لأن السعادة ليست مرادفا للإحساس بالمعنى. كيف السبيل
إلى حياة ذات معنى، لا إلى مجرد حياة سعيدة؟
معاني الحياة
روي ف باوميستر*
غالبا ما يردد الآباء أن "كل ما نريده هو أن يكون
أبناؤنا سعداء". وليس من المعتاد أن نسمعهم يقولون إن "كل ما نريده هو
أن يعيش أبناؤنا حياة ذات معنى" في حين أن هذا هو ما يبدو أن أكثرنا يريده
حقا لنفسه من حياته. فنحن نخاف انعدام المعنى. نخاف الـ "عدمية" في هذا
الجانب أو ذاك من جوانب ثقافتنا. ويحل علينا الاكتئاب إن نحن فقدنا المعنى. فما
ذلك الشيء الذي نسميه المعنى، وما سر حاجتنا الماسة هذه إليه؟
لنبدأ بالسؤال الأخير. من المؤكد أن السعادة والمعنى
كثيرا ما يتداخلان. فلعل درجة ما من درجات المعنى تمثل شرطا مسبقا للسعادة، أو هي
ظرف لازم وإن يكن غير كاف. ولو أن هذا هو
الحال، فقد يطلب الناس المعنى لأسباب أداتية محضة، بوصفه خطوة على طريق السعادة. ولكن في هذه الحالة، هل يكون ثمة من سبب
لطلب المعنى لذاته؟ ولو لم يكن هذا السبب موجودا، فما الذي يجعل الناس يؤثرون ـ
وهم يفعلون في بعض الأحيان ـ أن تكون حياتهم ذات معنى أكثر من أن تكون حياتهم
سعيدة؟
كان الفارق بين المعنى والسعادة
بؤرة تحقيق بحثي عملت فيه أنا وزملائي أساتذة علم النفس الاجتماعي "كاثلين
فوز"، و"جينيفر آكر"، و"إيميلي جابينسكي"، ونشرناه في
جريدة "بوزيتيف سايكولوجي" في أغسطس الماضي. كنا قد أجرينا دراسة على
قرابة أربعمائة مواطن أمريكي تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والثامنة والسبعين،
وطرحت الدراسة سؤالين حول مدى اعتقاد الناس بسعادة حياتهم ومدى اعتقادهم أن لها
معنى. ولم نحدد للمسئولين تعريفا للسعادة أو للمعنى، فجاءت ردود المشاركين معتمدة
على فهمهم الخاص للكلمتين. وبطرحنا مزيدا من الأسئلة على عدد أكبر، أمكن لنا أن
نرى أي العوامل يتماشى مع السعادة وأيها يتماشى مع المعنى.
تبين أن الحالتين ـ كما يمكن أن
تتوقعوا ـ تتداخلان تداخلا جوهريا. فلقد تم تفسير قرابة نصف تنويعات المعنى في ضوء
السعادة، والعكس بالعكس. وعلى الرغم من ذلك، أمكننا باستخدام أدوات تحكم إحصائية
أن نفصل بين الاثنين، عازلين التأثيرات "النقية" لكل منهما ما كانت غير
قائمة على الآخر. وقمنا بتضييق بحثنا للوقوف على العوامل التي تؤثر على السعادة
والمعنى تأثيرات متعارضة، أو هي على أقل تقدير العوامل التي تتصل إيجابيا بأحدهما
دون أن تكون ثمة إشارة على اتصال إيجابي بالآخر (فإن كانت ذات صلة سلبية أو دونما
صلة مطلقا فخير). وباستخدام هذا المنهج، عثرنا على خمس مجموعات من الاختلافات
الأساسية بين السعادة والمعنى، خمس مناطق تنفض فيها صحبة هاتين النسختين
المختلفتين من نسخ الحياة الطيبة.
إشباع الحاجة
للمنطقة الأولى علاقة بالحصول
على ما تريده وتحتاج إليه. وليس من المدهش في شيء أن تبين لنا أن إشباع الرغبات
مصدر أكيد للسعادة. وإن لم تكن له علاقة ـ ربما على الإطلاق ـ بإضافة المعنى. إنما
يكون الناس أكثر سعادة في حدود أن تكون حياتهم يسيرة عليهم لا عسيرة. ويقول
السعداء إن لديهم من المال ما يكفيهم لابتياع ما يريدونه وما يحتاجون إليه. وسلامة
الصحة عامل يسهم في السعادة لا في المعنى. والأصحاء أسعد من المرضى، ولكن حياة
المرضى لا يعوزها المعنى. وكلما ازداد الناس إحساسا بالرضا ـ وهو إحساس ينشأ من حصول
المرء على ما يريده أو يحتاجه ـ ازدادوا سعادة. وكلما قل إحساسهم بالاستياء،
ازدادوا سعادة. ولكن تواتر الرضا والاستياء أمر يتبين أنه منبت الصلة بالمعنى الذي
قد يزدهر في ظل ظروف غير مواتية بالمرة.
الإطار الزمني
منطقة الاختلافات الثانية جاءت
مرتبطة بالإطار الزمني. فالسعادة والمعنى فيما يبدو تجربتان تجريان في زمن مختلف.
إذ السعادة مسألة ذات علاقة بالحاضر، بينما المعنى يرتبط بالمستقبل، أو هو يرتبط ـ
لمزيد من الدقة ـ بالربط بين الماضي والحاضر والمستقبل. وكلما ازداد الوقت الذي
ينفقه الناس مفكرين في المستقبل أو الماضي، ازداد المعنى في حياتهم وقلت فيها السعادة.
ارتبط الوقت المنقضي في التفكير في المستقبل ارتباطا وثيقا وقويا بازدياد المعنى
وتراجع السعادة (شأن القلق، وهو ما سآتي إليه لاحقا). وبالعكس، كلما ازداد وقت
الناس في التفكير في هنا والآن، كانوا أكثر سعادة. وبرغم أن الشقاء أيضا أكثر
تركزا في الحاضر، إلا أن الناس ممن يفكرون أكثر في هنا والآن هم سعداء أكثر منهم
أشقياء. ولو أن بك رغبة إلى تعظيم سعادتك، فقد تنفعك النصيحة بالتركيز على الحاضر،
لا سيما إن كان يشهد إشباع احتياجاتك. أما المعنى، في المقابل، فيبدو أنه يأتي من
جمع الماضي والحاضر والمستقبل في قصة متماسكة.
وهنا تبدأ نظرية في التشكل حول
سر اهتمامنا بالمعنى. ربما الفكرة هي أن نجعل السعادة تدوم. فالسعادة تبدو متركزة
في الحاضر، ومن ثم عابرة، بينما يمتد المعنى في المستقبل والماضي ويبدو أقرب إلى
الثبات. ولهذا السبب قد يذهب الناس إلى الظن بأن طلب المعنى في حياتهم يعينهم على
البقاء سعداء على المدى البعيد. وقد يكونون محقين، وإن يكن الواقع العملي
يقول إن السعادة غالبا ما تميل إلى الاستمرار مع
الوقت، فمن كانوا منا سعداء اليوم سيكونون على الأرجح سعداء خلال شهور أو ربما
سنين من الآن، ومن كانوا أشقياء بسبب شيء اليوم سيكونون في الغالب أشقياء بسبب
غيره في المستقبل البعيد. إذ تبدو السعادة وكأنها تأتي من الخارج، بينما الدليل
الراسخ يشير إلى أن قدرا ضخما منها يأتي من الداخل. وبرغم هذه الوقائع، يعرف الناس
السعادة بوصفها أمرا يكون محسوسا هنا والآن، ولا يمكن التعويل على بقائه. في
المقابل، يبدو المعنى للناس دائما، ومن هنا قد يتصور الناس أنهم قادرون على إقامة
أساس لنوع من السعادة أكثر ديمومة من خلال إيجاد المعنى في حياتهم.
الحياة الاجتماعية
كانت الحياة الاجتماعية موضع
ثالث مناطق الاختلاف. وكما يمكن أن تتوقعوا، تبين أن الاتصال بالغير مهم بالنسبة
للمعنى والسعادة معا. فالوحدة في العالم ترتبط بالمستويات الدنيا من السعادة
والمعنى، شأنها شأن الإحساس بالوحشة. ومع ذلك، تبين أن طبيعة روابط المرء
الاجتماعية هي التي حددت الحالة التي ساهمت هذه الروابط في إيجادها. بعبارة أبسط،
ينبع المعنى من الإسهام في حياة الآخرين، بينما تنبع السعادة من إسهام الآخرين في
حياتك. ولكن هذا يناقض بعض الآراء السائدة، إذ أن هناك افتراضا واسع النطاق بأن
مساعدتك الغير تجلب لك السعادة. حسن، الأمر كذلك إلى درجة ما، وتأثيره يعتمد كلية
على التداخل ما بين المعنى والسعادة. لقد تبين أن مساعدة الغير تسهم إسهاما ضخما
في المعنى بغض النظر عن السعادة، وإن لم تظهر علامة على أنها تعزز السعادة بغض
النظر عن المعنى. ولئن كان ثمة أي تأثير، فإنه تأثير في الاتجاه المعاكس: ونحن لا
نكاد نضبط ما تحققه مساعدة الغير من دفعة للمعنى، فإن مساعدة الغير يمكن فعلا أن
تنتقص من سعادة المرء.
الأخذ والعطاء
ولقد وجدنا أصداء لهذه الظاهرة
حينما سألنا الأشخاص الذين شملتهم الدراسة عن كم الوقت الذي يقضونه في رعاية
الأطفال. تبين أن رعاية الأطفال ـ بالنسبة لغير الآباء ـ لا تساهم أدنى مساهمة في
السعادة أو المعنى. والاعتناء بأطفال الغير لا هو سار للغاية ولا مكدر للغاية، ولا
هو جالب للمعنى. بينما كان الاعتناء بالأطفال بالنسبة للآباء مصدرا جوهريا للمعنى،
وإن بقي منبت الصلة بالسعادة، ربما لأن الأطفال يكونون أحيانا مبهجين وفي أحيان
آخرين مصيبين بالتوتر مثيرين للضيق.
طلبت الدراسة من الأشخاص تقييم
أنفسهم إما "معطائين" أو "آخذين". وتبين أن اعتبار المرء نفسه
معطاء مؤشر على المعنى أكثر مما هو مؤشر على السعادة. أما كون المرء آخذا فتأثيره
أضعف، ربما لأن بالناس عزوفا عن الاعتراف بأنهم آخذون. وبرغم ذلك، تبين بوضوح أن
كون المرء آخذا (أو، على الأقل، اعتباره نفسه آخذا) يعزز السعادة وينال من المعنى.
الحب والصداقة
يمكن أن يكون عمق الروابط
الاجتماعية فارقا في كيفية إسهام الحياة الاجتماعية في السعادة والمعنى. ولقد تبين
أن لإنفاق الوقت مع الأصدقاء ارتباطا أكبر بالسعادة، وأنه غير ذي علاقة أصلا
بالمعنى. تناول بضع زجاجات بيرة مع الأصحاب أو الاستمتاع بحوار لطيف معهم على الغداء
قد يكون مصدرا للسعادة لكنه إجمالا ليس شديد الأهمية بالنسبة للمعنى. في المقابل،
كان إنفاق وقت أكبر مع الأحباب مرتبطا بمستويات أعلى من المعنى، ومنبت الصلة
بالسعادة. والفارق، فيما نفترض، يتمثل في عمق العلاقة. فوق الأصدقاء غالبا ما يتم
إنفاقه في متع بسيطة لا يترتب عليها شيء، ومن ثم فهو يعزز المشاعر الطيبة دون أن
يضيف شيئا يذكر للمعنى. ولو أن أصدقاءك بدوا مزعجين ومملين فيمكنك ببساطة أن
تتركهم. أما وقت الأحباب فلا يكون مبهجا على الدوام. إذ يكون عليك في بعض الأحيان
أن تدفع فواتير، وتحتمل المرض، وتصلح المكسور، وتقوم بغير ذلك من الواجبات
المزعجة. وطبعا الحبيب نفسه يمكن أن يكون صعب المراس، ولكنك في كل الحالات ملزم
بصفة عامة أن تعمل على إنجاح العلاقة. وربما لا يكون من المصادفة في شيء أن
المشاجرات نفسها جاءت أكثر ارتباطا بالمعنى منها بالسعادة.
البحث عن الضغوط
الفئة الرابعة من الاختلافات
كانت تتعلق بالمجهودات والمشكلات والضغوط وما شاكلها. وهذه بصفة عامة ارتبطت
بمستويات أدنى من السعادة، ومستويات أعلى من المعنى. سألنا عن كم الأحداث
الإيجابية والسلبية التي وقعت مؤخرا. وتبين أن وقوع الكثير من الأشياء الطيبة له
أثره على كل من المعنى والسعادة. ولا عجب. ولكن للأشياء السيئة قصة مختلفة.
فالحيوات المفعمة بالمعنى تصادف وفرة من الأحداث السلبية التي تنتقص طبعا من
السعادة. لقد كان التوتر وأحداث الحياة السلبية ـ في واقع الأمر ـ ضربتين قويتين
للسعادة، برغم ارتباطهما الإيجابي المؤثر على المعنى. ونبدأ في إدراك ما يمكن أن
تكون عليه الحياة السعيدة وغير المحملة كثيرا بالمعنى. فالضغط والمشكلات والشجار
والجهد وتأمل التحديات غائبة أو حاضرة أخفت الحضور في حياة السعداء، لكنها فيما
يبدو جزء لا ينفصل عن الحياة الحافلة بالمعنى. والإحالة إلى التقاعد تبين هذا
الفارق: فمع انقطاع مطالب العمل وضغوطه تزداد السعادة إنما المعنى يتهاوى.
هل يخرج الناس من بيوتهم بحثا
عن الضغط طلبا للمعنى؟ الأرجح أنهم ينشدون المعنى عبر سعيهم إلى مشاريع صعبة وغير
مضمونة. إن المرء يحاول إنجاز أشياء في الدنيا: وهذا يجلب عليه الأفراح
والأتراح، ومن ثم فصافي السعادة قد يكون
صغيرا، ولكن المسعى في كل الحالات يساهم في تحقيق المعنى. ولنضرب مثالا قريبا منا:
إجراء بحث يضيف إضافة هائلة إلى معنى الحياة (فأي شيء أكبر معنى من زيادة مخزون
المعرفة البشرية؟) ولكن المشاريع نادرا ما تسير وفق المخطط لها، وكثير من
الإخفاقات والإحباطات يكون منثورا على الطريق وقادرا على امتصاص أي بهجة من الأمر
برمته.
لا سعادة لقلِق
الفئة الأخيرة من الاختلافات
كان لها علاقة بالذات والهوية الشخصية. الأنشطة التي تعبر عن الذات مصدر مهم للمعنى
لكنها في الغالب منقطعة الصلة بالسعادة. كان في قائمتنا 37 نشاطا (من قبيل العمل،
والرياضة، والتأمل) طلبنا من الناس أن يصنفوها ما بين المعبرة عن الذات أو العاكسة
لها. فتبين أن لـ 25 نشاطا ارتباطات إيجابية قوية بالمعنى، ولم يتبين أن هناك ما
هو سلبي. وتبين أن نشاطين فقط من السبعة والثلاثين (هما الانخراط الاجتماعي،
والاحتفال بشرب الكحول) يرتبطان بالسعادة، وكانت للبعض علاقة سلبية واضحة. وكان
الأسوأ على الإطلاق هو القلق: فلو أنك تعتبر نفسك قلقا، فهذا ينال منك بوضوح.
لو أن السعادة هي حصولك على ما
تريد، فالمعنى فيما يبدو هو عملك ما يعبر عنك. بل إن مجرد الاهتمام بمواضيع الهوية
الشخصية وتعريف الذات جاءت مرتبطة بمزيد من المعنى، برغم أنها منقطعة الصلة
بالسعادة أو حتى معيقة لها. وقد يبدو هذا منطويا على تناقض: فالسعادة أنانية بمعنى
أنها تتعلق بحصولك على ما تريد وبقيام الناس بأشياء نافعة لك، ولكن الذات أكثر
ارتباطا بالمعنى منها بالسعادة. تعبيرك عن نفسك، وتعريفك لها، وتأسيسك سمعة طيبة،
ومثل هذه من الأنشطة المرتبطة بالذات جميعا أكثر أرتباطا بالمعنى منها بالسعادة.
ما الحياة؟
هل كل ذلك ينبئنا حقا بشيء عن
معنى الحياة؟ تعتمد الإجابة بـ "نعم" على بعض الافتراضات الجدلية، ليس
أقلها مسألة ما إذا كان الناس يَصْدقون في قولهم إن كانت حياتهم ذات معنى أم لا
معنى لها. وافتراض آخر هو أننا قادرون أصلا على الإجابة. هل بوسعنا فعلا أن نعرف
إن كانت لحياتنا معنى؟ أما كنا لنقدر على أن نقول بالضبط ماذا يكون هذا المعنى؟
وتذكروا أنني وزملائي لم نمد عينات الدراسة بتعريف للمعنى، ولا نحن طلبنا منهم أن
يعرفوه بأنفسهم. كل ما طلبناه منهم هو أن يحددوا مستوى موافقتهم على مقولات من
قبيل: "أعتبر بصفة عامة أن لحياتي معنى". ولعل نظرة أعمق إلى معنى
الحياة تعيننا على استيضاح بعض المبادئ الأساسية.
أولا، ما الحياة؟ هناك إجابة
تسفر عن "كوكبة ظواهر حيوية"، وهو عنوان رواية صدرت في 2013 لـ "أنطوني
مارا" عن الشيشان في أعقاب الحربين الأخيرتين. في الرواية امرأة في شقتها لا
تجد ما تفعله فتشرع في قراءة قاموس أختها الطبي الذي يرجع إلى الحقبة السوفييتية. قاموس
لا يوفر لها إلا القليل من المعلومات النافعة أو حتى المفهومة، لكنه يقدم لها
تعريفا للحياة تحيطه بدائرة بالأحمر "الحياة: كوكبة من الظواهر الحيوية ـ
التنظيم، الحركة، النمو، التناسل،
التكيف". هذا جوهريا هو معنى الحياة. ينبغي أن أضيف أننا نعرف الحياة حاليا بأنها
عملية فيزيائية من نوع ما: ولا أعني هنا الذرات والمواد الكيميائية في ذاتها، بل
الرقصة شديدة الانتظام التي تؤديها هذه العناصر معا. المواد الكيميائية تبقى إلى
حد كبير على ما هي عليه في لحظة ما قبل الموت مباشرة وفي لحظة ما بعد الموت
مباشرة. فلا يغير الموت هذه المادة أو تلك: إنما حالة النظام الديناميكية الكلية
هي التي تتغير. ومع ذلك تبقى الحياة واقعا فيزيائيا محضا.
ما المعنى؟
معنى "المعنى" أشد
تعقيدا. للكلمات والجمل معنى، وكذلك للحيوات. لكن، هل هو الشيء نفسه في الحالتين؟
فمن ناحية، يمكن أن يكون "معنى" "الحياة" تعريفا قاموسيا
بسيطا كالذي قدمته في الفقرة السابقة. لكن ليس ذلك ما يريده الناس حينما يسألون عن
معنى الحياة، إلا لو كان ينفع شخصا يعاني أزمة الهوية أن يقرأ اسمه مكتوبا على
رخصة القيادة.
ثمة فارق مهم بين المعنى اللغوي
وبين ما أسميه بمعنى الحياة الإنسانية وهو أن الثاني ينطوي على حكم قيمي، أو
بالأحرى على جملة من الأحكام القيمية، وهو من ثم ينطوي على نوع معين من العاطفة.
واجب الرياضيات المفروض عليك مليء بالمعنى من حيث تألفه بالكامل من شبكة مفاهيم،
أي معان بعبارة أخرى. ولكن عمليات الجمع ـ في أكثر الحالات ـ لا تنطوي على كثير من
المشاعر، ومن هنا لا يعتبرها كثير من الناس حاملة لكثير من المعنى في حدود ما نحن
مهتمون به. (ومن الناس في واقع الأمر من يشمئزون من الرياضيات، أو ينتابهم القلق
منها، ولكن هذه ردود فعل نادرا ما تفضي اعتبار الرياضيات مصدرا للمعنى في الحياة).
نحن لا نريد التعريف المعجمي
لحياتنا إن كان ثمة شيء كهذا أصلا، بل نريد أن تكون لحياتنا قيمة، أن يكون لها
سياق مفهوم من نوع ما. غير أن هذه الشئون الوجودية تتماس بقوة مه الجانب اللغوي
المحض من كلمة "المعنى" لأنها تتطلب الفهم والربط الذهني. وإنه لمما
يلفت النظر ذلك الكم من مرادفات المعنى التي تحيل إلى المحتوى اللفظي البحت: فنحن نتكلم على سبيل المثال عن مغزى
الحياة، أو دلالتها، أو عما لو كانت منطقية.
ولو أننا نريد أن نفهم معنى الحياة، يبدو كما لو أننا بحاجة إلى القبض على
طبيعة المعنى في هذه الحدود البسيطة.
المعنى اللغوي هو نوع من
الرابطة غير المادية. فمن الممكن لشيئين أن يرتبطا ماديا، بمسمار على سبيل المثال،
أو بالجاذبية، أو بالقوة المغنطيسية. ولكن من الممكن لشيئين أيضا أن يرتبطا رمزيا.
فالرابط بين علم والبلد التي يمثلها ليس رابطا فيزيائيا، بمعنى الجزيء للجزيء.
إنما هو رابط يبقى على حاله وإن تواجد العلم وبلده كل في جانب من الكوكب بما يجعل
الرابط المادي محالا.
لقد درج العقل البشري على
استخدام المعنى فهما للأشياء. وإن جزءا من طريقتنا في أن نكون اجتماعيين يتمثل في أن
نتكلم عما نفعله ونمر به. وإن أغلب ما نعرفه إنما نعرفه من الغير لا من التجربة
المباشرة. وإن بقاءنا نفسه قائم على تعلم اللغة، والتعاون مع الغير، واتباع
القواعد الأخلاقية والقانونية، وغير ذلك. واللغة أداة البشر في توليد
المعاني. وعلى الرغم من حب علماء
الأنثروبولوجيا للعثور على الاستثناء، فهم إلى الآن فاشلون في العثور على أي ثقافة
غنية عن اللغة. فهو ناموس إنساني. وفي الوقت نفسه، ثمة لغات مخترَعة: تختلف من
ثقافة إلى ثقافة. أما المعنى، في المقابل، فيتم اكتشافه. وارجعوا إلى مثال واجب
الرياضيات: حيث الرموز اختراعات بشرية اعتباطية، إنما الفكرة التي تعبر عنها الـ
5×8=43 خاطئة وليس ذلك بالشيء الذي أصطنعه البشر أو هم قادرون على تغييره.
العقول تخطئ
ابتكر عالم الأعصاب "مايكل
جازانيجا" أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا مصطلح
"مئوِّل المخ الأيسر" left-brain
interpreter ليشير به إلى جزء في أحد جانبي المخ يبدو أنه
مخصص بصورة شبه كلية لتحويل كل شيء يحدث له إلى لغة. غير أن السرد الذي
ينتجه مئول المخ الأيسر هذا لا يجيء
صحيحا على الدوام بحسب ما بيّن جازانيجا. فالناس تسارع إلى استنباط تفسير لما
تفعله أو تمر به، ملفقةً التفاصيل طلبا للاتساق. وأخطاؤهم هي التي ساقت جازانيجا
إلى التساؤل عما لو أن لهذه العملية أية قيمة على الإطلاق، ولكن سبب إحباطه قد يكون مصبوغا بافتراض العالِم بصورة طبيعية
أن غاية التفكير هي الوصول إلى الحقيقة (وهذا في نهاية المطاف ما يفترض أن العلماء
يقومون به). أما أنا، في المقابل، فأرى أن
جزءا ضخما من غاية التفكير يتمثل في مساعدة المرء على التحدث إلى الناس. العقول
تخطئ، ولكننا نكلم الناس فيكتشفون أخطاء العقول ويصححونها. والبشرية إلى حد كبير
تصل إلى الحقيقة جمعيا، بالمناقشة والمجادلة، أكثر مما تصل إليها من خلال التفكير
الفردي في الأشياء.
لماذا نفكر؟
يلاحظ كثير من الكتّاب ـ لا
سيما من لهم تجربة في التأمل والزن ـ أن العقل البشري يقضي كل يومه في كبد. فهو
يفيض بالأفكار حينما تحاول التأمل، وهذا الفيض يسمى أحيانا بـ "المونولوج
الداخلي". فلماذا يفعل العقل هذا؟ قال وليم جيمس مؤلف "مبادئ علم النفس"
(1890) إن غاية التفكير الفعل، لكن كثيرا من التفكير يبدو منقطع الصلة بالفعل. أما
وضع أفكارنا في كلمات فما هو إلا تجهيز ضروري لتوصيل هذه الأفكار إلى الغير.
والكلام مهم: إنه سبيل البشر إلى الارتباط مع جماعاتهم ورفاقهم ـ وبه نستطيع أن
نحل مشكلات بيولوجية أبدية كمشكلتي البقاء والتناسل. لقد طور البشر عقولا تثرثر
طول اليوم، لأن رفع الأصوات بالثرثرة هو سبيلنا إلى البقاء. والكلام يوجب على
الناس أن يأتوا على ما يفعلونه فيضعونه في كلمات. ولئن كان بوسع الدب أن ينزل التل
ويشرب مثلما يمكن لشخص أن يفعل، إلا أن الإنسان وحده يفكر بالكلمات فيقول
"سأنزل التل لأشرب". والإنسان في واقع الأمر قد لا يكتفي بالتفكير في
هذه الكلمات، بل هو قد يجهر بها فيصحبه غيره في الرحلة، أو لعل غيره يحذره من
القيام بها لأنه رأى بجانب النهر دبا. بالكلام يتشارك البشر في المعلومات وبرتبطون
بعضهم ببعض، وهذه هي سلالتنا.
لماذا نتكلم؟
الدراسات على الأطفال تدعم
الفكرة القائلة بأن العقل البشري مبرمج
بطبيعته على صياغة الأشياء لغويا. فالأطفال يمرون بمراحل يجهرون فيها بأسماء كل ما
يصادفونه، ويرغبون في تسمية كل الأشياء من حولهم كالقمصان والحيوانات بل وحركات
أمعائهم. (لفترة كانت ابنتنا الصغيرة تسمي أشياءها بأسماء أقاربنا بلا دافع من
كراهية أو احتقار، ومع ذلك طلبنا منها ألا تبوح بتلك الأسماء). هذا النوع من
الكلام ليس ذا فائدة مباشرة في حل المشكلات أو في أي من المنافع البرجماتية
المباشرة، ولكنه يساعد في ترجمة أحداث المرء الفيزيائية إلى كلمات فيتسنى نقلها
والنقاش فيها مع الغير. ولقد تطور العقل البشري فانضم إلى الخطاب الجمعي، أو
السردية الجماعية. فجهودنا الدائبة الرامية إلى منطقة الأشياء تبدأ بداية بسيطة
بما حولنا من أشياء وما نمر به من أحداث. وبالتدريج نتجه بجهودنا إلى ما هو أكبر،
دخولا في أطر أكثر اتساعا. أي أننا بصورة ما نصعد سلم المعنى: من الكلمات
والمفاهيم المفردة إلى التراكيب البسيطة (الجمل) ومنها إلى السردية الكبيرة،
والرؤى الشاملة، أو النظريات الكونية.
والديمقراطية مثال دال على
كيفية استخدامنا للمعنى. فهي غير موجودة في الطبيعة. وفي كل عام، يجري عدد لا حصر
له من البشر الانتخابات، ولكن حتى اليوم لم يلاحظ أحد إجراء انتخابات لدى أية
سلالة أخرى. فهل اخترعت الديمقراطية أم اكتشفت؟ من المحتمل أن تكون الديمقراطية
ظهرت في أماكن كثيرة مختلفة ومستقلة عن بعضها البعض، ولكن التشابهات الكامنة بينها
على اختلاف الأماكن تشير إلى أن فكرة الديمقراطية كانت موجودة، في انتظار من يعثر
عليها. أما الممارسات المعينة الرامية إلى تنفيذها (ككيفية الاقتراع وما إلى ذلك)
فهي المخترعة. وكأنما فكرة الديمقراطية فيما يبدو كانت تنتظر أن يتعثر البشر فيها
ويضعونها في حيز الاستعمال.
تقشير الحياة
التساؤل في معنى الحياة يشير
إلى أن المرء صعد طويلا على السلم. فالناس لكي تفهم معنى شيء هم حديثو العهد به قد
يتساءلون لماذا تم صنعه، أو كيف وصل إلى مكانه، وفيم يمكن استعماله، وحينما يأتون
إلى السؤال عن معنى الحياة: تثور أسئلة مماثلة: لماذا أو لأي غرض خلقت الحياة؟ كيف
وصلت هذه الحياة إلى هنا؟ ما الطريقة المثلى أو الأسوأ لاستعمالها؟ وطبيعي أن
نتوقع ونفترض لهذه الأسئلة إجابات. إن الطفل يتعلم ماذا تكون الموزة: تأتي من
المتجر، وقبل المتجر من شجرة، وأكلها مفيد، وتأكلها بأن تزيل (وهذا مهم جدا) قشرها
الخارجية لتأكل لبها الطري الحلو. طبيعي أن نفترض إمكانية فهم الحياة بمثل هذه
الطريقة. كل ما عليكم هو أن تتكهّنوا (أو تعرفوا من الآخرين) ماهيتها وما ينبغي
فعله بها. الذهاب إلى المدرسة، والحصول على وظيفة، والزواج، والإنجاب؟ هذا مؤكد.
هناك فضلا عن ذلك سبب وجيه يدعونا إلى فهم كل هذا. فلو كانت لديك موزة لا تفهم ما
هي، فقد لا تحصل على فائدتها، ولو كان لحياتك ـ بالطريقة نفسها ـ غرض ولكنك لا
تعرفه، فقد ينتهي بك الحال إلى إهدارها. فيا حسرة من غفل عن معنى الحياة، إن كان
للحياة معنى.
الوثب الطويل
نبدأ بأن نرى كيف أن فكرة معنى
الحياة قد جمعت بين شيئين مختلفين. فالحياة مؤلفة من عمليات فيزيائية وكيميائية.
بينما المعنى رابطة غير فيزيائية، شيء يوجد في شبكات الرموز والسياقات. ولأنه ليس
فيزيائيا محضا، فبوسعه التواثب عابرا المسافات الطويلة في الزمان والمكان. وتذكروا
نتائجنا المتعلقة بالأطر الزمانية للسعادة والمعنى. فالسعادة قد تكون قريبة من
الواقع الفيزيائي لأنها تحدث في الحاضر هنا والآن. والحيوانات ـ وهذا أمر شديد
الأهمية ـ يمكن أن تنعم بالسعادة دون الكثير من المعنى. أما المعنى، في المقابل،
فيربط الماضي والحاضر والمستقبل بما يتجاوز الربط الفيزيائي. فحينما يحتفل اليهود
المحدثون بعيد الفصح أو حينما يحتفل المسيحيون بالعشاء الأخير بأن يتناولوا رمزيا
دم ربهم ولحمه، فإن أفعالهم جميعا تكون منساقة لروابط رمزية مع أحداث ماض سحيق (بل
هي أحداث مشكوك كثيرا في مجرد وقوعها). رابط الماضي بالحاضر ليس فيزيائيا، كالذي
بين قطع الدومينو إذ تتساقط، بل رابط ذهني يتواثب عابرا القرون.
دعاة الاستقرار
إن التساؤل حول معنى الحياة
يحركه ما هو أكبر من مجرد الفضول الكسول أو الخوف من ضياع الفرصة. فالمعنى أداة
نافذة في الحياة البشرية. وفهمنا في أي شيء يمكن استعمال هذه الأداة يساعدنا على
تقييم شيء آخر في الحياة بوصفها عملية تغير مستمر. فلئن كان الشيء الحي قادرا أن
يظل في حالة سريان مستمر، إلا أن الحياة لا يمكن أن ترتاح إلى التغير اللانهائي.
والأشياء الحية تتوق إلى الاستقرار وإقامة علائق متناغمة مع بيئتها. وهي تريد أن
تعرف كيف تحصل على الطعام والماء والمأوى وأمثالها. وهي تعثر على أماكن تجد فيها
الراحة والأمن، أو تخلقها. وقد تبقى في المنزل الواحد سنين. أي أن الحياة ـ بعبارة
أخرى ـ تغير مصحوب بسعي دائم إلى إبطاء التغير أو إيقافه، وهو ما يفضي في نهاية
المطاف إلى الموت. ألا ليت التغير هذا يتوقف، لا سيما عند نقطة مثالية: تلك كانت
ثيمة قصة فاوست وصفقته مع الشرير. لقد خسر فاوست روحه لما لم يستطع أن يقاوم رغبته
في أن تدوم له لحظة رائعة إلى الأبد. تلك أحلام تافهة. فلا يمكن للحياة أن تتوقف
إلا حينما تنتهي. ولكن الكائنات الحية تكابد كي تؤسس لدرجة من الاستقرار، وتقلل من
فوضى التغيير الدائم وصولا إلى وضع راهن مستقر بعض الشيء.
في المقابل، نرى أن المعنى ثابت
إلى حد كبير. فما وجود اللغة إلا نتيجة أن للكمات ـ لحد الآن ـ معاني واحدة لدى
الجميع، ومعاني في الغد كمعانيها اليوم. (اللغات طبعا تتغير، لكن ببطء وأحيانا
بتمنع، فالثبات النسبي جوهري بالنسبة لوظيفتها). ومن هنا يطرح المعنى نفسه أداة
مهمة يفرض بها الحيوان البشري الثبات على العالم. فمن خلال إدراك انتظام تبدل
الفصول يتسنى للناس أن يضعوا خططا للسنوات القادمة. وبتأسيسنا حقوقا دائمة للملكية
يمكننا أن ننشئ المزارع للحصول على الغذاء.
فائدة الآخر
أقول بحسم إن الإنسان يعمل مع
الغير ليفرض معانيه. ووجود اللغات مشروط
بالمشاركة فيها، فاللغات الخاصة ليست بلغات. وبالتواصل والعمل سويا، ننشئ عالما ذا
قيمة، يمكن التنبؤ به، والاعتماد عليه، عالما يمكنك أن تركب فيه الأتوبيس أو
الطائرة لتذهب إلى مكان ما، وتثق أن شراء الطعام سوف يكون ممكنا الثلاثاء القادم،
وتعلم أنك لن تنام في العراء تحت المطر أو الثلج بل تعتمد على فراش دافئ، إلى آخر
ذلك.
والزواج مثال جيد على كيفية
قيام المعنى بضبط العالم وتعزيز الاستقرار. أغلب الحيوانات تتزاوج، ومنها ما يفعل
ذلك عبر فترات طويلة أو حتى عبر حياة كاملة، ولكن البشر وحدهم يتزوجون. سيقول لكم
زملائي الذين درسوا العلاقات الوثيقة إن العلاقات تستمر في التحور والتغير، حتى
بعد مضي سنين كثيرة على الزواج. ولكن معنى الزواج يبقى ثابتا. فإما أنك متزوج أو
غير متزوج، وهذا لا يتقلب من يوم إلى يوم، وإن تغيرت مشاعرك وتصرفاتك تجاه زوجك تغيرا
ملموسا. الزواج يرقق هذه النتوءات ويصبغ العلاقة بالاستقرار. وهذا سبب رجحان بقاء
الأشخاص مع بعضهم البعض في حال الزواج أكثر مما في سواه. إن ملاحظتك لجميع مشاعرك
تجاه شريكك في العلاقة العاطفية أمر يزداد بمرور الوقت صعوبة وتعقيدا وربما يبقى
منقوصا طول الوقت. في حين أنه من السهل عليك أن تعلم بتحولك من غير المتزوج إلى
المتزوج، فذلك أمر يحدث في مناسبة رسمية يتم تسجيلها. ذلك أن المعنى أثبت من
الشعور، ومن هنا سر استعمال الكائنات الحية المعنى بوصفه جزءا من مسعاهم الدائم
إلى تحقيق الاستقرار.
شروط المعنى
لقد حاول المحلل النفسي
النمساوي فكتور فرانكل ـ مؤلف كتاب "بحث الإنسان عن المعنى" (1946) ـ أن
يقوم بتحديث النظرية الفرويدية بأن يضيف الرغبة الإنسانية في المعنى إلى غيرها من
الدوافع التي ذكرها فرويد. وفي محاولته تلك أكد على جانب الغرض، وهو ولا شك جانب
قائم، لكنه قد لا يكون مكمن القصة الكاملة. أما أنا فأثمرت جهودي الرامية إلى فهم
كيفية عثور البشر على معنى الحياة إلى الاستقرار على قائمة من "أربع احتياجات
للمعنى"، ولقد أمكن لهذه القائمة أن تصمد صمودا جيدا على مدار السنوات
التالية.
لب هذه القائمة يتمثل في أنك
سوف تجد لحياتك معنى ما كان لديك ما يعالج كلا من هذه الاحتياجات الأربع. أما من
يفشلون في إشباع واحد من هذه الاحتياجات أو أكثر فلن يجدوا على الأرجح لحياتهم
معنى كبيرا. كما أن من شأن أي تغير يطرأ على هذه الاحتياجات أن يؤثر على مدى عثور
المرء على معنى حياته.
الغرض
الاحتياج الأول في واقع الأمر
هو الغرض. نعم، فرانكل كان على حق: بغير الغرض تفقد الحياة معناها. الغرض حدث أو
حالة مستقبلية تكسب الحاضر بينة وهيكلا، وبذلك تربط زمنين مختلفين في قصة واحدة.
ومن الممكن تصنيف الأغراض في فئتين كبريين. فقد يكدح المرء إلى هدف معين (كالفوز ببطولة،
أو الوصول إلى منصب نائب الرئيس، أو تنشئة أطفال أصحاء) أو إلى حالة تشبع
(كالسعادة، أو الخلاص الروحي، أو الأمن المالي، أو الحكمة).
وأهداف الحياة تنبع من مصادر
ثلاثة، فيمكن القول إن للحياة البشرية ثلاثة مصادر أساسية للغرض. إحداها الطبيعة.
فهي أنشأتك لغرض معين هو إدامة الحياة بالبقاء والتناسل. والطبيعة لا تكترث بك
أسعيد أنت أم شقي، خلافا للناس الذين يرجون لأنفسهم السعادة. وإننا نسل قوم أجادوا
التناسل والبقاء لوقت طويل، ونحن مثلهم. وغرض الطبيعة منك ليس شاملا، فهي لا تبالي
بما قد تفعله عصر يوم الإجازة ما دمت قادرا على البقاء، وقادرا ـ إن آجلا أم عاجلا
ـ على التناسل.
ثاني مصادر الغرض هو الثقافة.
فالثقافة تعلمك ما الذي له القيمة والأهمية. ومن الثقافات ما يقول لك بالضبط ما
ينبغي عليك أن تفعله، بل إنها تقولبك لموضع معين (مزارع، أو جندي، أو أمٍّ إلخ)
ومنها ما يطرح عليك نطاقا أوسع من الخيارات ويفرض عليك قدرا أقل من الضغوط لتتبنى
أحدها، ولكنها على وجه اليقين تكافئ بعض الاختيارات أكثر من بعض.
وهذا يصل بنا إلى ثالث مصادر
الأهداف، ألا وهو اختياراتك الخاصة. والمجتمع ـ لا سيما في الدول الغربية الحديثة
ـ يقدم لك نطاقا عريضا من المسارات تقرر أيها تسلك. ومهما يكن السبب ـ أهو الميل
أم الموهبة أم القصور الذاتي أم الأجر المرتفع أم المزايا الجيدة ـ فإنك تختار
لنفسك جملة أهداف. وتخلق معنى حياتك بأن تكمل الرسم الذي تمدك به الطبيعة
والثقافة. ولك أيضا أن تختار الخروج عليه، فكثير من الناس يؤثر عدم الإنجاب، بل
وثمة من يرفض البقاء نفسه. وكثيرون يقاومون ما تختار لهم الحياة أو يثورون عليه.
القيمة
الاحتياج الثاني من احتياجات
المعنى هو القيمة. وهذا معناه أن تمتلك قاعدة لمعرفة الصح من الخطأ، والخير من
الشر. و"الخير" و"الشر" من أوائل الكلمات التي يتعلمها
الأطفال. وهي من أوائل المفاهيم وأشيعها عالميا. وفي ضوء ردود الفعل المُخِّية،
فإن الإحساس بما هو خير أو شر يأتي بسرعة شديدة، أو هو يأتي بصورة شبه فورية بمجرد
تعرفك على ماهية الشيء. فالكائنات المفردة تقرر الشر والخير من خلال الإحساس
الناجم عن مصادفة شيء ما (أهو يثيبنا أم يعاقبنا؟). وبوسع البشر ـ بما أنهم كائنات
اجتماعية ـ أن يفهموا الخير والشر عبر سبل أرقى، من قبيل السمة المعنوية.
ويمكن القول، تطبيقيا، إن البشر
يحتاجون من أجل إضفاء المعنى على حياتهم إلى العثور على قيم تؤثر في حياتهم
إيجابيا، فتبرر ماهياتهم وأفعالهم. والتبرير في النهاية يخضع للحكم التوافقي
الاجتماعي، ومن هنا يحتاج المرء إلى امتلاك تبريرات ترضي الآخرين في المجتمع (لا
سيما أولئك القائمين على إعمال القانون). ومن جديد نقول إن الطبيعة تخلق بعض
القيم، ثم تأتي الثقافة فتضيف منها ملئ شاحنة. وليس واضحا إن كان بوسع الناس
اختراع قيمهم الخاصة، ولكن المؤكد أن بعضها ينشأ من داخل الذات ثم يتسع. وذلك لأن
للناس رغبات داخلية قوية تصوغ ردود أفعالهم.
الفعالية
الاحتياج الثالث هو الفعالية.
فليس مشبعا لك في شيء أن تكون عندك أهداف وقيم إن كنت لا تفعل بها أي شيء. والناس
يروق لهم الإحساس بأنهم يحدثون فارقا. ولا بد لقيمهم أن تجد تعبيرا عنها في حياتهم
وعملهم. أو هم ـ إن شئنا أن ننظر إلى الأمر من الناحية العكسية ـ مضطرون أن يكونوا قادرين على توجيه الأحداث
لتثمر نتائج إيجابية (من وجهة نظرهم) وتمنعها من إثمار نتائج سلبية.
تقدير الذات
الاحتياج الأخير هو تقدير
الذات. فالذين لهم حياة ذات معنى لديهم من الأسباب ما يكفيهم للظن بأنهم بشر
محترمون، ولعلهم أفضل من نوعية معينة من البشر. يريد الناس ـ في الحد الأدنى ـ أن يعتقدوا أنهم أفضل مما كان يمكن أن
يكونوا عليه لو أنهم أساءوا الاختيار أو التصرف أو الأداء. وبذلك ينالون درجة ما
من الاحترام.
للحياة ذات المعنى إذن أربع
خواص. هي حياة ذات غرض يقود الأفعال من الحاضر والماضي إلى المستقبل، ويوجد
الاتجاه. ولها قيم تمكننا من الحكم على ما هو خير أو شر، وتتيح لنا على وجه الخصوص
أن نبرر أفعالنا ونضالنا ونبين أنها حسنة لا سوء فيها. وتتسم الحياة ذات المعنى
بالفعالية، بحيث تكون لأفعالنا مساهمة إيجابية في تحقيق أهدافنا وقيمنا. وتمدنا
بقاعدة للنظر إلى أنفسنا نظرة إيجابية، بوصفنا بشرا محترمين.
يتساءل الناس ما معنى الحياة،
وكأنما هناك إجابة واحدة. وما من إجابة واحدة بل آلاف الإجابات المختلفة. فلسوف
يكون للحياة معنى إن هي عثرت على أربع إجابات لأسئلة الغرض والقيمة والفعالية
وتقدير الذات. وإن هذه الأسئلة، لا إجاباتها، هي التي لها الدوام ومنها الوحدة.
نشرت في مجلة أيون في 16 سبتمبر
2013 ونشرت الترجمة في حلقتين في ملحق شرفات الأولى الثلاثاء الماضي والثانية
اليوم
* روي ف باوميستر أستاذ علم النفس بجامعة ولاية فلوريدا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق