أن تتناولك رواية
أو
هل تراني فعلا بهذه
الطريقة؟
ميشيل هونيفن
قبل بضع وعشرين سنة،
سألني تي سي بويل عن مستعمرات الفنانين التي ترددت عليها ـ كان يكتب رواية. وصفت
له إلقاء الغداء في شرفات النزلاء، والأمسيات القرائية، والسهرات. ولما صدر كتابه
"الشرق شرق"، قرأت فصولا قليلة، ثم توقفت، من فرط الضيق والانزعاج. نعم،
وجدت المادة التي وصفتها له منثورة في الرواية، بجانب مفاجأة إضافية ـ ألم أكن أنا
الموجودة في تلك الصفحات، والمرسومة فيها بطريقة غير مسرفة في التودد؟ في الحياة الحقيقية كان
بويل يطلق عليّ "لا هونيفانا"، وفي الرواية يطلق على بطلته روث
ديرشوفيتز اسم "لا ديرشوفيتزا". روث كاتبة عديمة الموهوبة، تحلم
بالرواية، في حين تكتب مقالات عن المطاعم أو تكتب لمجلة "كوزمو"
النسائية. لحظة هنا! أنا كتبت مقالات عن المطاعم! وكتبت مرة مقالة لمجلة كوزموّ!
فهل كانت تلك بالفعل هي نظرة توم لي؟ أني مدعية عديمة الموهبة تحاول اقتحام عالم
الأدب؟
تلك كانت أولى تجاربي
مع التحول إلى مادة للكتابة. لا زلت أتذكر ذلك البريق الأصفر الذي سطع أمام عيني،
بريق الضيق والاشمئزاز: الإحساس بقلة الحيلة، بأنه ليس في يدي أي شيء.
***
وهكذا حينما أعلن زوجي
قبل فترة عن تبرمه من وضعي إياه في قصة قصيرة، تعاطفت معه. ثم حاولت أن أشرح.
صحت "أنا لم أضعك
في قصة قصيرة".
أقسمت لجيم أن بطلي
الشاب يدين لأوين جيريث في "مدللو بوينتن" [لهنري جيمس] أكثر بكثير مما
يدين لشخصه هو. والحقيقة أنني لم أستخدم من حياتنا الواقعية إلا أمرا بسيطا للغاية
ـ مجرد خاتم عائلي حصل عليه لقاء في طقس بلوغه [اليهودي] ـ ولكن جيم شعر أن
استخدام تلك التفصيلة يشير ضمنيا إليه.
قال جيم "أنا لا
أطلب منك ألا تكتبي القصة أو تنشريها، بل أقول لك إحساسي فقط".
وأنا أعرف هذا الإحساس.
وتمنيت لو أن هناك ما يمكن أن أقوله فلا يجعله يعتبر الأمر مسألة شخصية. ولكن
لعلكم تعرفون أن فكرة قصتي التالية خطرت لي من أمرحدث لنا في شهر العسل.
وهذا أيضا، لم يكن
شخصيا.
***
ما الذي يمكنك أن تفعله
حينما تتناولك في رواية؟
تمسكن. اذهب إلى الكاتب
و تكلم معه بوضوح. ابعث رسالة شكوى. اكتب كتابك أنت، وعلى طريقتك. اكتم في نفسك
واضطرم بما فيك. ارفع قضية، وكن على علم أن شروط قضايا القذف المتعلقة بالأدب
عالية، عالية للغاية. وكذلك التكلفة.
وبحسب المحامية
المتخصصة في قضايا السب والقذف إليزابث مكنمارا، فإن الخصوم المكتوبين في الروايات
يتقاضون لأحد سببين: إحساسهم بالإساءة، أو للرغبة في المال.
صيقتك السابقة وضعتك في
قصة. هو أنت لا شك ـ لون شعرك، وَشْمُك، تلعثمك في الكلام ـ لم تدخل عليك إلا
تغييرا بسيطا: جعلت منك مغتصبا.
أو هو صديقك السابق،
الكذاب، الخائن، وكتابه الذي أصبح من أفضل الكتب مبيعا، والذي يتناول شخصيتك أنت،
وأسرتك، وكل جملة جميلة قالها لسانك، وباع حقوق تحويله إلى فيلم، ويغترف من ورائه
الأموال. فلماذا لا ينالك نصيب من الكعكة؟
تقول مكنمارا إن
"الكتَّاب منذ أول الزمن يستلهمون من الحياة الواقعية ويؤسسون على تجاربهم،
ولكن الشخصيات حتما تختلف عن الحقيقة".
ها هنا المحك. ومن هنا
الطريق الذي تسلكه قضيتك، ملقاةً من الشباك.
***
يستاء الكتّاب ممن
يسألهم عن الحقيقي أو السيري في أعمالهم، فذلك بالنسبة لنا ليس المهم على الإطلاق.
فالفتات المأخوذ من الواقع محض قشور ضئيلة على ذيل التنين ـ ماذا عن الجمال الكلي في الكتابة؟ ماذا عن التنين
نافث النار نفسه؟
ولكن قشرة واحدة قد
تمثل أهمية هائلة لصديق أو قريب يرى صورته منعكسة على سطحها اللامع. وهذه لحظة
كريهة ـ وإن لم تكن كذلك طول الوقت.
ليس الأمر كما لو أن
الكاتب محض مسجِّل للحياة من حوله. فالواقع عند تفريغه لا يتحول آليا إلى أدب،
والبشر الحقيقيون ليسوا شخصيات جميلة مقنعة يمكن جَنْيُها مباشرة. والمعلومات
الفاتنة والملاحظات الثاقبة نادرا ما تنسرب بلا توقف إلى السردية التي تكون بين
أيدينا. والكتابة الروائية عن خامة ـ أي خامة، خيالية كانت أم واقعية ـ تعني إخضاع
هذه الخامة لاشتراطات المشروع الذي يكون بين أيدينا وأعرافه الصارمة. فالسردية
الروائية تقام، وتصمَّم، وتصاغ، ومادتها الخام تُكتَم، وتضخَّم، وتشذَّب، وتفرم،
وتعجن، وتلوَّن.
قالت الكاتبة سوزان
تايلو تشيهاك إنها كُتبت مرة في رواية، "ولكن ما كاد يتم ضبطي وتهيئتي، حتى
لم أعد نفسي".
وليس الجميع في هدوء
تفكير تشيهاك. فهناك ممن تكتب عنهم الروايات من لا يرون في العالم إلا أنفسهم،
ومجرد وضعهم أيديهم على بضع معلومات تخصهم كفيل بإطلاق شرارة رد فعل عنيف. فلي
صديقة، عرفتها قبل سنين، حين كانت تعيش في راوند روك [الصخرة المستديرة ـ حرفيا]
بتكساس. حكت لي أنها ذات ليلة في شبابها كانت سكرانة ووصفت بعض رجال الشرطة وهم
يقتادونها بوصف معين. وسرقت أنا هذا الوصف فجعلته على لسان شاب أثناء اقتياده إلى
قسم الشرطة في روايتي الأولى "راوند روك" وهو الاسم الذي أطلقته على
مزرعة قرب بيرو بكاليفورنيا حيث تنتشر الصخور المدورة بصورة طبيعية في قاع نهر ولا
علاقة لها بتكساس. قرأت صديقتي صفحتين في هذه الرواية واتصلت بي في غاية الغضب.
فأنا لم أكتف بعنونة روايتي باسم المكان الذي عاشت فيه، بل وضعت كلماتها على لسان
شخصيتي. قالت "أنت سرقت حياتي".
أنا واثقة أنها، للحظات
قلائل، شعرت أنها سرقت وخدعت. فقد شعرت بمثل شعورها وأنا أقرأ عن لا ديرشوفيتزا في
"الشرق شرق". والغسيل للمرة الأولى هو الأصعب.
فما الذي يصيبنا بهذه
الصدمة، والفزع، والضيق، حينما نلمح أنفسنا على الصفحة؟
قبل وقت غير بعيد، فتحت
الكمبيوتر لأرى امرأة غريبة تعبس في وجهي. استغرقت لحظة حتى فهمت أني فتحت ملف
الصور و يا للأهوال تتبعها الأهوال، لقد كانت تلك التعيسة ذات الأنف الكبيرة هي
أنا.
ويحدث أن تغضبك صورة
للذات غير متوقعة.
***
لأن صدمة التعرف تكون
بالغة الحدة، فإن من يتعرف على نفسه في رواية غالبا ما يعجز عن رؤية أن استخدام
مادته "الشخصية" تم فعلا بصفة غير شخصية، وأنها لا تلعب في واقع الأمر
إلا دورا ثانويا.
إنني أعرف، بوصفي
روائية، عن شخصياتي أكثر مما أعرف عن أصدقائي. (فلا أعرف بالضرورة نوع الشامبو
المفضل لدى أصدقائي، أو تاريخهم مع ألم الأسنان، أو كيفية أدائهم في الفراش، على
سبيل المثال). وحتى حينما أستعير من حياتي شخصية، يتحتم عليّ أن أملأ الكثير من
الفجوات، ناهيكم عن حمل هذه الشخصيات على عمل أشياء لم تفعلها مطلقا في الحياة.
وهذه المادة الإضافية في الغالب هي التي تبدو للشخص المكتوب عنه مؤلمة بصفة خاصة،
إذ يعتبرها الصدق وقد قيل في غفلة من سيطرة الوعي.
وليس نادرا أن يفترض
المكتوب عنهم في الروايات أن الكاتب كشف الحقيقة، كشف عن النظرة الخفية التي ينظر
بها إلى شخص معين. ومن هؤلاء من تكتب عن عثورها على شخصيتها في رواية لصديقة فتقول
"كان أمرا مزعجا أعمق ما يكون الإزعاج، وضيعا إلى أقصى حد ـ لكن هيا ننظر إلى
الجانب الإيجابي: لقد كان كاشفا عن مشاعر معينة باطنية لدى الكاتبة تجاهي، مشاعر
كنت أرتاب في وجودها وكانت تنكرها".
تجربة عثور المرء على
نفسه في رواية أشبه باستماعه عرضا لمن يتكلمون عنه غير عارفين بوجوده. ثمة إغراء
كبير هنا في أن تولي ما سمعته المصداقية العظمى، وكأنما لا يمكن أن يقول الناس
رأيهم الحقيقي فيك إلا من وراء ظهرك. ولكن الناس من وراء ظهرك يميلون أيضا إلى أن
يكونوا على راحتهم، أن يكونوا أكثر غضبا، ووقاحة، وظلما، وتصيدا للأخطاء،
وانحرافا، ومن وراء ظهرك يكونون أميل لتجريب السباب والآراء الشاذة، وإلى أن
يكونوا بصفة عامة أقل أريحية أو تعاطفا أو دقة مما قد يكونون عليه عادة.
قوانين الأدب، مثل
قوانين النميمة، عادة ما تستوجب المبالغة، والاقتطاع من السياق، والتهويل في
الحقيقة أو التهوين منها، والكثير للغاية من الشكل والنظام والتأثير مما تفتقر
إليه الحياة اليومية. ولا معنى لقولهم "إن هناك رواية كتبت عنك" إلا أن
"هناك مبالغة حدثت لك". (أو تهوينا منك). أنك اقتطعت وتشكَّلت وبني عليك
وغُيِّر في ملامحك وسنك أو صبغ كل ذلك بصبغة جديدة لإضفاء تأثير فني.
ولسوف يكون من السذاجة
الزعم بأنه لا يوجد كتاب بكتبون انطلاقا من غضب شديد، أو توق إلى العدالة، أو حاجة
إلى التخلص من عبء جاثم على صدورهم. ويقينا هناك كتاب يثأرون لأنفسهم في أعمالهم،
ونعم، هناك طبعا من يبثون على الصفحة شتى أنواع مشاعرهم الباطنية.
ولقد عرفتُ كاتبة تدوِّن
قائمة بالأعداء الواجب النيل منهم وهي تكتب، والمحررين الذي رفضوا أعمالها،
والنقاد الذين كانوا أقل من طيبين تجاهها، والزملاء الذين استخفوا بها. وكانت تقوم
بعملية النيل منهم برهافة، من خلال نكات لا يكشف أمرها ويستمتع بها إلا هي وقلة من
المقربين بها، ولست متأكدة مما لو كان ضحاياها يتعرفون على أنفسهم، ولكن الثأر
طاقة هائلة. فلماذا لا تلجأ كاتبة إلى شحذ هذا الغضب المكبوت بين الحين والآخر؟
ولكنني قد أذهب إلى أن
أغلب الكتاب يستخدمون المواد الخام مثلما يأكل الثعلب الفأر، بدون مشاعر شخصية،
ولأغراض براجماتية، بلا شفقة وبلا قسوة، فقط إشباعا لحاجة. وعندما سمع توم بويل
بمشاعري قبل سنين كثيرة، حزن هو الآخر، وكتب رسالة يقول فيها إنه لم يقصد أي شيء
شخصي. وكان ينبغي أن أعرف هذا أنا الأخرى، لأن كل الخامات التي تسنح لها فرصة
الدخول إلى عقل تي سي، تسنح لها أيضا فرصة الخروج من هذا العقل وقد بولغ فيها، وفي
حجمها، وفي جمالها أيضا.
وقد كتب لي صديق مشترك
أخيرا يقول لي "إنني عرفت بعلاقة لزوجتي من كتاب لبويل" (ولكنه لم يقل
أي كتاب).
***
ولا يعترض الجميع طبعا
على وجودهم في رواية أو قصة، حتى إذا لم يكن وجودا للمجاملة والمديح. فقد التقيت
ذات مرة رجلا قال لي في غضون دقائق من تعارفنا إنه النموذج الأولي لتشيب في
"التصحيحات" [لجوناثان فرانزن]، وذلك زعم لا ينبعي أن يسارع أي شخص
إليه. وتحكي جارتي للناس في سعادة أنها
شخصية في روايتي الأخيرى "خارج المسار". والحقيقة أنها جزء من شخصية
مركبة، وأنها لم تقل أو تفعل تسعين في المائة مما تقوله الشخصية وتفعله، وإن كانت
مثل شخصيتي في الرواية بارعة في طبخ يخنة اللحم وكانت تدير مجمعا سكنيا قبل ثلاثين
سنة.
تقول مكنمارا إن الأكثر
ظهورا في الروايات هم الحبيبيات والمحبون، ومن ثم فهم الأشد غضبا. ولكن اثنين من
أحبابي السابقين سعدوا حينما ظهروا في كتاباتي. فقال أحدهم "شرف لي أن أساهم
في الفن". وقال الثاني "أعجبتني الشخصية. بدا لي لطيفا". وكان لي
حبيب آخر شديد التكتم والحرص على خصوصيته، فكان يعاني بسببي نوعا من القلق
الوقائي، وكنت كلما طرحت عليه سؤالا فيه أقل نزر ممكن من الاستكشاف يقول لي
"ماذا تكتبين حاليا؟"
وفي نهاية المطاف، نعم،
كتبت الكتاب.
وهناك، من بعد، من تكتب
عنه وأنت لم تعرفه مطلقا. ففي روايتي الأولى كانت الشخصية المركزية لرجل اسمه ريد
راي. وكنت قد ألفته تأليفا، أو هكذا كنت أظن، إلى أن جاءني شخص في أمسية وقال لي
إنه يعرف ريد، وإنه الآن يعيش قرب سان دييجو.
***
لو كُتبت عنك رواية،
فمن غير المحتمل ان يلاحظ الآخرون ذلك فيها. وإن حدث ولاحظوا، فليس من المحتمل أن
يفعلوا شيئا بدورك الصغير، أو حتى بدور البطولة الذي تلعبه فيها. الحقية أنه لا
أحد يهتم كل هذا الاهتمام إلا أنت. فلم يقل ولو واحد من الأصدقاء المشتركين أن
لاديرشوفيتزا نسخة مني. بل إنني عدت أخيرا إلى "الشرق شرق" باحثة عن
الفقرات التي أثارت ضيقي وانزعاجي قبل عشرين سنة. نعم، في حبكة فرعية، توجد لا
ديرشوفيتزا، ووسط قدر لا نهائي من التفاصيل، تتوهج تفصيلة أنها كانت تكتب عن
المطاعم وتكتب لمجلة كوزمو. وسوى ذلك، يجري في الكتاب الكثير للغاية ـ نسيته كله ـ
والتفاصيل التي اعترضت عليها كانت متباعدة للغاية. بل إنه لم يكن واضحا لي في هذه
القراءة أن لا ديرشوفيتزا عديمة الموهبة. ليس هناك حقا ما كان ينبغي أن يثير الضيق
والحزن.
ومع ذلك، ولحظة أن رأيت
أسوأ مخاوفي مغزولة في جمل...
عندما يقابل المرء نفسه
في رواية، قد ينفعه حينئذ أن يجرب النظر بعين أوسع. خذ نفسا عميقا. تأمل فقرتك، أو
شخصيتك، وما تقدمه من إسهام مهما يكن عفويا للفن. حاول ألا تأخذ الأمر بصفة شخصية.
لا تقرأ بكثير من التمعن. تحلَّ بالخفة.
لقد اعتدمت فكتوريا
باترسن في مجموعتها القصصية الأولى "اندياح" اعتمادا كبيرا على نشأتها
في مجتمع ثري وعلى طلاق أبويها. وتكتب باترسن قائلة "وإنني الآن أرى مدى
سيرية هذا الكتاب، ومدى الألم الذي تسبب فيه ولا شك لأبويّ، وكيف أنه من الرائع
أنهما لا يزالان يتكلمان معي". في الكتاب، مثلما في الحياة، تسرًّ الأم
لابنتها بما لا يليق، فتنبئها أن أباها لم يكن إلا "حبيبا ثانويا".
فعندما صدر الكتاب،
اتصل والد باترسن بابنته قائلا "يسرني الآن أن أنقل إليك تحسنا جديدا، لقد
أصبحت حبيبا أساسيا".
لكاتبة المقال روايات
من بينها "خارج المسار" و"لوم" التي وصلت إلى نهائيا الجائزة
الوطنية من حلقة نقاد الكتاب، و"جيمسلاند" و"راوند روك"
نشر المقال أصلا في
باريس رفيو ونشرت الترجمة في موقع 24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق