بعد خمسة وعشرين عاما لا يزال فوكوياما مصرا:
الديمقراطية هي "نهاية التاريخ"
فرانسيس فوكوياما
قبل خمسة وعشرين عاما كتبت مقالة "نهاية
التاريخ؟" لمجلة صغيرة تدعى ناشيونال إنتريست. كان ذلك في ربيع عام 1989،
وكانت تلك لحظة لا تصدق، لمن كانوا منا واقعين في أسر مناظرات الحرب الباردة
الأيديولوجية والسياسية الضخمة. ظهرت المقالة قبل شهور قليلة من سقوط سور برلين،
وتقريبا في نفس الوقت الذي شهد مظاهرات المطالبة بالديمقراطية في ميدان تياننمن
ببكين وفي غمار موجة التحولات الديمقراطية في شرق أوربا وأمريكا اللاتينية وآسيا
وأفريقيا ما دون الصحراء. ذهبت في ذلك المقال إلى أن التاريخ (بالمعنى الفلسفي
الكبير) كان يتخذ انعطافة شديدة الاختلاف عن التي تخيلها اليسار. فعملية التحديث
الاقتصادي والسياسي لم تكن تفضي إلى الشيوعية، بحسب ما قطع به الماركسيون وأعلنه
الاتحاد السوفييتي، بل إلى شكل من أشكال الديمقراطية اللبرالية واقتصاد السوق.
كتبت أن التاريخ على ما يبدو يبلغ ذروته في الحرية: فحكومات منتخبة، وحقوق فردية،
ونظام اقتصادي يتحرك فيه رأس المال والعمالة بقدر متواضع نسبيا من إشراف الدولة.
ونرجع النظر إلى المقالة من لحظتنا الراهنة، فنبدأ بنقطة
واضحة: عام 2014 يبدو مختلفا تماما عن 1989.
روسيا تهدد بنظام استبدادي انتخابي يستأسد بوقود من
البترودلار على جيرانه ويستولي على أراض ضاعت بتفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991.
ولا تزال الصين استبدادية لكنها الآن ثاني أضخم اقتصاد في العالم، علاوة على
طموحاتها للاستيلاء على مناطق في بحري الصين الشرقي والجنوبي. ومثلما كتب محلل
السياسة الخارجية وولتر راسل ميد حديثا، فإن الجغرافيا السياسية البالية عائدة
بقوة، والاستقرار العالمي مهدد من كلا طرفي أوروآسيا.
ولا تقتصر مشكلة عالم اليوم على أن القوى الاستبدادية
تتحرك، بل في أن بعض الديمقراطيات القائمة ليست بعافية كذلك. وانظروا إلى تايلند
التي سمح نسيجها السياسي المهترئ بحدوث انقلاب قبل أسابيع، أو بنجلاديش التي يبقى
نظامها أسير آلتي فساد سياسيتين. وكثير من الدول التي بدا أنها حققت تحولات
ديمقراطية ناجحة ـ كتركيا وسريلانكا ونيكاراجوا ـ باتت ترتد إلى ممارسات
استبدادية. وأخرى لا يزال ينهشها طاعون الفساد، ومن هذه دول أضيفت حديثا إلى
الاتحاد الأوربي مثل رومانيا وبلغاريا.
وهناك، من بعد، الديمقراطيات المتقدمة. فنحن نرى
الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي في أزمات مالية عنيفة طوال العقد الماضي، بما يفضي
إليه هذا من إفقار للنمو ورفع للبطالة لا سيما بين الشباب. ومع أن اقتصاد الولايات
المتحدة بدأ الآن يعود من جديد إلى التوسع، لكن الأرباح لا تُوزَّع بالتساوي، والنظام
السياسي الحزبي الاستقطابي بات فيما يبدو نموذجا وضاء في أعين دول ديمقراطية أخرى.
فهل ثبت إذن خطأ فرضيتي بنهاية التاريخ؟ ولو أنها غير
خاطئة، أتكون بحاجة إلى مراجعة جادة؟ أعتقد أن الفكرة الأساسية تبقى صيحة في
جوهرها، لكنني أيضا أفهم الآن أشياء كثيرة عن طبيعة التطور السياسي كنت أراها أقل
وضوحا في أيام 1989 المربكة.
من المهم عند النظر إلى النزعات التاريخية العريضة ألا
ينساق المرء وراء التطورات قريبة الأجل. فالعلامة الأكيدة على متانة النظام
السياسي هي استقراره على المدى البعيد، وليس أداءه في عقد معين.
ولننظر ابتداء في التغير الدراماتيكي الذي طرأ على الأنظمة
السياسية والاقتصادية خلال الجيلين الماضيين. على الصعيد الاقتصادي، شهد الاقتصاد
العالمي زيادة هائلة في الإنتاج، تكاد تصل إلى أربعة أمثال الفترة من مطلع
السبعينيات إلى الأزمة المالية في 2007ـ2008. وبرغم أن الأزمة كانت انتكاسة كبرى،
ازدادت مستويات الرخاء زيادة هائلة في العالم كله بجميع قاراته.
حدث هذا لأن العالم كان مشتبكا كله في نظام تجارة
واستثمار لبرالي واحد. فحتى الدول الشيوعية مثل الصين وفييتنام سيطرت فيها قواعد
السوق والمنافسة.
وحدثت تغيرات ضخمة في المجال السياسي أيضا. ففي عام
1974، ووفقا لـ لاري دياموند خبير الديمقراطية في جامعة ستانفورد، لم يكن هناك غير
35 من الديمقراطيات الانتخابية تمثل أقل من 30% من دول العالم. وبحلول عام 2013
وصل العدد إلى 120، أو أكثر من 60% من الإجمالي.
ولم يكن عام 1989 يمثل إلا لحظة التسارع المباغت لنزعة أوسع كان "صمويل
هننتن" ـ أستاذ العلوم السياسية الراحل في جامعة هارفرد ـ يطلق عليها
"موجة الدمقرطة الثالثة" التي بدأت بالتحولات الديمقراطية في جنوب أوربا
وأمريكا اللاتينية قبل خمسة عشر عاما لتنتقل لاحقا إلى أفريقيا ما دون الصحراء
وآسيا.
ويرتبط نشوء الاقتصاد العالمي القائم على السوق وانتشار
الديمقراطية ارتباطا واضحا. فالديمقراطية تتكئ دائما على الطبقة الوسطى العريضة.
وقد توسعت فئات المواطنين ممن يتمتعون بالرخاء ومن أصحاب الأملاك في كل مكان على
مدار الجيل الماضي. والشعوب الأكثر ثراء والأفضل تعليما هي بطبيعتها الأكثر مطالبة
لحكوماتها، ولأنها تدفع الضرائب، فهي تشعر أن من حقها محاسبة شاغلي الوظائف
العامة. وكثير من صروح الاستبداد العنيدة هي دول ثرية بالنفط مثل روسيا ودول
الخليج الفارسي، حيث توفر "لعنة الموارد" ـ بحسب التسمية الشائعة ـ
عائدات هائلة من مصدر سوى الشعب نفسه.
وحتى مع التسليم بمقدرة الدول الثرية بالنفط على مقاومة التغيير،
فإننا نشهد منذ عام 2005 ما يسميه دياموند بـ "الانحسار الديمقراطي".
وثمة ـ بحسب فريدم هاوس التي تنشر مقاييس واسعة الانتشار والاستخدام للحريات
المدنية والسياسية ـ تراجع في عدد وجودة الديمقراطيات (سلامة الانتخابات، حرية
الصحافة، وغير ذلك) على مدار السنوات الثمانية الأخيرة المتتالية.
ولكن دعونا نضع هذا الانحسار الديمقراطي في منظور: ففي
حين نتخوف من النزعات الاستبدادية في روسيا أو تايلند أو نيكاراجوا، نعرف أن جميع
هذه الدول كانت دكتاتورية بلا مواربة في السبعينيات. وعلى الرغم من أيام الثورة
المزلزلة في ميدان التحرير بالقاهرة سنة 2011، لا يبدو أن الربيع العربي سوف يثمر
الديمقراطية إلا في البلد التي بدأ فيها، أي تونس. ولكن من المحتمل أن يجعل
السياسات العربية أكثر استجابة، ولكن على المدى البعيد؛ فالتوقعات بسرعة حدوث هذا
هي المفرطة في لاواقعيتها. نحن فقط نسينا أنه في أعقاب ثورات 1848 ـ أي ربيع
الشعوب الأوربية ـ احتاجت الديمقراطية سبعين السنة حتى قويت.
فضلا عن أن الديمقراطية اللبرالية ـ في عالم الأفكار ـ
لا تزال دون منافس حقيقي من أي نوع. فروسيا فلاديمير بوتن وإيران آيات الله
تتملقان المثل الديقمراطية وإن كانتا تسحقانها سحقا على مستوى الممارسة. وإلا فما
الداعي إلى إجراء استفتاءات فاضحة على "تقرير المصير" في شرق أوكرانيا؟
ربما يحلم بعض الراديكاليين في الشرق الأوسط باستعادة الخلافة الإسلامية، ولكن هذا
ليس خيار الأغلبية الكاسحة من شعوب البلاد الإسلامية. والنظام الوحيد الذي قد يبدو
قادرا أي مقدرة على منافسة الديمقراطية اللبرالية هو المسمى بـ"النموذج
الصيني" الذي يمزج الحكم الاستبدادي بالاقتصاد القائم جزئيا على السوق مع
مستوى مرتفع من الكفاءة التكنوقراطية والتكنولوجية.
لكنني لو خيِّرت أن أراهن على ما إذا كانت الولايات
المتحدة وأوربا ستكونان بعد خمسين عاما من الآن مثل الصين على المستوى السياسي أم
العكس، سأراهن على الخيار الثاني بلا تردد. وهناك أسباب كثيرة للظن بأن النموذج
الصيني غير قابل للاستمرار. فشرعية النظام واستمرارية حكم الحزب تقومان على استمرار
ارتفاع معدلات النمو، وهو ما لن يستمر في ظل سعي الصين إلى التحول من بلد متوسط
الدخل إلى بلد مرتفع الدخل.
والصين راكمت أعباء كثيرة خفية بتسميمها أرضها وهواءها،
وفي حين تتسم الحكومة الصينية بقدر من سرعة الاستجابة تفوق به غيرها من الأنظمة
الاستبدادية، إلا أن الطبقة الوسطى المتنامية لن تقبل بنظام الأبوية الفاسدة الراهن
عندما تسوء الأوضاع.
والصين لم تعد تمثل نموذجا خارج حدودها، مثلما كانت على
عهد ماو الثوري. ومع ارتفاع مستويات تفاوت الدخول والمزايا الهائلة التي يتمتع بها
ذوو الحظوة السياسية، لم يعد "الحلم الصيني" يمثل أكثر من سبيل القلة
إلى تحقيق الثراء.
ولا يعني أيٌّ من هذا أن بوسعنا الارتياح والرضا بأداء
الديمقراطية على مدار العقدين المنصرمين. إن فرضيتي المتعلقة بنهاية التاريخ لم
ترمِ يوما إلى أن تكون حتمية أو نبوءة بسيطة بانتصار الديمقراطية اللبرالية المحقق
في أنحاء العالم. فالديمقراطيات لا تبقى وتنجح ما لم يناضل الناس من أجل سيادة
القانون وحقوق الإنسان والمحاسبة السياسية. وهذه المجتمعات تعتمد على القيادة،
والقدرة التنظيمية، والحظ الوافر.
المشكلة الوحيدة الكبرى في المجتمعات الطامحة إلى أن
تكون ديمقراطية هي عجزها عن توفير جوهر ما يريده الشعب من الحكومة: الأمان الشخصي،
والنمو الاقتصادي المشترك، والخدمات العامة الأساسية (لا سيما التعليم، والرعاية
الصحية، والبنية الأساسية) اللازمة لتحقيق الفرص الفردية. إن أنصار الديمقراطية
يسعون، لأسباب مفهومة، إلى تحجيم قوى الدول الطغيانية والافتراسية، لكنهم لا
ينفقون وقتا مماثلا في التفكير في كيفية الحكم الفعال، فهم على حد قول وودرو ويلسن
"أكثر اهتماما بالسيطرة على الحكم منهم ببث الطاقة فيه".
وفي ذلك كان فشل ثورة البرتقالية سنة 2004 في أوكرانيا
التي أطاحت بفكتور يانوكوفيتش للمرة الأولى. لقد أهدر الزعيمان اللذان جاءت بهما
تلك الاحتجاجات إلى السلطة ـ وهما فكتور يوشينكو ويوليا تايموشنكو ـ طاقتهما في
مشاجرات داخلية وصفقات مشبوهة. ولو كانت وصلت إلى السلطة إدارة ديمقراطية فعالة،
تطهر فساد كييف وتزيد من الثقة في مؤسسات الدولة، لكان محتملا أن تحقق الحكومة
شرعيتها في أوكرانيا، بما فيها منطقة الشرق الناطق بالروسية قبل فترة طويلة من
استقواء بوتين إلى حد القدرة على التدخل. ولكن القوى الديمقراطية عمدت بدلا من ذلك
إلى تشويه نفسها وتمهيد الطريق أمام رجوع يانوكوفيتش في 2010 فهيأت المسرح لأحداث
الشهور الماضية الدموية.
وارتدت الهند إلى هوة مماثلة في الأداء عند مقارنتها
بالصبن المستبدة. صحيح أنه لمما يثير كثيرا من الإعجاب أن استطاعت الهند الحفاظ
على تماسكها كبلد ديمقراطية منذ تأسيسها سنة 1947، لكن الديمقراطية الهندية ـ شأن
صناعة السجق ـ لا تبدو مثيرة لكثير من الإعجاب عند النظر إليها من قريب. فالنظام
حافل بالفساد والمحسوبية، حتى أن 34% من الفائزين في أحدث الانتخابات هناك يواجهون
اتهامات جنائية معلقة بحسب ما يفيد به اتحاد الإصلاحات الديمقراطية في الهند، ومن
هذه الاتهامات ما يصل إلى القتل والخطف والاعتداء الجنسي.
ثمة سيادة للقانون في الهند، لكن القانون بطيء وغير فعال
لدرجة أن يموت كثير من المتقاضين قبل الفصل في قضاياهم. والتأخير في المحاكم
الهندية يصل إلى ستين ألف قضية بحسب صحيفة هندوستان تايمز. وبالمقارنة مع الصين
الأوتوقراطية، نرى أضخم ديمقراطيات العالم عاجزة تماما عن توفير البنية الأساسية
الحديثة أو الخدمات الأساسية كالمياه النظيفة والكهرباء والتعليم الأساسي لشعبها.
وفي بعض الولايات الهندية، لا يذهب 50% من المعلمين إلى
مدارسهم بحسب الاقتصادي الناشط جين ديريز. ولقد انتخب قبل قليل نارندرا مودي ـ وهو
قومي هندوسي ذو ماض من التسامح مع العنف ضد المسلمين ـ رئيسا للوزراء، حيث أوصلته
إلى المنصب أغلبية كبيرة طامحة إلى أن يقوم بالقضاء على الروتين الهندي السياسي
وينجز شيئا ما ملموسا.
وغالبا ما يعجز الأمريكيون، أكثر من سواهم، عن فهم
الحاجة إلى الحكم الفعال، لانصباب القدر الأكبر من تركيزهم على تحجيم السلطة. في
2003، بدا أن إدارة جورج دبليو بوش تعتقد أن الحكم الديمقراطي واقتصاد السوق سوف
يظهران بصورة عفوية في العراق بمجرد أن تقضي الولايات المتحدة على طغيان صدام
حسين. لم تفهم الإدارة أن هذه الأشياء لا تنشأ إلا من تفاعل معقد بين المؤسسات ـ
كالأحزاب السياسية والمحاكم وحقوق الملكية والهوية الوطنية المشتركة ـ لم ينشأ في
الديمقراطيات المتقدم إلا عبر عقود، بل قرون.
ويمتد الحكم العاجز للأسف إلى الولايات المتحدة. فدستورنا الماديسوني Madisonian
Constitution، المعد خصيصا لمنع
الطغيان من خلال العديد من وسائل الفحص والمراقبة على جميع مستويات الحكم، أصبح
عاجزا. وفي المناخ السياسي الاستقطابي ـ المسموم في واقع الأمر ـ الذي تعيشه
واشنطن اليوم، تعجز الحكومة عن الفعالية في التقدم أو حتى في التقهقر.
إن التهديد الأكبر لفرضية نهاية التاريخ ـ بعد خمسة وعشرين عاما من
ظهورها ـ لا يتمثل في وجود نموذج أعلى وأفضل قد يحل يوما محل الديمقراطية
اللبرالية، ولا في أن الثيوقراطية الإسلامية أو الرأسمالية الصينية تنال منها. فلا
تكاد المجتمعات تضع أقدامها على سلم التصنيع المتحرك حتى تبدأ بنيتها الاجتماعية
في التغير بطرق تزيد من المطالبات بالمشاركة السياسية. فلو هيأت النخب السياسية
هذه المطالب لوصلنا إلى نسخة ما من الديمقراطية.
والسؤال هو هل صعود السلم المتحرك حتم على جميع الدول. والمشكلة هي
التضافر بين السياسة والاقتصاد. فانطلاق النمو الاقتصادي يستوجب حدا أدنى من
المؤسسات والعقود النافذة والخدمات العامة القادرة، وهذه المؤسسات يصعب إيجادها في
ظل الفقر المدقع والانقسام السياسي. وتاريخيا كانت المجتمعات تنفك من هذا
"الشرك" عبر وقائع التاريخ، حيث غالبا ما تؤدي أشياء سيئة (كالحرب) إلى
أشياء جيدة (كالحكم الحديث). غير أنه ليس من الواضح إن كان الحظ سوف يحالف الجميع.
وثمة مشكلة ثانية لم أعالجها قبل خمسة وعشرين عاما وهي الانحلال
السياسي الذي يمثل سلما متحركا هابطا. فجميع المؤسسات قد تتدهور على المدى البعيد.
وهي غالبا ما تكون صارمة محافظة، وتحكم من خلال الاستجابة لحقبة تاريخية معينة،
ولا تكون بالضرورة المؤسسات الصالحة لمواكبة التغيرات في الظروف الخارجية.
فضلا عن أن المؤسسات الحديثة المصممة على أن لا تكون مشخصنة غالبا
ما تقع بمرور الوقت في أيدي لاعبين أقوياء سياسيا. وإن بالبشر نزوعا طبيعيا إلى محاباة
الأسرة والأصدقاء، وهذا النزوع فاعل في
جميع النظم السياسية، مما يجعل الحريات تتدهور إلى أن تصبح امتيازات. وليست الدول
الديمقراطية مستعصية على ذلك أكثر من الدول الاستبدادية (وانظروا إلى قانون
الضرائب في الولايات المتحدة). وفي هذه الظروف يزداد الأثرياء ثراء، ولا يكون ذلك
فقط بسبب زيادة العائد على رأس المال بحسب ما ذهب إليه حديثا الاقتصادي الفرنسي
توماس بيكيتي، ولكنن لأنهم أقوى ارتباطا بالنظام السياسي وأقدر على استخدام
علاقاتهم لتعزيز مصالحهم.
أما عن التقدم التكنولوجي، فهو متقلب في توزيع مكتسباته.
فالابتكارات، من قبيل تكنولوجيا المعلومات، تنشر السلطة لأنها تجعل المعلومات
رخيصة ويسيرة، لكنها أيضا تقوِّض الوظائف ذات المهارات المتدنية وتهدد وجود الطبقة
الوسطى العريضة.
ولا ينبغي لأحد يعيش في ديمقراطية مستقرة أن يطمئن إلى قدرتها على
البقاء. ويبقى للمثل الديمقراطية سلطان هائل، برغم ما يطرأ عليها من مد وجزر. ونرى
هذا في الاحتجاجات الشعبية دائمة الاندلاع من تونس إلى كييف إلى اسطنبول، حيث
يطالب الناس العاديون بحكومات تعترف بكرامتهم كبشر متساوين. ونراه في ملايين الفقراء
الطامحين كل عام إلى الانتقال من أماكن مثل جواتيمالا أو كراتشي إلى لوس آنجلس أو
لندن.
فحتى ونحن نثير أسئلة عن السرعة التي سوف يصل بها الجميع إلى هناك،
لاينبغي أن يتسلل الشك إلينا فيما يتعلق بنوع المجتمع الذي ينتهي عنده التاريخ.
عن
وول ستريت جورنال
نشرت الترجمة في جريدة عمان بتاريخ 9 يوليو 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق