها، لكنها بحاجة طبعا إلى أن يتواطأ
الناس معها تواطؤا سلبيا على أقل تقدير. والوضع في اليونان اليوم ليس كذلك، الوضع
هناك فيما أتصور خطر خام من جانب الشعب الذي ليس راديكاليا بطبيعته. وليس من
المستبعد أن ينتشر هذا المزاج إلى أوربا، من يدري؟ الشعوب في تصوري لا تلجأ إلى
الخيار الراديكالي إلا إذا استشعرت أن النظام
تجاوز الإصلاح. وطالما هم يشعرون أنه قادر أن يوفر لهم فتات الفوائد، يبقون
محلك سر، ذلك أن في التغيير خطرا وهجوما بالنسبة للناس الخائفين. لكن إذا ما تبين
أن النظام عاجز عن إمداد الناس بأي فائدة، وهذا يتجلى حينما نرى أمة بكاملها تنقب
في حاويات النفايات عن طعام، فما من سبب ثمة يجعل الناس تحجم عن التفكير في بديل.
ـ قلت في مكان ما ، ربما في كتاب سيرتك الذاتية (2002)، إن لك
عزاء كبيرا في حقيقة أنك لم تسر وفق مسار الشاب الراديكالي الذي ينتهي به الأمر
محافظا عجوزا. ومع ذلك ففي كتبك الأخيرة حركة تتجه إلى التعامل مع الثيمات
الميتافيزيقية الكبرى: التراجيديا، الشر، الدين، الحب، الموت. هل أنت واع بهذا
التحول؟
ـ أما عن اجتناب نمط الغاضب في الشباب الرجعي في الشيخوخة،
أعتقد أن ما منعني من ذلك، كما أقول في كتاب ماركس، هو أن ما جعل الناس يهجرون
اليسار ليس أنهم غيروا وجهات نظرهم في
النظام، بل أنهم رأوا أن كسره في غاية الصعوبة. زال سحر هذا الخيار في سنوات طفرة
الرأسمالية على أيدي تاتشر وريجان، سنوات رأسمالية رعاة البقر والنيولبرالية. بدا
ببساطة أنه لم يعد من المجدي محاولة تغيير هذا النظام. وهذا من ناحية باعث على
الاكتئاب، لكنه من جانب آخر مشجع. فالناس لم تنحن للنظام لأنه نظام عظيم (باستثناء
واحد من تلامذتي تحول من ماركسي راديكالي إلى سمسار في البورصة لأنه بات مقتنعا بأن الرأسمالية هي
أجمل ما حصل في الدنيا منذ ميكلانجلو). ذلك إذن هو السبب الذي جعلني أبقى على
مقوفي، وكثيرين غيري.
أفترض أن من مزايا تراجع اليسار، هو أنه للمفارقة يعطيك الوقت
للتفكير في السياسات، بدلا من عبادتها. السياسات ليست كل شيء. وأنا لم أعتقد يوما
أنها كل شيء، لكن عندما يكون اليسار مهيمنا، يصعب التفكير فيها بهذه الطريقة.هناك
إذن مكاسب من الوضع في هذه اللحظة، منها أن بوسع المرء أن يأتي بأفكار أو يفكر في
الموضوع وأعتقد أن ذلك بعض مما كنت أفعله. لا أقول إني هجرت السياسة، بل حاولت أن
أضيف إليها عمقا، وأن أنفصل في ثنايا قياما بهذا عن ثالوث الطبقة والعرق والنوع.
فعلى الرغم من أنها مواضيع بالغة الأهمية، إلا أنها أصبحت تحت أرجل اليسار الثقافي
أشبه بخطوط السكة الحديدية.
ـ هل تعتقد أن هناك احتمالا لقيام تحالف بين الدين والسياسات
اليسارية؟
ـ يمكنك بمعنى من المعاني أن تقول إن هذه هي ثيمة أعمالي
الفكرية كلها. ذلك قد لا يكون واضحا أو لغيري. لكنني بدأت بالطبع وأنا في كبمريدج
كاثوليكيا يساريا في عز أيام المجلس الفاتيكاني Vatican Council. وأفترض أن من الممكن القول بوجود تيار
تحتي من "المسيحية السياسية" في أعمالي. هذا التيار برز اليوم إلى
السطح، وكانت هناك أقوات ـ لا سيما في ما يمكن أن نسميه بمرحلتي الألثوسرية Althusserian
ـ لم يكن فيها ذلك التيار واضحا.
ـ قد يرى كثيرون أن هناك تناقضا بين الماركسية والمسيحية،
فمثلا ...
ـ حسن، لا أظنني أقول بأنني كاثوليكي روماتي. أنا نشأت وسط تلك
الثقافة، وهي ثقافة، وذلك من بين الأشياء الجذابة فيها. يحدث أن يقابل المرء
كاثوليكيا من كوريا، فإذا قدر هائل من المشتركات بين المرء وبينه. كأن يكون المرء
يهوديا، بمعنى من المعاني. أنا لا علاقة لي بالفاتيكان وبكل تلك الأمور. لكنني
أعتقد أن ما يثير اهتمامي هو تيار لاهوتي معين، وما ينطوي عليه من إيحاءات سياسية.
وطبعا كثير من ذلك جاء إلى صدارة المشهد في السنوات الأخيرة. لو فكر المرء في عدد
اليساريين الغنوصيين أو الموحدين بدءا من أجامبين وجيجيك وهابرماس وباديو ممن
يتناولون ثيمات لاهوتية، يرى المرء أن ذلك كان اتجاها.
ـ ما أهمية أيرلندا بالنسبة لك؟ ذلك أنه من الواضح أنك نشأت في
مانشستر، هل اهتماك بالأيرلندية دافع منفى؟
ـ لا أعرف في واقع الأمر. أنا كتبت كثيرا عن أيرلندا في تسعينيات
القرن الماضي، كتبت ثلاثية عن التاريخ والثقافة والأدب في أيرلندا، ومنذ ذلك الحين
ابتعدت فكريا عن أيرلندا. لا أزال أعيش هناك، لكنني لم أكتب كثيرا منذ ذلك الحين.
اللهم إلا أنني كتبت عرضا في "لندن رفيو أوف بوكس" لرواية تتعلق
بالأيرلندية، وذهبت في هذه المقالة إلى أن الأيرلنديين خلقوا لتنتاب غيرهم من
الناس مشاعر رومانتيكية حيالهم. الشيء الذي أقدره في أيرلندة، وذلك أيضا قلتها في
مقالتي ـ هو أن صادراتنا الرئيسية هي الثقافة، ابتداء من بونو وريفردنس وصولا إلى
شيمُس هيني وفرايل
، وهذا ظريف. وأنا أقدره. ولكن العيش في جزيرة صغيرة مترابطة
له انتكاساته، ليس أقلها أنك حينما تكون شبه دخيل، كما هي حالتي، فعليك في بعض
الأحيان أن تتحلى بالحذر. لا أعرف. أفترض أنني طوال الوقت كنت أعرف أيرلندا معرفة
تحول دون أن تنتابني مشاعر رومانتيكية حيالها.
ـ وماذا عن الإنجليزية Englishness ؟ هناك كلام كثير
يتردد الآن عن ذلك ...
ـ نعم. من نواح كثيرة أشعر أنني إنجليزي. ما أقوله في بعض
الأحيان لمن يسألونني عن هويتي، من حيث الجنسية، هو أن الأمر غير مهم بالنسبة لي،
وهذه ميزة. الهوية من حيث العرق أو الجنسية لا تكون مهمة إلا حينما تكون سببا في
قهرك، حينما يستخدمها غيرك ضدك، حين يشقيك بها سواك. وهذه ليست حالتي، ومن ثم
فالأمر غير مهم.
ـ كيف ترى الوضع الراهن للوسط الأكاديمي؟ أنت شهدت تطوره على
مدار عدد من العقود.
ـ أكثر الذين أعرفهم في الوسط الأكاديمي يريدون الخروج. وهذا
وضع جديد بعض الشيء. وضع أنا شخصيا لم أصادفه من قبل. حينما أتيت إلى أوكسبريدج،
في غضاضة الثامنة عشرة، كانت إلى درجة هائلة تغص بالطبقة العليا، وبالعراقة،
وعانيت فيها كثيرا. وأثناء عملي في أوكسفورد رأيت كل ذلك ـ ولو اصطناعيا على الأقل
ـ يتغير. لكن في تلك السنوات لم تكن أخلاقيات "الإدارية الجديدة Neo-managerialism " قد فرضت
قبضتها القوية كثيرا على جامعاتنا. الإدارية الجديدة هي البشاعة الملطلقة. أعني
أنها أنهت عمليا تقاليد مئات السنين ـ مائتي سنة على الأقل، تقاليد كانت الجامعة
بموجبها مركزا نقديا في مجتمع لا ريحب بالنقد خارج الجامعة. ذلك تطور تاريخي هائل،
وأنا سعيد فعلا، على المستوى الشخصي، أنه يتزامن مع خروجي من الوسط الأكاديمي. في
كل مكان أذهب إليه، من بيرو إلى أستراليا، أرى الناس تعساء مما يجري في الجامعة
التي كانت تشهد ذات يوما "أحلى أيام العمر".
ـ وما شعورك إزاء النقد الأدبي الراهن؟ أنت شخصيا تمثل حلقة في
تاريخ النقد الأدبي، تمثل مرحلة انتقال من الليفيزية Leavisism إلى الحال الراهن ...
ـ عندي كتاب سيصدر قريبا بعنوان مبتذل ابتذال "كيف تدرس
الأدب"، وذلك لأنني أخشى أن النقد الأدبي ـ كما عرفته ودرسته أنا على الأقل يكاد
يكون مات. أعني بهذا كل الأشياء التي علموها لي في كمبريدج: التحليل الدقيق للغة،
تأمل الشكل الأدبي، الإحساس بالجدية ـ كل
هذه الأشياء باتت تترك أثرا سلبيا ... أنا لم أعد أراها. في موضع ما على الدرب،
ضاعت حساسية اللغة، وهي شيء أقدره كثيرا جدا. أنا لم أعرف بهذا في حقيقة الأمر،
لأنني كنت مرتبطا بمجموعة صغيرة داخل الجامعة ولم أكن قريبا من الطلبة في مستوى ما
دون الدراسات العليا. لكنني عندما انتقلت إلى مانشستر [ابتداء من عام 2001] فزعت
لما رأيت الناس قادرين أن يتكلموا ببراعة عن سياق قصيدة، لكنهم عاجزون تماما أن
يتكلموا عنها من حيث هي قصيدة. في حين أنه سواء كان الواحد يفعل هذا بصورة سيئة أو
بعدم اكتراث كبير، إلا أنه كان شيء يتم القيام به آليا في أيامي. هذا الكتاب سوف
يصدر العام القادم، وهو محاولة حقيقية مني لإرجاع النقد الأدبي الحقيقي كما أعرفه
إلى مكانه في الأجندة. محاولة لأن أتكلم عن أشياء من قبيل القيمة والجيد، والرديء،
والشكل، واللغة، والتصوير، وما إلى ذلك.
ـ لا أقول إن هذا بالضبط هو تغيير بزاوية 180 درجة، ولكن كان
البعض ليروا أنك من المسئولين عن التحول من النقد الأدبي التقليدي إلى نهاية القرن
الماضي. هذا مثير. هذا التحالف بين تراث كمبريدج والنقد السياسي في أواخر القرن
يبدو موازيا للتحالف جديد بين الدين واليسارية الذي تكلمت عنه من قبل. يبدو أن من
طرق محاربة كل هذه الأشياء هو التحالف معها. والآن قد يتفق معك في وقفك شخص أستاذ
الشعر في جامعة أوكسفورد "جيفري هيل"، ولكنه محفظ أنجليكاني.
ـ أكيد. وهذا قبول بطبائع الأمور. فعلى المرء أن يتقبل أن تكون
بعض مواقفه موضع رضا من أعدائه، على المرء أن يتقبل حقيقة أن هناك أرضا مشتركة.
ألكسندر باركر، يدرس للدكتوراه في النظرية السياسية من كلية
لينكولن بأوكسفورد. أليكس نيفن، يدرس للدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية سان
جون، بأوكسفورد ـ وكلاهما محرران في أوكسانيون رفيو
نشر في ملحق شرفات ـ جريدة عمان بتاريخ 13 يونيو 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق