خيانة
تشارلز سيميك
لا
أرى على شاشة التليفزيون أو في جريدة جمعا من الناس يتظاهرون ضد حكم أوتوقراطي إلا
وينتابني خليط من المشاعر: إعجاب بعزيمتهم وشجاعتهم وتبنيهم موقفا، وهاجس بأن ذلك كله
لن يسفر عن شيء. نتيجة محزنة ولكنها مستخلصة من رؤيتي على مدار السنين لكثير من القضايا
المهمة والحركات الحاشدة وهي تفشل. ولكن حتى في هذا الواقع الموحش، تبقى هزيمة حركة
الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد مظاهرات شارك فيها الملايين أمرا مذهلا.
لا لأن هذه المناطق كانت المناطق الوحيدة التي طالبت فيها الجموع بالتغيير، فقد خرجت
المظاهرات الحاشدة في اليونان وبلغاريا والمكسيك والبرازيل وبيرو وأسبانيا والبرتغال
ودول كثيرة غيرها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وإجراءات التقشف التي اتخذتها الحكومات،
ولكن ما حدث في أماكن مثل سوريا ومصر، وأوكرانيا الآن، أخطر، لأن المتظاهرين خرجوا
في وجه شرعية الدولة يطالبون إما بإصلاحات أساسية أو بالإطاحة بالأشخاص والمؤسسات الواقفة
في وجه الإرادة الشعبية.
وبرغم
أن أغلبنا لا يعلم إلا القليل عن تاريخ هذه البلاد وثقافاتها، لكننا رأينا الوجوه،
المسنة والشابة، ومن شتى مشارب الحياة، وبرغم أنها وجوه تختلف عن وجوه مواطنينا، لكننا
قادرون أن نفهم غضبها واشمئزازها من النظام السياسي الذي كانت تعيش في ظله وعزيمتها
وضعفها وهي تواجه السلاح في أيدي ممثلي دولة فاسدة. كم كان مبهجا في 2011 أن نرى مئات
آلاف البشر يتوافدون على الشوارع مثيرين الرعب في أنفس أصحاب السلطة. مشهد ذكّرني بأيام
الاندفاع للتظاهر ضد حرب فييتنام وحرب العراق، وإيماننا الساذج نحن المتظاهرين بأن
أصواتنا سوف تصل وسوف تنتصر على ما بدت لنا أيامها ـ وثبت أنها حقا ـ أفعال تنم عن
حماقة أخلاقية واستراتيجية لم تفض إلى غير مذابح لما لا حصر له من الناس ودمار لبلاد.
ومع
ذلك، وعلى مدار أسابيع، بل شهور، كنا مفعمين بالأمل ونحن نرى الجموع في ميدان التحرير.
فمطالبهم لم تبد معقولة وحسب، بل بدا أنه لا بديل لها، وإن كثرت الدلائل والإشارات
على أن أصحاب السلطة عازمون على القمع. أتذكر على سبيل المثال أني رأيت فيديو على شاشة
التليفزيون لمظاهرة في البحرين أو في دولة خليجية ما جرى فيها المشهد التالي: شيخ في
سترة بيضاء يتقدم عن جمع من المتظاهرين مقتربا من فصيلة من الجنود المسلحين مشهري البنادق.
كان يتكلم معهم بهدوء ولكن أحد الجنود رفع سلاحه عليه ودونما تحذير أطلق عليه الرصاص
في رأسه. وكان هناك كثير من العنف في كل مكان طوال شهور ما سمي بالربيع العربي، ولكن
ما لفت نظري هو القسوة التي ادخرها الجنود للنساء وللطلبة من بين الجموع. وهو ما سيتكرر
بعد شهور قليلة في مشاهد للشرطة إذ تضرب الشابات أثناء مظاهرات احتلال وول ستريت في
مدننا. بوسع المرء أن يستشعر اللذة التي يجدها أولئك الرجال في الإيلام، والكراهية
التي يضمرونها للعصاة من أبناء وطنهم وهم يوسعونهم ضربا وركلا.
وذلك
ما يجعلني أتحفز للساسة وكتاب صفحة الرأي وهم يعربون روتينيا عن صدمتهم وغضبهم البالغ
من قسوة التعامل مع المتظاهرين في أماكن أخرى من العالم. فهم لا يلاحظون أبدا طريقة
معاملتهم هنا في الوطن، كما لا يلاحظون قط معاملة جنودنا لهم في البلاد التي احتللناها
أخيرا. حتى أنه ربما يكون بوسعي القول إنه كلما ابتعد الظلم جغرافيا علت أصواتهم هم
ضده، وإن كانوا حتى في تلك الحالات يتسمون بالانتقائية ولا يعظون بالإنسانية إلا حينما
تكون الإنسانية مصلحة لهم. فلو أن النظام المرتكب للضرب حليف لنا، لن تسمع من واشنطن
ولا حتى صفيرا، وإذا لم يكن، فبدلا من نصيحتهم المعهودة بإيقاف المتظاهرين يكون التدخل
العسكري. ونسمع شخصا مثل السناتور جون ماكين يقول إن كل ما نحتاج إلى القيام به في
هذه الدول هو أن نسقط الكثير من القنابل فتنبت براعم الحرية والديمقراطية من وسط الأطلال
مثلما فعلوا فيما أتصور في العراق وأفغانستان وليبيا. هو وأمثاله من المتحمسين للتدخلات
العسكرية لا يطيقون صبرا على كل من يذهب إلى أنه ليس من حقنا نحن أن نعالج كل ظلم في
العالم، أو يبيّن أننا حينما نتدخل فإننا ننتهي إلى قتل كثير من الأبرياء وإطلاق التوترات
العرقية والدينية مما يفضي إلى فوضى محلية وإقليمية لا نملك احتواءها.
إنها
الأخلاقية الانتقائية التي تتسم بها تدخلاتنا العسكرية هي التي تسوؤني. فهم لا يقيمون
أعمال العنف بناء على عواقبها، بل بناء على ما إذا كان مرتكبها هو نحن أم غيرنا، فإن
كنا نحن مرتكبيها فلا غبار عليها بالمرة. إن المنافقين الذين يتعامون أو لا يبالون
بوحشية بلادهم ليسوا مؤهلين لأن يكونوا جزءا من ضمير العالم الأخلاقي، خاصة حينما يكون
لزعمهم أنهم يحلمون بالديمقراطية لهذه البلاد المضطربة تاريخ طويل من الابتذال. ومثلما
نشاهد المرة تلو الأخرى، منذ إطاحتنا بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا في إيران قبل ستين
سنة، فإن الولايات المتحدة تؤثر التعامل مع الدول المحكومة بالطغاة والعسكر، لأن الديمقراطيات
التي تستجيب لرغبات الناخبين لا يسهل التنبؤ بمواقفها، وتنزع إلى الاستقلال ومن ثم
فهي لا تتناغم مع مصالحنا الاستراتيجية والاقتصادية.
وتنفست
واشنطن الصعداء حينما أطاح الجيش المصري بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا. وبين عشية وضحاها،
نُسيت الجموع التي احتشدت في ميدان التحرير،
وصمت الكتاب والمعلقون الذين رأوهم البارحة مثالا ونموذجا، حتى حينما بدأ الجيش وقوات
الأمن يطلقون عليهم الرصاص ويعتقلون منهم الآلاف. لقد سبق ورأينا هذا الفيلم، كما يقال.
ولئن كانت قليلة هي الأشياء التي تتغير في عالمنا، إلا أن من بينها شيئا يوشك أن يكون
يقينا، وهو أن من يرفعون أصواتهم ضد الظلم، هم الذين يتعرضون في نهاية المطاف للخيانة.
نشرت هذه المقالة أصلا في مدونة ذي نيويورك رفيو أوف بوكس ونشرت ترجمتها
اليوم في جريدة عمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق