الخميس، 24 فبراير 2022

1922 العام الذي صنع الحداثة

 

مئة عام على عوليس والأرض الخراب

1922 العام الذي صنع الحداثة

جون مولان



في عدد ربيع عام 1922 من مجلة )ليتل ريفيو( الأدبية الأمريكية الطليعية، نشر إزرا باوند تقويما للعصر الجديد، جعل فيه للشهور أسماء آلهة إغريقية ورومانية وجعلها تحت عنوان "السنة 1 ب ك ع"، وعلم القراء المطلعون على الإبداعات الأدبية أن هذه الحروف اختصار لعبارة "بعد كتابة عوليس"، فمع نشر جيمس جويس روايته في فبراير من عام 1922، في عيد ميلاده الأربعين، بدأ عصر جديد. كان باوند (بشعاره الأشهر "اجعله جديدا") من عظماء المعلنين عن الثورات الأدبية أو المطالبين بها، والتاريخ في هذه الحالة سوف ينصفه ويدعمه. فبعد قرن من الزمن، يبدو عام 1922 أشبه بالعام الذي تغيَّر فيه الأدب، وبدأت الحداثة طريقها بنجاح.

لم يكن ذلك فقط عام عوليس، لكنه أيضا كان العام الذي نشرت في أكتوبر منه للمرة الأولى قصيدة "الأرض الخراب" لـ تي إس إليوت البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاما، لتأتي رواية الحداثة العظيمةُ متبوعة بأعظم قصيدة مفردة فيها. وكان الحدثان كافيين ليجعلا من 1922 خطًّا فاصلا. لكن في هذا العام أيضا، نشرت فرجينيا وولف، وهي في مثل عمر جويس، روايتها الأولى المتطرفة في التجريب "غرفة يعقوب" وبدأت كتابة رواية "السيدة دالاوي". كان باوند، المقيم آنذاك في باريس، يشرع في كتاب سفره الأكبر "الأناشيد". وكان هو من حرَّر فأبدع في تحرير مسوَّدات "الأرض الخراب" مرشدًا إليوت إلى ما ينبغي حذفه في مسودات القصيدة الأولية الكثيرة. فما كان من إليوت إلا أن أهدى القصيدة إليه مقتطفا من دانتي عبارة "Il miglior fabbro" [أي الصانع الأمهر].

كان المشاركون الأساسيون في هذه الثورة الأدبية يعلمون تمام العلم أنهم جزء من مشروع مشترك، وجهد منسق للانقطاع عن القوالب المستقرة. وهذه كانت لحظتهم التاريخية. حققت التحالفات والخصومات بين الكتّاب الأفراد للحداثة الأدبية وعيا ذاتيا فريدا. وكانت شبكة التأثيرات، والصداقات، والتعاونات في بعض الأحيان، ضرورة لابتكاراتهم الأدبية.

كان إليوت أكثر الأنصار حماسة لجويس: إذ قرأ الأجزاء الأولى المسلسلة من عوليس وأعلن أن جويس هو "أفضل كاتب نثر على قيد الحياة". في أغسطس من عام 1920 التقى الرجلان في باريس (بصحبة ويندهام لويس وفي استخفاف بهذا المهاجر الأيرلندي المغمور). تأسست علاقة، وبدأ جويس يبعث إلى إليوت مخطوطات أجزاء من عوليس كلما أكملها. في الوقت نفسه نشأت صداقة بين إليوت وفرجينيا وولف وزوجها ليونارد. في يونيو من عام 1922، وقبل أربعة أشهر من نشر (الأرض الخراب) ألقاها في بيت هوجارث، أي بين الزوجين وولف في ريتشموند. وسجلت وولف في يومياتها أنه "كان يغنِّيها، وينشدها، ويقفِّيها". أعجبتها "عظمة جمالها، وقوتها"، "أمَّا ما يربط بين أجزائها، فلست متأكدة أني أعرفه". وستنشر القصيدة، التي طبعت للمرة الأولى في جريدة إليوت (كرايتريون) ثم طبعت في أمريكا في شكل كتاب في ديسمبر من عام 1922، مذيلة بملاحظات إليوت المضافة في مطبعة هوجارث المملوكة لآل وولف سنة 1923.

كانت القوالب الأدبية الموروثة لم تزل هي السائدة في عام 1922، فكان بوسع قراء الروايات المهذبة أن يشتروا الطبعة الشاملة الجديدة من "ملحمة فورسايت" لجون جالسورثي التي اكتملت في السنة السابقة. وعما قريب ستكون بين أيديهم رواية آرنولد بينيت الجديدة "سلالم رايسمان"  (1923). وقد ينعمون بمقالة بينيت الرافضة لـ"غرفة يعقوب" في مجلة (كاسلز ويكلي)، وهي إحدى المجلات الأدبية المرموقة في المرحلة. غير أن العجرفة التي قابل بها الكتَّاب المتحقِّقون تجارب القصِّ الجديدة أكدت صداما استطابه الحداثيون. استفز بينيت بمقالته رد وولف في مقالتها الشهيرة "السيد بينيت والسيدة براون" التي نشرها إليوت أخيرا في نسخة منقحة بمجلته كرايتريون، وفي المقالة ناصرت وولف أساليب جديدة لتمثيل الشخصيات في الأدب القصصي، بالتقاط حركات الوعي بدلا من التقديم الكسول للمعلومات عن الشخصيات مثلما كان يفعل بينيت ورفاقه في العصر الإدواردي.

كانت عوليس هي التجلي الأمثل لهذه الطريقة الجديدة في ممارسة الكتابة. قبل ظهورها في شكل كتاب، كانت وولف تعرف بالرواية التي يكتبها جويس. في سبتمبر من عام 1920 ذهب إليوت للإقامة مع آل وولف ببيت مونك في رودميل، وذلك هو مأواهم الرطب البارد في شرق ساسكس حيث كانت فرجينيا تعمل على "غرفة يعقوب". كان حريصا على مناقشة عوليس، بحسب ما سجلت وولف في يومياتها. "فهي، بقدر ما رأى منها، فائقة العبقرية، مثلما يقول". قرأت وولف عوليس خلال أغسطس وسبتمبر من عام 1922، وهي تكتب مسز دالاواي. وقد ساءها بعض الشيء أن تقطع من أجلها قراءتها لـ"البحث عن الزمن المفقود" لبروست، التي كان الجزء الأحدث فيها قد نشر قبل أشهر قليلة من وفاة الكاتب في عام 1922. فتنتها رواية جويس لكنها أربكتها. كانت قد قرأت ربع الرواية حين كتبت في يومياتها "كتاب غير أدبي، هجين، فيما يبدو لي". كيف أمكن أن يرى إليوت أنها "تباري الحرب والسلام"؟ لكنها لم تستطع أن تعرض عنها. ويوم انتهت من قراءتها كتبت أن "فيها عبقرية، في ما أظن" وإن تكن "مسهبة" و"مدَّعية" ومرة أخرى "هجينة". وفي المرة الأخرى تغير رأيها، وقد أقنعتها مقالة نقدية بأنها "أكثر إثارة للإعجاب مما حكمتُ عليها". وبات عليها أن تعيد قراءتها.

من الصعب ألا نتخيل أن عوليس كانت ذات أثر مباشر على العمل الذي كانت تكتبه وولف. فرواية (السيدة دالاواي) ـ التي لم تكتمل حتى أواخر عام 1924 ـ هي الأخرى رواية تجري أحداثها في يوم واحد، ولو أنها ترجع في الزمن من خلال شذرات من ذكريات شخصيتها الرئيسية. تسيطر الرواية على وعي هذه الراوية إذ تغادر بيتها، وتجوب مدينة (هي لندن لا دبلن)، مؤدية مهاما عادية، ثم ترجع إلى البيت. وهي، شأن عوليس تماما، تتبع خريطة مدينية وتسلسلا زمنيا من ساعة إلى ساعة.

يطلق في بعض الأحيان على منهجي وولف وجويس السرديين مصطلح "تيار الوعي". وقد استعملت العبارة ـ المستعارة من نصوص علم النفس ـ للمرة الأولى في سياق أدبي من خلال الكاتبة الإنجليزية (ماي سينكلير)  في عام 1918 لوصف المنهج السردي لدوروثي ريتشاردسن في متتاليته الروائية "الحاج" (التي كانت وولف على دراية تامة بها). غير أن العبارة لا تكاد تنصف الطرائق التي تتقدم بها الجمل في عوليس. فالتفكير يجري من خلال كلمات، مقيما روابط تفاجئ الشخصية مثلما تفاجئ القارئ. ولا يكاد الكلام والتفكير يتمايزان على الصفحة (فجويس لا يستعمل ما يعرف بـ"علامات التنصيص" لتمييز الحوار).

اشترك جويس وبروست في الاهتمام بالمزج بين أعمال الوعي والتجربة الحسية من تذوق، ولمس، وشمٍّ بصفة خاصة. في عوليس يظهر أن جويس هو أحدُّ الروائيين أنفًا منذ ديكنز. في قسم "كاليبسو"، حيث نقابل ليوبولد بلوم للمرة الأولى، نجد بطلنا ينعم ـ في ذاكرته ـ "بعبق طيب من بول خفيف الرائحة" على كلى الضأن التي سيشتريها للإفطار. في الخارج، في شارع دبلنيٍّ، في الصباح، يفكر في البيت الذي يعود إليه. "في شمِّ عبق الشاي الرقيق، وبخار المقلاة، وأزيز الزبد الذائب. في القربى من لحمها الوافر، الساخن بأثر من دفء السرير. نعم، نعم". يمضي بكوب شاي إلى زوجته، مولي، في السرير فتتكلم عن بويلان، منظم الحفل الموسيقي الذي ستغني فيه. "افترَّت شفتاها الممتلئنان، وهي تشرب، عن ابتسامة. ثمة فضلة من رائحة بخور باقية لليوم التالي. شأن ماء عطن في مزهرية". في مرحلة تالية من هذا القسم يذهب بلوم إلى المرحاض الخارجي ومعه نسخة من تيتبيتس: "ينشرون أي شيء الآن. موسم سخيف. يواصل القراءة، جالسا في هدوء أعلى رائحته المتصاعدة". ولكل ما هو عادي مكانه في هذه الرواية.

أسفل تيار أفكار بلوم وردود أفعاله، ثمة حدوتة منزلية معقدة. لماذا تخفي مولي رسالة من بويلان؟ سنكتشف السبب في نهاية المطاف. علينا أن نتعقب أبسط التلميحات عبر رواية طويلة لنفهم الكثير: نفهم أن بلوم لا يملك أن يكف عن التفكير في وفاة ابنه رودي، رضيعا، قبل عشر سنوات، وفي أن هذا مرتبط بتوقفه هو وزوجته عن ممارسة الجنس، وأنه يتخيل أنها ربما تكون على علاقة، وأنه شخصيا يلعب بذيله في علاقة غرامية محتملة بالمراسلة. قد يمضي بنا السرد إلى أفكار بلوم، لكنها أفكاره في يوم واحد، من لحظة إلى أخرى، دونما تفسير. ولا بد من جمع قطع حياتها إلى بعضها بعضا عبر الاستدلال.

ما من حدود للمواضيع التي قد يتأملها العقل ومن ثم فلم يعد من حدود مطلقا لما يمكن أن يشق طريقه إلى الأدب الروائي. هلع بعض النقاد في مواقفهم من عوليس عند نشرها الأول مقياس لعدم خضوع الرواية بعنف تام لأي نوع من الرقابة، وهذا لا يبدو ملفتا لقارئ اليوم، لكنه استثنائي في عام 1922. فقد حظر تداول الرواية بسبب "الفحش" في كل من بريطانيا والولايات المتحدة. في بريطانيا قرأ مدير النيابات العامة أركيبولد بودكين القسم الأخير فقط، أي مونولوج مولي، وأكد احتواءه على "قدر هائل من القذارة الفجة والفحش". وفي عام 1922، صادرت الجمارك في فولكستون خمسمئة نسخة وأحرقتها. وأخيرا سمح حكم محكمة في الولايات المتحدة سنة 1932 بنشرها في البلد. ولم تصبح متاحة بحرية في بريطانيا إلا في عام 1936. في حين كان الحصول على عوليس أشبه بالمستحيل في وطن جويس نفسه. غير أن الرواية حققت نجاحا كبيرا، إذ ختم الحظر على مكانتها الأسطورية. لم ينتب إليوت أي شك تجاهها: "إني أضع هذا الكتاب في مكانة أهمِّ تعبيرٍ توصَّل إليه العصر الحديث، إنه كتاب كلنا مدينون له، ولا مهرب لأحدنا منه". غير أنه لم يجرؤ على نشره تحت شعار دا نشر فيبر آند بيبر (التي كان جويس يسميها استهزاء فيبلر آند فامبلر [أي الضعيفة الخرقاء]".

في عام 1930 أصدرت دار فيبر كتاب ستيوارت جلبرت (عوليس لجيمس جويس: دراسة) ليكون بمثابة دليل مزود بمقتطفات مطولة تعاون فيه جويس وتم الإعلان عنه بوصفه "الدليل الوحيد إلى الرائعة ذاتها". وكان هذه الكتاب بداية صناعة جويس النقدية. فقد "شغلت" الرواية "الأساتذة" بما فيها من "ألغاز وأحاج" وهو ما كان جويس يرجوه مازحا. وسوف تكون الطبعة المئوية من عوليس، التي يوشك صدورها من مطبعة جامعة كمبريدج في يونيو، هي الأضخم شروحا وحواشي إلى اليوم، إذ تأتي الرواية مزودة بمقالات تمهيدية كتبها خبراء أكاديميون، لتسبق كل حلقة من حلقات الكتاب، شارحة الإحالات الأدبية والتاريخية في حواشي.

سرعان ما حققت عوليس الشهرة. وفكرت وولف ـ فيما كانت تكتب ـ في أن "ما أفعله الآن ربما يكون السيد جويس هو من يستطيع أن يفعله على نحو أفضل". كانت روايتها هي شديدة التجريب، وشخصيتها الرئيسية مراوغة، وهي شخصية شاب غير حاضر مطلقا بالنسبة لنا. جميع الشخصيات التي تأتي وتذهب مرتبطة به على نحو ما، وتظهر في لمحات. والرواية تقدَّم للقارئ في حلقة قصيرة تلو الأخرى. وفي بعض الحالات تظهر هذه الحلقات على المستوى البصري فقط، فنرى ما تفعله الشخصية، لكن يكون علينا أن نستنتج مشاعرها ودوافعها. أو نسمع من بعيد شذرات من حوار. حينما يتشاجر يعقوب مع صديق قريب، لا نحصل إلا على كلمات مفككة تصل إلى أسماع خادم. وما يجب عليك ملاحظته في المقام الأكبر هو الفجوات والمحذوفات في ما بين الحلقات. ومثلا يقول صوت السردية الجارف مرتين: "لا جدوى من محاولة تلخيص البشر. على المرء أن يتبع التلميحات، وليس ما يقال بالضبط، ولا حتى ما يُفعل". وأكبر أسباب جاذبية مراوغة شخصية يعقوب هو أن وولف بنتها على حياة أخيها ثوبي الذي كان قد توفي بالتيفود وهو في السادسة والعشرين من العمر.

يقدَّر ليعقوب أن يلقى حتفه في الحرب العالمية الأولى، لكن الرواية تستوجب منك أن تستنتج سبب فراغ غرفته في النهاية. فما من إشارة إلى الحرب إلا إشارة تسبق هذا، حينما تفيق والدة يعقوب من النوم نصف إفاقة على صوت مدفعية "كأنما نساء ليليات ينفضن سجاجيد هائلة".

اجتناب المباشرة سمة في الكتابة الحداثية. ستقول لكم أدلة الحداثة إن الحداثة نتاج أحداث تاريخية متشظية، ولكنها لا تظهر إلا في لمحات داخل الأدب الحداثي نفسه. ففي نهاية عوليس، أثبت جويس الأماكن والتواريخ التي كتبت فيها الرواية: "تريستي ـ زيورخ ـ باريس، 1914-1921". ولقد كان جويس ـ شأن إليوت ـ منفيا باختياره، منقطعا عن الاضطرابات السياسية في أيرلندا. وفي الوقت الذي كان يعيد فيه تخيل يوم في دبلن قبل عقد من اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان في بلده حرب أهلية. وكتبت "الارض الخراب" في غداة الحرب العالمية الأولى، لكنها لا تأتي على ذكرها. ففي القصيدة تشظية للحضارة والثقافة والأدب، لكن ما من تفسير تاريخي لها.

يقدم إليوت للقارئ "هذه الشظايا التي أقمتها على أنقاضي". ويصف "استعمال [جويس] المتوازي لأوديسة هوميروس" بـ"طريقة في السيطرة، والأمر، وإعطاء شكل ودلالة لبانوراما هائلة من التفاهة والفوضى هي التاريخ المعاصر نفسه". و"الأرض الخراب" كانت طريقة أخرى. tسوف تشير ملاحظات إليوت شبه النافعة، على سبيل المثال، إلى كيفية نهب دانتي وبودلير ووبستر في فقرة لا يمكن نسيانها عن المارة المتدفقين على جسر لندن (كم هم كثيرون/ما كنت أحسب الموت مهلكا كل هؤلاء). لكن على القدر نفسه من الجرأة كان التحول إلى شعر زوجة مضطربة مكتئبة (أعصابي تالفة الليلة. نعم، تالفة. ابق معي. تكلم معي. لماذا لا تتكلم أبدا. تكلم) أو بعض ثرثرات الحانات بين نساء عانين القسوة (قالت، هي الحبوب التي تعاطيتها، لأسقطه) فيقاطعها صاحب الحانة بصوت كأنه الموت نفسه ("أسرعي لقد حان الوقت")

كان يحلو لإليوت الحديث عن "لاشخصية" الشاعر. فـ"الأرض الخراب" متروكة لأصوات إما ينقل عنها أو يسترق السمع إليها. في مسودته الأولى، كتب إليوت فقرات تربط بين هذه الشذرات فأزالها باوند بعبقرية لا تعرف الرحمة. وبرغم ذلك، وبكل ما فيها من تنافر، فهي خاضعة تماما للسيطرة، بأذن لا تبارى في ضبط الأبيات فتستقر في الذاكرة. حققت القصيدة نجاحا نقديا فوريا. وحتى الذين أربكتهم القصيدة، كثيرا ما اعترفوا بأهميتها. ومثلما قال ناقد "أعترف ... عدم فهمي لقصيدة السيد إليوت لا يبدو لي نقدا أكثر من القول إنني (بالمعنى نفسه) لا أفهم سونيتات شكسبير". ولكنها مثلما قال باوند كانت بالنسبة إلى شعراء آخرين "كافية تقريبا لأن يغلق بقيتنا حوانيتهم".

لم تزل أصداء تجارب عام 1922 تتردد. لقد علم إليوت أهمية ذلك العام. ففي كتابه "قصائد مختارة" جعل "1922" مطبوعة بين العنوان والمفتتح. كانت "الأرض الخراب" قصيدة عصرها، التي جددت الأدب في وقت تعثرت فيه الحضارة. وهي بأصالتها لم تزل ركنا من أركان تعليم الأدب، ولم تزل حية يقرأها كل جيل جديد من الطلبة بحيرة تختلط بالبهجة. وفي القصيدة عبارات خرجت منها إلى اللغة، فمنها "ابريل أقسى الشهور" و"سأريك الخوف في حفنة من تراب"، و"مدينة غير حقيقية". أمَّا أنجح وأهم محاولات وولف لتفعيل اللاوعي، أي "السيدة دالاوي" (1925)  و"نحو الفنار" (1927) فكانتا لم تصدرا بعد. كلتاهما تأثرت بعوليس، وتحررت بها، فهي الرواية التي أظهرت ما يمكن أن يفعله الأدب حتى يباري التجربة. وبعد مئة سنة من صدورها لم تزل عوليس ناجحة بوصفها غاية الابتكار الأدبي ومثاله الذي لا مهرب منه. ومن الروائيين الأدباء ـ إيمير مكبرايد، وويل سيلف، ولوسي إلمان التي كتب والدها سيرة جويس) ـ من تبنوا المنهج الجويسي. وكثيرون اتبعوا نمط اليوم الواحد الجويسي. وتأثيرها الأوسع، حتى على من لم يقرأوها، أعمق. فبعد عوليس، أصبح التكشف اللحظي لتجربة ذاتية موضوعا مناسبا للأدب. لقد أظهر جويس لأجيال من الكتاب (من يكتبون للشاشة أو للورقة على السواء) كيف يمكن أن يمنحوا شكلا لكل ما لا يمكن الكلام عنه من أفكار شخص. وبالجرأة الشكلانية وحدها، جعلت روايته من يوم عادي ملحمة حديثة.

 

كاتب المقال هو أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة لندن.

نشر المقال في نيوستيتسمان بتاريخ 30 يناير 2022 ونشرت الترجمة اليوم في محلق جريدة عمان الثقافي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق