الثلاثاء، 23 أبريل 2013

حكايات من نبي الحب



حكايات من نبي الحب
فيفيان جورنيك








ما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حتى نشبت الحرب الباردة، وبدا أن الولايات المتحدة غارقة مرة أخرى في القلق الذي غمرها أيام كانت الأسلحة مشهرة والقذائف مطلقة. كان ثمة رعب من الشيوعية اللعوب التي لا إله لها، وخوف أكبر من احتمال نشوب حرب نووية، فكانت الخمسينيات عقدا انتاب فيه العاديين من الرجال والنساء خوف من الكلام بحرية أو التصرف باستقلالية. وفي ذلك الجو غير الصحي كان ثمة مطالبة سافرة بالاندماج مع أمريكا جديدة كانت تتكون بسرعة بالغة، هي أمريكا موحدة لا مكان فيها للتنوع. وهذا، في عالم خرج للتو من إحدى أكثر حروب التاريخ دموية، وهي حرب كانت تجري من أجل الفردية، بات الملايين يسارعون إلى أسلوب من أساليب الوجود لم يكن يعني إلا مصادرة هذه الفردية.
وصدرت كتب لعلماء اجتماع وروائيين وعلماء نفس تصف هذا الاتجاه الثقافي الجديد، وامتلأت بها المكتبات: "حشد الوحيدين" لـ ديفيد ريزمان سنة 1950، النظرية الجماعية للعلاج النفسي لـ هاري ستاك سوليفان سنة 1953، الرجل ذو البذلة القطنية الرمادية لـ سلون ويلسن سنة 1953، وأهم هذه الأعمال جميعا وأكثرها نفاذا إلى الظاهرة هي رواية ريتشارد ييتس "الطريق الثوري" التي صدرت سنة 1961 لكن أحداثها تجري سنة 1955. يقول ييتس عن تلك الفترة إنها كان تجسيدا لـ "نوع من التشبث اليائس الأعمى  في الأمن والسلامة مهما كان الثمن".
فرويد
غير أن الكتاب الذي أعلن الإعلان الأكمل عن رغبة الخمسينيات شبه المرضية في الأمن مهما كان الثمن هو الكتاب الذي ألفه قبل عقد من الزمن محلل نفسي مهاجر يدعى "إريك فروم". يضرب كتاب "الهرب من الحرية Escape from Freedom " (الصادر سنة 1941) بجذوره في الفكر الأوربي الذي تأثر أشد التأثر بأعمال كارل ماركس وسيجموند فرويد، وهو الكتاب الذي أدخل علم النفس الاجتماعي إلى الولايات المتحدة ليزدهر أيما ازدهار في السنوات التالية. كما وضع الكتاب مؤلفه على منطلق واحدة من أشهر المسارات المهنية لأي مفكر في أي مكان في العالم.
ولد إريك فروم في عام 1900 في فرانكفورت بألمانيا، لأسرة يهودية ـ غير متشددة ـ كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا. وعلى الرغم من أن فروم لن يصبح متدينا في أي فترة من حياته، إلا أنه وقع منذ وقت مبكر في حياته في غرام كتاب الحكمة اليهودية العظيم، وود لسنوات طويلة لو أنه يدرس التلمود. وفي الوقت نفسه، وعلى شفا مراهقته، وقع تحت تأثير موظف لدى أبيه عرّفه بأعمال كارل ماركس. ثم نشبت الحرب العالمية الأولى التي وصفها فروم في سنوات لاحقة بـ "أكثر التجارب حسما" في حياته. يحكي لنا أحدث كتّاب سيرته وهو المؤرخ "لورنس جيه فريدمان" في كتابه "حيوات نبي الحب إريك فروم" أن فروم ذا الثمانية عشر عاما بقي بعدما انتهت الحرب "مسكونا بهاجس أن يفهم اللامنطقية في سلوك الجموع البشرية". وبحسب ما يروي فروم نفسه فإن هذه المكونات أو الخطوط الثلاثة ـ أي الأخلاقيات التلمودية، والاشتراكية الماركسية، والقوة السيكولوجية للامنطق ـ هي التي شكلت حياته الفكرية.
في عام 1919، التحق بجامعة هايدلبرج حيث درس على يد ألفريد شقيق ماكس فيبر Max Weber ، وكان هو الآخر أستاذا لعلم الاجتماع. كان ألفريد فيبر على قناعة بأنه في حين لا يمكن لأحد إنكار اكتشاف فرويد بأن قوة الغريزة تضرب بجذورها في النشاط الجنسي، إلا أن الأكثر أهمية من ذلك هو الواقع الاجتماعي الذي تضرب فيه الحياة الفردية بجذورها. ولقد استطاع فيبر أن يقنع الشاب فروم بأن القوة الاجتماعية الفاعلة على الذات هي مفاتيح أكثر ما تضطرب بسببه حياة البشر.
ومع ذلك، رأى فروم أيضا أن فهم أعمال الذات نفسها أمر ضروري. وفي الثانية والعشرين من العمر أصبح حالة لدى المحللة النفسانية "فريدا رايخمان Frieda Reichmann " التي كانت تكبره بعشر سنوات والتي أصبحت لاحقا زوجته الأولى ـ ثم سرعان ما بدأ يدرس هو نفسه النظرية التحليلية. ويثبت فروم بسرعة أنه طالب نابه، إذ لا يحل عام 1923 إلا وقد أصبح هو نفسه محللا نفسيا ممارسا في برلين. وفي عام 1929 أصبح محاضرا وعضوا مؤسسا في معهد التحليل النفسي بجامعة فرانكفورت. وسرعان ما تبين له في فرانكفورت أن التيارات الفرويدية المنسابة في ماركس هي التي تثير خياله الفكري، وسرعان ما ترك معهد فرانكفورت إلى غيره: وهو معهد البحث الاجتماعي الذي حاز في نهاية المطاف شهرة دولية بوصفه مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية.
كانت مدرسة فرانكفورت قد تأسست في عام 1922 على يد ماركسي ثري كان يحلم أن يرى عملا بحثيا كبيرا يتركز على الطبقة العاملة المنظمة. غير أن ذلك العقد لم ينته إلا وقد تكون تيار نيوماركسي داخل هذا اليسار الفكري وبات هو الذي يقود المؤسسة في بحث حول العواقب الثقافية ـ لا الاقتصادية ـ للرأسمالية. وهذه الحركة ـ التي قادها باحثون ونقاد من أمثال ماكس هوركهيمر Max Horkheimer ، وثيودور أدورنو Theodor Adorno ، وفالتر بنيامين Walter Benjamin ، وهربرت ماركيوز Herbert Marcuse ، وليو لوفنثال Leo Löwenthal ـ  هي التي أسست للمؤسسة أصالتها. ولما تم تعيين مجموعة من المحللين النفسيين في عام 1929 ضمت فروم وفيلهلم رايخ Wilhelm Reich  (والذي عينهم بالدرجة الأساسية هو هوركهيمر) بات الانطلاق من الفرويدية الجديدة ـ إلى الجانب الماركسية الثقافية ـ هو بصمة المعهد وعلامته.
خلال هذه السنوات المبكرة في مدرسة فرانكفورت، كتب فروم ركاما من المقالات التي تربط مبادئ التحليل النفسي بمبادئ المادية التاريخية محللا الدوافع والاحتياجات الغريزية في علاقتها بما ينجم عن الرأسمالية الحديثة من إحساس مسيطر بالاغتراب. من هذه المقالات تكون "الهرب من الحرية"، وهو الكتاب الذي وضع يده على الدراما الوجودية في الحياة البشرية: الرغبة في كسر قيود السلطة الاجتماعية والفكاك منها وفي الخضوع لها في الوقت نفسه. كان صعود النازية ـ والسهولة المذهلة التي شق بها هتلر طريقه إلى السلطة في ألمانيا ثم في النمسا ـ هو الذي أدهش فروم وأوضح له أن الإنسانية بصفة عامة وطول الوقت تقريبا منجذبة إلى الراحة الطفولية المتمثلة في وجود سلطة خارجية هي التي تتخذ جميع القرارات.
بدا بين عشية وضحاها أن ملايين البشر لا يبالون بفقدان الديمقراطية، وأنهم سعداء بالاستسلام لحكم الأقوياء، مرتاحون إلى الشعور باسترداد النظام إذ أصبح يقال لهم ما يمكنهم أن يفعلوه وما لا يمكنهم أن يفعلوه، مهما تكن التكلفة البشرية. كانت تلك أزمة تهدد ـ فيما رأى فروم ـ "أعظم منجزات الثقافة الحديثة: الفردية وتفرد الشخصية".
لماذا كان يحدث هذا؟ ما ذلك الشيء الموجود في النفس البشرية والذي قابل بالترحاب ما لم يستطع فروم التفكير فيه إلا بوصفه رجوعا إلى القبلية؟ وكلما كان يفكر في الأمر، كان يرى بمزيد من الوضوح في جميع البشر حربا ضروسا بين الرغبة في الحرية والرغبة في إعفاء النفس من مسئولياتها [أي تبعات الحرية]. وهو ما يسميه فريدمان "الهروب بالالتزام".
كان فروم هو الذي أنقذ المعهد من النازي. فخلال رحلة قام بها إلى الولايات المتحدة سنة 1933، استطاع إقناع جامعة كولمبيا بإعطاء المعهد حق اللجوء، وبعد عام من ذلك كان جزء كبير من أعضاء المعهد ـ بمن فيهم هوركهايمر، وأدورنو وماركيوز ـ قد وصل إلى مدينة نيويورك، ولم يكن بينهم جميعا وبين الاعتقال إلا خطوة واحدة، فلم يكن أغلب أعضاء المعهد من اليهود وحسب، بل وكانت أفكارهم أيضا تجديفا ضد الاشتراكية الوطنية [النازية]. وحدث في تلك الأثناء أن اتخذت حياة فروم انعطافتها المهمة. ففي حين واصل أعضاء المعهد الكتابة بالألمانية لنخبة من القراء، وقع فروم على الفور في غرام أمريكا، واللغة الإنجليزية، وتملكته رغبة متنامية في أن يصبح ناقدا اجتماعيا قادرا على الوصول إلى نطاق عريض من الجمهور.
على مدار الأربعين عاما التالية سيؤلف نحو خمسة وعشرين كتابا، ويلقي آلاف المحاضرات، وينضم إلى حركة الثقافة والذاتية التي كونها عالما الأنثروبولوجيا مارجريت ميد Margaret Mead  وروث بينيدكت Ruth Benedict  ويصبح ـ إلى جانب الفرويديين الجدد سوليفان وكلارا طومسن ـ عضوا مؤسسا في معهد وليم ألانسن وايت للعلاج النفسي في نيويورك، ويؤسس قسم التحليل النفسي في إحدى جامعات المكسيك المهمة، مع استمراره طيلة ذلك الوقت في العمل بعيادته النفسية في نيويورك، وقيامه عاما تلو عام بنشر نهر كتبه وأبحاثه في السلطة والذات الفردية التي حققت له ثراء هائلا وشهرة طاغية. وعندما مات في عام 1980، قبيل أيام من عيد ميلاده الثمانين، كان فروم واحدا من أقوى الشخصيات العامة تأثيرا في العالم الغربي.
كانت فرضية فروم في كتابه "الهرب من الحرية" فرضية بسيطة، وشأن فرويد من قبله لم يتردد في استخدام أعراف الحكي الأسطوري ليضفي الحيوية على فرضيته لدى القارئ المتعلم العادي. كانت القصة عند فرويد مأخوذة من الكلاسيكيات، أما عند فروم فمن سفر التكوين (ولا تنسوا الدراسات التلمودية). ذهب فروم إلى أن البشر ظلوا جزءا من الطبيعة إلى أن أكلوا من شجرة المعرفة فتحولوا إلى حيوانات ذات قدرة على التفكير والإحساس الواعيين. ومنذ ذلك الحين وهم مخلوقات نائية، ليسوا جزءا من الكون الذي كانوا يعيشون فيه على قدم المساواة مع غيرهم من الدواب الخرساء. وغرست هبة التفكير والإحساس فيهم مجد الاستقلال وعقوبة العزلة، فقد منح الانفصال للسلالة البشرية عزتها من ناحية، ومن ناحية أخرى منحها وحشتها. وأكدت الوحشة [أو الوحدة] تفككنا، وأفسدت كذلك غرائزنا فسادا صرنا به غرباء على أنفسنا ـ وذلك معنى الاغتراب الحقيقي ـ ومن ثم عاجزين عن الإحساس بما بيننا وبين غيرنا من قرابة.
وهنا بالضبط يفترق فروم وفرويد على نحو يبرز الفارق بين علم النفس الاجتماعي والعمل الجاد في التحليل النفسي. فالوحدة الإنسانية ذات الشأن هي ـ عند فرويد ـ فطرية، بينما هي ذات أصل ثقافي عند فروم. فرويد قال إن دوافع صراع الغرائز تعني أن البشر يولدون وفيهم إحساس بالفقد والهجران لا علاج له إلا من خلال التحليل النفسي. وفروم قال إنه يكفي أن نفهم أن البشرية تولد بإحساس بترابط ينفك بفعل المناخ الاجتماعي.
ومن المفارقات أن ممارسات نفس القوى التي تسببت في بلائنا هي وحدها القادرة ـ لدى كلا المفكرين ـ على إطلاق سراح البشر من أسر الفرقة والتباعد. فلو تعلم الرجال والنساء أن يحتلوا ذواتهم الواعية بحرية واكتمال لتبين لهم أنهم ما عادوا يعانون الوحدة، لأصبحت ذواتهم أنفسها هي رفقتهم. ولا يكاد المرء يشعر أن له رفقة حتى يجد في نفسه رحمة تجاه الآخرين.
ذلك ـ حسبما قال فروم ـ هو الحل الوحيد لمشكلة الفرد المغترب في علاقته بالعالم الحديث. الشيء الوحيد القادر على إنقاذ البشرية من وحشتها المدمرة للروح هو مقدرة الفرد على سكنى ما سوف يعرف باسم الذات "الأصلية". فلو أنك حققت هذه الأصالة، لجوزيت بسلام داخلي لا غنى لك عنه في سعيك إلى أن تكون عنصرا حرا يحب لغيره ما يحب لنفسه.
وكان يمكن أن يكتمل الحلو ـ حسبما رأى الماركسي فروم ـ لولا أننا نعيش في عالم "ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... لا تطرح أساسا للوصول إلى الفردية". وذلك معناه أن النضال لتحقيق الأصالة يظل غير مكتمل طول الوقت لدرجة أن يصبح "عبئا لا يمكن احتماله". وحين يستعصي عبء على الاحتمال فإن المرء يفعل أي شيء من أجل الخلاص والارتياح منه، ولو كان معنى الارتياح هو الاستسلام لجملة من الأعراف الاجتماعية الخانقة للروح. غير أن هذه الصفقة الفاوستية تفضي إلى القلق، ومن ثم فقد وجب الوصول إلى شيء يبطل القلق، وذلك الشيء فيما ذهب فروم وغيره من مفكري مدرسة فرانكفورت كان موجودا لدى الرأسمالية: ألا وهو الاستهلاكية. ذلك أن من شأن السعي وراء السلع الدنيوية أن يضفي بعدا أثيريا على الجوع الدائم إلى الذات الأصيلة.
فروم مع زوجته عقب زواجهما
لقد أفنى فروم حياته المهنية في هذه الفرضية، محققا المزيد والمزيد من الشعبية التي أجهزت عليه على كثير من الأصعدة. فابتداء، كان مفكرو فرانكفورت يضمرون له الازدراء لشذوذه عنهم في غرامهم بالتجريد. ثم إن المحللين النفسيين خطأوه في تشويه أو استبعاد كثير من أسس التحليل الفرويدي، وتلاهم النقاد الاجتماعيون الذين خطأوه في حثه قراءَه طول الوقت على السعي إلى المصلحة الذاتية العارية. ولكن رؤاه العميقة زلزلت الوطن بملايين من الناس الذين كانوا يعانون الخواء الأمريكي الشهير (لا سيما في الخمسينيات) والذين أقبلوا على القيام بالرحلة الوجودية إلى التشبع العاطفي التي ظلت تبشر بها كتبه ذات النبرة النبوئية بانتظام.
في "فن الحب"، ذهب فروم إلى أن عبارة "الوقوع في الحب" falling in love تنطوي على تسمية خاطئة وخطرة. فنحن لا نقع في أي شيء، ولكن ما يحدث حينما يسمح الانجذاب لعلاقة ما بالتكون هو أننا ندرك أنفسنا في الآخر ثم من خلال المودة والاحترام والمسئولية نعمل بجدية على تعليم أنفسنا كيفية احترام هذا الإدراك. فـ "ما يكاد المرء يصغي، ويقدّر، ويحب في واقع الأمر نفسه، حتى يتسنى له أن يحب غيره ويستكشف أعماق هذا المحبوب مثلما يستكشف أعماق نفسه وجوهره"، أو هذا ما ينقله فريدمان بلغته عن "في الحب". أي أن الديناميكية تفضي إلى سخاء عاطفي يجعل كل واحد فينا يكون نفسَه تكريما للآخر. ولا يكاد المرء يحقق هذه الحالة المعترف بمثاليتها حتى يتسنى له أن يبسط حبه على الإنسانية كلها بحسب ما كتب فروم أو أعلن في كتاب من كتبه.
اليوم أصبحت فرضية فروم مندمجة في ثقافة العلاج النفسي الجماعي بحيث باتت تقرأ كما لو كانت صفحة من كتاب في مساعدة الذات. ومن هنا باتت تبدو حمقاء في الأذن المعاصرة. أما رائعته الستينية "الهرب من الحرية" فقد ساعدت على تسييس جيل من المحلَّلين نفسيا والناشطين. وبمعاونة من كتاب فروم، استطاع أولئك أن يدركوا العلاقة بين الظلم التاريخي والقلق النفسي والعزوف البرجوازي عن تحدي سلطة الأعراف البالية حتى لو احتشد جيش من المنشقين باسم التضحية بالفردية. وفوق ذلك كله، ألقت رؤى فروم الضوء على خوف قديم من المساواة مع النساء والسود والمثليين وكانت عونا لكل أولئك على مقاومة عنف المحافظين المرهوبين الذين كانوا يقاومون كل دعاة الحرية.
ليس كتاب "نبي الحب إريك فروم" سيرة ذاتية بالضبط. بل هو أقرب إلى ملخص بالغ الطول لانعطافات حياة فروم وتحولاته كمفكر شعبي. ولكن الرجل الذي كان يتناول غداءه مع الرؤساء ويلقي المحاضرات على الآلاف، ويبيع الكتب بالملايين، لا تزداد معرفتنا به في نهاية الصفحات الثلاثمائة عما كانت عليه في بدايتها. يقال لنا إن فروم ـ حسب ما ترى المحللة النفسية كارين هورني التي أقام معها علاقة ـ كانت فيه "سمة نبوئية مسيحية تحد" من "قدرته على المشاركة العاطفية". ويقال لنا إنه كان زير نساء مدمنا، وعلى الرغم من أن "فن التحاب" جاء نتيجة لزيجة ثانية سعيدة، إلا أن العلاقات النسائية لم تتوقف. ويقال لنا إنه في ممارسته التحليل النفسي كان أقرب إلى مرشد روحاني منه محللا، فكان يطالب مرضاه بأن "ينتبهوا" من غفلتهم، ويتبينوا ما يصر على أنها "خياراتهم" التي سوف تمكنهم من أن "يصيروا أكثر عفوية وابتهاجا وإنتاجا". كل هذه الأشياء تقال لنا ولكن دون إكراه على الإيمان بها بدلا من الكفر، كما كان ليكون حالنا لو أن الرجل الذي تتناوله هذه الكلمات لا يزال على قيد الحياة.
ومع ذلك، يبقى كتاب فريدمان تاريخا ثقافيا عميقا للسياق السياسي الثقافي الذي عاش فيه فروم حياته، حيث نستشعر القلاقل الفكرية في أوربا العشرينيات، وأزمة النازية المثيرة في الثلاثينيات (فلا شيء أكثر إثارة من الشر إذ يتزيا أمام أعيننا بزي الخير)، ثم نرى البراءة المثيرة للسخرية في أمريكا الخمسينيات. كما نرى ونعرف معنى أن يلتقي رجل معين وعالَم معين، فيترك كل منهما بصمة لا تنسى على الآخر. 
أكثر من سبعين عاما مضت على نشر "الهرب من الحرية"، ولا نزال نعيش عالما لا يشعر النساء والرجال فيه بالسلامة أو الأمن ولا بالأصالة. غير أننا  جميعا بتنا أكثر وعيا بألف مرة مما كنا عليه في عام 1941 بأننا حينما نتكلم عن كلمات من قبيل السلامة والأمن والأصالة فإننا نتكلم عن حالة من الوجود لا يمكن لأحد أن يمنحنا إياها، بل لا بد أن نعمل نحن من أجل اكتسابها، والنفاذ إليها. وعلينا أن نشكر من أجل هذا التغير الهائل مؤثرات عديدة هي التي زرعت فينا هذا الإحساس بالمسئولية، ومن بين هذه المؤثرات ولا شك، أعمال إريك فروم.

نشر الموضوع أصلا هنا ونشرت الترجمة صباح اليوم في ملحق شرفات 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق