الأحد، 26 أبريل 2020

ثمة جديد تحت الشمس ... وإنه لمريع!


كيف سيكون شكل الاقتصاد بعد وباء كورونا؟
ثمة جديد تحت الشمس ... وإنه لمريع!
بعد أسابيع عديدة من الحظر، وأعداد الوفيات المأساوية، وإغلاق كثير من أبواب الاقتصاد العالمي، لم يزل غياب اليقين غيابا راديكاليا هو خير وصف لهذه اللحظة التاريخية. هل سيعيد الاقتصاد فتح أبوابه وتستأنف الوظائف؟ هل سنعاود السفر من جديد؟ هل سيكون تدفق المال من البنوك المركزية والحكومات كافيا للحيلولة دون ركود عميق ودائم، أم أسوأ؟
المؤكد حتى الآن هو هذا: سوف يؤدي الوباء إلى تحولات دائمة في القوة السياسية والاقتصادية على أنحاء لن تتبدى إلا لاحقا.
ولمساعدتنا على فهم هذه التحولات الجذرية الجارية تحت أقدامنا، سألت "فورين بوليسي" تسعة من كبار المفكرين، بينهم اثنان حاصلان على نوبل في الاقتصاد، أن يطرحوا تنبؤاتهم في ما يتعلق بالنظام الاقتصادي والمالي بعد الوباء.
***
نحن بحاجة إلى توازن أفضل بين العولمة والاعتماد على الذات
جوزيف ستجلتز
[أستاذ الاقتصاد في جامعة كولمبيا، والفائز بنوبل في الاقتصاد.]
دأب علماء الاقتصاد على الاستهزاء بمطالبات الدول باتباع سياسات أمن الطاقة والغذاء. وكانوا يحتجُّون بأنه في عالم العولمة الذي لا قيمة فيه للحدود، يمكننا أن نتجه دائما إلى دول أخرى إذا ما ألمّت بنا الملمات. والآن، صارت للحدود قيمة وأهمية، إذ تخوض الدول نضالا من أجل الكمامات والمعدات الطبية، وتكافح من أجل توفير الإمدادات. لقد ذكّرنا فيروس كورونا بشدة أن الوحدة الاقتصادية والسياسية الأساسية لم تزل هي الدولة الأمة.
لتأسيس سلاسل إمدادات بادية الكفاءة، نقَّبنا في العالم كله بحثا عن أرخص المنتجين تكلفة لكل رابط في السلسلة. ولكننا كنا قصار النظر، بإقامتنا نظاما يفتقر بوضوح إلى المرونة، ويفتقر إلى التنوع، ويتبدى عجزه أمام الانقطاعات. قد يكون نظام الإنتاج والتوزيع الآني [Just-in-time]، دون تخزين مطلقا أو بقدر ضئيل من التخزين، قادرا على استيعاب المشكلات الصغيرة، ولكننا نرى الآن النظام يتهاوى أمام عائق لم يؤخذ في الحسبان.
كان ينبغي أن تلقننا أزمة 2008 المالية درس المرونة. لقد أنشأنا نظاما ماليا يترابط بعضه ببعض، وبدا كفئا، ولعله كان جيدا في استيعاب الصدمات الصغيرة، لكنه كان هشا بطبيعته. ولولا حزم إنقاذ حكومية هائلة، لانهار النظام مع انفقاء الفقاعة العقارية. واضح أن ذلك الدرس مرّ علينا دون أن نلتفت إليه.
أما النظام الاقتصادي الذي سنقيمه بعد هذا الوباء فيجب أن يكون قصر نظره أقل، ومرونته أكبر، وحساسيته أعلى لحقيقة أن العولمة الاقتصادية سبقت كثيرا العولمة السياسية. وما دام هذا هو الحال، ستظل الدول تجاهد من أجل توازن أفضل بين الاستفادة من مزايا العولمة وبين درجة لازمة من الاعتماد على الذات.
***
هذا المناخ الحربي فتح مجالا للتغيير
روبرت شيلر
[أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل، الحائز على نوبل في الاقتصاد سنة 2013 ]
ثمة تغييرات جذرية تجري بين وقت وآخر ـ غالبا في أوقات الحرب. وبرغم أن العدو الآن هو فيروس وليس قوة أجنبية، فقد أوجد كوفيد 19 مناخا حربيا يبدو فيه بغتة أن هذه التغييرات ممكنة.
ينتشر هذا المناخ ـ بما فيه من قصص المعاناة والبطولة ـ  مع المرض. وأوقات الحرب تجمع الناس لا بداخل بلد، بل بين البلد والبلد، إذ يشتركون في عدو واحد مثل الفيروس. أولئك الذين يعيشون في بلاد متقدمة يشعرون بمزيد من التعاطف مع من يعانون في بلاد فقيرة لأنهم يشتركون معهم في تجربة متماثلة. والوباء أيضا يجمعنا عبر ما لا حصر له من مواقع التواصل عبر الفيديو. وبغتة يبدو العالم أصغر وأكثر حميمية.
ثمة سبب أيضا للأمل في أن يكون الوباء قد فتح نافذة لخلق طرق ومؤسسات جديدة للتعامل مع المعاناة، منها إجراءات أكثر فعالية لإيقاف الاتجاه نحو المزيد من التفاوت. لعل مرتبات الطوارئ التي طرحتها كثير من الحكومات للأفراد تمثل طريقا إلى تحديد دخل أساسي عالمي. في الولايات المتحدة، ربما تكون قوة دافعة جديدة قد توافرت لإقامة نظام تأمين صحي أشمل وأفضل. ولأننا جميعا في جانب واحد من هذه الحرب، فلعلنا نعثر الآن على دافع لإقامة مؤسسات دولية جديدة تتيح سبلا أفضل لتقاسم المخاطر بين الدول. ولسوف يتبدد المناخ الحربي، لكن هذه المؤسسات سوف تدوم.
***
الخطر الحقيقي هو أن يستغل الساسة مخاوفنا
جيتا جوبيناث
[كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي]
على مدار أسابيع قليلة، أدت سلسلة أحداث دراماتيكية ـ وفيات مأساوية، وسلاسل إمدادات عالمية مشلولة، وشحنات معطلة لإمدادات طبيبة بين دول متحالفة، وانكماش اقتصادي عالمي هو الأعمق منذ ثلاثينيات القرن العشرين ـ إلى الكشف عن نقاط ضعف الحدود المفتوحة.
لو أن دعم اقتصاد عالمي متكامل كان يتراجع بالفعل قبل ضربة كوفيد 19، فالأرجح أن الوباء سوف يعجّل من إعادة تقييم تكاليف العولمة وفوائدها. لقد شهدت الشركات التي تمثل جزءا من سلاسل الإمداد العالمية المخاطر الكامنة في الاعتماد المتبادل والخسائر الجسيمة الناجمة عن الانقطاع في السلاسل. والراجح في المستقبل أن تراعي هذه الشركات المخاطر المستبعدة بما يؤدي إلى سلاسل إمدادات أكثر محلية وقوة، وأقل عالمية. في الأسواق الناشئة التي تضمن تبنيها للعولمة انفتاحا ثابتا على تدفقات رأس المال، نخاطر برؤية وسائل التحكم في رأس المال إذ يعاد فرضها بينما تسارع هذه البلاد للوقاية من قوى الاضطراب في التوقف الاقتصادي المباغت. وحتى مع انتشار إجراءات الاحتواء عالميا بشكل تدريجي، قد يقيِّم الناس ذاتيا مخاطرهم الفردية ويقررون الحد من السفر على وجه الإطلاق، فينعكس مسار الحركة الدولية المستمر منذ نصف قرن.
غير أن الخطر الحقيقي هو أن هذا التحول العضوي المنطلق من المصلحة الذاتية بابتعاد الناس والشركات عن العولمة سوف ينضم إليه بعض صناع السياسات باستغلال المخاوف من الحدود المفتوحة. وقد يفرضون محاذير حمائية على التجارة تتخفى وراء الاكتفاء الذاتي والحد من حركة الناس بذريعة الصحة العامة. والأمر الآن بيد زعماء العالم لتفادي هذه النتيجة والحفاظ على روح الوحدة الدولية التي دعمتنا جميعا لأكثر من خمسين سنة.
***
مسمار آخر في نعش العوملة
كارمن راينهارت
[أستاذ التمويل الدولي بمدرسة هارفرد كنيدي]
كانت الحرب العالمية الأولى والكساد الاقتصادي العالمي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين بداية النهاية لحقبة سابقة من العولمة. بعيدا عن انبعاث الحواجز التجارية ووسائل التحكم في رأس المال، هناك تفسير مهم لهذه النهاية هو أن أكثر من 40% من جميع البلاد في ذلك الوقت دخلت حالة عجز مالي، بما قطعها عن أسواق رأس المال العالمي حتى خمسينيات القرن العشرين أو بعد ذلك بكثير. وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، جمع نظام بريتن وودز الجديد الكساد المالي المحلي إلى وسائل التحكم المفرطة في التدفقات المالية، فلم يبق من شبه يذكر بحقبة التجارة والتمويل العالميين السابقة.
تواجه دورة العولمة الحديثة سلسلة لطمات منذ أزمة 2008-2009 المالية: أزمة ائتمان أوروبية، وأزمة البريكست، فضلا عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. كما أدى صعود الشعبوية في بلاد كثيرة إلى مزيد من إخلال التوازن والميل إلى الانحياز للاستثمار المحلي.
أزمة وباء كورونا هي أول أزمة منذ ثلاثينيات القرن العشرين تحل بكل من الاقتصادات المتقدمة والنامية معا. وهذه الكسادات قد تكون عميقة وطويلة. كما في الثلاثينيات، من المرجح أن ترتفع بشدة العجوزات السيادية. كما أن دعاوى تقييد التجارة وتدفقات رأس المال تجد أرضا خصبة في أوقات الشدة.
من المرجح على المستوى العالمي أن تستمر الشكوك المحيطة بسلاسل الإمدادات العالمية في ما قبيل فيروس كورونا، وأمان السفر الدولي، ويرجح أن تستمر أيضا على المستوى المحلي المخاوف المتعلقة بالاكتفاء الذاتي في الضروريات والمرونة ـ حتى بعد أن تتم السيطرة على الوباء (وهذه نفسها عملية قد تطول). وقد لا يرجع بنا المعمار المالي في ما بعد فيروس كورونا لنقطع الطريق كله عائدين إلى حقبة بريتن وودز في ما قبل العولمة، ولكن الضرر اللاحق بالتجارة والتمويل الدوليين قد يكون هائلا ودائما.
***

أوضاع الاقتصاد السابقة قد تسوء بسبب الوباء

آدم بوسن
[رئيس معهد بيترسن للاقتصاديات الدولية]
هناك أربعة أوضاع سابقة في الاقتصاد العالمي سوف يزيدها الوباء سوءا. صحيح أنها سوف تبقى قابلة للارتداد من خلال عملية جراحية كبرى، لكنها ستصبح مزمنة ومضرة في غياب هذه التدخلات الجراحية. أول هذه الشروط هو ركود الاقتصاد القائم على السوق [secular stagnation] — وذلك مزيج من انخفاض نمو الإنتاجية، ونقص عوائد الاستثمار الخاص، وشبه الانكماش. وسيتعمق ذلك مع بقاء الناس عازفين عن المخاطرة نازعين إلى مزيد من التوفير بعد الوباء، مما سيضعف الطلب والابتكار باستمرار.
ثانيا، سوف تتسع الفجوة بين الدول الغنية (إلى جانب عدد قليل من الأسواق الناشئة) وبقية العالم في المرونة تجاه الأزمات.
ثالثا، كنتيجة جزئية للهروب إلى الأمان والمخاطر الواضحة للاقتصادات النامية، سيظل العالم شديد الاعتماد على الدولار الأمريكي في التمويل والتجارة. فحتى في الوقت الذي تصبح فيه الولايات المتحدة أقل جاذبية للاستثمار، ستزداد جاذبيتها لمعظم أجزاء العالم الأخرى. وسيؤدي هذا إلى سخط مستمر.
وأخيرا، فإن القومية الاقتصادية سوف تسوق الحكومات بشكل متزايد إلى إغلاق اقتصاداتها دون بقية العالم. ولن يؤدي هذا أبدا إلى الاكتفاء الذاتي الكامل، أو أي شيء قريب الشبه به، ولكنه سيعزز الاتجاهين الأولين ويزيد من الاستياء من الثالث.
***

بصورة غير مسبوقة، سوف يلجأ العالم إلى البنوك المركزية طلبا للنجاة

إسوار براساد
[أستاذ السياسة التجارية في جامعة كورنويل وكبير زملاء معهد بروكنجز]
قد تترك المذبحة الاقتصادية والمالية التي تسبَّب فيها الوباء ندوبا عميقة على الاقتصاد العالمي. ولقد تقدمت البنوك المركزية لمواجهة التحدي بأن مزقت كتب قواعدها الخاصة. فعزز الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسواق المالية بشراء الأصول وتقديم سيولة دولارية إلى البنوك المركزية الأخرى. وأعلن البنك المركزي الأوروبي أنه "لا حدود" لدعمه لليورو كما أعلن عن مشتريات ضخمة من سندات الحكومة والشركات والأصول الأخرى. ويموِّل بنك إنجلترا الإنفاق الحكومي تمويلا مباشرا. بل إن بعض البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، مثل بنك الاحتياطي الهندي، تدرس اتخاذ إجراءات استثنائية ـ بدون اعتبار لجميع المخاطر.
من ناحية أخرى، أثبت تحفيز الحكومات المالي من قبل أنه معقد سياسيا، ومرهق التنفيذ، وغالبا ما يكون من الصعب توجيهه إلى حيث توجد أكبر الاحتياجات.
أظهر القائمون على البنوك المركزية، وهم الذين طالما اعتبروا حذرين ومحافظين، أنهم يستطيعون التصرف بخفة وجرأة وإبداع في أوقات الشدة. فحتى عندما يعزف القادة السياسيون عن تنسيق السياسات عبر الحدود، يستطيع محافظو البنوك المركزية أن ينسقوا العمل في ما .بينهم
لقد رسخت البنوك المركزية أقدامها ـ حاليا ولفترة طويلة قادمة ـ بوصفها خط الدفاع الأول والأساسي دون الأزمات الاقتصادية والمالية. وقد يحدث أن تندم على هذا الدور الجديد الهائل وما سيفرضه عليها من أعباء واحتمالات غير واقعية.
***
الاقتصاد الطبيعي لن يرجع مرة أخرى
آدم توزي
[أستاذ التاريخ ومدير المعهد الأوربي في جامعة كولمبيا]
مع بدء الحظر، كان الدافع الأول هو البحث عن وقائع مشابهة في التاريخ  - 1914، 1929، 1941؟ ثم برز إلى الصدارة، منذ ذلك الحين، أكثر من أي وقت مضى، أن ما نشهده ونعيشه يمثل صدمة جديد. وأن ثمة جديدا تحت الشمس. وإنه لمروع.
تستعصي التداعيات الاقتصادية على الحساب. فالعديد من البلدان تواجه صدمة اقتصادية أكثر عمقًا ووحشية مما سبق أن شهدته من قبل. وفي قطاعات مثل التجزئة، التي تتعرض بالفعل لضغوط شديدة من المنافسة عبر الإنترنت، قد يكون الحظر المؤقت هو المسمار الأخير في نعشها. فلن تفتح مرة أخرى متاجر عديدة، وسوف تنتهي وظائفها بشكل دائم. ومن ثم فإن ملايين العمال وأصحاب الأعمال الصغيرة وأسرهم يواجهون كارثة. وكلما طالت مدة الحظر، ازدادت الندوب الاقتصادية عمقا، والانتعاش تباطؤا.
لقد اضطرب بشكل جذري كل ما كنا نعتقد أننا نعرفه عن الاقتصاد والتمويل. منذ صدمة الأزمة المالية لعام 2008، كثر الحديث عن الحاجة إلى أخذ الاضطرابات الجذرية في الحسبان. والآن بتنا نعلم كيف هو شكله الاضطراب الجذري.
إننا نشهد أكبر جهد مالي مشترك منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن من الواضح بالفعل أن الجولة الأولى قد لا تكون كافية. هناك بعض الأوهام حول الألعاب البهلوانية غير المسبوقة التي تؤديها البنوك المركزية. وفي ما يتعلق بالتعامل مع الالتزامات المتراكمة، يقترح علينا التاريخ بعض البدائل الجذرية، ومنها انفجار التضخم أو العجز العام المنظم (الذي لن يكون عنيفا بقدر ما يبدو لو طال تأثيره الديون الحكومية التي تحتفظ بها البنوك المركزية).
إذا تمثلت استجابة الأعمال والأسر في تجنب المخاطرة والهروب إلى الأمان، فستؤدي إلى تفاقم قوى الركود. وإذا تمثلت استجابة الجمهور للديون المتراكمة من الأزمة على هيئة تقشف، فسيزيد لذلك الوضع سوءا على سوء. من المنطقي أن ندعو بدلاً من ذلك إلى حكومة أكثر نشاطا وأفضل رؤية لقيادتنا على طريق الخروج من الأزمة. ويبقى السؤال بالطبع هو سؤال عن الشكل الذي سوف تتخذه تلك الحكومة والقوى السياسية التي سوف تسيطر عليها.
***
كثير من الوظائف المفقودة لن يرجع
لورا داندريا تايسن
[أستاذة بكلية هاس للأعمال في جامعة كاليفورنيا، والرئيس السابق لمجلس مستشاري رئيس الولايات المتحدة الاقتصاديين في عهد كلينتن]

سوف يعجِّل الوباء، والتعافي التالي له، من الاتجاه الراهن إلى رقمنة العمل وأتمتته ـ وهو الاتجاه الذي أتى على وظائف المهارات المتوسطة وزاد من وظائف المهارات العليا خلال العقدين الماضيين وأسهم في ركود الأجور المتوسطة وزاد من تفاوت الدخول.
ستغير التغيرات في الطلب ـ التي تسارع كثير منها بسبب الاضطراب الاقتصادي الناجم عن الوباء ـ من التركيب المستقبلي للناتج المحلي الإجمالي. وسوف تستمر حصة الخدمات في الاقتصاد في الارتفاع. لكن حصة الخدمات الشخصية ستنخفض في تجارة التجزئة، والضيافة، والسفر، والتعليم، والرعاية الصحية، والحكم حيث تؤدي الرقمنة إلى تغييرات في طريقة تنظيم هذه الخدمات وتقديمها.
كثير من الوظائف الخدمية الشخصية منخفضة المهارات والأجور ـ وبخاصة التي تقدمها الشركات الصغيرة ـ لن ترجع مع التعافي النهائي. أما العمال الذين يقدمون خدمات أساسية مثل الشرطة وإطفاء الحرائق والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية والنقل العام والغذاء فسوف يرتفع الطلب عليهم، فتنشأ فرص عمل جديدة بما يزيد الضغط من أجل رفع الأجور وتحسين المزايا في هذه القطاعات منخفضة الأجور تقليديا. سوف يسرع الانكماش الاقتصادي من نمو العمالة غير القياسية وغير المستقرة ـ أي العمال ذوي الدوام الجزئي، والمقاولين المستقلين، والعمال لحساب أصحاب عمل متعددين - مما يؤدي إلى أنظمة مزايا متنقلة جديدة تتحرك مع العمال وتوسع تعريف صاحب العمل. وسوف تنشأ حاجة إلى برامج تدريب جديدة منخفضة التكلفة، يتم تقديمها رقميا، لتوفير المهارات المطلوبة في الوظائف الجديدة. ويذكِّرنا الاعتماد المفاجئ للكثيرين على القدرة على العمل عن بُعد بأنه سوف يلزم القيام بتوسع كبير وشامل في شبكات الواي فاي والبرودباند والبنية الأساسية الأخرى لتمكين تسريع رقمنة النشاط الاقتصادي.
***
عولمة ذات مركزية صينية أكبر
كيشوري محبوباني
[أكاديمي ودبلوماسي سنغافوري كان مندوبا دائما لبلده في الأمم المتحدة ورئيسا لمجلس الأمن في ما بين 2001-2002]
سوف يعجِّل وباء كوفيد 19 تغييرا بدأ بالفعل: أي الابتعاد عن العولمة ذات المركزية الأمريكية إلى عولمة ذات مركزية صينية أكبر.
لماذا سيستمر هذا الاتجاه؟ لأن الأمريكيين فقدوا الإيمان بالعولمة والتجارة الدولية. ولأن اتفاقات التجارة الحرة تسممت سواء في وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو في عدم وجوده. في المقابل، لم تفقد الصين إيمانها. لماذا؟ ثمة أسباب تاريخية أشد عمقا. يعرف الزعماء الصينيون الآن أن قرن مذلة الصين في ما بين 1842 و1949 كان نتيجة لرضا الصين عن نفسها ولجهود زعمائها العقيمة لقطع ما بينها وبين العالم. في المقابل، كانت عقود النهوض الاقتصادي القليلة الماضية هي نتيجة للانخراط في العالم. كما شهد الشعب الصيني انفجارا في الثقة الثقافية. ويعتقد أن بوسعه المنافسة في أي مكان.
ويترتب على ذلك، مثلما أوثِّق في كتابي الجديد "هل انتصرت الصين؟"، أن أمام الولايات المتحدة خيارين. لو أن هدفها الأساسي هو الحفاظ على صدارتها العالمية، فسيكون عليها الدخول مع الصين على المستويين السياسي والاقتصادي في منافسة جيوسياسية لا تحتمل غير فائز واحد. أما لو كان هدف الولايات المتحدة هو زيادة سلامة الشعب الأمريكي ـ الذي تدهور وضعه الاجتماعي ـ فعليها أن تتعاون مع الصين. والنصيحة الحكيمة تقول إن التعاون هو الخيار الأفضل. ولكن في ظل البيئة السياسية الأمريكية المسممة تجاه الصين، لن تسود الحكمة.


عن فورين بوليسي في 15 ابريل 2020، نشرت الترجمة فيجريدة عمان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق