جونسن كما رآه بوزويل أو صوَّره
خورخي لويس
بورخس
دكتور صمويل جونسن |
كان د. جونسُن
قد بلغ الخمسين بالفعل، وأصدر قاموسه الذي نال عنه ألفا وخمسمائة جنيه استرليني،
أصبحت ألفا وستمائة عندما قرر الناشرون أن ينفحوه مائة إضافية لدى انتهائه منه. ثم
أصدر طبعته من أعمال شكسبير التي لم ينته منها إلا لأن ناشريه كانوا قد حصَّلوا
أموالا من المشتركين فتحتم الانتهاء منها. وفيما عدا هذا، لم يكن يشغل د. جونسن
إلا الانهماك في الدردشات.
والحقيقة،
أنه برغم منجزاته العديدة، كان به نزوعٌ إلى الكسل، وإيثار من ثم للكلام على
الكتابة. ولذلك فقد عمل على هذه الطبعة من أعمال شكسبير، وكانت من أواخر أعماله،
بعدما تواترت الشكاوى والاعتراضات اللاذعة، فقرر أن ينهي العمل، فقط لأن المشتركين
دفعوا ثمنه.
كان جونسن غريب
المزاج، فحينًا يهتم اهتماما ليس بعده اهتمام بموضوع الأشباح، ويهتم بها إلى حد أن
يقضي ليالي عدة في بيت مهجور عساه يقابل أحدها، والظاهر أن ذلك لم يحدث. وإن فقرة اشتهرت
لكاتب اسكتلندي، هو توماس كارلايل، وأحسبها في كتابه Sartor Resartus ومعناها
الخياط المخيط، أو الحائك المرتق ـ وسرعان ما سنعرف السبب، وهو في هذه الفقرة
الشهيرة يتكلم عن جونسن قائلا إنه كان يريد أن يرى شبحا. ويتساءل كارلايل "ما
الشبح؟ إنه روح تتقولب بدنيا وتظهر لوهلة بين البشر". ثم يضيف كارلايل "كيف
أمكن لجونسن ألا يفكر في هذا حينما كان يواجهه منظر الجموع البشرية التي كان مغرما
بها في شوارع لندن، فلو أن الشبح روح تتقولب لوهلة بدنيا، لماذا إذن لم يخطر له أن
تكون حشود لندن أشباحا، وأنه هو نفسه شبح؟ فماذا يكون كل إنسان إذا هو لم يكن روحا
تتجسد في قالب بدني لوهلة ثم هي تختفي؟ ماذا يكون الرجال لو لم يكونوا
أشباحا؟".
.... كان
جونسن في متجر للكتب حينما قابل شابا اسمه جيمس بوزْوِل. ولد هذا الشاب في إدنبرة
سنة 1740 وتوفي في سنة 1795. كان ابنا لقاض. وكان القضاة في اسكتلندة يحصلون على
لقب "لورد" ويخيرون في الأماكن التي يريدون أن يكونوا لورداتها. وكانت
لأبي بوزول قلعة صغيرة خربة. واسكتلندة كانت ملأى بالقلاع الخربة، القلاع الفقيرة
في مرتفعاتها، بالمقارنة مع قلاع [نهر] الرين التي تنم عن حياة باذخة وبلاطات قد
تكون صغيرة لكنها ولا شك سخية، أما هذه [أي قلاع اسكتلندة] فلا، فهي تعطي الانطباع
عن حياة معركة بل معارك صعبة ضد انجلترا. كانت القلعة تدعة أوتشنليك، وأبو بوزول
كان لورد أوتشنليك، وكذلك كان ولده. ولكن ذلك لم يكن ـ فيما يمكن أن نقول ـ لقبا
مستحقا بالميلاد، بل لقب قضائي. وبرغم أن بوزول كان يظهر اهتماما بالأدب، أراد له
أبواه سلك القانون. فدرس في إدنبره ثم درس سنتين أخريين في جامعة أوترتخت في
هولندا. وكانت الدراسة في جامعات عدة هي دأب ذلك الزمان، سواء في الجزر البريطانية
أو في القارة [أي أوربا].
بوزول |
يمكن القول
إن بوزول كان مطلعا على مصيره. ومثلما كان ميلتُن يعلم أنه سيصير شاعرا قبل أن يخط
بيتا واحدا، كان بوزول يشعر دائما أنه سيكون كاتب سيرة أحد عظماء زمنه. فزار
فولتير محاولا التقرب إلى عظيم من عظماء العصر. زار فولتير في بيرن بسويسرا، وصاحب
جان ـجاك روسو ـ فكانا صديقين لنحو خمسة عشر أو عشرين يوما فقط لأن روسو كان رجل
متعكر المزاج للغاية، ثم صاحب الجنرال الإيطالي باولي من كورسيكا. ولما رجع إلى
انجلترا ألف كتابا عن كورسيكا، ولما أقيم حفل في ستراتفورد على نهر آيفون احتفالا
بميلاد شكسبير، حضره مرتديا زي فلاح كورسيكي. ولكي يعرفه الناس بوصفه مؤلف كتاب
كورسيكا، اعتمر قبعة كتب عليها "بوزويل كورسيكا"، ولقد علمنا هذا من
شهادته وشهادات معاصريه.
برنارد شو |
ثمة أمر غاية
في الغرابة يتعلق ببوزول، أمر تأوَّل تأويلين متباينين. وسوف أنظر في هاتين
النظرتين المتطرفتين: أولاهما للمؤرخ والكاتب الإنجليزي ماكاولاي الذي كان يكتب في
نحو منتصف القرن التاسع عشر، ونظرة برنارد شو التي كتبها، فيما أظن، نحو عام 1915
أو شيء من هذا القبيل. وهناك من بعد جملةٌ من الأحكام الواقعة بين النظرتين. يقول ماكاولاي إن سمو هوميروس كشاعر ملحمي،
وشكسبير كشاعر درامي، وديموثينيس كخطيب، وسرفانتس كروائي يطاولها سمو بوزول ككاتب
سيرة. ثم يقول إن كل هذه الأسماء البارزة تدين بسموها إلى الموهبة واللماعية، وإن
اختلاف بوزول يرجع إلى أنه يدين بسموه ككاتب سيرة إلى حماقته وفقره إلى الاتساق،
وزهوه، وبلاهته.
ثم إنه يسرد
طائفة من الوقائع التي تتجلى فيها حماقة بوزول. ويقول إن هذه الوقائع لو جرت لغير
بوزول لود لو تنشق الأرض وتبلعه. في حين تفانى بوزول في ترويجها ونشرها. فهناك
مثلا الازدراء الذي عاملته به دوقة إنجليزية، ومسألة أن أعضاء النادي الذي تمكن
بوزول من الانضمام إليه كانوا يرون أنه لا يمكن أن يوجد من هو أقل منه ذكاء. ولكن
ماكاولاي ينسى أن الفضل في معرفتنا بكل هذه الوقائع يرجع إلى أن بوزول نفسه هو
الذي حكاها. والآن ... قد يبدو من الممكن لأحمق، في حدود مؤلَّف قصير، أن ينطق جملة
فذة، ولكن يبدو من النادر حقا أن يقدر أحمق على كتابة سيرة فذة من نحو سبعمائة
صفحة أو ثمانمائة على الرغم من حماقته، أو بسبب حماقته على ما يذهب إليه ماكاولاي.
ولننظر الآن
في الرأي الآخر، رأي برنارد شو. يقول برنارد شو، في برولوج طويل وحاد، إنه وريث
سلسال طويل من كتاب الدراما الرسوليين، وإن سلساله هذا ينحدر من كتاب المآسي
الإغريقيين ـ ابتداء من اسخيلوس وسوفوكليس مرورا بيروبيديس ـ ويمضي حتى يمر
بشكسبير ومارلو. يقول إنه في واقع الأمر ليس أفضل من شكسبير، وإنه لو عاش في قرن
شكسبير لما كتب خيرا من هاملت ومكبث، لكنه الآن قادر على ذلك لأنه لا يحتمل شكسبير
ولأنه قرأ كتابا أفضل من شكسبير. وكان من قبل قد أتى على ذكر أسماء يمكن القول إن
وجودها في قائمة كتلك مدهش بعض الشيء. يقول إن لدينا أربعة حواريين، هم من خيرة
عظماء كتاب الدراما، وقد أبدعوا شخصية المسيح. ويشير من قبل إلى أفلاطون الذي أبدع
شخصية سقراط.
ولدينا من
بعد ذلك بوزول الذي ابتكر شخصية جونسن. "والآن لدينا إياي. بما ابتكر إياي من
قائمة شخصيات كثيرة لا داعي لذكرها، فهي قائمة تمتد إلى مالانهاية تقريبا، وهي
قائمة معلومة أيضا ومشهورة". ويقول "أخيرا، أنا وريث سلسال رسولي يبدأ
بإسخيلوس وينتهي بي وهو مستمر ولا شك". لدينا إذن هذان الرأيان المتطرفان:
رأي يرى في بوزول مغفلا هيأ له الحظ الحسن أن يقابل جونسن ويكتب سيرته ـ وهذا رأي
ماكاولاي ـ والرأي الآخر، النقيض، رأي برنارد شو الذي يقول إن جونسن كان من بين
مآثر أدبية أخرى لبوزول شخصيةً درامية ابتكرها ابتكارا.
.... طيب.
نرجع الآن إلى علاقة بوزول وجونسن. جونسن كان رجلا مشهورا، دكتاتورا في عالم الأدب
الإنجليزي (وكان في الوقت نفسه رجلا يعاني الوحدة، وذلك حال كثير من المشاهير).
وكان بوزول شابا في العشرينيات من عمره. جونسن كان من أصل بسيط، أبوه بائع كتب في
بلدة صغيرة في ستافوردشر. والثاني كان أرستقراطيا شابا. ومعروفٌ، بعبارة أخرى، أن
الرجال في سن معين يجددون شبابهم برفقة الشبان. وكان جونسن علاوة على ذلك شخصا
مغاليا في سوء الملبس، لا يولي أدني اهتمام لما يرتديه، وكان ذا نهم أكيد. فكان
يأكل حتى تتورم في جبهته عروقها، ويغمغم بشتى أنواع الأصوات، وإن سأله سائل سؤالا
لا يجيبه، وينهر ـ بيديه هكذا ـ إن امرأة سألته شيئا وهو ينخر نخر الخنزير، وكان
أحيانا ينخرط في الصلاة وهو في صحبة من الناس. لكنه كان يعلم أن كل شيء مغفور له
بما أنه شخصية مهمة. وبرغم ذلك كله، أصبح بوزول صديقا له. لا يعارضه، بل يصغي
لآرائه إصغاء المجل.
صحيح أن
بوزول كان في بعض الأحيان يثير ضيقه بأسئلة صعبة الجواب. فكان يسأله مثلاـ لمجرد
أن يعرف بم سيجيب دكتور جونسن، "ماذا تفعل لو وجدت نفسك حبيس برج بصحبة طفل
رضيع؟" فما كان جواب جونسن بطبيعة الحال إلا أن يقول "ليست لدي نية لإجابة
سؤال على هذا القدر من الحماقة" فيدون بوزول إجابته تلك، ويمضي إلى بيته،
فيسجلها. لكن بوزول قرر بعد شهرين من الصداقة بينهما أو ثلاثة، أن يمضي إلى هولندا
ليكمل دراسته القانونية، وجونسن الذي كان شديد الارتباط بلندن حتى ليقول إن
"من سئم من الرجال لندن فقد سئم الحياة" صاحب بوزول إلى المركب، وأحسب
أن المسافة كانت عبارة عن أميال عديدة إلى الجنوب من لندن، أي أنه تقبل عنت الرحلة
الشاقة ـ في ذلك الوقت. ومن ناحيته يقول بوزول إنه وقف في الميناء يرقب المركب إذ
ينطلق مبتعدا، وهو يلوح له مودعا إياه. لتنقضي سنتان أو ثلاثة دون أن يرى أحدهما
الآخر. وبعد فشله مع فولتير، وفشله مع روسو، ونجاحه مع باولي الذي ربما لم يكن
شديد الصعوبة لأن باولي لم يكن بالأساس شخصا بالغ الأهمية، قرر بوزول أن يهب نفسه
ليكون كاتب سيرة جونسن.
تراءت لبوزول
فكرة سيرة شاملة تتسع لحواراته مع جونسن الذي كان يقابله مرات عديدة كل أسبوع،
وأحيانا أكثر من مرات عديدة. وكثيرا ما تقارن "حياة صمويل جونسن" لبوزول
بـ "محاورات جوته" لـ إيكرمان، وهو في رأيي كتاب لا يرقى إلى المقارنة
وإن اعتبره نيتشه أفضل كتاب أنتجته الألمانية قاطبة. وذلك لأن إيكرمان كان رجلا
محدود الذكاء يكن لجوته إجلالا ويكلمه كمن يتعبده. وما كان يعارضه إلا في حالات
شديدة الندرة. وما كان يفعل إلا أن يرجع إلى البيت فيسجل الحوارات، فجاء الكتاب
وكأنه كتاب تعليمي، بين تلميذ يسأل ومعلم يجيب، إيكرمان يسأل، وجوته يجيب، الأول
يدون ما يقوله الثاني ... ولا يكاد إيكرمان يكون موجودا إلا وجود آلة تسجل كلمات
جوته. ونحن لا نعرف عن إيكرمان شيئا، لا شيء عن شخصيته، وكانت له شخصية ولا شك،
ولكن شخصية لا يمكن استخلاصها من كتاب هو لا يحيل إليها بالمرة.
في المقابل،
كان ما خطط له بوزول، أو ما نفذه على أية حال، مختلفا كل الاختلاف: أن يجعل من
سيرة جونسن دراما عديدة الشخصيات. فهناك [سير جوشوا] رينولدس، وهناك أوليفر
جولدسميث، وفي بعض الأحيان هناك بعض أعضاء الدائرة، أو فلنسمه الصالون الذي كان
جونسن زعيمه. وهذه الشخصيات جميعا تظهر فتسلك مسلك الشخصيات في مسرحية. والحق أن
لكل منها طبيعة، وفوقها جميعا شخصية دكتور جونسن الذي يظهر سخيفا في بعض الأحيان
لكنه دائما ما يظهر محبوبا. وذلك ما يحدث مع شخصية ثرفانتس لـ دون كيخوتة، لا سيما
في الجزء الثاني، حين يكون المؤلف قد تعلم الدرس وعرف الشخصية ونسي هدفه الأول،
هدف السخرية من روايات الفروسية. وهذا صحيح، فكلما طور المؤلف شخصيته ازداد معرفة
بها. وهكذا تكون لدينا شخصية سخيفة في بعض الأحيان، لكنها قادرة أن تتحلى بالجدية،
وأن تكون لها أفكار عميقة، وهي فوق ذلك كله من أكثر الشخصيات المحبوبة في التاريخ.
ويمكننا أن نقول "في التاريخ" لأن دون كيخوتة أكثر واقعية من ثرفانتس
نفسه كما يصر أونامونو وآخرون. ... ودون كيخوتة في النهاية شخصية ليس فيها من
السخف إلا النزر اليسير، لكنه في الوقت نفسه نبيل جدير باحترامنا، وبشفقتنا في
أحايين، لكنه محبوب على أية حال يكون. ومثل هذا الإحساس هو الذي يصلنا من صورة
دكتور جونسن حسب ما رسمها لنا بوزول بمظهره الجروتسكي، وذراعيه الطويلين. لكنه
محبوب.
... والآن،
بمثل ما رأينا التشابه بين دكتور جونسن ودون كيخوتة، علينا أن نفكر أنه كما كان
سانشو رفيق كيخوتة يسيء التصرف أحيانا، نرى بوزول نفسه في علاقة مماثلة بدكتور
جونسن: نراه أحيانا رفيقا وفيا وغبيا. هناك شخصيات دورها إظهار طبيعة البطل.
بعبارة أخرى، غالبا ما يحتاج الكتّاب شخصيات الغاية منها أن تكون إطارا لأفعال
البطل ونقيضا يبرزها. هكذا هو سانشو، وهكذا هو بوزول نفسه في كتاب بوزول. هكذا
يظهر بوزول شخصية حقيرة، ويبدو لي من المستحيل أن يكون بوزول لم يدرك هذا. وهذا
يبين أن بوزول وضع نفسه موضع النقيض لجونسن. حقيقة أن بوزول يروي عن نفسه نوادر
يبدو فيها سخيفا تجعله [أي هذه الحقيقة] لا يبدو سخيفا على الإطلاق، لأنه لو كان
كتبها فقد فعل ذلك لما رأي أن غرض النوادر هو إبراز جونسن.
في الفلسفة
الهندوسية مدرسة تقول إننا لسنا الممثلين في حيواتنا، بل المشاهدين بالأحرى. ولو
أن المدرسة الهندية تستخدم استعارة الراقص. لكن ربما يكون الأفضل في أيامنا هذه
استخدام استعارة الممثل. يرى المشاهد الراقص أو الممثل، أيهما شئتم، ويقرأ
الرواية، فينتهي به الحال متماهيا مع شخصية من الشخصيات الماثلة أمامه. ذلك ما قال
به أولئك المفكرون الهندوس قبل القرن الخامس. وذلك مثل ما يحدث معنا. فأنا، على
سبيل المثال، ولدت يوم ولد خورخي لويس بورخيس، في اليوم نفسه بالضبط. رأيته سخيفا
في أحيان، مثيرا للشفقة في أخر. ومن طول ما رأيته في مواجهتي، انتهيت إلى أن
تماهيت معه. أي أن الأنا بحسب هذه القصة تصبح اثنتين: فهنا الأنا الأصيلة، ثم
الأنا المتماهية ـ وإن بطريقة أخرى ـ مع الآخر. الآن، أنا لا أعرف أية تجربة قد
تكونون أنتم مررتم بها، لكن هذا ما يحدث لي أنا أحيانا: يحدث عادة في نوعين بالذات
من اللحظات ـ في لحظات تلي وقوع شيء جيد للغاية وفي لحظات ـ هي الأكثر ـ تلي شيئا
سيئا للغاية، ولثوان قليلة أشعر بهذا "ولكن، ما الذي يجعلني أبالي بكل هذا؟
وكله كما لو كان وقع لغيري". أي أنني أشعر أن في أعماق أعماقي ثمة ما يبقى
منفصلا.
وهذا،
بالقطع، ما استشعره شكسبير أيضا، ففي إحدى كومدياته جندي، جندي جبان. ذلك الرجل
استعراضي، يحمل الناس على الظن بأنه تصرف تصرف الشجعان، فيقومون بترقيته إلى رتبة
نقيب، ثم يكتشفون خدعته فيجردونه من نياشينه أمام الفرقة، ويمعنون في إذلاله، ثم يتركونه
وحده ليقول:
"لن
أكون من بعد نقيبا
لكنني سوف
آكل وأشرب وأنام في دعة
كما يليق
بنقيب
وذلك ببساطة
لأن الشيء
الذي أنا إياه
سوف يُبقي بي
الحياة".
يقولها
ببساطة: " الشيء الذي أنا إياه/سوف يبقي بي الحياة". أي أنه يشعر
أن من فوق الظروف ومن ورائها، من وراء جبنه ومن وراء مذلته، ثمة شيء آخر، لون من
ألوان القوة الكامنة فينا جميعا، شيء أطلق عليه سبينوزا اسم "الإله"،
وشوبنهاور "الإرادة" وبرنارد شو "قوة الحياة" وبرجسُن
"النبض الحيوي". وأحسب أن ذلك أيضا ما كان يجري مع بوزول.
لعل بوزول
شعر ببساطة بضرورة جمالية ألزمته لكي يظهر جونسن أن تكون هناك شخصية مغايرة تماما
بموازاته. شيء كالذي في روايات "كونان دويل": د. واطسن البسيط الذي يزيد
شيرلوك هولمز الفذ بروزا. ويمنح بوزول نفسه دور السخيف ويبقى به على طول الكتاب
كله. غير أننا نستشعر صداقة حقيقية بين الاثنين كالتي نستشعرها إذ نقرأ روايات
كونان دويل. وطبيعي كما سبق وقلت أن يكون الوضع كذلك، فجونسن كان مشهورا ووحيدا،
وكان يروق له بطبيعة الحال أن يستشعر بجواره صداقة شاب أصغر منه بكثير، ويكن له
هذا القدر الكبير والواضح من الإعجاب.
وهنا تظهر
مشكلة أخرى لا أتذكر إن كان سبق أن أشرت إليها، وهي التي ساقت جونسن إلى أن كرس
سنوات حياته الأخيرة كلها تقريبا للمحاورات. جونسن توقف تقريبا عن الكتابة، لولا
طبعة أعمال شكسبير التي كان عليه أن ينجزها نزولا على مطالب الناشرين. والآن، يمكن
تفسير هذا بطريقة محددة. يمكن تفسيرها بناء على أن جونسن كان يعرف أنه يحب
المحاورات، وكان يعلم أن جواهر محاوراته سوف يسجلها بوزول. في الوقت نفسه، إذا ما
ظهر أن بوزول عرض المخطوطة على جونسن، لراح من العمل كثير. علينا أن نقبل بحقيقة،
صادقة كانت أم كاذبة، مفادها أن جونسن لم يكن مدركا لما تحتويه المخطوطة. لكن هذا
يفسر صمت جونسن، حقيقة أن جونسن كان يعلم أن ما كان يقوله لن يضيع. والآن يتساءل
الناقد الأمريكي "جوزيف وود كروتش" عما إذا كان كتاب بوزول أمينا كل
الأمانة في إعادته إنتاج محاورات جونسن، ويصل ـ بطريقة قابلة جدا للتصديق ـ إلى
استنتاج أن بزول لم يكن يعيد إنتاج المحاورات كما كان ليفعل كاتب اختزال، فلم يكن
يسجل، أو أي شيء من هذا القبيل، بقدر ما كان يخلق أثر محاورات جونسن. أي أن جونسن
قد لا يكون الحاذق البارع الحكيم الذي يظهر في الكتاب، برغم أنه ما من شك في أن
اجتماعات ناديه تركت في ذاكرة كثير من محاوريه ذكريات تقول بذلك. وثمة على أية حال
جمل تبدو مدموغة بدمغة جونسن.
قال رجل
لجونسن إنه لا يمكن أن يتخيل حياة أشد بؤسا من حياة بحّار، وإن رؤية المرء سفينة
حربية، رؤية البحارة إذ يتحامون ببعضهم البعض، وإذ يتخبطون في بعض الأحيان، لهي
رؤية للحضيض، لأدنى أعماق الوجود البشري. فقال له جونسن "إن في حياة البحارة
والجنود مجدَ الخطر. وإن كل الرجال يشعرون بالعار لأنهم لم يمروا بالبحر أو
المعركة". وتلك روح من روح الشجاعة التي نستشعرها في دكتور جونسن.
نشرت هذه المحاضرة في نيويورك رفيوأوف بوكس في 28 يوليو 2013، وهي واحدة من محاضرات عدة ألقاها البروفيسير بورخس في
كورس عن الأدب الإنجليزي سنة 1966، وترجمتها إلى الإنجليزية للمرة الأولى كاثرين
سيلفر. صدرت عن نيو دايركشنز في 31 يوليو 2013. ونشرت ترجمتها العربية اليوم في شرفات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق