الكاتب في العائلة
روجر
روزنبلات
كنت واقفا
أمام فصل حفيدتي جيسيكا، في الصف الرابع الابتدائي، ساكنا مثل كلب زجاجي، في حين
مضت جيسيكا تقدمني لزملائها، الذين كنت أوشك أن ألقي عليهم محاضرة. "هذا هو
جدي بوبّو" هكذا قالت، مستخدمة اسم التدليل. "يعيش في الطابق تحت الأرضي
من بيتنا، من غير لا شغلة ولا مشغلة".
وصفها هذا،
على إيجازه، لم يجانب الدقة. فأنا وزوجتي نعيش في الطابق السفلي من منزل صهرنا،
وفي البيت نفسه يعيش هو وأحفادنا الثلاثة. وأنا، بحسب ما يمكن لأي شخص في العائلة
أن يرى، بلا شغلة ولا مشغلة فعلا، لا أفعل أي شيء، أو أنا أقرب ما أكون إلى ذلك. وذلك
قَدَر الكاتب. كلنا نسمع عمن يشار إليه بـ "كاتب العائلة" ـ ويكون ذلك
في العادة ابنا يلبس بطريقة غريبا ولا تظهر عليه ميول إلى أن يكون أي شيء في
مستقبله. ولكن حينما يكون كاتب راشد عضوا في عائلة، فمنذا الذي يعرف ماذا يمكن أن تكون
فائدته؟ سألني أحد أصحاب صهري قبل أيام "ألا تزال تكتب؟" وكأنما هذه
المهنة ليست سوى هواية وقعت مؤخرا في غوايتها، كأنها التزلج على الجليد، أو كأنما
هي مرض أصابتني عدواه وكنت أحاول التشافي منه. وقديما قال ألكسندر بوب "هذا
المرض الطويل، حياتي".
ليس للكتاب
أن يعترضوا على النظر إليهم بهذه النظرة. ما دمنا نحن صناع اللاشيء "اللا شيء
الذي لا وجود له، اللا شيء الذي لا وجود إلا به" [والاس ستيفنس ـ بتصرف غير
قليل من المترجم] ـ لا نعيش في العالم الواقعي، ولا نتمنى العيش فيه، فلا جدوى ولا
إنصاف في الاحتجاج على ذلك أو الاعتراض عليه. وحينما يقدمنا أفراد عائلاتنا إلى
بعض أصدقائهم، فذلك يتم دائما في ارتباك مغلف بالمبالغة. يقولون مثلا بنبرة أقوى
مما ينبغي "هذا فلان الفلاني، هو كاتب عظيم ومعروف". فيقول أولئك
الأصدقاء "هل قرأتُ لكَ شيئا؟" فتقول أنت "وما أدراني؟"
في البيت،
يتعاملون معنا وكأننا حيوانات مروضة، وخطرة، كأننا دببة باندا مدللة، أو فهود
جليدية، يربتون علينا ويطعموننا، ولكن أعينهم لا تغيب عن أسنانا. أو هم يبذلون
محاولات مؤثرة لإلحاقنا بحرف مفهومة، كالتجارة مثلا. عندما كان في الثالثة من
عمره، اقترح عليّ حفيدي جيمس، ذو الخمس سنوات الآن، أن نشترك معا في عمل: "سنكتب
أشياء ونبيعها"، فربط بذلك بيت مشروعين نادرا ما يمكن الربط بينهما تحت نير
واحد.
هذه المعاملة
التي تعاملنا بها عائلاتنا بوصفنا غرباء الأطوار، هي في غالبيتها معاملة ليست مبررة
وحسب، بل إنها منشودة أيضا. ذلك أننا نعمد إلى إقامة مسافة تفصلنا عن التجارب
الطبيعية مهما تكن هذه التجارب. نسعى إلى الفوضوية ونستسيغها. لقد كنت ذات يوم
واقفا مع كاتب آخر أعلى تل ننظر من فوقه إلى قرية وِلْيَمْسْتاون في ولاية
مساتشوستس، وهي القرية الجميلة جمالا يثير الغضب. كانت الشمس مشرقة، والزهور
مزهرة، والهواء طازجا كأنه مصنّع للتو. وقلت "كل ما أتمناه الآن أن تطلع عصابة
من السارقين بالإكراه فيمزقوا هذه السيارة الواقفة هناك" فأضاف رفيقي
"نعم، بينما أجراس الكنيسة تدق".
الكاتب مع واحده كده |
عالم اللياقة
المنتظم، عالم النظام المفيد، عالم التوقعات البسيطة، عالم الأسرة باختصار، ليس بعالم
الكاتب. ذات صباح على الإفطار، عندما كانت كارولين ـ ابنة "إ. إل. دكترو
ـ في الصف الثاني أو ربما الأول، طلبت من
أبيها أن يكتب لها رسالة تبرر تغيبها عن المدرسة في اليوم السابق وأن يرجع ذلك إلى
الإصابة بالبرد. فكتب دكترو يقول "ابنتي كارولين ...". ثم توقف، وقال
لنفسه "ومن سيكتب لها الرسالة يعني؟ طبعا ابنتي". وشرع يكتب من جديد
"برجاء تقبل اعتذار كارولين دكترو ..." وتوقف من جديد. "ما الذي
يرغمني على التوسل والرجاء؟". ثم إنه كتب "أصابها فيروس. لم ترتكب
جريمة!" ومضي يكتب، رسالة تلو رسالة، إلى أن تكومت بين رجليه رسائل فاشلة
كثيرة. وأخيرا، قالت زوجته هيلين "أنا لا أستطيع احتمال المزيد من هذا"
فكتبت رسالة محكمة لا ينقصها أي شيء وأرسلتها مع كارولين إلى المدرسة. وخلص دكترو
إلى أن "الكتابة صعبة جدا، لا سيما في القوالب القصيرة".
لو عُرفت هذه
الحقيقة المؤسفة، فربما لا يكون لنا معشر الكتاب ـ ونحن من نحن في عدم قدرتنا على
التكيف ـ حق الانتماء إلى العائلات من الأساس. فنحن فعلا شديدو الاهتمام بأنفسنا،
وإن كان يمكن تبرير هذا العيب بقولنا إننا شديدو التركيز. وليس الكتاب ـ من حيث هم
فنانون ـ وحدهم في هذا الصدد. ففي رائعة ستيفن سوندهيم "يوم أحد في الحديقة
مع جورج" (حسن، الفصل الأول على الأقل من هذه المسرحية كان رائعا)، نرى
سويارات العظيم في استغراقه في ذاته يتأمل الشجيرات المعزولة والناس في سعيه
المهيمن عليه إلى رسم لوحة للحديقة. من بين ضحايا حماسته هذه عشيقة له ـ فهي ليست
عائلة بالمعنى الحرفي للعائلة، ولكنها علاقة عائلية. سويارات يتجاهل العشيقة،
يتركها في ذروة احتياجها إليه. هو في نهاية المطاف فنان. ولو أن واحدا أجرى
اقتراعا بين المشاهدين
قبل انتهاء
الفصل الأول، لصوتوا بكل سعادة على رجمه حتى الموت، ذلك الفنان الوغد الشقي الباعث
على الشقاء. غير أنه، في المشهد الأخير تماما، تتحد أجزاء لوحة سويارات أمام
أعيننا. وإذا كل شيء يتلاقى تلاقيا سحريا. ويحبس الجمهور أنفاسه، ومنهم من يبكي من
فرط الإعجاب. فمن إذن الشخصية الأكثر سموا: الرجل الملبي لاحتياجات محبوبيه،
المراعي لمشاعرهم، أم الفنان الذي ..
وحتى حينما
ينتقل الكاتب إلى احتضان الأسرة، ويبدو كما لو كان جزءا من الجماعة، فلا يكون ذلك
إلا استغلالا لهذه الجماعة في أعماله الأدبية. لقد عرَّف أليكس هيلي العائلة
بوصفها "الرابط بيننا وبين ماضينا"، أو هي عبارة أخرى بديلة عن
"الجذور" [اسم روايته الشهيرة]. إن العائلة بالنسبة للكاتب الذئب ليست
سوى سرب من البطات الجالسة. ها هم تجمعهم مائدة عيد الشكر، ها هم الأعزاء
المساكين، الأعمام الثرثارون، الأشقاء المدمنون،
الأزواج المتناحرون ـ ها هم يتخذون الوضعية التي يريدها الرسام، لولا أنهم
لا يعرفون أنهم في موضع الرسم. قد تكون الأشياء التي تخضع لفحص الكاتب وتدقيقه هي
مجرد أشياء يوم عادي في وليمستاون، أما في القصة التي في ذهنه، فالكاتب ـ وهو من
هو في الانحطاط ـ سيمزج بين هؤلاء وبين بعض الثآليل والأدران، لأن القراءة عن
الرذائل أشهى كثيرا من القراءة عن الفضائل.
قليل من
الكتاب هم الذين عبروا عن أنفسهم فيما يختص بالعائلات. طلبة الثانوي الكارهون يتعلمون
عن بيكون أن زوجته وأبناءه ما هم إلا "رهائن الحظ". جون تشيفر حينما
تذكر حياته في الأسرة التي نشأ في رحابها لم يتذكر إلا أقفيتهم، فغاية ما قاله
عنهم إنهم "كانوا لا يكفون عن الرحيل عن الأماكن ناقمين". مارجريت درابل
رأت الأسر "خطرا".
أما في
الجانب المشرق، فقد تغنى أندريه موريوس وجورج برنارد شو ومارك توين بالحياة الأسرية
تغنيا شهوانيا. جورج سنتيانا اعتبر الأسرة "إحدى روائع الطبيعة". ولكنك
حينما تقرأ هذا السطر، لن تكون مرغما على تكراره.
أرأيتم ما
فعلته للتو؟ علقت على مقولة سنتيانا تعليقا غريبا لا يمكن أن يعرف دلالته إلا شخص
على دراية بمقولة أخرى لسنتيانا تكلم فيها عن تكرار أخطاء التاريخ، وحتى من يعرف
مقولة سنتيانا هذه، ومن فهم من ثم مغزى تعليقي، فلا أحسب ذلك سوف يرسم على وجهه
إلا ابتسامة متكلفة، أو مريرة.
ألا أزال
بحاجة إلى نقل مقتطفي بوب وستيفنس اللذين سبق ذكرهما في هذه المقالة، على سبيل
الاستعراض لا أكثر؟ في ذلك قيمتنا نحن معشر الكتاب، أو ربما في ذلك تكمن مقدرتنا
على إثارة الضيق.
وبالمناسبة،
بمجرد أن قدمتني جيسي لزملائها بوصفي رجلا عاطلا يعيش تحت الأرض، رحت على الفور
أفكر في "الرجل الخفي" لـ [رالف] إليسون ففيه ملمح آخر من ملامح الكاتب
غير الاجتماعية: التعظيم الرومانتكي للذات. الحق أن الكاتب في الأسرة شخص منقطع
الصلة بالأشياء، أحمق اجتماعيا، لدرجة أنه بحاجة إلى مؤسسة فيها ما في العائلة من
رحمة لاستيعابه. نحن الكتاب قد لا نكون ملائمين للاجتماع البشري، ولكن في البنية
العائلية شيئا لينا طيعا يقول لنا "لا عليكم، لا يهم". وطبعا، للإمعان
في إثبات عدم ملاءمتنا، سنقول عن هذا اللين واللطف إنه مجرد قدرة فائقة من الأسرة
على الملل.
على أية حال.
قد لا يكون الكاتب نافعا للعائلة، ولكن العائلة قد تصنع الأعاجيب للكاتب بتعليمه
أنها قادرة على "تقبُّل كل الأنواع" بما فيها نوعه هو نفسه. قد لا تكون
هذه النظرة الودية تجاه العالم مثيرة من وجهة النظر الفنية مثل إثارة القسوة
والحدة والجنون، ولكنها بل شك نظرة أرحم بالمرء وأرحب للتعايش. (من بيننا يمكن أن
يختار سكوت وزيلدا [فتزجيرالد] رفيقين له؟ ). علاوة على أن "تقبُّل كل
الأنواع" هو ما تقوله أفضل الفنون في كل الحالات، وإن بلمسات أكثر رهافة.
عندما قدمتني
جيسي بالطريقة التي قدمتني بها، رحت أنظر إلى زملائها، منتظرا ردود أفعالهم، رأيت
أنها لا ينبغي أن تخرج عن الضحك أو الفزع. ولكنني لم أر رد فعل. لم أر حتى رمشة في
عين. ما هذا الرجل الذي يعيش في قبو ولا وظيفة له واسمه بوبّو؟ إطلاقا. كل ما
هنالك أنهم اعتبروني واحدا من العائلة.
نشر الموضوع أصلا في نيويورك تايمز، ونشرت ترجمته في
جريدة عمان بتاريخ 22/6/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق