غزة .. التيوس .. فن الصبر حوار مع جيف تالاريجو
حوار: جينيفر دي ليون ـ لمجلة آجني
جيف تالاريجو مؤلف رواية "صياد اللؤلؤ" التي فازت في سنة 2005 بميدالية مؤسسة روزنتال من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وجائزة كيرياما للكتاب المميز. أما روايته الثانية "صياد العشب" فاعتبرتها الإذاعة الأمريكية الوطنية واحدة من أفضل الكتب في 2008، واعتبرها الاتحاد الأمريكي للمكتبات "الكتاب الأبرز في عام 2009" حيث صدرت طبعتها الشعبية في هذا العام. يعيش تالاريجو في بوسطن مع زوجته وابنه، حيث يعمل على رواية عن غزة في القرن الحادي والعشرين.
ـ تجري قصتك "حارس التيس الليلي" في قطاع غزة. أي دافع دفعك إلى إقامة عالم قصصي في هذا الموقع؟
ـ في زيارتي الثانية لقطاع غزة سنة 1993، ذهبت بعقلية صحفي، ولكنني عدت وبي رغبة في أن أصبح روائيا. والذي جرى أنني في عصر أحد أيام مايو، كنت جالسا في شارع المدرسة في مخيم جباليا الذي كنت أعيش فيه ضيفا على أسرة فلسطينية، ورأيت ولدين ومعهما طائر جريح مربوط بخيط حول رقبته . كان الولدان يطلقان العصفور فيخفق بجناحيه قليلا ويطير بضعة أقدام ثم يرجعه الخيط. رأيت ذلك، ورأيت فيه صورة صادمة، ولكنها تنطوي على بشارة ما. كان بوسعي كصحفي أن أكتب عنها كما حكيتها لك الآن، أما كروائي، فقد كان يمكن استغلالها فيما هو أكثر بكثير. دونت في كراستي عبارة "طائر مربوط بخيط" وظللت أحمل هذه الصورة معي نحو عام قبل أن أكتب قصة عنها. وكانت تلك أول ما نشر لي على الإطلاق من السرد.
ـ الراوي في القصة هو المسئول عن رعاية آخر التيوس المتبقية لدى "غسان أبو ماجد"أثناء صاعات حظر التجوال الليلي. غسان يقول عن تيسه إنه "آخر شيء من رائحة الأرض". أما زوجة غسان فتقول إن "كل الروابط انقطعت من زمان". إلى أي مدى كلاهما على حق؟
ـ اللاجئون في قطاع غزة موجودن فيه منذ عام 1948، في الغالب من الحالات. ويعتقد كثير من هؤلاء، منذ سنوات طوال، أنهم يوما ما سوف يرجعون إلى الأربعمائة قرية وبلدة التي فروا منها سنة 1948. أعتقد أن أغلبية كبيرة ممن في قطاع غزة باتوا يسلمون بأن هذه "العودة" التي طالما تعلقوا بها تعلقا شديدة لن تحدث، وأن غزة هي المكان الذي سوف يموتون فيه. ومع ذلك لا يزال الفلسطينيون ـ مثل كثير منا ـ متعلقين بهذه الروابط أو الصلات مع الماضي. لا يزال كثير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والأردن والضفة الغربية وغزة يحملون مفاتيح بيوتهم القديمة ، ووثائق ملكيات الأرض، وفي قصتي منهم من يحمل تيسا.
ـ وأنت تكتب القصة، كيف خطر لك أن يتكلم التيس؟ وما التحديات التقنية التي واجهتك ـ إن كنت واجهت تحديات ـ وقد لجأت إلى هذا الخيار؟
ـ منذ وقت طويل، منذ رحلتي الأولى إلى غزة سنة 1990، وأنا أكتب حكايات فيها نكهة فولكلورية، قصصا أؤلفها، وليست قصصا من الفولكلور الفلسطيني أعيد كتابتها، وفي هذه القصص غالبا ما توجد حيوانات تتكلم: بين سباع جبلية وأبناء آوى وطيور وخراف. ولفترة كنت أسير حاملا صورة تيس في غزة، تيس يمثل الرباط الأخير بين رجل وأرض عائلته. هذه صور أحملها بالشهور، بل وبالسنين، قبل أن تكتب القصة نفسها. وتلك بالنسبة لي هي قداسة الكتابة، هذه اللحظات السحرية التي تخلق فيها شيئا دون أن تعرف من أين جاء حقا. ونادرا ما أمس هذه القصص والمشاهد، اللهم إلا على سبيل التحرير والتغيير الطفيف.
أما عن التحديات التقنية، فلا أجد أنها على هذا القدر من الصعوبة. ففي قصة مثل هذه تطلبين فيها من القارئ أن يصدق أن تيسا يتكلم، أو أن طائرا يكتب، أعتقد أن على المرء منذ بداية القصة أو الكتاب أن يبيع للقارئ فكرة أن هذا التيس يمكن يتكلم أو أن هذا الطائر يكتب. وذلك يتم، في ظني، عبر اللغة والنبرة. مثلما يحدث لك حينما تقرئين الجملة الأولى من مائة عام من العزلة لجارثيا ماركيز، أو "التحولات" لكافكا، فيعرف القارئ على الفور أنه بصدد شيء مختلف للغاية.
كما أنني، من أجل أن تكون الأمور أقرب قليلا إلى التصديق، أراقب الحيوانات وأقوم بأبحاث كثيرة قبل أن ألتقط خصائص صغيرة، كأن يقف تيس على قائمتيه الخلفيتين ويستند بالأماميتين إلى جدار بينما يقضم بفمه ورقة شجرة متدلية. ذلك شيء رأيته مرات كثيرة في غزة. ما أحبه في قصص الجيوانات أنها تبقيني على مسافة ما فأحكي قصة بالغة التعقيد والالتباس، ولكن بطريقة مختلفة. والكاتب الفذ جون برجر John Berger يقولها أفضل مني "لن يحدث ثانية أن تروى قصة بعينها وكأنها القصة الوحيدة".
ـ في ثنايا قراءة القصة تبرز بعض العبارات مثل " ذكرى أليمة ووضيعة لما كان يوما، ولما لا يمكن أن يكون من جديد" و"في موضع ما من الهوة بين محاولتي أن أنسى ما جرى لأهلي ومحاولتي ألا أنسى ما حييت". لأن جزءا كبيرا من القصة يقع بالليل، داخل مخيم مفروض فيه حظر التجوال، كنت أتساءل إن كان ذلك استعارة ليمات أكبر داخل القصة، وفي التاريخ؟
ـ بالنسبة لي، كان ينتابني طوال الوقت، أثناء إقامتي في مخيم جباليا، إحساس بأني في شرك، محبوس. شعرت بذلك أثناء إقامتي القصيرة لقرابة نصف عام، وأعتقد أن ما حفظ لي عقلي وحماني من الجنون هو معرفتي أني راجع يوما إلى وطني، راجع إلى نمط حياتي الرائع في اليابان التي عشت فيها خمسة عشر عاما. أما أهل غزة، وبالذات سكان مخيمات اللاجئين الثماني، فليس هناك ذلك النور في نهاية النفق، ليس إلا العتمة. خلال عقود الاحتلال، كان حظر التجوال يفرض ليلا، ويمتلئ الليل بوقع خطى الجنود في الأزقة، وبأنوار كشافات الحراسة تكشف المخيم، ونقاط التفتيش التي لا نهاية لها ولفحصها بطاقات الهوية، وإغلاق المدارس، والإحساس المتصل بالمذلة، وكل تلك الأشياء التي تؤكد للمرء أنه ليس سيد حياته. وتلك حياة تستنزف المرء.
ـ نرجع إلى عبارة الطائر والخيط التي دونتها في دفترك سنة 1993، عندي فضول تجاه بقائك مع هذه العبارة سنة قبل أن تستخدمها. هذا ينم عن صبر مذهل، وانضباط أيضا، ومنهج يسمح لصورة بالإبحار في عقلك كل هذا الوقت. في اعتقادك أيضا، ما الضروري لكاتب كي يفهم ما إذا كان لقصة معينة أن تدور أحداثها في بوسطن أم في فلسطين أو في أي موضع آخر غيرهما؟
ـ علمني الروائي الرائع كولم مكّان Colum McCann أهمية الانضباط والتضحية اللازمة للكاتب كي يكون كاتبا. حدث ذات يوم سنة 1993 وبينما كنا نعيش معا في كيوشو باليابان أن اتصل بي كولم وقال إنه يريد أن نخرج لتسلق الجبال. وفي تلك الرحلة قال لي إنه ظل يعمل على جملة واحدة قرابة خمس عشرة ساعة. في ذلك الوقت كنت قد بدأت أكتب القصص وتعلمت مما قاله الكثير عن الكاتب وأنه لا بد أن يترك قلبه وروحه، وربما بعضا من دمه، على الصفحة البيضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق