الثلاثاء، 8 ديسمبر 2020

شبح حي من حرب الشيشان

شبح حي من حرب الشيشان


 


بقلم: فويتشه جاغيلسكي

برغم أنه لعق جراحه وفرَّ من فكاك الموت، لم يرجع عمر قط إلى أرض الأحياء. حكوا عنه في الوادي قائلين إنه كان بينهم، ولكنه برغم ذلك لم يكن معهم فعلا، فقد اقترب من الحافة قربا عزَّ من بعده الرجوع. وقالوا إن من يعبر الحد بين الحياة والموت يستحيل عليه أن يواصل بعد ذلك الحياة دون أن يدفع الثمن.

كان قد انتقل من بيت لورا ورجع إلى أقربائه في قرية بركياني المجاورة، حيث كان له متسع ذات يوم فور أن رحيل لاجئي الشيشان. لكنه لم يقم هناك طويلا. تبدل حاله بطريقة ما، أصابه الذهول، وصار و كأن شيئا لم يعد يعنيه. لم تعد شؤون الناس وأحوالهم تثير في نفسه اهتماما، فقد مبالاته بشجارات جيرانه ومتاعبهم وفقرهم والظلم الذي يلقونه من شتى المسؤولين. وفقد أيضا اهتمامه بأفراحهم. لم يبد أنه يبالي بثأر أو بغفران، بحرب أو بسلام. لم يعد له في شيء من ذلك كله رأي. في الماضي كان يعبر عن آرائه شأنه شأن الجميع، لكن زمانا طويلا مضى على ذلك، كأنها حياة سابقة أو تجسد سابق. الآن لم يعد يدفعه دافع إلى قول رأيه في أي شيء على الإطلاق. اللهم إلا الطقس، وهل الوقت هو الأمثل لجمع الكستناء أو سوق البقر والغنم من مرعى إلى آخر. وكان جوابه على أي شيء هو تلك الابتسامة اللطيفة التي ينعم بها الكبار على الصغار الجاهلين الذين لم يعركوا الحياة بعد. وفي بعض الأحيان كان يتكلم فيأتي كلامه شديد الخفوت لا يمكن تبينه، وإنما تخمينه تخمينا، إن لم يستعص تماما على الفهم في بعض الأحيان. وفي النهاية جاء يوم مضى فيه إلى الجبال، حيث يعيش الآن وحيدا، يرعى للقرية قطعان البقر والغنم والماعز.

هنالك التقيت به. في مخيم الرعاة الذي صار له بيتا منذ أن أدار للناس ظهره. كنا في أكتوبر، وهو موسم قطاف الكستناء، آخر مهام الخريف. وفور الانتهاء منها، يتأهب الكيتس [وهم أقلية عرقية مسلمة في الشيشان] للشتاء.

يقع مخيم الرعاة في خلاء صغير وسط شجر عمره قرابة المئة سنة. فضلا عن عمر، كان في المكان دزينة عائلات جاءوا إلى المكان لجني الكستناء من الغابة. كانوا يجمعون الكستناء في أجولة ضخمة متينة تؤخذ كل بضعة أيام قليلة وينزل بها إلى الوادي على ظهور الخيول أو على متون الشاحنات القديمة التي كان أهل القرية يستعملونها في ارتيادهم الجبال للاحتطاب أو بحثا عن مؤن للبناء يتجرون فيها.

كان قاطفو الكستناء والرعاة يقيمون في خيام من التربولين وأكواخ. أما عمر الضئيل النحيل الهزيل فيرتدي سترة عسكرية وحذاء جندي طويل الرقبة، ويعيش وحده في كوخ أقامه لنفسه في الغابة. وكان بعض أهل القرية قد ساعدوه، فأعطوه ما وقعت عليه أيديهم مما لم يكونوا بحاجة إليه في مزارعهم من ألواح خشبية وأبواب وشبابيك قديمة وألواح زجاجية وأثاث. ومن محطة الكهرباء على النهر، سحبوا له حاوية شحن صغيرة كانت في ما مضى من السنين مأوى للعمال القائمين على صيانة السد، فقامت لعمر مقام هيكل بيته العظمي.

كان مثيرا للفضول أن تقع العين على رجل نجا من فكاك الموت وترى على أي نحو غيَّره ذلك، لولا أنه لم يكن في مظهر عمر من شيء غير عادي. منطويا، كأنما من خجل، ابتسم فبدا لوهلة وميض سنه الذهبي. ولكن الذين جاءوا إلى المكان لقطف الكستناء، وشباب الرعاة وشيوخهم، كانوا يطيعونه، ويمتثلون لأوامره التي يصدرها بصوت هامس لا يسمع إلا بشق الأنفس. ففي هذا المكان كان هو المتولي كل شيء.

كل يومين أو ثلاثة أيام يصعد في الجبل إلى خلاء أوسع وسط الشجر، ليعتلي شجرة بلوط أسقطتها الريح ويلتقط إشارة شبكة المحمول. ينظر في الرسائل الصوتية المبعوثة إليه، وهي غالبا تتعلق بأحمال الخيول التي بعثها من الجبل إلى معبر نهري مخصص لجمع المعدات والغذاء والثياب والأدوات اللازمة للمخيم. كانت المياه تأتيه من جداول جبلية. وفي بعض الأحيان كانت ترد إلى عمر اتصالات من الوادي تعلمه بشأن ضيوف أو سياح أجانب يزورون الوادي ويودون أن يقضوا ليلة وسط الرعاة ويسمعوا من عمر قصصه حول نار المخيم.

في الربيع والصيف، كانوا يبعثون بعض الشبان من الوادي ليقيموا في مخيم عمر بخلاء الغابة الجبلية، فيساعدونه في رعي البقر والغنم والخيل. كما كانوا يصنعون الجبن وصوف الغنم للبطانيات والفرش والثياب الدافئة والقبعات. وكان بعضهم يقيم في الجبال لشهور في المرة الواحدة، وبعضهم ينتقل من المكان بعد أسابيع. وعدا المدرسة والعمل في مزارع أسرهم الصغيرة لم يكن لأولئك الشبان من عمل آخر في الوادي. ولما كان عمر يستضيفهم في خلائه الجبلي، فقد كان يعرف أغلب ناس الكيتس من القرى القائمة على النهر. ولم يكن الشبان يقصدون مخيمه للعمل فقط، بل ليتحرروا من سلطة الكبار ويقضوا وقتا طيبا معا حول نار المخيم.

انتهى موسم جني الكستناء، وبقي عمر وحيدا في الجبال. لو استطاع لعاش هناك طيلة الشتاء، لولا عواصف ثلجية شديدة كانت تدفعه إلى الوادي بقدرتها على دفن طرق الغابة تحت طبقات من الجليد شديدة العمق. وإذ ذاك يستحيل الوصول إلى خلائه على مطايا الخيول أو متون الشاحنات، أما الترجل وسط الجليد فمشقة لا طاقة لأحد بها، فكان ينزل ليعيش وسط أقاربه في بيركياني، لكن فور أن يتحسن الشتاء، يقفل عائدا إلى الجبال.

وصلت إلى معسكر الرعاة عند الظهر. متأخرا. بدا لي الخلاء الساكن الظليل مهجورا. لاحظت أكواخ الرعاة أسفل الشجر فور أن اعتادت عيناي ما على الأرض من ورق الشجر المصفر القذر.

قرب المساء، بدأ الناس يتوافدون، فجامعو الكستناء محملون بأجولة منتفخة والرعاة يسوقون بقرا برميلي الأبدان لقضاء الليل، وظهرت برفقتهم كلاب حراسة ضخام، وقد كان عمر يأوي سربا كاملا منها لتحمي القطعان من الذئاب والدببة.

أوقدت النساء المواقد وانهمكن في تحضير العشاء، داعيات الصغار إلى سوق البهائم إلى الحظيرة. جاء الرجال وجلسوا أمام بيت عمر على جذوع مصفوفة حول موقد حجري. ومضى الأحدث سنا إلى الغابة يجمعون حطبا لنار المخيم.

أخيرا ظهر عمر أيضا. جلس أمام بيته وسط الرجال وقطَّع بعض اللحم لشيِّ الكباب. جعلها مكعبات صغيرة غرزها في أسياخ من أغصان مبرية. وما كاد الرعاة يضرمون النار، حتى نفخ عمر الدخان اللاذع، ووضع الأسياخ على النار، ومضى يرقب اللحم. وما كاد يرى أنه نضج حتى قسَّمه على الرجال الجالسين في الدائرة، ثم انتقى بعض الجمار فنحاها جانبا ووضع عليها ملء حفنات من الكستناء.

 قال وهو شاخص إلى النار "يطيب مذاقها حينما يحسن تحميصها"، وقال "طيب كل ما ينفع  الناس" وتجمَّع الرعاة حوله يتبادلون نظرات متسائلة، محاولين أن يخمنوا إن كان عمر يسرِّي عن ضيفه وحسب، أم أنه سوف يشرع في إحدى قصصه.

أرهفوا السمع، عالمين أن في القصص التي دأب على حكيها حول النار حقائق عميقة، أو إجابات لبعض الأسئلة الجوهرية، أو حلولا قد يكون لها نفع في الحياة. كانوا يرون في عمر ناسكا أو حكيما، شخصا تقلبت عليه الدنيا وعركته التجارب فبات أقرب إلى أمور لا يفهمها العاديون من أمثالهم.

كان رجلا قليل الكلام. فقد تنقضي في بعض الأحيان أيام دون أن ينطق كلمة، بل يبقى نائيا، سارحا في أفكاره. في تلك الأوقات، كان الناس يقولون إنه يتذكر ولا شك الطريق الذي قطعه في سفره، من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، رائحا غاديا، فلا يجب إزعاجه، وإلا تاه وعجز عن العثور على طريقه.

بعدما أصيب في معركة جروزني التي جرت في الشتاء، قضى ثلاثة أيام راقدا وسط الجثث في مينوتكا. أصابته طلقات الرصاص في عموده الفقري وحرمته من القدرة على الحركة. فقد وعيه، ولما استعاده، لم يشعر بشيء، ولا حتى بالألم. ولا كان بوسعه أن يتلفظ بكلمة أو ينطق صوتا. كان بوسعه أن يسمع كل شيء، ليس بشكل واضح، ولكن كأنما من بعيد، كأنما من وراء جلبة تطغى عليه. لم يفقد بصره، لكنه لم يستطع تحريك رأسه، فكان كل ما يستطيع رؤيته هو ما يقع أمامه.

لم يدرك على الفور أنه راقد وسط كومة جثث. كانت العتمة ماثلة طول الوقت، أدناها سَحَر وأقصاها ظلمة حالكة. توصل إلى أنه في حيز مغلق، قد يكون قبوا. كان بوسعه أن يسمع أصوات الناس من حوله ورعد الانفجارات والقصف من بعيد. جاءوا بشيء وطرحوه بجواره. وفي لحظة سمع من يقول إنه لم يعد بوسعهم أن ينتظروا أكثر مما انتظروا، وإنهم لا بد أن يشرعوا في دفن الموتى. قال صاحب الصوت الأول إن "الأرض متجمدة، وعلينا أن نضرم نارا فنليِّنها بعض الشيء، أو أن نرفع أرضية القبو بعتلة ونحفر حفرة فيها". إذ ذاك أدرك عمر أنهم يحسبونه ميتا ويوشكون على دفنه مع الجثث. سيلقونه في حفرة يحفرونها في القبو، ملقين الجثث عليه، ويدفنونه حيا. شعر بقشعريرة تسري فيه. وفاجأه ذلك، فلو أنه لا يشعر بالألم، فمن أين جاءت تلك القشعريرة؟ لعله الرعب الذي يقال إن المرء يشعر به قبيل الموت، عندنا تعرف أنه في الطريق إليك ولا تملك أن توقفه، ولكنك لا تكون متأهبا له بعد، وتود لو تعيش لحظات إضافية، فلم يزل لديك الكثير الذي لم تفعله بعد. خطر له أن نجاته هي ألا يغمض. وأن السبيل الوحيد إلى الفرار من الموت هو أن تلتقي عيناه بعيني شخص فيبادله نظرته بنظرة. خشي أن يغلبه النوم ويفقد الوعي، فينتهي أمره، ولا يبقى له من أمل في الخلاص. وليصرف عن نفسه التعب، شرع يفكر في كل تفصيلة من حياته كلها، عاما بعد عام.

وفجأة جفل بسبب ضوء باهر. خبا فجأة مثلما سطع فجأة. يئس لما تصور أنه راح في النوم فضاعت عليه تلك اللحظة الحاسمة. لكن الضوء عاد، وبدا أنه يتبدل، فحينا يقترب، وحينا يبتعد، لكنه لم ينطفئ. أدرك أنه ضوء منبعث من مصادر عديدة. بدا منبعثا من مصابيح يدوية. كان بوسعه أن يسمع أصواتا، لكنه ركز انتباهه على الضوء، وكأنما قوة الإرادة المحضة قادرة على توجيه الشعاع إليه. اقترب النور منه، عبره، مرَّ بوجهه تقريبا، ثم تلاشى، لكنه رجع مرة أخرى مباشرا. صار بوسع عمر آنذاك أن يستشعره، علم أنه متوقف على وجهه. مبهورا بالسطوع، أغمض، ثم فتح عينيه بأوسع ما استطاع. بهره الضوء فلم يعد يرى شيئا، لكنه سمع بوضوح من يقول "هناك شخص حي هنا. هذا الشخص حي".

استلوه من كومة الجثث، وحملوه خارج المدينة، على نقالة في جنح الليل، ومضوا به في سيارة إلى مستشفى في جورجيا. علم أنهم سوف ينقذونه وأنه سوف ينجو. لكنه بقي عاجزا عن الحركة أو الإحساس بأي شيء، وقال الطبيب إنه قد يبقى مشلولا لما بقي من حياته.

في البداية، لم يصدق ذلك، ثم لما أخذت الأيام تمر يوما بعد آخر دونما تحسن، أخذ يزداد استسلام للشك وتوقف عن المقاومة. ولما صار على شفا التسليم ومضى يصلي يائسا من أجل الموت، برغم أنه سبق له الفرار منه، استرد الإحساس في يده اليمنى وبدأ يحرك أصابعه. وتجمع الأطباء حوله في ذهول قائلين وهم يهزون رءوسهم "إنها معجزة، ودليل على قوة رغبته في الحياة".

تعافى عمر، واسترد السيطرة على جسمه إلى أن أجمع الأطباء على أنه رجع إلى أرض الأحياء إلى الأبد وأنه لم يعد بحاجة إليهم. طلبوا منه أن يعتني بنفسه ويأكل جيدا وصرفوه من المستشفى. سألوه إن كان لديه في المدينة مكان يمضي إليه، فلما قال لا، نصحوه بالذهاب إلى وادي بانكيسي ليلتحق بقومه. وكذلك انتهى به الحال في بيت لارا.

قال لنفسه إنه فور أن يستجمع قوته سوف ينضم إلى جيش جيلاييف المتمرد. لكن قبل أن يتحسن عمر بالقدر الكافي للرحلة عبر الجبال، كان جيلاييف قد انتقل إلى أبخازيا وواجه كمينا. ثم شق جيلاييف طريقه عبر الجبال إلى إنجوشتيا ولقي مرة أخرى الهزيمة أمام الروس. مثخنا بالجراح، اختفى لبضعة أشهر تحت الأرض. وبعد أقل من سنة، ترددت الأخبار في القرى والوديان بأنه يشكل وحدة جديدة معتزما اقتحام الشيشان وداغستان ومواصلة القتال من هناك. وسُرَّ عمر لما بدا أن جيلاييف يخطط للمقاتلة عبر الحدود، وأنه يرغب بوضوح في قاعدة آمنة وسط قرى الكيتس في بانكيسي تكون مخبأ في الشتاء. فتطلع عمر إلى اللحظة التي ينزل فيها المقاتلون إلى الوادي. وأراد أن ينضم إليهم، وإنه الآن على أهبة الاستعداد.

لكن جيلاييف لم يرجع إلى الوادي. ففي منتصف الشتاء، قاتل عبر الجبال بوحدة صغيرة، وبعد حملة الشيشان، رجع إلى داغستان. وكان الظاهر أنه يخطط للعبور إلى الجانب الجورجي والتوجه إلى بانكيسي، لكنه وقع في كمين للقوات الروسية. وتفرق المقاتلون، لكنهم لم يستطيعوا النجاة من القوات التي تتبعتهم وتصيدتهم. وقتل جيلاييف وهو يقاتل وحيدا في الجبال.

قال عمر لما انتقل الحوار حول نار المخيم إلى قادة المقاتلين الذين كنت أعرفهم من خلال عملي الصحفي "لا بد أن أحدا باع جيلاييف". كنا نتناقش أي أولئك القادة أفضل وعلى أي نحو.

فكر عمر "كم كان عددهم؟ وأيهم أشجع وأفضل؟ مسخادوف، باساييف، جيلسخانوف، رادوييف، إسرابيلوف، عماروف، باراييف ... لكن بالنسبة لي، أفضلهم جميعا كان جيلاييف. مسخادوف كانت لديه خبرة مدفعجي محترف، باساييف وراوييف لم يكن لهما نظير في الجرأة، ولكن الوحيد الذي كنت أثق فيه هو جيلاييف، ما كنت لآتمن أحدا غيره على حياتي. لم أرد أن أكون في خدمة غيره. فأنت تكون تحت إمرة شخص، فتقتل وتعد نفسك للقتل، تخلي رأسك، لا تعود مدركا لشيء. ثم تكتشف في النهاية أن ذلك كله كان عبثا، وأنك كنت تخاطر برقبتك في لعبة، لصالح شخص سواك. الخيانة والخداع عند كل منعطف ... كثير من الرجال المحترمين لقوا حتفهم ... هباء".

 

كاتب المقال، فويتشه جاغيلسكي، صحفي سابق في جازيتا فايبورتشا، كبرى الصحف اليومية في بولندا. كان شاهد عيان على بعض أهم الأحداث السياسية في القرن العشرين. حصل على العديد من الجوائز المرموقة في بولندا عن كتاباته الصحفية. والمقال المنشور هنا مجتزأ من كتابه "كل حروب لارا"

نشرت الترجمة في جريدة عمان قبل أيام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق