مع دون كيخوته في منفاه
آرييل دورفمان
من
بين عدد لا نهائي من المرات التي رجعت فيها إلى قصة دون كيخوتة دي لا مانشا منذ
مراهقتي، هناك مرة بعينها أختار أن أتذكرها ـ ولا أملك إلا أن أتذكرها ـ ونحن نشهد
مرور أربعمائة عام على وفاة ميجيل دي ثرفانتس. كانت قراءتي لها في أكتوبر من عام
1973 وسط عدد من البائسين والبائسات ممن لاذوا مثلي بسفارة الأرجنتين في سنتياجو
بتشيلي إثر الانقلاب على حكومة سلفادور أليندي الديمقراطية والإطاحة بها.
في
جو شهد اختناق ألف من منفيي المستقبل داخل غرف لم تصمَّم لغير استضافة حفلات
الكوكتيل، انضممت إلى مجموعة من ثلاثين لاجئا كانوا يقرأونها معا بصوت مرتفع.
تصورت الأمر نوعا من العلاج الجماعي الأدبي من الاكتئاب المتفشي بيننا، ثم سرعان
ما اكتشفت أن لدى أولئك القراء الكثير مما يمكن أن يعلمونني إياه. كان كثير منهما
قد جاؤوا إلى بلدنا من ثورات فاشلة في بلاد أخرى من أمريكا اللاتينية، فاستعصت
عليهم العودة لفترات طويلة من الزمن عانوا خلالها العذاب والبعد. كانوا يفهمون
ثرفانتس بصورة غريزية، فهو مثلهم كان ضحية محنة غريبة أكسبته قدرا هائلا من سعة
الحيلة في عالم كشف له عن وجهه القاسي القبيح.
لقد
كانت التجربة المعلمة الأساسية في حياة ثرفانتس هي السنوات الخمس المرعبة التي
قضاها بداية من عام 1755 في سراديب سجون الجزائر أسيرا لدى القراصنة البربر. هنالك، على
الحافة ما بين الإسلام والغرب تعلم ثرفانتس كيف يثمِّن قيمة التسامح تجاه
المختلفين أشد ما يكون الاختلاف، وهنالك اكتشف أن من بين النعم التي يمكن أن يسعى
إليه الإنسان ليس ثمة ما هو أعظم من نعمة الحرية. ففي ثنايا انتظاره الفدية التي
لم يملك أهله دفعها، وفي مواجهة خطر الإعدام مع كل محاولة منه للهروب، وبينما يشاهد
زملاءه العبيد وهم يتعرضون للتعذيب والتقييد، نما في نفس ثرفانتس توق إلى الحياة
بلا أغلال. لكنه ما كاد يرجع إلى أسبانيا، محاربا معاقا أهمله الذين أرسلوه من قبل
إلى الحرب، حتى توصل إلى نتيجة مفادها أننا ـ وإن عجزنا عن مداواة الشقاوات التي
تغير على أجسادنا ـ لقادرون أن نسيطر على أرواحنا فلا تميل أمام هذه الأحزان.
من
ذلك الفهم ولدت "دون كيخوتة". ففي مفتتح الجزء الأول من روايته يقول لـ
"القارئ الكسول" إن الحكاية "تخلّقت في السجن، حيث لكل شقاء مكانه،
ولكل أنة حزن وطنها". وسواء أكان ذلك السجن في إشبيلية أم في كاسترو دل ريو،
فإن تجربة السجن هذه ظلت تعاوده حتى أرغمته على زيارة أرض محنته الجزائرية ووضعته
وجها لوجه أمام مأزق كان من دواعي بهجتنا أنه توصل إلى حل له: إما أن تستسلموا
لمرارات اليأس أو تطلقوا لأنفسكم أجنحة الخيال. وكانت النتيجة كتابا خرق كل حدود
الإبداع، وقوَّض كل عرف راسخ أو تقليد موروث. وبدلا من الحقد على أسبانيا
المتدهورة وتوجيه الاتهامات إليها وقد رفضته وفرضت عليه الرقابة، حقَّق ثرفانتس
منجزا عظيما، منجزا لاعبا وساخرا بقدر ما هو عديد الأوجه، واضعا به الأساس لكل
التجارب الجامحة التي كان مقدَّرا لجنس الرواية أن يمرَّ بها.
أدرك
ثرفانتس أننا جميعا مجانين تجاوزَنا التاريخ، أننا بشر ضعاف مقيدون في أجسام مكتوب
عليها الأكل والنوم والجنس والموت، مثيرون للسخرية وللإجلال في الوقت نفسه بما
نتبنى من مثل وقيم. لقد اكتشف، بصريح العبارة، شسوع العالم السيكولوجي والاجتماعي
للظرف المبهم الذي يعيشه الإنسان الحديث. فنحن أسرى واقع قاس لا يلين، ونحن في
الوقت نفسه ننعم بقدرة دائمة على تجاوز هذا الواقع ولطماته المهلكة.
أولئك
الذين قرأوا "دون كيخوتة" سنة 1973، في سفارة ما كان بوسعهم أن يغادروها،
وهم محاطون بجنود متأهبين لنقلهم إلى استادات وسراديب ثم إلى مقابر في نهاية
المطاف، كانوا يتفاعلون مع الرواية من أعماق أحشائهم. كم كان ملهما ذلك التسامي
المستمر، وتلك الممارسة للحرية على المستويين الشخصي والجمالي. وظهرت خلاصة ذلك
الإيمان في فقرة من القسم الثاني في دون كيخوتة دفعتنا جميعا إلى البكاء.
كان
دوق طائش قد عيَّن سانشو بانثا حاكما على جزيرة خيالية. ليتبيَّن أن ذلك الرفيق
البسيط أحكم وأرحم من النبلاء الذي يسخرون منه ومن سيده. فأثناء جولاته ذات ليلة يصادف غلاما
هاربا من شرطي. ويتبجح الغلام، فيحكم عليه الحاكم البديل بأن ينام في السجن. ويصرُّ
السجين على إثارة حنق الحاكم فيقول إن بوسعه أن يضعه في الأغلال، لكن ما لأحد
القوة على أن يحمله على النوم: فالصحو أو النوم طوع إرادته هو لا يملك أحد أن
يتدخل فيهما. وأمام روح الفتى المستقلة لا يملك سانشو إلا أن يطلق سراحه.
هذه
واقعة لم تزايلني. وإذا كنت أستحضرها الآن فذلك لأنني أشعر أنها تحتوي على رسالة
ضرورية لا يزال ثرفانتس قادرا على توصيلها إلى الإنسانية اليائسة اليوم.
صحيح
أن أغلب سكان الكوكب ليسوا في السجن مثلما كان حال ثرفانتس، ولا هم يجدون أنفسهم
محاطين بالأسوار شأن ثوار سفارة الأرجنتين. لكننا نعيش عيش الأسرى في زمان عنف
وظلم وجشع وغباء وتعصب ورفض للمختلف، عالقون في كوكب خارج عن السيطرة، عيش مجانين
يسيرون نياما إلى الهواية.
لقد
مات ثرفانتس قبل أربعمائة سنة، ولا يزال يبعث لنا الرسائل، في حكمة كحكمة ذلك
الفتى الذي هدَّده سانشو بانثا، ولا نزال بحاجة إلى تأمل رسائله قبل فوات الأوان.
ما لأحد سلطة أن يرغمنا على النوم إذا لم نكن راغبين في ذلك من تلقاء أنفسنا.
ثرفانتس يعلمنا أن إنسانيتنا الحبيسة المخبولة لا ينبغي أن تفقد الأمل في أنها
قادرة ذات يوم على أن تفيق من سباتها.
- أحدث ما صدر لكاتب المقال هو "الاقتيات على الحلم".
- اللوحة من أعمال ليوناردو كاستيلاو
- نشرت المادية في نيويورك تايمز أصلا ونشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق